تنطلق المحاضرة مما هو متداول، ومعمول به، في المناهج والمقاربات الدراسية، سواء في الخطاب عن الأدب، أو في الخطاب عن الفن، وهو أنهما خطابان متباعدان، من دون حوار أو تفاعل.
أهذا ما كان يجري في الماضي الدراسي القريب أو البعيد؟ أهذا يعود -في حال التقارب بين الخطابين في عهد زمني سابق- إلى تبديلات في المناهج والمقاربات الحالية أم إلى تبديلات حاصلة قبل هذا كله، في تداول القيمة في التجارب التاريخية والاجتماعية؟
ماذا لو نتوقف عند أحوال كل من الأدب والفن، أي أحوال درسهما المنهجي؟
الدرس متباعد، لا وجود له في مناهج جامعية، ولا في دروس النقد.
أهما (أي الأدب والفن) منفصلان تمامًا في التكوين وفي التجليات أم أن الدرس يتغافل أو لا ينتبه إلى ما بينهما من تواصل وتفاعل؟
لنبدأ بسؤال الخطاب الفلسفي : كيف جرى النظر إلى الأدب والفن ؟
هذا يتطلب وقفة عند "قسمة" أو ("منظومة") الفن أو الفنون، والأدب (أو الآداب)؛ وهي أكثر من وقفة منهجية، إذ هي وقفة تاريخية متعددة.
لو عدتُ إلى هذه المنظومة في التقليد الفلسفي الإغريقي، ثم الأوروبي، لوجدتُ أن هذه المنظومة غير ثابتة، ومتبدلة عبر التاريخ الكتابي، بل وجدتُ عدة منظومات واقعًا...
يمكن الوقوع، في التفلسف الإغريقي، عند نظرية "المحاكاة"، إذ شكلت المنظور العام الذي حكمَ النظر إلى هذه الإنتاجات. وهو منظور أقام الفن والأدب في نطاق الماورائيات، انطلاقًا من التعالق والتباين بين : "عالم المُثل"، من جهة، و"عالم النسخ المتدهورة"، من جهة ثانية. هذا ما جعل مثالَ الأدب والفن خارج الوجود، خارج الصنع، لكنه قابل للتمثل، للتفكر. وهكذا تكون الطبيعة أجمل منهما، عدا أن الأدب والفن لهما أن يتمثلا ما هو ماثل في الطبيعة من كمال وتمام وجمال. الجمال علوي؛ والأدب والفن يقعان في الاجتهاد، في التدبير، على أن الشعر (في أنواعه الثلاثة) يتسيد على غيره.
هذا الفهم الماورائي للفن والأدب سيسري في الأنظمة الدينية الاعتقادية، بعد ذلك، على أن الله يصبح المثالً في المنظور المستجد.
ما يمكن التنبه إليه، في خطاب التفلسف هذا، هو بروز ما يمكن تسميته بثنائية : التعبير والشكل، أو التصور والصنع، بين الأدب والفن؛ أي –بحسب أرسطو- بين (poiesis)، ما يُترجم أحيانًا بـ"الإنشائية"، وبين (praxis)، أي ما يمكن تسميته بـ"العُرف المُعتاد". ففي هذه الثنائية المتباينة نقع على : الفن، بوصفه تقنية، أي خبرةً يَعمل فيها العقل، ومبتعدة بالتالي عن أعمال البشر الاعتيادية، الروتينية؛ ونقع على : الفن بصيغة أخرى، بوصفه إنشاء، أي أقرب إلى التوليد.
هكذا نجد، منذ التفلسف الإغريقي، تعالقًا وشقاقًا بين ما سننتهي إلى تسميته بـ"الفن"، وبـ"الأدب" (ولا سيما الشعر)، ولكن بألفاظ أخرى؛ وبين الصنع والخلق.
هذا الترابط بين الصنع والخلق، بين الأعمال المادية والأعمال التوليدية، سيستمر بل ستتسع صناعاته وتسمياته ومفاهيمه، منذ نهايات القرن الرابع عشر في إيطاليا، قبل انتقالها إلى القصور والمحترفات في مدن أوروبية عديدة.
