"صباح الخير". هكذا يبدأ الأديب، شربل داغر، كتابه "الخروج من العائلة"، الحائز على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات في باب اليوميات لعام 2020، مخاطبًا القارئ كمن يفتح حديثًا مع شخص قريب من دون وجهة كما يقول، فتقوده الكلمات من وصف مكانه الآني إلى الطفولة والشباب، في عودة غير مرتبة وفق تسلسل زمني، بل كما تأتي الأفكار وتتداعى الصور، يبدأ من غرفته في البيت الصيفي ليكتشف أنها المرة الأولى التي ينظر فيها من النافذة إلى الخارج، فيرى أن لنافذته قضبان زنزانة، بينما يطغى في الخارج صوت منشار كهربائي على صوت العصافير. فهل كانت الرغبة في كسر القضبان، والذهاب إلى الخارج، لإعادة صياغة العلاقة مع الآخر الذي يغدو قريبًا ليس فقط لأنه مستمع جيدًا، بل لأنه جزء من مشروع، هي الدافع لكتابة "الخروج من العائلة"، أم أنه الخروج نحو الذات في محاولة اللقاء بها بعد غياب والتخفف إليها؟ فأنت لا تستطيع المرور على فقرات الكتاب المتتالية من دون التوقف على ما يحمّله الكاتب للحديث من رؤية مكثفة هي نتاج عمله وفكره موثقًا فيها الأفكار التي عمل عليها في مشواره الطويل، وإنجازاته الغزيرة، ليمنح السيرة جمال البوح المكتنز على رؤية الكاتب لثماره التي جناها، فيبوح لنا بتمييزه لمذاقها في فمه، وتفضيله لواحدة دون أخرى، حيث كان الشعر يخصه على الدوام بشدة، بينما كل ما أنجزه كان أقرب إلى مهام اختارها بذاته بعد خروجه من دائرة الاحتراف الحزبي والسياسي، فانصرف إلى العناية بإنجاز ما سماه ثقافة العتبات، أي مقدمات إنتاج الثقافة، وما يفتح أبوابها، فبدأ بثلاثة مشاريع:
1 ـ عتبات تكوينية سارية للقصيدة العربية الحديثة؛
2 ـ عتبات تكوينية للرواية العربية الحديثة؛
3 ـ عتبات تكوينية للوحة العربية الحديثة.
ويوضح داغر أنه لم ينطلق في ذلك من التراث، بل من عصر النهضة، الذي اعتبره لحظة إعادة بناء الثقافة العربية الحديثة، وهذا تطلب تغيير المنظور لإنتاجات الثقافة العربية، فوجد نفسه مكلفًا بشأن عام، وحاملًا مسؤولية كبيرة بالغة الأهمية بشكل ذاتي، وكان لهذا ترابط وثيق بين ما يبحث عنه، وما يقوم بتدريسه.
وبينما كانت الرواية "لتوسيع الحياة وتجريب ما لم يُعش"، بقي الشعر لدى داغر بمثابة حديقة سرية لمتعته الخاصة والأثيرة، إنه" الضوء الذي يضيء الحال من دون أن يكون اعترافًا، أو بوحًا، فتبقى السيرة غامضة". ورغم ذلك لطالما وجد نفسه غريبًا عن قصيدته، ويستغرب موقف الشعراء حين يقولون إن قصيدتهم هي لسانهم، وتمتد غربته أمام قصيدته إلى غربته عن اسمه الذي حمله، والذي كان إدانة في الحرب الأهلية اللبنانية حاول التخلص منها بطباعة هوية جديدة مضيفًا إليها انتماء سياسيًا لنفي الانتماء الطائفي. إنه إبراز الخيار الذاتي، وتقديمه على الخيارات المفروضة بحكم الولادة، سواء الطائفة، أو القرية، أو الجينات. وهذه الروح المتمردة التي كانت داخله على الدوام تساعده في رسم عالمه الداخلي الصامت والمغترب. يقودنا هذا إلى تعدد الشخصيات لدى الكاتب في شخص واحد بين الشاعر والروائي والباحث والإنسان والعاشق والسياسي والشخص اللاهي، أي تعدد الكيانات التي تشكل الهوية الحقيقية والدائمة التشكل والبناء، فيقول داغر إنه يجد نفسه محاطًا بالماء بلا نقطة بداية أو نهاية. إنه يعوم بلا وجهة، وسيلته في ذلك إصبعان فقط من المحبرة إلى القلم إلى لوحة المفاتيح.. تتغير الأدوات بتغير الوسيلة حتى يصل إلى إصبع واحدة للضغط وللترجمة، كما لو كانت إصبع الشرارة التي عناها أنجلو في لوحته الشهيرة، يقول عنها داغر إنها الإصبع التي تحمل كل الإمكانات في ترجمة العالم والأقوال إلى أفعال.
