إذا أردتُ أن أفهم شربل داغر، فيجب أن ألازمه كما كان طلاب العلم يلازمون أستاذتهم في تلك الحلقات التي يتوسطها العالِم، ويجلس فيها طلابه تحت قدميه ليأخذوا عنه ما يجود به عليهم في كل حلقة من حلقاته العلمية. فتجد الطلاب يشرئبون برؤوسهم ليتلقفوا كلمات أستاذهم بشوق ولهفة، كما تتشوق الأرض الجافة لحبات المطر لترتوي وتنبث فوقها كل ما تستوجبه الحياة، لتستمر الكتابة عند شربل داغر لخاصته القريبين منه الذين ينتظرون كل يوم أحاسيسه وأفكاره التي يصوب كلماتها بدقة متناهية وبإحساس صادق وبتدفق غزير.
إنه كاتب لا ينقطع عن قرائه في تواصل دائم معهم. ينشر مقالاته وقصائده ويحاور متابعيه بالحجة والبرهان، وبخطاب رقيق شفاف إذا استعمل المتن الشعري. و بمجرد الدخول إلى صفحته في الفايسبوك، تدهشك غزارة نصوصه. إنه ليس من ذلك النوع الذي يشبع عينيك بصوره في الملتقيات والتجمعات، بل هو يخاطب عقلك وإحساسك بتجربته الشاقة المضنية في الدنيا، وبالأحاسيس العميقة يتقاسم مع القارئ آلامه وانكساراته بكل تواضع، وبشكل بسيط يقبل الحوار، ويقبل على محاوريه دون تأفف ولا عجرفة.
لذلك تجدني من متابعيه دائما أهرب إلى مساحات فكره البناء من تفاهات الآخرين وترثراتهم، وحبهم للظهور الأجوف الفارغ من الفكر البناء الذي أجده عنده، والأدب الراقي الذي يضم في أحشائه قراءات علمية وبحوثاً فكرية في شتى العلوم الإنسانية والإبداعات الفنية. تجدها في أكثر من ثمانين مؤلفا تجوب أرجاء المعمور في متناول طلاب العلم وباحثي الجامعات في أنحاء العالم.
قرأت له اليوم قصيدته "الإنكسارات" محاولا فك ألغازها الدلالية، ولأستمتع ببنائها اللغوي المتميز. فشربل داغر يخرج بك إلى عالم الصورة الشعرية، ولا يدخل بالقارئ في تشبيهات لغوية أو استعارات بليغة. إنه يدخل بالقارئ إلى عالمه المفضل، وهو تشكيل اللغة. فيحول القصيدة إلى صورة تشكيلية تحيله على المعنى إذا استطاع تفكيك شفراتها للوصول إلى الصورة الشعرية التي هي قمة الهرم البنائي اللغوي الذي يمكن للشاعر الوصول إليه. استعمل شربل داغر المنطق في بناء الفكر الواقعي المعاش، أو المعاناة الشعورية التي يحولها الشاعر إلى صورة شعرية، وفكر وجودي ملموس، ومرئي بواسطة الصورة الشعرية.