هذا ينطلق من اللفظ اللاتيني (ars)، بتفرعاته واشتقاقاته ومفاهيمه المتتالية، ويميز بين فنون "أداتية" (ars mechanica) وأخرى "حرة" (ars liberalis)، أي جديرة بالإنسان المتمتع بقواه الحرة.
هكذا نجد القسمة أو هذه المنظومة تميز بين : الإجادة - والشعر الملحمي - والتاريخ - والشعر الغنائي والجوقة - والموسيقى - والمأساة - والرقص وغناء الكورس - والبلاغة - وعلم الفلك.
أما في القرون الوسطى، فما كان يتمّ التمييز بين الفنون والعلوم بالنسبة للفنون "الحرة"، فتمت القسمة بين مجموعتين : البلاغة، والقواعد، والجدل، من جهة، والحساب، والهندسة، والفلك، والموسيقى، من جهة ثانية.
أما الفنون الأخرى، "الأداتية"، فتشمل : الهندسة، والنحت، والتصوير، وصياغة المجوهرات، ومشغولات النسيج والمعادن والزجاج وغيرها.
هذا ما ينتقل إلى قسمة أو منظومة أخرى، تتعين في : "الفنون الجميلة"؛ ويجري التمييز الحاسم بين : "الفنان" و"الصانع". وهذا يفيد أن اللفظ -الذي بات مركبًا- ظهر بين القرنين، السابع عشر والثامن عشر، وعنى تمييزا ورفعًا لدلالات "الفن" وتعييناته :
- "الفنون الجميلة" لتمييزها عن : الفنون والحِرَف، ما يعني الفرز بين فنون ذات تطلبات حرفية أو صناعية، وأخرى ذات تطلبات جمالية؛
- لتمييزها عن الفنون التطبيقية، أو الزخرفية، أو الصناعية، فيما الفنون الجميلة خلاقة ومبدعة، أي التمييز بين العملي والنفعي، من جهة، والتأملي، من جهة ثانية؛
- لتمييزها عن فنون التسلية...
إلا أن هذه التمييزات تفتقر، حسب إتيان سوريو، إلى أساس نظري متين.
أما هيغل فقد عمد إلى اقتراح قسمة أخرى، جديدة، تبدأ من الفن الأقل تعبيرًا ولكن الأكثر مادية، إلى الفن الأكثر تعبيرًا والأقل مادية : العمارة، النحت، التصوير، الموسيقى والشعر.
أما قسمة الفنون التشكيلية، فقد فصلت اللغة وإنتاجاتها عنها، واحتفظت بلفظ "الفن" لما له صلة بالرسم والشكل وحدهما : العمارة، الرسم، التصوير، والنحت.
أما قسمة الفنون "المرئية" فقد ارتبطت بالمرئي، بالبصري، ما يات يجمع بين الرسم وفنون الصورة المختلفة.
ماذا في المدونة العربية القديمة؟
لو توقفتُ، في التقاليد الفلسفية والبلاغية العربية، لوجدتُ عدة منظومات، وإن كانت أقل تبلورًا مما هي عليه في التقليد الإغريقي :
- التقليد الأرسطي المستعاد، وفق نظرية المحاكاة (مع الفارابي وغيره)؛
- التقليد البلاغي، الذي اكتفى بالنظر إلى الأدب وحده، ولا سيما الشعر منه؛
- أما ما يخص فنون الخط والرسم والتصوير والزخرفة وغيرها، فحظيت باهتمامات محدودة، إذ جرى النظر إلى هذه الممارسات بوصفها من عمل الصناع؛
- وحدها جماعة "إخوان الصفاء" أفردتْ منظومة خاصة لما صنفته تحت التسمية التالية : "صناعات الزينة والجمال"، وهي "عديمة النفع" و"غير ضرورية"، لكنها تحظى بمقادير عالية من الحذق والتوفق، مثل صناعات المشعبذين والمصورين والموسيقيين، أو الصناعات الجالبة للزينة والجمال، مثل الديباج، والحرير والعطر وغيرها.
- كما وجب الحديث عن الجلال والجمال عند المتصوفة، ولا سيما ابن العربي، ما يختصره قولُه : لهذا "لا يتجلى في جلاله أبدًا، ولكن يتجلى في جلال جماله لعباده".
