أعالج في هذه الورقة المختصرة ثلاث نقاط: 1) إسهام الكتاب الذي نحن بصدده مقارنة بالكتابين اللذين سبقاه للكاتب حول تنورين؛ 2) وضع الخاص الذي هو تنورين ضمن إطار العام الذي هو المتصرفية؛ 3) ملاحظات حول تأريخ الدكتور داغر لتنورين.
- الكتاب الذي نحن بصدده
إذا جمعنا صفحات هذا الكتاب ("شجرة تنورين: بيوت وقرابات"، دار صادر، بيروت، 2015) مع الكتابين اللذين سبق إصدارهما، يكون الدكتور شربل قد كتب حتى الآن 411 + 511 + 256 = 1178 صفحة حول تاريخ تنورين. عام 2006، أصدر الدكتور داغر كتابه الأول حول تاريخ تنورين، تحت عنوان : "تنورين في الحقبة العثمانية:حجر، بشر، عامر وداثر". خصص الكتاب لسرد الروايات حول تأسيس تنورين، واستعادة تلك الحقبة من خلال "حجج إلتزام" جباية الضرائب التي استحصل عليها من سجلات المحاكم الشرعية في طرابلس، و"حجج الملكية" التي استحصل عليها من دير حوب وبكركي وغيرهما. أثبت ذلك الكتاب "إعادة تأسيس تنورين" أو منشأ تنورين الراهنة في مطلع العهد العثماني، مع مجيء جرجس قرقماز الذمّي كما تسميه "حجج الملكية" وتقاسمه الأرض والسكن مع العائلات التي كانت هنا قبله كآل مطر وآل غوش. والحقبة تلك كانت حقبة "الحمادية" كملتزمي جباية للضريبة العثمانية. لم يكونوا "أصحاب إلتزام" وإنما "متزلّمين" أو مقاطعجية يحققون الجباية على الأرض بعقد يُجدّد كل 18 شهراً. ولعل الصدفة وحدها هي التي جعلت تنورين على ما هي عليه اليوم. فلو لم يعثر المقاطعجي الحمادي على جدنا الهارب من الضريبة جرجس قرقماز عام 1525، ويقنعه بالعودة إلى تنورين بعدما كان تركها بالإتفاق مع أبو صادر مطر، لما كانت تنورين التي نعرفها.
أردت معرفة من أين جاء جرجس قرقماز الذمي، ووجدت في كتاب الباحث الكندي الجاد ستيفان وينتر، أنه جاء من فتوح كسروان (وينتر، 2010: ...). وهذا مقنع من وجهة نظر تاريخية مع شروع الموارنة في ذلك التاريخ بالإنتقال من المناطق الوسطى لجبل-لبنان إلى المنبسطات العالية، كما بلدتنا.
الكتاب رائع لأنه أثبت بالحجج العائدة لذلك التاريخ والمنشورة فيه، أن الرواية المتداولة أو "المأثور" التنوري هي صحيحة. وهو أثبت أن أهل تنورين من أصل واحد، ليس فقط لأن خمس عائلات تحدّرت من جرجس قرقماز، بل لأن المصاهرات الكثيفة بين البيوت والعائلات جعلت كل أهل تنورين أخوة بالدم.
وقد يقول قائل، وما حاجتنا إلى الرواية التأسيسية هذه. أقول أنها مهمة بقدر الهواء الذي نتنشّقه والماء التي نشربها. والشعب الذي لا معرفة عنده بتاريخه، هو كالشخص الذي يجعله فقدان الذاكرة يضيع توازنه.
أنتقل إلى كتاب الدكتور شربل الصادر عام 2013 تحت عنوان: "بين السلطان والمقاطعجيين والعوام: الحراك والأفق". وقد استند في إعداده إلى الإحصاءات والتقارير الكنسية (paroissiales)، واستخدم تقارير "الزيارات الرعائية" ولوائح "المعمّدين" و"المثبّتين" المتوافرة من 1852 إلى 1939. أي أن معلوماته تناولت على وجه الخصوص حقبة المتصرفية، حيث تقارير 1883 و 1894 و 1903 و 1913 هي الأهم كمصادر للمعلومات. و قد رسم الكتاب صورة شاملة ومفصّلة لأهل تنورين خلال النصف الثاني من التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين.
الكتاب الثالث للدكتور شربل، والذي نحن بصدده، وصدر تحت عنوان: "شجرة تنورين: بيوت وقرابات" عام 2015، هو استكمال لما جاء في الكتاب الثاني، ومسح سكاني لأهالي تنورين، كما تُظهرهم الإحصاءات والتقارير خلال التاسع عشر. أجرى الكاتب في مقدمة هذا الكتاب الثالث مناقشة مع مؤرخين إعتمدوا كما عيسى اسكندر المعلوف، في تأريخهم المحلي على الذاكرة المحلية والمرويات الشفوية، وأوضح أن هذه المقاربة لموضوع التأريخ المحلي هي أقرب إلى الهراء وإلى التأريخ الذي بدون طائل. وهو نأى عن هذه الطريقة في التأريخ بالذهاب إلى الأرشيف الرسمي المكتوب، الذي مثّلته وثائق ومحفوظات المحاكم الشرعية والدوائر العقارية في الكتاب الأول، وتقارير الزيارات الرعائية ولوائح المثبّتين في الكنيسة المارونية والمسح العقاري الذي أجرته المتصرفية في الكتاب الثاني.
