كلٍّ متحفُه الخيالي : في الهاتف الجوال، في الحاسوب، في بطاقة الحفظ الإلكتروني وغيرها؛ ولي متحفي الخيالي بدوري. سأكتفي في هذا التقديم بمتابعة وقراءة أربعة أعمال فنية.
"المتحف الخيالي" يعود إلى كتاب معروف لإندريه مالرو في العام 1947. لكن هذا التركيب، أو المصطلح، يعود، في تقديري، إلى والتر بنيامين في مقاله الشهير: "العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه عبر الآلة"، الذي يعود الى العام 1936.
المتحف الخيالي قديم، يعود إلى كل مقتنٍ أو متلقٍ للعمل الفني، أي يعود إلى الذاكرة، إلى الحافظة.
هذا المتحف الخيالي بات مادياً بمجرد ظهور آلة الاستنساخ، وبات أكثر حضوراً وفعالية، في عالم اليوم، مع الحاسوب، بدليل أن المتاحف الكبرى في العالم باتت تنظم زيارات خيالية إلى ذاكراتها البصرية.
*
الصورة الأولى (أعلى هذا النص):
هي لوحة، بل ثلاث لوحات فوق حامل خشبي، لكنها متوزعة بين ثلاثة متاحف كثلاثة أعمال فنية؛ وتعود إلى الفنان الفلمندي روجييه فان دِر وودِن، في العام 1434.
دراسات في التاريخ الفني تعتبر هذا العمل السابقةَ التاريخية في إظهار نافذة في خلفية اللوحة، وتُفضي على منظر خارجي. بل أكثر من ذلك: تَعتبر هذه الدراسات أن هذا العمل الفني أقام لزوم البعد المنظوري (perspective) في اللوحة، قبل أن يصبح أساس البناء حتى أيامنا هذه.
لهذه اللوحة اسم، هو: "البشارة"، بل بات موضوعُها نمطاً من التصوير في شمال أوروبا كما في جنوبها مع مدن إيطالية مختلفة.
ما يعنيني من هذه الصورة مختلف:
أولاً، أن الجدار نفسه لم يعد حامل العمل الفني، في جدران "الفريسكو"، بل أصبح الخشب، أو القماش وغيرهما الوسيطَ الحامل للعمل الفني. ولهذه النقلة في الصنع مترتبات عديدة : منها أن العمل الفني لم يعد لصيق الجدار، أو ملازماً له؛ بل بات الجدار "يَحمل" اللوحة، أو تُعلّق فيه. وعنت هذه النقلة كذلك أن الفنان لم يعد ينتقل بنفسه إلى موقع العمل المطلوب التصوير فيه، وله (كنيسة، دير، قصر وغيرها)، بل بات العمل الفني ينتقل إلى... محترف الفنان، إذا جاز القول. وهذا ما عنى كذلك أنه باتت للفنان مقادير من الاستقلالية مع صاحب "الطلبية" الفنية.
غير أن ما يستوقفني خصوصاً في هذه النقلة (ذات المعاني المتعددة) يرتبط في البعد المنظوري، ويتعداه كذلك. بات السطح التصويري في اللوحة يبتعد عن الورقة، إذا جاز القول، أي عن "بسط" موضوع التصوير وفق البعدين (الطول والعرض)، لكي يطلب العمل الفني إظهاراً للوحة في العالم الواقعي، ولو المتخيل.
كان الفنان، قبل الفنان الفلمندي، يبني لوحته وفق المدونة الدينية، في "الكتاب المقدس"، فيرسم كما لو أنه يكتب: يمكن العثور على لوحات عديدة رأيتُ بعضها في فيينا وكنائس ألمانية – مبنية وفق شكل الكتاب.
هذا يعني ربطاً بالكتاب الديني، لا على مستوى الخبر وحده، وإنما على مستوى التمثل أيضاً بين شكل الكتاب وشكل العمل الفني: اللوحة صفحة قراءة بصرية.
هكذا خرجت اللوحة ذات الموضوع الديني من الكتاب لبناء بصرية الموضوع التصويري بما يوافق النظر. كما باتت اللوحة تُصنع في المحترف، وبات الفنان أكثر تصرفاً بها، وبمن يطلبها منه.
