"المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء (...). أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسًا على عقب (...). أما أنصار الجديد، فالطريق أمامهم معوجة ملتوية (...) ذلك أنهم لا يأخذون أنفسهم بايمان ولا باطمئنان، أو هم لم يرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان. فقد خلق الله لهم عقولاً تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا"
(طه حسين : "في الشعر الجاهلي"، مطبعة دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1926، ص 3 و5).
لو يتفكر الدارس في ما يُدعى إلى الكلام عنه، بين "قطيعة" و"تواصل"، سيجد بأن هذه الثنائيات متبعة في النظر الساري منذ الشيخ رفاعة الطهطاوي على الأقل؛ وهو ما بلغَ مع الأمير شكيب أرسلان سؤاله الشهير : لماذا يتأخر المسلمون ولماذا يتقدم غيرهم ؟ ثنائيات تشتمل على خيارات ومقترحات، لكنها مدعاة للمساءلة وللتفكير فيها، في ارتكازاتها ومساراتها ومآلاتها. أيكون تكوين الفكر العربي ممكناً ابتداء من ثنائيات مماثلة ؟ أيكون الفكر متواصلاً من دون نقد ؟ أيكون الفكر منقطعاً من دون نقد ؟
إن الابتداء بمساءلة الثنائيات يستدعي أكثر من وقفة نقدية؛ ويتطلب خصوصاً سؤال النصاب الفكري عن علاقاته بالنصاب السياسي. أسوق هذا، وقد تحققتُ، في كتب وبحوث سابقة، من أن شاغل هذا الفكر تكوكب حول مسألة الحُكم، في المقام الأول. وهو ما تعينَ، منذ "استئناف" الدورة الجديدة للثقافة العربية في بدايات القرن التاسع عشر، في عناياتٍ تمثلتْ في التعريف والحض اللطيف على ما آلت إليه "تدابير" السياسة الفرنسية (حسب لفظ الطهطاوي)، أو في "النُّصح السياسي" كما تجلى في أعمال جمال الدين الأفغاني، أو في الفصل بين السلطان والخليفة (عند عبد الرحمن الكواكبي) وغيرها من التعبيرات التي وجدتْ في قيام "الحكومة العربية" (1919)، في دمشق، أو مشروع "المملكة العربية"، تجليه الفكري-السياسي لأول مرة. ولنا أن نتابع، بعد سقوط السلطنة وتشكل "الدول" العربية تحت نظر الإدارات الأوروبية، قيام مشروعات تمثلت في تدبيج المنظورات والمقترحات، وفي قيام أحزاب متفاعلة مع هذه المنظورات، ما يمكن اعتباره الامتحان الأول لما أمكن أن تكون عليه علاقات النصاب الفكري بالنصاب السياسي. وهو أكثر من امتحان، إذ أظهر أن ما مهَّدَ لقيام هذه الدول، ولتدبيج مشروعات الفكر، لم ينعم بـ"عصر أنوار" عربي، ولا بـ"نهضة" (كما يقال)، في الحد الأدنى. هذا ما كشف تعثراتٍ، أو رومنسيةَ تجليات هذا الفكر، فيما كانت تنبني السلطات، لا سيما بعد "جلاءٍ" متلاحق لقوى الإدارات الأوروبية، وفق محددات تاريخية واجتماعية ذات ارتكازات في القبيلة، والملة، والتشكلات "الحديثة" الناشئة، لا سيما في الجيش.
لهذا، وجدتُ أن مساءلة الثنائيات ليست مساءلة محضة، أو صرفة، أو خارجة على التعينات هذه، بل تستدعي التفكر في مسار النصابين، وفي علاقاتهما.
لهذه المساءلة أن تتحقق من أن هذه الثنائيات تنبني وفق خيارات ضمنية، ذات دوافع ومرتجيات. وهو تحققٌ يُفضي إلى استبيان نفعيةٍ مرجوة من هذه الثنائية : "نفعية" لها أن تَتقدم من دون صلة بالماضي، بل بقطيعة معه؛ أو "نفعية" لها أن تتواصل مع الماضي، مستفيدة منه، ومجددة له.
أصدر د. محمد عابد الجابري كتاباً، هو "المَدخل" إلى مشروعه في درس "العقل العربي" : "نحن والتراث" (1980)، وعنى هذا الكتاب – منذ عنوانه -، وعيَّنَ، مثل هذه العلاقة "النفعية" في الحديث اللازم بين "النحن" و"التراث" : "النحن" تشمل المفكر على أنه يتكلم بلسان غيره، و"التراث" يعني ما هو مدعاة لاستعادة النظر فيه، والبدء منه، والاستثمار فيه.