والكتاب الذي نحن بصدده هو محاولة لإعادة تكوين كل عائلة من عائلات تنورين آنذاك. وهي عائلات قسم كبير منها إندثر وتشتّت في أنحاء المعمورة منذ ذلك التاريخ. وكتابه يمكن أن يكون نقطة انطلاق للنظر في من بقي ومن ذهب إنطلاقاً من الصورة الجامعة التي رسمها لأهل تنورين آنذاك.
لم يقتنع الدكتور شربل بجدوى فرز العائلات الكبرى إلى أجباب، وفضّل اعتماد مقاربة أخرى هي رصد "رؤوس العائلات" بمعنى العائلة الصغرى، وتتبّع المنحدرين منهم خلال الحقبة موضع الدراسة. ويمكن لكلً فرد من أهل تنورين معرفة أصوله العائلية إنطلاقاً من منتصف التاسع عشر.
- وضع الخاص ضمن إطار العام
في كتاب الدكتور شربل الثاني معطيات ومعلومات استخلصت من المسح العقاري وتقارير الزيارات الرعائية، وأوضحت ما التبس منها شهادة المرحوم المونسنيور يوسف مرعب حرب. وهي معطيات ومعلومات غطّت الجوانب الإقتصادية والإجتماعية والسياسية في حياة أهل تنورين. لن أركّز سوى على نقطة واحدة هي الهجرة خلال تلك الحقبة. وهجرة اللبنانيين بدأت آنذاك واستمرّت واستفحلت. وهي لم تتوقّف بل تزداد اليوم بالذات. وسيقودنا استمرارها بالوتيرة ذاتها إلى الفناء كمجموعة.
أعتمدت كتابات المؤرخ الأميركي من أصل تركي، أنجن أكارلي، في المعطيات حول الإطار العام للمتصرفية والهجرة خلالها (أكارلي، 1992 و 1993). يقول الباحث أن الهجرة أخذت تستفحل كظاهرة بدءاً من 1883-1885، أيام المتصرّف- المخبِر عند السلطنة، واصا باشا. تُظهر المعطيات أن السلطنة أرادت الحد منها بوسائل عدّة، كالإمتناع عن إعطاء أوراق ثبوتية للسفر ومنع أهل المتصرفية من التنقّل إلى خارجها والضغط على أصحاب السفن وشبكات "تهريب" المهاجرين المحلية. وتظهر أن هجرة أهلنا في الذهاب وفي الإياب كانت محنة كبيرة لهم. وقد اشتكى القنصل العثماني في برشلونة من أعدادهم الهائلة ومن أن مظهرهم الخارجي كان أقرب إلى مظهر "الشحاذين"، وأنهم كانوا يسيئون بذلك إلى صورة السلطنة لدى الأوروبيين. وكان استخدام مرفأ بيروت محنة بالنسبة لهم، لأن والي بيروت العثماني رشيد باشا أنشأ "شبكة أشرار" كانت تنكّل بهم في مناسبة استخدامهم لهذا الممرّ الإجباري. وتُظهر المعطيات أن السلطنة تخلّت في عام 1898 كلياً عن محاولة الحد من الهجرة، فاتحة بذلك الباب على غاربه لاستفحال الظاهرة. وهو ما سوف ينجم عنه هجرة ربع أهل المتصرفية خلال 13 عاماً فقط بين 1900 و 1913.
يفيد تاريخ 1883 في الإشارة إلى سبب جوهري لاستفحال الهجرة، هو انهيار سعر صرف الليرة العثمانية، بدءاً من 1880، حيث أصبحت تساوي خمس فرنكات بدلاً من عشرين فرنكاً فرنسياً خلال 1852-1880. أي أن منتجي خيوط الحرير الذين مثّلوا 40 % من شعبنا آنذاك، باتوا يحصلون على ربع ما كانوا يحصلون عليه من مبيع شرانق وخيوط الحرير إلى معامل ليون في فرنسا.
والحقبة نفسها حقبة نمو ديمغرافي هائل. إستعدت في مراجعتي لكتاب الدكتور شربل الثاني أرقامه التي تُظهر تضاعف سكان تنورين خلال 1852-1894، أي خلال 40 عاماً. لكن مراسلات واصا باشا مع السلطنة تُظهر أن عدد سكان المتصرفية تضاعف خلال الـ 20 سنة الأولى من عهدها. وهو أمر ممكن وليس فيه مبالغة.