الوقفة التاريخية لازمة للتفكر المزيد في قضايا النظر والدرس.
لم يميز الخطاب (منذ التفلسف الإغريقي) بين الأدب والتصوير، بل نظر إليهما وفق منظور واحد وجامع، وهو : نظرية المحاكاة. ومن ينتقل إلى "قسمة الفنون"، حتى منتصف القرن الثامن عشر، سيجد الأدب والفن مجتمعَين. وجب الإقرار بأن هذا الجمع استند إلى الفلسفة، ولا سيما في الماورائيات، من جهة، وإلى كون الشعر -من دون غيره- مثالَ أي فن، كلامي أو مادي : كان الشعر يتربع في علياء الفكر... وما جرى ترتيبه في منظومات أو قسمات، فكان يجمع بين الجدل والقصيدة والصورة وغيرها. أما ما جرى، منذ أواسط القرن الثامن عشر الأوروبي، فقد تعين في : "الفنون الجميلة"، ثم، بعد عقود، في : "الفنون التشكيلية" (قبل "الفنون البصرية").
هي عملية إعادة تصنيف وتمييز، ما أبعد فنون اللغة والكتابة عن فنون الصورة.
ما سبب ذلك؟ أيعود الى تفكير مزيد، ثم إلى تصويب وتعديل أم أن القسمة المستحدثة استجابت لما كان يحدث في التداول، في المجتمعات؟
إذا كان الشعر ارتبط، في التاريخ البعيد، بالأسطورة والبلاط والغناء والإنشاد وغيرها، فإن مثل هذه المكانة تراجعت وتناقصت الحاجة إليها، وضعُفت قيمتها، فيما كانت تتعاظم قيمة الرسم، في البلاط والقصور والدور، بعد الكاتدرائيات والطقوس الدينية. وهي تعاظمت إلى درجة أن المَلك (أو الأمير) بات يستحسن رسم هيئته، ورفعَها فوق الجدران (مثل عائلة "الميديسيس" في مدينة فلورنسة منذ القرن الخامس عشر، ثم في غيرها من المدن الإيطالية)، بدل التباهي بمناقب الملك (أو الأمير) في قصيدة، أو على لسان "شاعر البلاط".
لهذا يمكن كتابة تاريخ جديد لهذه الفنون المختلفة؛ تاريخ يُعلي من قيمة الصورة بالقدر نفسه الذي يُخفف فيه من قيمة القصيدة. بل بمكن التمييز أيضًا بين ثقافة الكلمة وثقافة الصورة، حيث باتت الثانية أكثر اتساعًا وتعددًا وتنوعًا، بين الصورة "الثابتة" (من اللوحة إلى الصورة الفوتوغرافية) وبين الصورة "الحية" و"الممتدة" (في الشاشتين، الكبيرة والصغيرة، قبل الصورة الرقمية).
هكذا يمكن القول بأن الفصل بات ناجزًا بين القطبين الإبداعيين، الأدب والفن... وهكذا يمكن القول إن المناهج والمقاربات عملت على مزيد من الفرز والتخصص بين الميدانين. ولكن أهذه قسمة مناسبة؟
العلاقات المنهجية البينية لازمةٌ للدرس
لا يقوى الدارس على إنكار، أو إسقاط، أي من الميدانَين، بفروعهما المختلفة. فالحاجة البحثية لازمة في أي فرع إبداعي، كتابي أو تصويري؛ وهي تحتاج بدورها إلى تطويرِ وتحسينِ عدتِها البحثية المناسبة لكل فرع. إلا أن ما ينقص، في هذا الدرس الخصوصي، هو العلاقات البينِية بين فنون الكتابة وبين فنون الصورة. كيف ذلك؟
الصورة في الأدب
اسمحوا لي بالوقوف عند بعض ما درستُه في عدد من كتبي وبحوثي كأمثلة مناسبة في المعالجة.