الإنكسار هو موضوع القصيدة، أو الإنكسارات، كما لو أننا أمام صخرة متصدعة السطح نتجت عن قوة الضغط نتيجة ذلك الشد القوي الذي تتعرض له قشرة الأرض، وهو ذلك الاستسلام أو الانهزام الذي يشعر به الإنسان بعد السقوط أو الإخفاق. هذه "الإنكسارات" تجعل لك "عصا خافية لكي تمشي". تلك التصدعات أو الهزات هي التي ستمنحك تلك العصى التي ربما تكمل بها طريق الحياة. فالصدمات قوية، والشروخ عميقة؛ و"تبعد صوتك عن حلقه". فالصوت صوتك، والحلق حلق الصوت، كما لو أنه يختنق؛ أنت تحاول الصراخ ولكن صوتك لا يطاوعك من شدة ألم الصدمة، فيبتعد الصوت عن الحلق، كما لو أن حلقا مفتوحا لا يسمع صوته... تصوروا معي شدة الألم، كما لو أنه ألم بلا صوت، ثم تبدأ عملية الإختناق. إنها صورة شعرية تنزاح عن اللغة لتتشكل في لوحة تشكيلية داكنة الألوان؛ "هي عينُها، ما يصيب المقامر بعد نفاذ ماله". تصوروا معي صورة مقامر خسر ماله، ماذا سيفعل؟ سيتمنطق هو، في الحقيقة، بعيداً عن كل منطق، لأن ماله قد نفذ، ولم يعد يملك إلا ذلك اللباس الرمادي الداكن اللون، فيجعل من لباسه منطقا لا قيمة له. هي صورة أخرى تحيلنا على تيمة الإنكسار؛" لا وقت للوقت"، الزمان فقد معناه أصبح فارغاً أجوفا؛ "كي تحصي ما ترامى في الهباء من دون حساب". الوقت فارغ، أجوف؛ هل يمكن أن تحصي مالا ترامى في الهباء من دون أن تعرف قيمته ؛ إنه إفلاس كامل و شامل.
حينما نتكلم عن الصورة الشعرية عند شربل داغر، فإننا نجد أنفسنا مجبرين على الخروج من جميع الأنماط القديمة والحديثة التي تكلمت عن الصورة الشعرية، لأن شربل داغر راكمَ قراءات كثيرة في علوم الأدب واللغة وتجربة رائدة في كتابة الشعر، حتى إنه أسس لنفسه أسلوبا متميزا أو ربما جديدا في طريقة رسمه لصوره الشعرية وذلك بتركيبها عن طريق اللغة. المصطلح عند شربل داغر ليس حوشيا أو معقدا، ولكن طريقة تركيبه في جمل لغوية هي التي تصنع تميزه. إنه يدهش القارئ عندما يقرأ الجملة ليركبها مع جملة أخرى ليجد نفسه أمام صورة هي عبارة عن تجربة إنسانية ووجدانية متجذرة في نفس الشاعر، وتشكل له معاناة شديدة الوقع على نفسه. وبذلك فشربل داغر يدعوك لمشاهدة مأساته بعينك وبقلبك وبإحساسك. إنها صناعة داغرية للغة يتفرد بها شربل داغر، ويجب على قرائه أن يتحسسوها لأنه يدخل بالقارئ وبتشكيل اللغة إلى صدمته ومعاناته ومكابدته للحياة المحسوسة. إنها تجربة حياة متكاملة تسكن الشاعر، ويمنحها مكتوبة للقارئ. ولتأثر شربل داغر بالفن التشكيلي بكل أنواعه دور أساسي في صناعته لقصيدته، إذ إنك لما تقرأ قصيدته كما لو أنك أمام لوحة تشكيلية يجب أن تفكك ألوانها وخطوطها وتدقق في تلك الأشكال المتشابكة التي تصنع اللوحة. ومن هنا فأنت كمتلقٍ تجد نفسك وبالتأكيد أمام تشكيل للغة. فالقصيدة لوحة، واللوحة قصيدة.
