«لم أقل تماما ما أريد أن أقوله بعدُ، لأن الذهاب في دربٍ قصيدةٍ تجترحها، هو غير مما تُفضي إليه القصيدة بعد الانتهاء منها»، هذا ما ذهب إليه الشاعر والناقد اللبناني الدكتور شربل داغر، مؤكدا أن «القصيدة تعيش أياما عصيبة، بل تزداد بعد تفاقم الصورة منذ ما يقرب من القرن».
«الدستور» التقت الدكتور داغر، وحاورته بمناسبة صدور مجموعته الشعرية «أيتها القصيدة.. جديني فيك»..
* ما الجديد والمختلف في ديوانك «أيتها القصيدة.. جديني فيك» عن أعمالك الشعرية السابقة؟
- هذا أتركُه للنقاد، للقراءات والتحاليل. ما خلصتُ إليه، عند تصحيحات المسودة قبل الطبع، وبعد أقل من سنة على الانتهاء منها، هو أن المجموعة تستكمل شواغل وطرقا في البناء، لكنها تتمحور حول محددات تكاد تكون ملزَمة بخارجها أكثر من سابقاتها.
فهي، منذ عنوانها، تخرج وتطلب الأوجاد في: القصيدة، في ما يشبه الملاذ والخلاص. كتبتُ غالب قصائد المجموعة في قريتي الجبلية، حيث يبدو محيط الطبيعة الجميل أشبه باستعارة، أشبه بقصيدة تصلح للإقامة الممكنة، بل المتمادية فيها.
ذلك أن مقاصدي في القصائد تَطلب الفكاك مِمّا يُنغصها في خارجها، في عيشها اليومي، فتجد في الحوار مع الغيمة ما يجعلها تسافر، فيما انقطعتُ عن السفر منذ سنتَين ونيف.
وتجد في جريان النهر ما يشير إلى الحياة الجارية صوب شغفها، فيما كنتُ ولا أزال أتحقق من الخسران والتبدد في حياتي، والتي يعيشها غيري في أيام الشقاء اللبناني.
كما تجد في حرية القصيدة، في تشكلها المتباين، ما لا تجده في التعطل والتقطع المقيمَين.
* بعد مجموعة من الأعمال الشعرية، هل قلت ما تريد شعرا؟
- قلتُ ما أُتيح لي أن أقوله بهذه اللغة التي تعصوني فيما لا أتوانى عن السعي فيها وبها، بما ينشط الرغبة، ويجدد الولع بإمكانات اللغة في العيش، وإمكانات العيش في اللغة.
لا، لم أقل تماما ما أريد أن أقوله، لأن الذهاب في دربٍ قصيدةٍ تجترحها، هو غير مما تُفضي إليه القصيدة بعد الانتهاء منها. لا، فالقصيدة، مهما قصدنا - ومنها التلازم، في العربية، بين القصد والقصيدة- تبقى إمكانَ قولٍ لها، ليس إلا.
لا، ما دامت القصيدة تشير إلى رغبتي في الحياة، فكيف إن تهددتْ هذه الحياة نفسها في بسيط جسدي، في الأسابيع الأخيرة! لا، ما دامت الرغبة في القول تتناهبني، وتتلفظني، ما استطعتُ إلى الحياة سبيلا.
* كشاعر ماذا تريد من القصيدة؟
- أريد منها الكثير، لنفْسي قبل غيري. أريدها أن تبقى عصية. ممانِعة. فاتنة في تنقلها الخفيف. شهية في تبخترها أمام لساني الممدود. أريدها أن تبقى بجانبي، لا معي. أن تُغريني، عندما ينقضي موعدي المفاجئ معها. أن تُشعل أطراف أصابعي، بين رقيق لمساتها وعنيفها.
* عبر منجزك الشعري وتجربة جديرة بالاهتمام،هل أنصفك النقد؟
- لم أطلب من النقد إنصافي، إذ إن انشدادي إلى القصيدة يفوق، يسبق أي مرتجى منها : صدقني، عزيزي الشاعر لقد مضيتُ بعيدا في عالم القصيدة، بعد ما يزيد على الستين عاما، وبعد ستة عشرة مجموعة شعرية، بحيث بات التنعم في بهجة القصيدة أشهى من لمعان أي وسام، ومن جدوى أي تقدير.
مع ذلك، أكرمني النقاد والدارسون والصحفيون بكثير من النقد، ومن الدرس، الذي حرضَه أو أثارَه الاختلاف الماثل في تجربتي الشعرية منذ مجموعتها الأولى.
استوقفَني احد النقاد، قبل أيام، بل ذكًّرني بأنني جعلتُ، منذ «فتات البياض»، من «الكتابة المتعددة» استهدافي الأول، وتمايزي عن الجيل السابق لي، والرائد، في كتابة القصيدة بالنثر. بل زادَ على ذلك، وشدد على أن طلبَ التجديد رافقَني ويرافقني في أي منزع كتابي أو بحثي أُقدم عليه.
بلى، أنصفني النقد، وأنا أطالع منذ أيام الكتاب الضخم الذي أعده الدكتور والشاعر العراقي محمد صابر عبيد: «في ضيافة قصيدة شربل داغر»، ببحوثه المحكمة، ودراساته المستلة من غير كتاب توكلَ بدرس شعري، وبمقالاته التي تعود إلى غير شاعر، ممن سبقني أو جايلني، أو أتى بعدي... بلى، أحسن النقد استقبالي، ولا سيما في العقد الأخير، إذ أتحقق من وفرة المختارات الشعرية، بالعربية وبغير لغة أجنبية، التي تقف وراء قرارات النشر فيها أحكامْ نقدية بالضرورة.
فكيف إذا توقفتُ عند الرسائل الجامعية المخصصة لدرس شعري في لبنان وغيره، كما في جامعات أجنبية.
* كيف تنظر إلى القصيدة في عالم التطور التكنولوجي وما الذي طرأ عليها في هذه التحولات؟
- القصيدة تعيش أياما عصيبة، بل تزداد بعد تفاقم الصورة منذ ما يقرب من القرن، وبعد سريان التواصل الاجتماعي بما أبطل رفعة الثقافة، ورفعة الشعر معها. صوت الشاعر يكاد يصبح أخرس. والقصيدة تكاد تصبح مستباحة... القصيدة تقيم في أيامنا في وحشة آسرة. هي، مثل الفلسفة، تتراجع، على أن في تراجعهما شراكةً بينهما، وإدانةً لما يحيط بهما.
(جريدة "الدستور"، عَمان، 3 أيلول-سبتمبر 2022).