لنبدأ بتناول الصورة حصرًا في القصيدة :
توقفتُ لدرس القصيدة العباسية عند أبي نواس والبحتري وابن الرومي، وانتبهتٌ إلى كونها تفاعلتْ مع الفنون الإسلامية، فتُسميها وتًذكرها وتُحيل إليها. كما تفاعلتْ أيضا مع مرئية الصورة، بحيث تنبني القصيدة، في بعض جوانبها، على مشهدية بصرية (في كتاب : "القصيدة والزمن").
كما توقفتُ لدرس سينمائية الصورة في غير قصيدة عند بدر شاكر السياب ومحمد الماغوط. باتت للقصيدة مقومات في بنائها تتعدى المحسنات البلاغية، لتنبني على أساس الصورة غير الثابتة. بان، في الدرس، كيف أن قصيدة السياب تنبني وفق تتابع سردي يجعل من المشهد المقرب أساسًا لقيامه، وفي تتابعّ مترابط من المشاهد أشبه بتتابع حكاية الفيلم في مونتاج حيوي وممتد. كما أمكن التنبه الى أن المشهد يتعين في "لقطات" مكبرة أو مصغرة، من جهة، وفي حركات وتعابير تطال هذا الشخص أو ذاك في السردية، من جهة ثانية (في كتاب : "خارج الفصيدة").
وهو ما درستُه أيضًا في الظهور المتلازم بين ميلاد القصيدة بالنثر، من ناحية، والمدرسة الانطباعية، من جهة ثانية (في كتاب : "الشعر العربي الحديث : قصيدة النثر")...
الأدب في الصورة
هذا ما قمتُ به في اتجاه معكس، إذ طلبتُ من درس الأدب إنارة سبيل الدرس في الفن : هذا ما فعلته في كتابي : "مذاهب الحُسن..."، حيث عولت على "كتاب العين" للفراهيدي لاستبيان ما يمكن أن يكون عليه اللفظ العربي، بحمولاته المختلفة، من استعمالات ودلالات ومعان دالة على "الحُسن"، وإنتاجاته، وتقسيماته، ومفاهيمه الدالة.
لو انتقلتُ الى الجهة المقابلة لهذا العرض، اي إلى جهة الصورة، لوجدتُ أن فنونها، ابتداء من الانطباعية بلوغًا إلى اتجاهات الفن المعاصر الحالية، نهلت من الثقافي بصورة باتت لازمة للصورة. هذا ما يصحّ في مدارس الفن المختلفة، من سوريالية وتجريدية وغيرها، حيث إنها انطلقت أو انبنت وفقًا لتوجهات في الفلسفة أو في الأدب.
يمكن أن نتوقف عند قصائد عديدة، منذ بودلير ورامبو، حيث نجد، على سبيل المثال، أن "حروف العلة" باتت ذات ألوان (كما في قصيدة شهيرة لرامبو)...
لنتوقف قليلًا عند "الكتابة الآلية" (المعروفة عند السورياليين) : ألا يمكننا القول إن لوحات سلفادور دالي تتشبه بهذه الكتابة، إذ تبني كيانها التصويري بطربقة هي أقرب إلى الصدفة والجمع غير المناسب، وهو ما يصحّ في الكتابة المستجدة لا في التصوير مطلقًا؟
ألا يمكننا القول إن لوحات هنري ماغريت تنبني كما لو أن الصورة تفكر، عدا أنها تجمع، في بعضها، بين الجملة والصورة ("هذا ليس بغليون"، في لوحته الشهيرة). بل يمكنني التساؤل : ألا تكون لوحات ماغريت، في بعضها... استعارة؟
ألم تتحدث الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت، عن أن كتابة "الرواية الجديدة" (nouveau roman)، معها ومع أقرانها، لا تعدو كونها تشبهًا بما كان يجري في اللوحة التجريدية؟ ففي هذا النوع الروائي المستجد يتمّ تعطيل مقومات السرد في الرواية الواقعية (من "شخوص" و"حبكة" وغيرها)، مثلما يتمّ تعطيل مقومات البناء في اللوحة الواقعية (مثل "الموضوع"، والشخصيات والمشاهد الطبيعية وغيرها).
ما بين الأدب والفن من اتصال
لننتبه إلى مقومات البناء المستجدة في ثقافة الكتابة، وفي ثقافة الصورة. هي مشتركة بينهما ومتفاعلة في بعضها، ما يحتاج إلى درس وبناء منهجي مناسبين لهما.