"التراث" واحدة من المفردات القديمة التي باتت جديدة في الكلام العربي بعد مجهودات عديدة طاولتْها في الاستثمار الدلالي والايديولوجي في الكتابة العربية المعاصرة. ولعلنا نجد في كتابات المستشرق الراحل جاك بيرك أحد المصادر الأولى التي عملتْ على "تحميل" هذا اللفظ مضامين مستحدثة، مثل ألفاظ أخرى عديدة، كـ"الحداثة" و"الثابت" و"المتحول" و"القُدْسي" وغيرها. إلا أن التسمية هذه لا تُغيِّب أن عملية إعادة النظر تكاد تكون مزامنة في القرن التاسع عشر لكتابات وجدتْ في التشوف إلى الثقافة الأوروبية خلاصها الأكيد. فأدبُ التعريف والترويج والتدبيج والتأليب والحض، انطلاقاً من متون أوروبية، سواء في الفكر أو الشعر أو التوصلات التقنية، لم يسبق بكثير متناً كتابياً آخر سعى إلى قراءة الماضي قراءة تؤكده مثل المرجع اللازم، أو الأصل، للحاضر في سيرورته، وللنهوض بالتالي.
ما أريد قوله (في اختصار) إننا نشهد حصول عملية كتابية، أطلقُ عليها تسمية : "تأليف الماضي". وهي عملية قامت على تحقيق المخطوطات العربية القديمة ونشرها والتعليق عليها، وعلى التأويل انطلاقاً من دعاويها وطروحاتها، في مساع انتقائية طبعاً، قامت على التخير والترتيب والتسوية بما يفيد معالجات راهنة، مثل التداخل والالتباس الذي طلبه عبد الرحمن الكواكبي، على سبيل المثال، بين الديمقراطية والشورى، أو بين اجتماع الصحابة لبتِّ مسألة الخلافة في اجتماع "السقيفة" وبين دعوته "أفاضل" الإسلام إلى الاجتماع في مكة في كتابه "أم القرى" (1931) لإصلاح حال الإسلام والمسلمين.
هذه العملية الجارية تجد في مشروعات عديدة لاحقة، صورةً مستمرة عنها، وإن أخذت أشكالاً ومعالجات متباينة. أقول هذا لأفيد أن النظر إلى الماضي ما انقطع، وإن وجدَ في النزعة "الإسلاموية" الراهنة منطلقاً قوياً لم يعرفه في العقود السابقة. ولأفيد أيضاً أن النظر إلى الماضي ما سلم أبداً من الصراع عليه، أي أن أسباب النظر ما انقطعت أبداً عن الجمع بين العقل والإيديولوجية في آن. فالتعويل على "المادي" أو "التقدمي" أو "المتحول" في "التراث" لا يعدو كونه مصادرة واستعمالاً له في الصراع الجاري، وإخراجاً له من ماضويته. كما أن استخلاص السياسة من أحاديث للرسول ذات سند ضعيف، لا يعدو كونه الطلب على شرعية لم يتم تحصيلها إلا بالعنف والغلبة. هذا ما تمثل في استثمار الماضي، في ترهينه، في إحيائه من جديد، وفي عرضه على التداول والمنافسة.
مسألة الهوية، أو تطمين الذات بعد "الرضة الاستعمارية"، هي التي حَرَّكَتْ هذه المشروعات قبل أن يكون الأمر إعادة جدولة للمعرفة القديمة، وضبطاً لتاريخ غير مفكر فيه (أو ممنوع التفكير به) في صورة سليمة وكافية. لهذا لا يناسب تشبيهُ هذه العملية بما جرى في أوروبا في "عصر النهضة"، أي استعادتها للصلة بماض إغريقي-روماني من دون غيره من ماضيها، والمعروف بعهدها "الكلاسيكي"، ولا بما جرى فيها أيضاً في "عصر الأنوار"، أي تخزينها وجدولتها للمعارف من جديد. ذلك أن ما جرى في أوروبا حرَّكَتْه، واقعاً، عمليات جارية في المجتمعات، وفق علاقات نتبينها في التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، من جهة، وفي التحولات التقنية والصناعية وخلافها، من جهة ثانية، فيما تقيدت حركة المشروعات العربية هذه بنوازع مثقفين في المقام الأول، على ما فيها من اضطراب ومواجع بين أنسابهم التقليدية وتشوفاتهم الأوروبية.