والنافذة إطلالة على العالم في بعديه الزماني والمكاني، إذ تنفتح على المستقبل ـ الحلم، كزمن متخيل، أو على الواقع، أو الماضي. تبدأ بلقطة تومض في البال، فينجرف المرء إلى تداعياتها مبلبلًا الداخل في سياقه اليومي، ويسحبنا الكاتب من يدنا إلى مغامرات الطفولة اللاهية، إلى الشباب المشاكس، إلى الغراميات التي تذهب بسرعة ولا تترك سوى حلاوتها في الفم، رغم بعض الأسى، فيحدثنا عن الأخوة، والأصدقاء، والمشاكسات، والبلوغ، والذهاب إلى الرجولة، وعلاقته بالأنثى، وإلى الخيارات السياسية التي عاشها جيله بالحماس الذي يليق بالشباب غير الخائف والمندفع، ولكنه يسر في أذننا أنه عاش كل هذا بمتعة اللهو مع الحياة، فنرى الشاعر الذي كتب أتوق إليك يا حياة كيف كان يلهو معها في أكثر حقولها جدية، وفي خيارات طرقها، فلا ينسى أن اللهو احتياج لتجاوز ما أورثنا إياه التواجد في بقعة جغرافية حارة الأحداث دومًا، وكيف كان دومًا يتوق إليها ويغب.
ويحكي الشاعر كيف كان يراود القصيدة كما لو كان يعانق شجرة، أو ينصت إلى عالم الأصوات العميق، وذاك الرنين الذي أدهشه منذ البداية حين تحاور الريح بواطن الشجر. أصوات الطبيعة الخالدة التي أخذته نحوها كما يأخذنا هو إلى بيروت وصيدا إلى نكسة حزيران وتداعياتها على وسطه إلى الحياة الاجتماعية في بيروت ذات التعدد الطائفي والقومي والجمال الذي لم تلوثه الحرب آنذاك، إلى السينما الشاشة التي شغلته وبنت أفقًا لخياله ولحياته العاطفية المراهقة والرومانسية، والسفر إلى عوالم مجهولة أولها الجسد، فتركت الذكريات الكثيرة لديه كطفل في حارة من مدينة متشابكة أقوى من عالمه الذي في طور التكوين.
وفي سياق العائلة، يحدثنا عنها هو الطفل الأصغر فيها، والمنسي أحيانًا، مما ترك له دومًا حيزًا من الحرية ليعيش طفولته إلى أقصاها، ويخبرنا عن علاقته بأفراد العائلة، من الأب الذي حمل جيناته وعاداته الفطرية ـ طريقة النوم ـ لكنه اكتشف البعد بينهما، وحين انتبه قال عن والده إنه يصلح لأن يكون شخصية روائية، بينما حفرت في الذاكرة علاقته مع الجد للأم الذي كان مثار دهشته.
في مرور لطيف غني وجميل، تتنحى فيه أحيانًا عناية داغر اللغوية ليغدو التذكر أكثر حميمية وقربًا، ويظهر الشاعر في تلقائيته الجميلة والممتعة. كما يظهر بين فقرة وأخرى، كأنما يكتشف معنا الأشياء في رحلة تذكرها، فيظهر الشاعر السارد، الذي عاش خياراته بكل ما أتيح، يقول:
"كنا نلهو حتى في السياسة.. حتى في الحرب، حتى في التحرير، كانت حياتي تجري في تلك المسافات الضيقة، أو الفسيحة، بين وجهي وأقنعتي".
ننتظر الجزء الثاني من السيرة لنتعرف على الحياة التي أخذت داغر الشاب إلى ترحالها المتنوع، والذي أنتج خلاله بالغزارة التي عرفناها.