هذا مدعاة إلى تنمية النظر التاريخي، في تشكلاته الثقافية، بحيث نقوى على درس "مرئية" الأدب، من جهة، و"ثقافية" الصورة، من جهة ثانية.
هذا مدعاة إلى تنمية النظر الجمالي إلى هذه الإنتاجات، التي تبدو متباعدة إنتاجًا، لكنها تشترك في خيارات وتمثلات جمالية.
فالبلاغة لم تعد صالحة لدرس القصيدة، إن لم نوفر لدرسها أدوات تحليلية، مثل الخيال والحلم والمباينة والتفرد وغيرها. كذلك فإن درس الصورة لا يمكنه الاكتفاء بدرس عناصرها وعلاقاتها وأساليبها الفنية وقيمها التعبيرية، إن لم نقرنها بأدوات أخرى متأتية من توظيفات الفكر في الصورة.
هذا يشير، من ناحية منهجية، إلى أن مناهج الدرس تُسقط ما هو قائم في السياق التاريخي، حيث إن هذا النوع الإبداعي أو ذاك يصب مثلما ينطلق من هذا السياق.
إلى هذا، يمكن التنبه إلى أن التوجهات والرؤى والخيارات والتمثلات، في الأنواع الإبداعية المختلفة، تتشارك أو تتمايز أو تتفاعل فيما بينها. سأعطي أمثلة على ذلك :
- تعويل اللوحة على مقومات بنائها (شكل، لون)، مُسقطةً موضوعاتها : ألا يكون هذا موازيًا لما تعرفه القصيدة في لغويتها التعبيرية؟
- فاعلية الخيال، وكونه عماد البناء، في النطاقين الإبداعيين؛
- المتكلم المفرد في القصيدة (لا المتكلم الجمعي) : ألا يكون هو عينه سعي الفنان إلى تمييز تحربته و"بصمته" عن غيره؟
- الانصراف إلى كينونة الداخل، لا إلى مخاطبة الخارج الاجتماعي : الشاعر أو الفنان المتفرد، بدل النطق باسمٍ جماعي أو خدمة وتلبية أغراض مطلوبة من قوى ومكانات خارجية (أمير، سلطان، قضاة البلاغة)؛
- المتمرد، الهامشي، "الملعون"، أصبح هوية المبدع، لا العامل في خدمة القوي والغني وصاحب المكانة، وفي خدمة "عمود" أو قواعد أو منافسات بوصفها مقاييس الجودة والإتقان؛
- بات للأدب، أو للصورة، أن يشكلا كونَيهما، لا أن يكونا مرآة أو انعكاسًا لما يقع خارجهما : كيانية متحصلة لكل نوع إبداعي، أشبه بسيرة ذاتية أو برسم ذاتي للمبدع...
هذا يعني عدم الاكتفاء منهجيًّا بما أسميه القراءات "القطاعية"، أي التي تنفرد بدرس كل نوع إبداعي من دون "خارجه"، إذا جاز القول، من دون سياقه الموجب له. هذا يعني وجوب الانتباه إلى درس المكونات الثقافية في بناء الصورة، وإلى درس المكونات البصرية في القصيدة وغيرها، ما يؤدي إلى وجوب قيام مستوى أو نصاب خاص بالعلاقات البينية فيها.
الحاجة أكيدة لمثل هذه العلاقات البينية، ولا سيما في سياق المجتمعات المعاصرة. ذلك أن البعض من الدارسين يكتفي بتسجيل ما هو حاصل في التداول، فلا يتحقق منه أو يفحصه. فقد بات النظر إلى الفن أشبه بالنظر إلى سيرة سحرية، فيما يركن الأدب، ولا سيما الشعر منه، في زاوية الإهمال. فكيف إذا كان يتم إخفات صوت القصيدة، مركونة في عزلتها، فيما يتم رفع قيمة الصورة كما لو أنها وديعة الإبداع العجائبية!
(محاضرة عن بُعد، عن العلاقات البينية في درس الأدب والفن، في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية، الجامعة اللبنانية، الجمعة 18-3-2022).