**
الصورة الثانية
(Henri Fantin-Latour, “Coin de table”, Paris, 1872)
تعود هذه اللوحة الشهيرة، "زاوية طاولة"، إلى الفنان الفرنسي هنري فانتان-لاتور (1836-1904). يَظهر في اللوحة (التي نفذها بين كانون الثاني-يناير وآذار-مارس من سنة 1870)، عدة كتاب فرنسيين، ومنهم: أرتور رامبو وبول فارلين وغيرهم. تأتي هذه اللوحة إثر لوحات غيرها، قام بها الفنان نفسه لإظهار وتأكيد جانب من الأدب الفرنسي في انبثاقات مبدعيه اللامعين والواعدين.
تجمع اللوحة هؤلاء في مأدبة، في مطعم باريسي، من دون أن يكونوا قد التقوا فيه فعلاً، بل سيكون لهم أن يجتمعوا بعد سنة على تصوير اللوحة، في العام 1872، فوق صفحات مجلة "النهضة الأدبية والفنية". هذا الجمع بين الأدبي والفني غير مفتعل، بل كانت تقوم علاقاته في العيش كما في الفن، ولا سيما في الفكر الفني والجمالي. كان من المفترض أن تجمع اللوحة شارل بودلير وفيكتور هيغو، إلا أنهما رفضا جلسات التصوير التي طلبها الفنان منهما، فكان أن اكتفى المصور بمن حضر منهم... أخضع الفنان كل أديب لجلسة تصوير مستقلة، ثم جمعهم في لوحته، وهو ما يظهر في وضعية الأجسام، حيث إن أحداً لا يتفاعل مع غيره، أو ينظر إليه.
كانت هذه اللوحة تنتسب، في عهدها، إلى النمط التاريخي في موضوعات الفن، حيث طلب الفنان تأكيد أن هؤلاء يمثلون المبدعين المميزين في زمنه...
تبدو اللوحة أشبه بصورة فوتوغرافية، في بنائها وموضوعها: تطلب التوثيق والإظهار. تجمع ما كان يجري خارج المحترف، وخارج المطعم. هؤلاء لم يجتعوا ببعضهم البعض، عدا أن بعضهم (مثل رامبو خصوصاً) لم يكن مشهوراً، ولا معروفاً: هل يستبق الفنان الزمن، ويطلب تكريس ما لم يكن مكرساً بالضرورة في زمنه؟
للفنان لوحة أخرى لا تقل شهرة عن هذه، وهي سابقة بسنتين على اللوحة المذكورة، بعنوان: "محترف في باتينيول" (الحي الباريسي)، وتضم الفنانين: مونيه، رينوار، وبازيل، وهم يحيطون بمانيه.
هاتان اللوحتان تجمعان ما كان قد اجتمع في حياة باريس الشعرية كما الفنية، ولا سيما بين شارل بودلير وإدوار مانيه.
تبينتُ، في درسي، سواء في نطاق الشعر أو في نطاق الصورة، أن حوارًا ثريًا جرى منذ مطالع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بين القصيدة بالنثر (التي تولدتْ كنوع شعري في تلك العقود)، وبين المدرسة الانطباعية (التي تولدت، هي الاخرى، في العقود عينها): هذا ما hجتمع في اجتماع الصداقة والتفاعل الخصب بين شارل بودلير (Charles Baudelaire)، وإدوار مانيه (Edouard Manet).
هذا التعالق بينهما، وأبعد منهما، لا يتعين في "انفتاحٍ" خلاق بين نوعَين إبداعيين متباعدَين وجديدَين، وإنما يُعبِّر عمّا هو أبعد وأعمق من ذلك بكثير: خروج المبدع على قواعد الإبداع الناظمة له؛ وهو خروجٌ متساوق مع بروز "فردانية" متمايزة عن الجموع بدورها، وقبل ذلك. كما لا يُخفي هذا كونهم يطلبون "الفضيحة" كإعلان صارخ عن تعرضهم الوجاهي لنظام الجمالية المتعيِّن في قواعد خاصة بكل نوع إبداعي، ولنظام الحياة البورجوازية نفسها، في خبثها وتسترها الأخلاقيين.
هذا التعرُّض (المزدوج) لا يعدو كونه الخروج من "القطيع"، ومن سلوكياته وقيمه المتسلطة عليهم، صوب "فردانية" تطلب التأكد من إبداعيتها، من عيشها الحر. ذلك أن ما يُحرِّك دوافعَ مثل مأمولاتِ هؤلاء "الملعونين" يَصدر عن نزوعات الرغبة واللهو فيهم، وتلبيةً لها، ولو بكلفة باهظة من قبل قضاة البلاغة وقساوسة الأخلاق، عندما يُبعدونهم عن عرض "عارية" (كما مع مانيه) في لوحته الشهيرة: "أولمبيا" (1863)، أو في لوحته الأخرى، "غذاء على العشب" (1863)، التي مُنعت من العرض بعد تعليقها...