فالحديث عن "قطيعة" أو "تواصل" يستدعي حكماً استحضار الغائب فيها، وهو : "التراث" (كما سبق القول)، ويعني : الإسلام تحديداً. هكذا، بدل الحديث عن "الماضي"، يُستحسن الحديث عن "التراث"، الذي يجعل من "السلف الصالح" أو من الإمام علي حصراً، الأصلَ المطلوب استعادته، كما لو أن هذا "الأصل" معصوم أو أكيد في شرعيته، فيما نستبين، في هذا الطور الأول من قيام دولة إسلامية، الشقوق والنزاعات القبلية؛ وهو ما لم يختف، بل تحول إلى أسر حاكمة منذ الأمويين وانتهاء بالعثمانيين، أي "المُلك العضوض"، كما أسماه الجاحظ.
لهذا يمكن الحديث عن أن بناء الحُكم، وبناء العقل، باتا في عهدة نظرٍ مسنَدٍ إلى خيار مسبق، أو إلى عودة لازمة، ما يجعل النظر في هذه المسائل والقضايا محكوماً بالتخير، بالانتقاء، بانتحاء جانب من دون غيره، على أنه القابل للإحياء، للاستثمار. هذا ما جعل المتن الإسلامي، والتاريخ، وأعمال الكتابة والفكر، عرضة للانتفاع وتأليب الرأي. وهي عودة تسليمية، اعتقادية في نهاية المطاف، لا تبني ارتكازاتها على أصل عقلي، نظري، بل على قناعة إيمانية، مطعَّمة بالطلب المذهبي عليها. كما لو أن ما جرى في القرنين المتأخرين، أو ما نواجهه من حروب وأعراض وقضايا ومشاكل وغيرها، له أن يجعل من الماضي ما بعد الجاهلي أفقاً للحاضر، للراهن.
ما يمكن التنبه إليه في هذا هو أن ما يُحرِّك هذه السياسات لم يفصل ما افتتحه الشيخ علي عبد الرازق بين كيان الدين وكيان الدولة. إذ هي سياسات، لها ارتكازات، تستند (كما في السابق) إلى : "الغلبة" (كما تحدث عنها الكواكبي)، ولم تتدبر، واقعاً، قيام الدولة على مبادئ مستخلصة من العقل (العقل النظري كما العملي)، ومن تجارب الحكم هنا وهناك. لهذا يجد النظرُ أمامه مسائل شائكة، مثل الالتباسات والتداخلات : بين القبيلة والدولة، بين الأسرة والحكومة، بين الدستور والأعراف و"المرجعيات"، بين الأحزاب والتيارات وبين "مكونات" البلد والمجتمع والسياسة، بين الميليشيا والقوة العنفية الرسمية، بين التداول والحظوة، بين المنافسة الشرعية وبين "المَكْرُمات" وغيرها الكثير.
لنتوقف عند طه حسين : انطلقَ من مبدأ لافت أظهرَه في مطلع كتابه عن الشعر الجاهلي : القطيعة مع ثقافة "ما ورد"، و"كما ورد". فقد كتب : "نحن بين اثنتَين : إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير (...). وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث" (في "تمهيد" الكتاب). أعود إلى الشيخ علي عبد الرازق، وإلى د. طه حسين، وهما – كما لا يخفاكم – فكرا، وكتبا، في ضوء متطلبات طور آخر، غير ما نشهده منذ النصف الثاني من القرن العشرين؛ وهو طور البناء النظري على أسس المراجعة الفاحصة.
اذا كان العقل العربي وجد - بعد طول جهل وتباعد - في المثال الأوروبي (ثم الغربي) طرفاً لازماً في بناء موقعه ونظرته في الأزمنة الحديثة، فإن هذا التموقع الجديد لم يتكفل تماماً بمقتضيات هذا النظر : من يطالع مدونة الفكر المتأخر يتحقق من أنها لا تزال تعايش حالة نزاعية بين النفعية والتحوير.
الاكيد، في هذه المراجعة التي تبتغي النظر النقدي كما التاريخي في ما تتناوله، هو أن هذا الفكر خرج من محدداته القديمة التي كانت تتعين بين "دار الإسلام" و"دار الحرب"، وفي الثقافة المكتفية بنفسها، بل الواجدة أنها "خير أمة..." : بات النظر مختلفاً عما كانه في ارتكازاته، فجعل من أوروبا (ثم من الغرب) المثال والخصم؛ وهو ما أوجب صياغات تقع بين الإقرار بهذا المثال وبين تحويره أو معاداته.
خرج الفكر من بناء الخلافة صوب بناء الدولة، ومن الفقه والشرع صوب الدستور، ومن الثقافة القديمة والفقه صوب ثقافة العلوم الإنسانية والآداب الحديثة. إلا أن هذا الخروج تدبرتْه قوى ومنظورات، ما وقع بين عدم الانقطاع عن الماضي وبين تدبر تواصل وتفاعل استنسابيين مع المثال الغربي. هذا ما وقع - في حاصل العمليات الفكرية والتاريخية - بين التواصل والقطيعة.