والحقبة تلك هي حقبة تخلّ رسمي من قبل السلطنة عن أي إسهام في الإنفاق العام للمتصرفية. وذلك بعد أن وضعت الدول العظمى الأوروبية يدها على مداخيل السلطنة وحوّلتها لتسديد الدين العام العثماني. وإن عجز السلطنة وكونها دولة فاشلة عاجزة عن التحديث ومنزوعة السيادة، هو الأساس في فهم تجربتنا البائسة خلال حقبة المتصرفية. وهو ما عمل الدكتور أكارلي على إخفائه، محاولاً إظهار السلطنة كسلطة مليئة بالعطف على أهل المتصرفية، مقابل "شيطنة" للكنيسة المارونية ودورها.
لكن الحقيقة أيضاً هي أن النخبة السياسية للمتصرفية ممثّلة بأبناء المقاطعجيين القدامى والنخبة الدينية،كانتا في حالة عجز مطبق عن إدراك الخطر الذي مثّلته الهجرة، وعجز عن بلورة مشروع بديل يوفّر ما يُبقي أهلنا في أرضهم.
وبالعودة إلى تنورين، فإن تقرير الزيارة الرعائية لعام 1913 يُظهر رقماً مرعباً للهجرة المحلية، حيث ثمة 2470 مهاجر مقابل عدد إجمالي للسكان هو 5600 شخص. أي أن المهاجرين مثّلوا نسبة تساوي 44 % من القاطنين (ص 172-173). وقد ارتاع كاتب تقرير "الزيارة الرعائية" لعام 1913، أمام هجرة 70 شخصاً خلال أسبوع واحد إلى الولايات المتحدة، وتحضّر عدد مماثل للأمر ذاته.
وعام 1914، تقدّم الأب اليسوعي آنذاك، جوزيف ديلور، لـ"طرح الصوت"، ناشراً صوراً عن فراغ القرى وتهدّم البيوت وبوار الأرض بفعل الهجرة الفادحة، ومحذّراً من مستقبل أسود لأهل المتصرفية. وهو أمر تحقّق بأسرع مما كان يظن، حين نشبت الحرب العالمية الأولى. وقد تعاون المجرمون العثمانيون والمجرمون الحلفاء لإقفال طرق التموين من الداخل ومن البحر. وهو ما كلّف شعبنا مجاعة إستلّت أرواح 41 % منه وفقاً لإحصاءات نيقولاس أجاي، وحوّلت شعباً كان صاحب أكبر تجربة إنتاجية في بلاد الشام استمرت ثلاثماية عام إلى كتلة من المتسوّلين (أجاي، 1964: 432).
- ملاحظة ختامية حول تأريخ الدكتور شربل داغر لتنورين
السؤال الذي لا أنفك أطرحه على نفسي هو: ما الذي يجعل أستاذاً جامعياً ومسؤولاً أكاديمياً كالدكتور شربل داغر يخصّص ما خصّصه من وقت وجهد للتأريخ لتنورين. بل ما الذي جعله يخصص الوقت لاستعادة حضور أهل تنورين أيام المتصرفية، من خلال بناء العائلات واحدة واحدة ؟ على ماذا يدل هذا العمل الهائل؟
أرى أنه يمكن اختصار الأمر بكلمة واحدة: العاطفة. ولأهل هذه الجبال ميزة خاصة، هي قدرتهم الإستثنائية على إعطاء العاطفة. والعاطفة تعطي رجالاً أشدّاء وواثقين. ومن يأخذ عاطفة يعطي. وكل جهد الدكتور شربل تعبير عن عاطفة تجاه أهله، وعن رغبته في استعادة حضورهم في التاريخ، لعل ذلك يفيد في بناء مستقبل أكثر أماناً لهم.
وإني لمتأكد أنه سيجد مصادر معلومات ومعطيات جديدة لم ينتبه إليها أحد، تعينه في كتابة ثلاث كتب جديدة عن تنورين، تضاف إلى الكتب الثلاثة التي حققها حتى الآن.
(مداخلة في ندوة "بلدية تنورين"، بتاريخ 15 / 8/ 2015).
المراجع
Akarli Engin, “Ottoman Attitudes towards Lebanese Emigration, 1885-1910”, in A. Hourani, N. Shehadi (eds.), The Lebanese in the World, London, 1992, pp. 109-138.
Akarli Engin, The long peace: Ottoman Lebanon, 1861-1920, London: Centre for Lebanese Studies, 1993.
Nicholas Z. Ajay, Mount Lebanon and the Wilayah of Beirut, 1914-18: the War years, Dissertation, Faculty of the Graduate School, Georgetown University, Ann Arbor, 1972.
Stefan Winter‚ The Chiites of Lebanon under Ottoman Rule‚ 1516-1788‚ Cambridge University Press‚ 2010‚ 274 pages.
Youssef Courbage, Philippe Fargues, Chrétiens et Juifs dans l’Islam arabe et turc, Payot, Paris, deuxième édition, 1997.