وجد بودلير تعارضًا قائمًا بين "حيوية" الحياة، وبين "جمود" قواعد الفن، ما يجعله يبحث عن "الغريب" في جاري الزمن، ما دام "الفن غريباً دومًا"، حسب قوله؛ وهو ما تعمل القواعد "الأكاديمية" على حبسه. في هذا يتصدر الفنان على القاعدة، منطلقًا من "روحه"، أي من عالمه الذاتي، جامعًا بالتالي بين العالم والذات: "ما يكون الفن الخالص حسب التصور الحديث له؟ هو إيلاد (خلطة) سحرية موحية، تجمع، في الوقت عينه، بين الذات والموضوع، وبين العالم الخارجي على الفنان وبين الفنان بنفسه".
هذا ما يجعل المصوِّر يعمل على استثارة "الإعجاب"، وهو ما توفره أعمالُ المخيلة وسبلُها، حتى وإن أظهرت صورًا غريبة، أو "وحوشًا" متولدة من مخيلتها. هذا ما يجعل الفنان يعاين، ويبحث، طلبًا لما يثير الإعجاب، ما يجده بودلير في "حكاية" معروفة لإدغار آلان بو (Edgar Alain Poe): "إنسان الجُّموع": "خلف زجاج أحد المقاهي، (يجلس) أحد المتعافِين (من مرض)، متأملًا الجموع باغتباط، خالطًا فكره بالأفكار التي تنشط حوله (...). أخيرًا، يندفع وسط الجموع بحثًا عن مجهولٍ أثارَ إعجابه بعد أن لمح هيئته، بطرف العين. هكذا بات الفضول رغبة قاسية لا تُقاوم".
إلا أن النقلة الجديدة قامت، قبل هذا، على انتقال بين صنعٍ وصنعٍ في اللوحة : بين صنعٍ "تامٍّ" و"منتهٍ" (opus operatum)، وبين صنع "قيد الإتيان" (modus operandi)، وفق التمييز اللاتيني؛ أي بين صنعٍ (قديم) قائم على "تمام" الإنجاز المتعيِّن في قواعد جمْعية، وبين صنع غير منتهٍ، بل جارٍ، في العملية التصويرية، مثلما يمكن التحقق منها في عمل الفنان الانطباعي. هذا الفنان يشرع في تصوير مشهد طبيعي، على سبيل المثال، ولكنه يعالجه شكلًا وألوانًا في عملية متتابعة ومتغيرة.
هذا ما يجعل الفنان "قوَّامًا" على صنعه بالتالي، لا "النظام" (الأكاديمي، النقدي...)، الحارس والراعي لـ"مثال" الفن وشرعيته. وهو ما بادر إليه مانيه، وغيره من بعده، من "خروج" على الطاعة، على "النظام"، إذ تمنعَ غير واحد منهم من المشاركة في "الصالون" (صالون العروض التشكيلية الدوري)، من الامتثال : لم يعد "مثال" الفن متعينًا في "مرجع"، وإنما بات قيد التبلور في صيغة مغايرة، تقع أبعد، بل أعلى من شخص الملك نفسه، ومن "القواعد" المرعية الإجراء. وما شاع من "مثالٍ" تمثلَ في "البوهيمية"، درجَ في "مناخات" القصيدة واللوحة، في آن، فضلًا عن "طقوس" العيش لدى الشعراء "الملعونين" والفنانين "المنبوذين".
***
الصورة الثالثة
(Marcel Duchamp, Fontaine, 1917, New York)
هي ليست لوحة، ولا منحوتة، بل قد يقول عنها البعض إنها ليست بعمل فني.
إنها الأثر الأول الذي يمكن إدراجه في ما بات يُسمَّى: "الفن الجاهز" (Ready-Made)، أي العمل المصنوع سلفاً، قبل أن يتوكل الفنان بمعالجته، من دون تغييره، لكي يصبح، في نظره على الأقل، عملاً فنياً، ولكي يدرجه في عالم الفن، في المعارض وعمليات البيع، بهذه الصفة (أي الفنية)، التي يمحضه إياها.