الأكيد أن النظر ابتداء من التجربة الإسلامية القديمة بات السياق والأفق، من دون أن تتوافر لهذا النظر مقومات النقد المناسبة. هذه العودة إلى "السلف الصالح" تُخفي أكثر مما تُفصح عنه : تُخفي عدم حصول قراءة تاريخية ونقدية لتاريخ هذا السلف ومدونته، كما لا تُفصح عن مشروع الدولة : أتَعمل وفق منطق الخليفة - المقبول حتى لو أساء، ما دام يزود عن أمة الإسلام - أم وفق تدبيرات السياسة وفق ما يمليه العقل والمصلحة وتجارب الأمم في بناء السياسات ؟
يستوقف الناظرَ إلى الثقافة وخطابات مثقفيها في المئة السنة الأخيرة، وقبلها بعقود قليلة، هذا الحَراكُ الواسع، بما فيه خصوصاً من تقلبات واسعة، ليس أقلَّها : إخراجُ الولايات العربية من السلطنة العثمانية (بفعل قيام "الدولة التركية")، ووقوعُها تحت القبضة الأوروبية (لاسيما مع اتفاقية سايكس-بيكو وسان ريمو)، ثم عهودُ الاستقلالات العربية، وصولاً إلى العهدَين المتنابذَين : العربي، ثم الإسلامي (الممتد منذ نهاية السبعينيات من القرن المنصرم).
ما يمكن التحقق منه في هذا الحَراك هو أن خطابات المثقفين لا تفيد تماماً في استبيان هذه التقلبات الشديدة، ما يعني – في التفاتةٍ فاحصة – أن هذه الخطابات لم تكن في موقع المعاينة بالضرورة، ولم تكن لها كذلك القدرة على الفعل أو التأثير في جريان التاريخ. من يعد إلى ما كتبه د. طه حسين، لا سيما في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، يتحقق من أن ما تَحدَّث عنه، ودعا إليه واقعاً، ليس ببعيد، بل يأتي في سوية ما دعا إليه البعض في دولة محمد علي، أي أن مصر "قطعة من أوروبا"، إلا أن العائد إلى هذه المدونة يتحقق كذلك من أن ما قالَه يتباين، بل يختلف تماماً مع ما آلت إليه الدولة والدستور والخطاب السياسي في مصر، إثر "انقلاب" الضباط الأحرار، ثم مع صعود المد الإسلاموي. كتب طه حسين : "فالمسلمون، إذن، قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو : أن السياسة شيء، والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر" ("مستقبل الثقافة في مصر" (جزءان في مجلد واحد)، مطبعة المعارف، القاهرة، 1938، ص 17).
لن يجد المتابع صعوبة في رسم هذا المشهد السياسي والإيديولوجي الواسع. وقوام هذا المشهد يتعين (في اختصار) في الانتقال من المجال العربي إلى المجال الإسلامي، ومن فكرة البناء الديمقراطي إلى فكرة الخليفة أو أمير الجماعة أو الولي الفقيه. ولا يعني هذا الرسمُ أن راسمِي سياسات المجال العربي اجتهدوا في مسعاهم، أو نجحوا فيه، إذ إن انقلاباتهم العسكرية لم تستولد "ثورات"، كما أعلنوا عنها، وادَّعوا حصولها. أما راسمو المجال الإسلامي فقد جعلوا من شقوق المذاهب الإسلامية منافذَ للتسييس والتجييش، ما أطاح النزعة القومية، من جهة، وما جعل الخلافة الإسلامية مشروعاً مفتوحاً على فتنةٍ ممكنة، من جهة ثانية.
كما أن هذا الانتقال لم يراكم أية حصائل إيجابية على توالي العهود، إذ بدا التحكم العنفي الشديد في المشروعَين هو المبتغى، فكانت نجاحات هذا وذاك هي في كمِّ الأفواه في اللحظة المرنة، وفي الاغتيال في لحظة التسيُّد. بل يمكن القول إن مفردات الخطاب السياسي، ومنظوره في المقام الأول، تراجعتْ للغاية، ونجحتْ البلبلة في سوء تشخيص الأزمة، وفي إيجاد حلول لها. إن مسائل مثل : الدستور، والديمقراطية، والتعددية، والتقدم وغيرها، باتت خارج التداول، فيما تصدرتْ، لبناء منظور مختلف، مفرداتٌ مثل : الأمة، والأمير، والجماعة وغيرها. هذا في الوقت الذي أصبح فيه لـ"الله" أحزابٌ وأنصارٌ منتشرون هنا وهناك...