فيما يلي سأحاول الوقوف على دلالة الجزء الثاني من قصيدة "الانكسارات" : "ما يَكشط الجلد عن هيكله :عاريا إلا من المرارة". والكشط كشف الغطاء عن الشيء، كما لو أنك تزيح الثوب عن جثته لترى ملامح جسد الميت. وهنا يحيلك على صورة شعرية قاسية، وهي إزاحة الجلد عن هيكل ربما يكون آدميا فيظهر العظم إنه انكسار بشع فعلا مؤلم وبشدة فيبقى الهيكل عاريا. إنها مرارة تحس بها، وأنت تنظر إلى هيكل عار من الجلد/ "ومن بالونات تعالت قبل أن تتساقط مثل ريشِ طائر..."، أو بالونات ملأتها بالهواء، ثم قدفت بها من أعلى لتتساقط محلقة في الهواء كريش طائر لتلامس الأرض. إنه انحدار هبوط يحس به الشاعر بعد الانكسار وسيصوره للقارئ في عدة صور مختلفة: "في ذلك الانحدار، أو الانهيار، لا لغةَ لكي تتحدث بها، أو تَكتبها". إنه انحطاط أو إنحدار يحاول الشاعر أن يرسمه أو يصوره أو يكتبه، ولكن يجد نفسه في تحد مع اللغة: هل سيستطيع فعلا أن يصوره ويكتبه؟ "لكَ، وحسب، صريرُ الباب العتيق من دون أخيلة العابرِين". ثم يخص الشاعر نفسه بسماع صوت صرير باب عتيق ؛ إنه صوت مزعج يسمعه لوحده في هذا الإنحدار أو السقوط ؛ هو يسمعه لوحده لأنه ليس هناك عابرين إلا منه. هو إحساس يتجرعه وحده، يذوق مرارته بمفرده ”لكَ أن تَنزل مع ما يَنزل من دون مشقة، بهدوءِ المستكِين، وخفوتِ الصوت". إنه نزول بدون مشقة سريع هبوط سقوط وبهدوء المستسلم لمصيره لا يبدي امتناعا ولا مقاومة. أنت تنزل مع ماينزل، ربما ماء ريش أو أي شيء كماء يسير في مجراه بدون صوت. "لكَ أن تَنظر من دون أن تَرى، أن تبكي من دون دموع، أن تُحصي الخسارات من دون أرقام". ثم تنظر من دون أن ترى من شدة صدمة الانكسار وهولها. هو يبكي من دون دموع؛ إذا كانت الصدمة قوية تعاندك الدموع، وتأبى السقوط على خدك؛ وإذا كانت الخسارة فادحة فأنت لا تهتم بالأرقام لأن صدمتك ستكبر: "هل تَرى الانكسارات، مع أن لها طعما مرا؟". طعم الإنكسارات مر ولكن فعل الإنكسار هو في حد ذاته غير مرئي: "هل تَسمعها، مع أن لها صورا متقطعة، وحرقة متمادية؟" ثم فعل الإنكسار. والإنكسار في حد ذاته له حرقة ممتدة في نفسك وصدمة موجعة ولكنك لا تسمعها رغم صورها المتقطعة التي تداهمك في كل مرة و ربما في كل يوم.
الانكسارات
الانكسارات
التي تجعل لك عصا خافية لكي تمشي،
وتُبعد صوتك عن حلقه كما لو أنه يَختنق....
هي، عينها، ما يصيب المقامر بعد نفاد ماله، وهو يتمنطق بطقمه الرمادي...
لا وقت للوقت
كي تحصي ما ترامى في الهباء من دون حساب،
ما يكشط الجلد عن هيكله:
عاريا إلا من المرارة،
ومن بالونات تعالت قبل ان تتساقط مثل ريش طائر...
في ذلك الانحدار، او الانهيار،
لا لغة لكي تتحدث بها، او تكتبها.
لك، وحسب،
صرير الباب العتيق
من دون أخيلة العابرين.
لكً أن تنزل مع ما ينزل من دون مشقة،
بهدوء المستكين،
وخفوت الصوت.
لك ان تنظر من دون ان ترى،
ان تبكي من دون دموع،
أن تحصي الخسارات من دون أرقام.
هل ترى الانكسارات، مع أن لها طعما مرا؟
هل تسمعها، مع أن لها صورا متقطعة، وحرقة متمادية؟
(مقالة الكاتب المغربي نُشرت في صفحته في يومي 22 و 24 نيسان-أبريل 2025، ونُشرت القصيدة في صفحة داغر في 12 نيسشان-أبريل 2025).