هذا ما قام به الفنان مارسيل دوشان في العام 1917، إذ اتخذ "مِبْوَلَة" مصنوعة من البورسلين، وأقامها للعرض في وضعية مقلوبة، بعد أن أنزل، باللون الأسود، التوقيع التالي لها: أر. موت (R. Mutt)، مرفقاً بعام إعدادها في 1917. ظهرتْ صورة هذا العمل لأول مرة في "دليل فني" يعود لآرتورو شوارز (Arturo Schwarz)، بعد أن رفضت "جمعية الفنانين المستقلين" إدراجه في معرضها الأول، في السنة المذكورة، ثم جرى عرضها في السنة عينها في صالة عرض تعود لأـلفرد ستيغليتس (Alfred Stieglitz).
تمَّ منعُ العمل من العرض الأول، وفق الحجة التالية (التي وردت في "رد" الجمعية المنظمة للمعرض): لا يصلح هذا "الجهاز الصحي" (أي "المِبْوَلة")، "لأن يكون في معرض فني، عدا أنه ليس بعمل فني، أياً كان عليه تعريف الفن". وكان لمناقشات أعضاء "الجمعية" التي أفضت إلى قرار المنع، عدة حجج، منها: أنه "غير أخلاقي، ومبتذل"؛ وأنه يقوم على التزوير، وهو "عمل تجاري يعود إلى فن السمكري، أو السبَّاك". غير أن غيرهم اعتبر أن الفنان قام بإنجاز "بادرة جمالية"، خصوصاً وأنه "حرر (العمل) من قيمته الاستعمالية".
يعتبر هذا العمل "المرفوض" أول تجلٍّ للفن "الجاهز"، مع أنه ليس الأول في أعمال ديشان المعنية، وإنما ظهر أكثر من غيره بسبب الجدل الذي انتشر في جرائد، وما استثاره من ردود وسجالات بين فنانين ونقاد.
"هذا من الفن": هذه الجملة البسيطة تكاد تختصر "بادرة" مارسيل دوشان؛ وليس لها بداهة الفن الأكيدة إلا بالقدر الذي تتوافر فيه مثل هذه المقاييس:
- "هذا من الفن"، ما دام الأمر يتعلق بصورة فوتوغرافية عن المبولة، فاختفى الشيء الصناعي نفسه لصالح إعادة إنتاجه بأدوات الفن؛
- "هذا من الفن"، ما دام المدعو "أر. موت"، أو الفنان نفسه (أي ديشان)، قد "وَقَّع" العمل الفني : هو لا يصنع بيديه، وإنما يتبنى ما اختاره، ويسميه؛
- "هذا من الفن"، بمجرد أن قام أحد العاملين في عالم الفن، أي ألفرد ستيغليز، باستعادة البادرة نفسها، بعملية إعادة الإنتاج، إذ قام بتصوير صورة العمل الفوتوغرافي بدوره؛
- "هذا من الفن"، بمجرد أن قامت "مؤسسة" في عالم الفن برفضه، وبعدم تشريعه.
هذا ما استخلصَه أحد دارسي الفن، تييري دو دوف (Thierry de Duve)، من عمل ديشان، ابتداء من صنعه المستعاد، ومن ظهوره، وممن صنعوا مثوله أو رفضَوا مثوله. غير أنني أجد في العمل (الذي تحول إلى "ماركة مسجلة" في تاريخ الفن)، مسبقات وانطلاقات مفتوحة.
أحد الدارسين الأميركيين يتحدث عن "عالَم الفن"، ويعني ما يقع أبعد من إطار العمل الفني : العمل الفني لا يُختصر في صانعه، ولا في توقيعه، وإنما في ما يولده بدوره من شروط وسياقات وصانعين (من فنانين ومؤسسات وغيرها).
لِنُعِدْ التفكير في "بادرة" ديشان: هو لم ينقل شيئاً مادياً من مكانه الاجتماعي، أو من استعماله الفردي، إلى صالة العرض الفني - ولو أُقفلت في وجهه – لكي يقول: "هذا من الفن". ذلك أنه أجرى عملية تحويل للشيء المادي: المبولة باتت مرجعاً أو إحالة ليس إلا، أما الصورة الفوتوغرافية عنها (وكما صورَها) فقد أصبحت صورة للعرض، للرؤية، للفتِ النظر إليها، ولم تعد للاستعمال، أو الإخفاء، أو التكسير.