في هذا كله، لم يتم العمل على بناء اقتصادات منتِجة، ولا على إطلاق قوى منكفِئة أو مخضَعة في المجتمع، ولا على إنتاج معارف شريكة في إنتاج التقدم... وأقصى ما بلغتْه هذه السياسات هو فرضُ الحجاب على نطاق واسع، وأشكالٌ من "الحشمة الفقهية"، إذا أمكن القول.
بل الأشدُّ والأفظعُ في هذا كله هو إشاعةُ سرديةٍ قوامها : كراهية العالم المتقدم، فضلاً عن معارفه وطرق اشتغال أنظمته : باتت مناهضة الهيمنة الأميركية (وتالياً الغربية) تشتمل على مناهضة : الفلسفة، والعلوم الإنسانية، والمناهج الحديثة، من دون أن تُسقط من حسابها الانتفاع من الإنتاجات التكنولوجية والاستعمالية لهذه العلوم. هذا ما يستدعي أسئلة لازمة : هل الغرب الظالم في الحق هو الظالم أيضاً في ما أنتجه وابتكره في العلوم الإنسانية وفي فنون الابداع ؟
هذا ما انبنى – بصورة عكسية - على افتخارية ذاتية، قوامُها أننا "خير أمة"، وما يتبعها من الصفات. فلم نعد، بالتالي، نعيش في العالم عينه، وإنما نعيش في عالم وهمي، مع كائنات ماضية بهيئات خرافية وأسطورية. وكل هذا في الوقت الذي لا ننجح فيه في التماسٍ واحدٍ ومشترَك لرؤية هلال رمضان...
أما السؤال الأصعب في هذا كله، فهو : كيف يحصل هذا كله، فيما نجد الكثيرين راضِين، قانعِين، يتفننون وحسب في استعادة "الزمن الجميل" (كما بسمونه) ؟ نراهم يتذمرون من "عداء الغرب المستحكِم" لهم فيما لا يثيرون السؤال : لماذا "يَكرههم" الغرب... وحدهم من دون غيرهم ؟
ألا يجدر طرح السؤال عن الصور المتبادَلة بالتالي ؟ لماذا نريد أن يؤيدنا الغرب (كما نريد له أن يؤيدنا) فيما نخاصمه في كل شيء، ما خلا استهلاك إنتاجاته كلها ؟ كيف له أن يرى إلينا بعين أخرى، غير التي يرى إليها في عيون المهاجرين غير الشرعيين، وفي عيون الملتاعِين بصمت من استبداد المتحكمِين ؟
ما يستجمع هذا التاريخَ المتقلب والمتغير خطَّان على الأقل:
-خط الغرب بوصفه الخصم والحكم؛ بين المثال وبين إعداد مثالٍ آخر، بديل عنه؛
-خط العنف بين العسكريتاريا والميليشيا.
من يعد إلى خطابات متباعدة، بل متحاربة سياسياً وإيديولوجياً، منذ العقود الأولى من القرن العشرين، مع بدايات تشكل الأحزاب السياسية، يتحقق من أنها تُقرُّ – على اختلافاتها وتبايناتها - بــ"كونية" المثال الغربي، لكنها تتخذ منه وجهتَين (على الأقل) متصارعتَين : التلاؤم معه، واللحاق به، في سيرورة التقدم، من جهة، أو الابتداء من هذا المثال في تحققاته المحلية لمناهضته و"تفريغه" من مقوماته ومؤسساته وارتكازاته، من جهة ثانية. فإذا كانت الحدود قد ضاقتْ بين ضفتَي العالم المتوسطي، لا سيما في العقود الأولى من القرن العشرين، فإن العودة إلى "السلف الصالح" (التي تبدت منذ القرن التاسع عشر، وقبل ظهور "الإخوان المسلمين") بدت مثل تبعيد للحدود التي كانت تتهاوى أو تتداعى.
لهذا فإن الحديث عن "المآل الأوروبي"، أو الدعوى "المتوسطية"، أو السعي إلى بناء تشكلات حزبية ونقابية، لا يُخفي – على الرغم من تجلياته في خطابات مثقفِين، فضلاً عن قوى في الحكم أيضاً – تململاتٍ، ووجهاتٍ مضادة في أجهزة دينية، ولدى مثقفين، جعلت من العودة إلى الماضي العربي، الإسلامي حصراً، المرتع الرومنسي للأصل والتجدد والنشوء من جديد.
