كتبتُ منذ العام ١٩٨٦، ولا زلت أعتقد أكثر فأكثر، بأن ما أحدثتْه "الثورة الخمينية" (١٩٧٩)، في إيران، ولا سيما في المشرق العربي، تماشى مع "أسلمةٍ" متعاظمة كانت قد تبدت، في تجلياتها وتعبيراتها، في ما اُطلق عليه "الإحياء" أو "النهوض" في القرن التاسع عشر.
تلاقيا، بل استعادت هذه الحمية اليومَ التالي على "الفتنة الكبرى" بعد قرون وقرون.
تلاقيا، فاستعاد الواحد إثر الآخر اسطورة السلف الصالح، طارحِين على عجل عقودا من التعايش المفروض او المرغوب مع الحداثة الاوروبية، متعاملين معها مثل شر مطلق، وشيطان أكبر.
هذا ما تمثل في استعادة السيف المسلول، أو في استعجال مجيء المهدي، بيرقا للعودة الظافرة.
هذه "الأسلمة" تتفاقم، وتستنفر... الهجرة، أو التقوقع الاتني لدى مجموعات ومجموعات غير مسلمة، واحيانا غير عربية.
تتفاقم حتى في ظل ديكتاتوريات عسكرية نجحت في إبعادها، في بعض الظروف، عن الحكم، إلا أن هذه الديكتاتوريات بقيت صاغرة لها في تلافيف المجتمع : هذا ما يقول به الإسلام، وهذا ما لا يقول به الإسلام، عن الثوب فوق الركبة، أو عن "الترحم" على زياد الرحباني.
حُكمُ "الأخوان" بدا غير ممكن أمنيا، إلا أن انتشاره في المجتمع أكيد، بل يترسخ. اما حكم "الولي الفقيه" فيمتد مستندا الى "مظلومية"، وإلى استراتيجية تنبني على صواريخ سوفياتية-كورية شمالية، معززة برؤوس متفجرة بعد أزيد من أربعين سنة في التخطيط والصنع !
لم تعرف هذه البلاد، بعد أزيد من ثلاثة عشر قرنا من حكم إسلامي ممتد منذ الهجرة النبوية إلى سقوط العثمانيين، غير صيغ فرض الغلبة من جهة الحاكم. وفرض الطاعة من جهة المحكومين. هذا ما انتظم في
"أمة" فضفاضة، لا في "دول"، أو في دساتير، أو في حدود...
هذا يعني ان البنية العميقة لهذه البلاد لم تتبدل بين آخر سلطنة إسلامية، وهي العثمانية، وما نعيشه منذ سقوطها من أحوال، إذ نرى فيها مجتمعات تتمايل وفق المعتقدات قبل المصالح،
وتنقاد إلى أخيلة الماضي التي تنتعش بفضل تدينٍ مسنَدٍ إلى تفاسير وأحاديث هي أبعد من أن يَقبل بها عقلٌ راجح.
والأكيد الجديد والمتأخر هو ان استلهام الماضي إسلاميا يقابله استلهام توراتي عند الجار المحتل، ولكن مع القوة العسكرية المتقدمة و"الذكائية الاصطناعية" التي هي عالي الذكاء البشري الحالي.
ألا يصح من جديد قول شكيب أرسلان منذ مئة سنة : "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟".
بل السؤال : هل يمكن إحراز أي تقدم فيما غبار معركة صفّين وغيرها الممتد يؤثر أكثر من أرقام الاقتصاد المعيشي؟
هل يمكن إحراز أي تقدم فيما تبقى التفاسير والأحاديث غير مبنية على قراءة سليمة، لكنها تؤثر أكثر من أي دستور أو قانون ؟ هل يمكن إحراز أي تقدم فيما لا تتوافر في الثقافة والمناهج وطرق التعليم ما يوفر ثقافة المتعلم بدل الاستسلام لثقافة الحكي والذاكرة وجعل الماضي أفقأ للمستقبل ؟
هل يمكن إحراز أي تقدم إذا كانت تربية الوالد والبيت والحي للفتى، ولاسيما للفتاة، تَتقدم على تربية المدرسة، ثم الجامعة، فلا تكون العلوم المحصلة سوى عدة مهنية في أحسن الأحوال، ولا تؤثر ، على أي حال، في الاعتقاد والموقف والسلوك ؟
صفحة شربل داغر في الفيس بوك، 1-9-2025