العمل الذي أجراه ديشان على المبولة "بادرة فنية وجمالية"، كما قلتُ، إذ هي ناتجُ عملية تحويلية، تصيب وتبدل معالم العملية كلها التي تمهر أي عمل بتوقيعها الشرعي. إنها لحظة الافتراق (بكل محمولاتها):
- بين الشيء المادي وبين العمل الفني،
- بين صانع الشيء في المصنع وبين الفنان المصور في المحترف،
- بين وفرة المبولات واستعمالاتها في المجتمع وبين كونها محل لفت نظر وتقويم من جهة مؤسساتية في عالم الفن،
- بين "رفض" المؤسسة الفنية للعمل الفني وبين كونه يستعيض ويناقض أسس البناء والحكم في اعتقادات أعضاء "المؤسسة"،
- بين كون العمل مرفوضاً من "مؤسسة" وبين كونه مقبولاً من غيرها.
عملُ ديشان له سوابق أكيدة موصولة – على الرغم من انقطاعها عن عالَم اللوحة – بـ"بادرة" مانيه وبودلير:
- الحمولة الثقافية (الأدبية، الفلسفية وغيرها)، بل الذهنية "الباردة" (إذا جاز القول)، هي التي تصنع العمل الفني؛ أي أن مقادير الصنع السابقة عليها باتت قليلة، شبه معدومة: ديشان لم ينحت عملاً، وإنما تَصورَ عقلياً وبصرياً ما يمكن أن يفعله به وفيه. هكذا اكتفي بالإتيان بمبولة من إحدى المؤسسات التجارية، ووضعَها في وضعية مخالفة لاستعمالها المعهود، بعد أن وضع توقيعاً وتاريخاً على طرفها، و"ظهَّرَ" هذا كله عبر آلة التصوير الفوتوغرافي.
- لعل ديشان طلب (وهو ما تؤكده مرويات مزامنة لفعلته) استثارة "الرفض" لعمله، أو قبوله وعرضه بما سيستثير كذلك "رفض" جمهور من المتفرجين له.
- ليس للفن مدارس وأساليب وقواعد "مقرَّة" ومتبعة، وإنما هو (أي الفن) في عهدة الفنان الذي صار لقبه الأنسب: "المنشِئ". وهو ما تمثل، قبل ذلك، بقوة رمزية بادية في عمل مانيه وأقرانه من "المرفوضين": باتت صفة "الرفض" في الفن (أو في القصيدة، مع رفع قضية في المحاكم ضد قصائد بودلير في "أزهار الشر")، أو إشهار "الضدية"، أعلى علامة في مناهضة الفن الساري، وإظهاراً لشرعية بديلة.
- هذا لم يستقم من دون اللهو، من دون دوافع الرغبة في بناء العمل الفني، حيث لم يعد صنع العمل الفني مقترناً بحرفة أو بحِرَف، وبأدوات تلقاها في محترف الفنان أشبه بغرفة عملية الجراحة، وإنما بات اللعب مطلوباً بوصفه معاكساً للنفع والاستعمال.
****
الصورة الرابعة
(بينالي البندقية، 2024)
هذه صورة فوتوغرافية لأحد جوانب من عروض بينالي البندقية في العام الجاري:
الفن، هنا والآن.
لنرَ إلى الصورة، لنفكرْ فيها. هي عملٌ فني، إذن، لكنها تُظهر عملاً، بل عدة أعمال فنية، وفي الوقت نفسه. "النافذة"، في التصوير الفلمندي أو الإيطالي "النهضوي"، اختفت؛ لم تَعُد هناك حاجة لرؤية العالم الخارجي من خلال نافذة الفن. بل اختفتْ الحدود بين العمل الفني وخارجه المحيط به، واختلطتْ الحدود بين مكان الفنان ومكان الجمهور: هذا يسير بعكس ذاك؛ هذا يعود مما شرع فيه؛ وهذا يقوم بالعمل نفسه في وجهة معاكسة...
عملُ ديشان كان بالنسبة لما بات يُسمى "الفن المعاصر" أشبه بوصية تنفيذية، على أن كثيرين من الفنانين تبنوها، مثل وصية الجد المعتبَر. ففي "بادرة" ديشان كثير من "انطلاقات" ما رسم مشهد الفن، اليوم؛ ومنها أننا نسمي عالم الفن بالعالم البصري، لا التشكيلي، أو الفني الجميل. لم يعد الفن في محترف الفنان، في عدة عمله، وإنما بات في ما يُعرض للنظر.