في هذا المسار التاريخي والصراعي لم تختلف تشكلات المجتمعات والأنظمة الناشئة عما كانته ظهورات السلالات السياسية الحاكمة في العهود الإسلامية المتعاقبة، أي قيامُ الحكم، واشتغالُه، وفق منطق "الغلبة". فانشغالاتُ النخب، ولا سيما العسكرية، في عقود مختلفة، وفي مجتمعات متعددة، دارت منذ "ثورة عرابي"، مروراً بالضباط العرب المسرَّحين من الجيش العثماني والمنضوين في "الحكومة العربية" (1919)، في دمشق، وصولاً إلى الانقلابات العسكرية المتتالية منذ انقلاب بكر صدقي في العراق (1936)، دارت هذه الانشغالات، إذن، على استلام السلطة، والتمكنِ منها، وجعلِها – في نظر المتعلمين "العصريين" منهم – أداة التحرر من الأجنبي، وأداة التقدم، وأداة استعادة الهوية المبدَّدَة. وهي انشغالات تبدَّتْ في جسم العسكريين، بوصفهم الرابطة الاجتماعية الناشئة، و"الحديثة"، الأشد عضوية بين غيرها، والمتمرسة بأدوات العنف الشرعي، ما جعل الاحتدامَ على النصاب السياسي دورة وهدفاً للقوى المتصارعة، المعلنة أو المستورة، مسقطةً بالتالي محرِّكات أخرى في السياق الاجتماعي التاريخي : إن خطابات أو أعمال طلعت حرب (1867-1941) في مصر، أو ميشال شيحا (1891-1954) في لبنان، وغيرهما، بقيت – على أهميتها – لا تتوازى، ولا تتقدم على أرجحية الشاغل السياسي. وهو ما تمادى في العقود التالية، حيث بدت "الحظوة" خصوصاً هي ما يرسم قوى الإنتاج، بل أصبحت مثل... مَكْرَمة، ما أبطل ديناميةً هي في أساس المجتمع، وهي ما حالَ وأعطبَ بالتالي إمكانيات التشكل السياسي والدولتي ابتداء من الأحوال الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا بدا خطاب التعلم والتعليم والثقافة لدى كتاب متعددين ضعيفَ الأثر والفعالية، على الرغم من حديثه عن التمدن والتقدم وحرية التعبير وغيرها.
هذا ما عنى، في التشكلات الحادثة ابتداء من النصاب السياسي والمتمحورة فيه، تأكدَ قوتَين تتجاذبان حول الحكم : بين التحكم من فوق، وبين التحكم من تحت. فالتحكم من قوى السلطة تمَّ بعالي الأدوات العنفية، فيما جري تعنيف آخر، طاولَ المجتمع نفسه، وانتظمَ حول تفريغ منظَّم للقوانين فيه لصالح أعراف من دون سند، وصرفِ الولاء للدستور وللقوانين إلى جهات أخرى، مثل الأمير أو صاحب الدعوى أو الولي الفقيه وغيرهم. وقد يكون التجلي الأبرز لسياسات التحكم من تحت العملَ على ما أسميه : "الحشمة الفقهية"، الماثلة في الحجاب وغيره، والتي عنتْ – واقعاً – التسلل إلى العائلة والحي، ثم إلى "الأمة". هذا في الوقت الذي لا يبلغ فيه خطابُ المتعلمِين "العصريين" و"المتنورين" (كما جرت تسميتهم) سوى أعداد من المتعلمِين، وتعبيراتٍ في الخطاب نفسه. ولقد كان لافتاً في هذه التشكلات أن عدداً من الأنظمة وجدَ في هذه الفئات تهديداً له، فعملَ على إسكاتها وسجنها وتقييد حركتها، فيما كانت تتمكن من العائلة والمحيط الاجتماعي قوى "قاعدية"، عاملة على الإمساك والتوجيه والتأثير حيث ما لم تكن تبلغ الدعاوة الحكومية أو الثقافية أو التعليمية.
الناظر إلى ما يجري، وإلى ما يتم التفكير فيه، يظن – أي المثقف في الغالب - على أنه ممتد، ولو يتعين في أحوال، أو تباينات، فيما لا يرى غير المثقف هذا المشهد، ولا بالعين نفسها.
تستوقف الدارسَ، وهو يستعيد مؤلفات طه حسين في زمنه، ذلك العزم على المبادرة والإقدام، من جهة، وذلك الإشراق الذي كان ينير المنظور والمآل. ومن يطلب التتبع، بل التأكد مما ترتكز إليه هذه المؤلفات، سيجد بأن ما أرستْه دولة محمد علي، ابتداء من العام 1805، انتظم حول علاقة القوة بالتعليم (أي بناء الجيش)، من جهة، وبالسعي نحو تمكين هذه القوة بعلاقة مع أوروبا، الجارة، من جهة ثانية.
فما كتبَه، أو رسمَه طه حسين، بين الدولة والتعليم، خاصة في كتابه : "مستقبل الثقافة في مصر"، يرتسم في ما توالت العهود الخديوية على تأكيده، وهو أن لمصر ارتكازها الأوروبي، اليوناني تحديداً : مثلُها مثل أوروبا بالتالي. وهو ما يرتسم في مثال استبينَه غيرُه معه، وهو إنكار الكلام الاوروبي عن "شرقية" مصر وغيرها. وما كتبَه طه حسين، سبق أن تناولَه، قبل سنوات على ذلك، سلامة موسى...
إلا أن لهذا الكلام، بين ارتكازات سياسية وثقافية، تمنياً وتبشيراً من مثقفين، ما عنى أنه كلامُ خطابٍ، ولا يعني تعبيراً عن حَراك، ولا انخراطاً فيه، بل هو تطلعٌ ودعاوة. هذا ما يرسمه مسارُ منظورٍ وخطاب يتطلع بعزمٍ وأمل إلى إمكان الثقافة في التاريخ، وإلى لزوم المعرفة في السياسة.
كما لو أن المثقف الحديث لا يتوصل، أو لا يتخطى تماماً ما كان يتقيد به العالِم القديم، أو الفقيه، أو الفيلسوف نفسه : لا وجود لجمهورية، أو لمملكة مقيدة، ما دام الفقيه أو الفيلسوف يتوجهان للخاصة، وليس للعَوام؛ أما مع العَوام، فيُكتفى بالحديث معهم عن وحدة المسلمين والملة والأمة. وهو ما استمر، بكيفيات ما، في الحديث المتأخر للمثقفين، على الرغم من ظهور "الشعب" كعامل ارتكاز سياسي، ولكن من دون مضامين أكيدة، بما فيها عند المدافعين عن "ديكتاتورية البروليتاريا" !
هذا ما للدارس التنبه إليه عندما يعاود النظر في كتاب طه حسين الآخر : "في الشعر الجاهلي". فما قال به من "نحل" في هذا الشعر قال به محمد بن سلام الجمحي مثل المستشرق مرجليوث وغيرهما؛ وهو ما نقوله، اليوم، بقوة أكبر. إلا أن ما يستوقف، في كتابه، هو أنه طلب أمراً ثقافياً بقدر ما هو سياسي، وهو : الخروج من الإجماع المعمِّم للغفلة. هذا ما تعرض له قاسم أمين، عندما تحدث عن لزوم "تحرير المرأة"، وهو ما كان يَقسم "الشعب" (الذي له أن يكون واحداً، صاحبَ إجماع) بين "رجل مستبد" وامرأة "مظلومة"... هذا ما اضطلع به الشيخ علي عبد الرازق عندما فصل بين الخلافة والدولة، وبين الدين والسياسة، فإذ هو لا يتباين مع ما سيقوم به طه حسين في الفصل بين القرآن وسابقه اللغوي الجاهلي، ما يندرج في إعادة النظر، في استئناف التأليف، في معاودة التاريخ حيث انقطع سبيلُه.
من يعد إلى ديباجة الجبرتي في "غزوة الفرنسيس" يحدوه الاعتقاد بأن ما "انقلب" من جرّاء حملة بونابرت، سيعود إلى "الاستواء" من جديد. أما طه حسين (وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وغيرهم) فقد كانوا متأكدين من أن التاريخ يستعيد دورته الأصلية، القديمة، حيث له أن يعود، وأن ينتظم من جديد. مثل هذا النظر، بعيداً عن نجاحاته من إخفاقاته، هو ما يدبجه المثقف بالتناسب مع ثقافته، ومع تطلعاته، أكثر مما كان يعاين تموجات الاجتماعي التاريخي في بلده.
لن تعود مصر، بعد حملة بونابرت، إلى سابق عهدها... كما لن تعود مصر، مع متعلميها الجدد، إلى ماضيها الإغريقي. هذا ما عنى، في عقود ما بعد الحرب العالمية الأولى، في مصر وغيرها، قيام مشروعات متفائلة بغدها الأوروبي المشرق، أو بمثاله. هكذا جرى الاحتفاظ بالإسلام بوصفه ديناً وحسب، وبالعربية بوصفها لغة وأدباً فقط، كما لو أن ما يقوى عليه المتعلم العصري في فكره، هو ما يقوى عليه المجتمع والدولة في مسارات تطورهما. ما يستوقفني، في ما كتب طه حسين، وفي ما دفعَه أمامه من أفق ومأمولات، لا يتعين في تأكيداته بالضرورة، وإنما في ذلك النَفَس والعزم اللصيق به : نَفَس الإقدام والمبادرة، والتخلي بالتالي (كما قال حسين نفسه) عن ثقافة الإجماع المتوارثة.
هذا الحديث طويل، معقد، وشائك؛ أكتفي ببعض الالتفاتات :
التفاتةٌ إلى العربية، التي تبدو أكثر تباعداً مع حيويةٍ تحتاجها، ومع توليدات واشتقاقات، بما يناسب تجديد النظر. وهو ما يترافق مع تراجع الإقبال على لغات أجنبية، وعلى مناهجها وعلومها وتوصلاتها. فكيف للدارس، للباحث، أن يتقدم في اشتغالاته من دون حواصل الدرس الغربي، هنا وهناك، سواء الخاصة بمجتمعاتها أو بدرسها للمجتمعات العربية المعنية ! فكيف، إذا كان البعض لا يتورعون عن نبذ العلوم الأجنبية، على أنها معادية وغير مناسبة ! ذلك أن الخط العنفي (الذي جرى تناوله أعلاه) يُدرج هذه العلوم ضمن "كراهية الغرب" المتفاقمة ! كما لو أن علم الكلام القديم، أو التأويل، أو الاجتهاد الفقهي، أو إصدار الأحكام، كافيةٌ ومستكفيةٌ في النظر إلى أحوالنا !
ما يتحقق منه المتابع في المناهج والنظر، له أن يترصده في التعليم، ولا سيما في الجامعة، حيث تتراكم فيها حواصل الاكتفاء المعرفي، المترافق مع التسليم بمسلمات مبعَدة عن أي سؤال : بالفعل الايماني وحده. إن أسئلة مثل التي طرحَها فرح أنطون أو علي عبد الرازق أو طه حسين باتت عسيرة الطرح، ومحاطة بمخاطر عنفية أكيدة.
أحوال المجتمعات تتراجع، وأحوال النظر فيها كذلك. وقد تكون أفعال المعاينة، والتفقد، والفحص، ناقصةً أو ضعيفة، ما يجعل المجتمعات متروكة لحالها، مدفوعة ومسيَّرة من قِبل قوى هي الأكثر شدة وتحكماً فيها. ما أخلص إليه هو أن التباين أكيدٌ، بل شديد، بين خط التحكم من فوق، وخط بناء مثال مضاد من تحت. وأدهى ما يمكن الخلوص إليه، هو أن العلاقات مع المثال الغربي لا تزال معطوبة، فلا نميز تماماً بين سياسات الدول ومصالحها وبين عوامل التقدم وبناء القوة المتأتية من بناء قوى المجتمع وانتظام السياسات فيها. ذلك أن ما نتعاطاه مع هذا المثال، يقتصر على الاستفادة النفعية، الاستهلاكية، من توصلاته التقنية والإنتاجية والاستهلاكية، من دون أن ننجح في إنتاج أي إنتاجات منافِسَة، ولا سيما في استثمار طاقات الذكاء الإلكتروني منه. وما يجري الحديث عنه بقوة، ويُنشِّط سياسات استثمارية، فلا يتعدى مشروعات السياحة، في الوقت الذي تتزايد فيه سياسات العداء لمن نطلب وصولهم كسياح إلى هذه البلاد.
هذا يعني أن التقلبات الشديدة، التي تحدثتُ عنها، لا تزال محفوفة بالكثير من الصراعات والخيارات، ما لا يؤدي، بالتالي، إلى ضبط المنافسة السياسية في الدستور، في التناوب الديمقراطي. كما يعني أن المشروعات الممكنة لصيغ الحكم، والتقدم، لا تَستخلص العِبَر من الأفشال المتعاقبة، غير منتبهةٍ إلى أن هذه المشروعات لم تنبنِ بعدُ على أي مثال ممكن ومنتج، غير العودة إلى الماضي، بحيث بات السؤال المأزقي : هل ندافع فعلاً عن الدين (كما لو أننا لا نزال نواجه مشروعات "التنصير" وغيرها) أم عن تقدم وسعادة البشر في هذه المجتمعات ؟
يبدو – بكل أسف - أن أفضل خلاصة لما أسعى إلى التفكير فيه، واستبيانه، هي جملة كافكا : "لا يزال الليل ليلاً أكثر من اللازم" !
(ورقة بحثية في مؤتمر عن طه حسين، بعد خمسين سنة على وفاته :ـ القاهرة، "المتحف الكبير"، 3-5 أيار-مايو 2024).