لهذا لم أتردد في الكتابة سابقاً أن بعضاً من "الفن المعاصر" ينقاد أكثر إلى نسق الدعاية، الدعاية المحدِثة للمباغتة، ولو كانت الصورة كائناً بشرياً مقيماً في فضاء فني، على أنه العمل الفني نفسه.
الأكيد أن كفاءة الفنان العقلية، الفلسفية، تقدمتْ على غيرها في صنع العمل الفني، بل في تصوره. هكذا تكون معدومة، لا احتياج إليها، مثل العمل باليدين، وبالأدوات. هكذا تكون المقدرات الفلسفية، والإدراكية، والجمالية، والتوصلات فيها كلها، قيد العمل، قيد البناء المنجَز بمجرد الانتهاء إلى "صيغة" لمثول العمل الفني. هذه المقدرات تقود العمل الفني في وجهاته العديدة والمتضاربة، بحيث لا يقوى الدارس على رسم خريطة لما هو ماثل في عالم الفن، أشبه بالعالم المفتوح والمحدّد الذي تلتقطه هذه الصورة الفوتوغرافية.
العمل الفني هو تصورُه نفسه، من دون مسار عملاني، أو تحولات مادية فيه بالضرورة. ارتسامُ "الفكرة" أو "المشروع" في عمليات التفكر هو ما يتيح قبوله من عدمه من قبل الفنان؛ وهو ما يجعل العمل قابلاً للإنجاز، مثل العلاقة بين مخطط المهندس المعماري لبناية وبين بناء البناية نفسها المادي.
لم يعد هناك من "فضيحة" كما مع مانيه، وديشان، هناك فضائح عديدة، وصارت المفارقة أساس البناء.
هكذا خرجَ الفن من نطاقه القديم، الضيق، إلى العالم الخارجي، عبر النافذة، بل خرج من صفحة الكتاب الديني خصوصاً، عبر البعد المنظوري، إلى المشهد الطبيعي، إلى الوجه، إلى ما يحلو له تمثيله وعرضه. لم يعد الفن يتمثل الكتاب، بل ابتنى ما يمكن تسميته بـ: البدل عن الوجود، سواء الإنساني أو الطبيعي.
ترافقَ هذا التغيير مع كون المحترف بات مكان الفن، وبوصفه مكان الفنان، حيث لم يعد الفنان ملحقاً بالقصر، أو بالكنيسة، بل بات صاحب "طلبية الفن" يأتي إليه، يَطلب منه عملاً وفق "إلهامه الخاص" (مثلما يقول أحد كبار الأغنياء لأحد كبار التصوير "النهضوي" في إيطاليا). بات الفنان يستقل (بمعنى من المعاني)، كما يستقل بفنه، إذ بات المنشِئ والمرجع في آن لما يقوم به، ويقترحه على غيره.
هذا ما جعل من حياة الفنان، من عيشه، من ثقافته، من ميوله ورغباته، مصدراً منشطاً لرؤيته، لخياراته، لمواقفه. فلم يعد الفنان يُعنى فقط بتحسين مهاراته، وتنمية خبراته العملية والتقنية، بل بات معنياً ببناء ثقافته العامة (الفكرية مثل الاجتماعية)، ما جعل لـ"الطليعي" أو "الحداثي" أو "الملعون" هويته المعلنة. وهو ما بلغ مع مارسيل دوشان، في بادرته الفنية والجمالية، منذ مطالع القرن العشرين، تأكيداً للانشقاق، ومساءلة متقدمة لما هو: العمل الفني.
ما قام به دوشان لحظةُ توقفٍ في هذا المسار: ما كان يتنامى ويتصاعد، بات محل إعادة نظر في المرتكزات، في السبيل، في الخطى. باتت الأسئلة متزاحمة و"جذرية": ما يكون العمل الفني؟ ما تكون عملية الفن بين الشيء وبين الشيء الفني؟ ما يكون عالم الفن؟ ما هو دور مؤسسات الفن من متاحف وصالات عرض وغيرها؟ هكذا بات السؤال عن الفن موضوع الفن بمعنى ما.
إلا أن هذا كله مدعاة للنقاش، للتفكر، للسؤال: ما يجعل الشيء، أو الفكرة، عملاً فنياً؟ إلى أين ستؤدي عمليات إسقاط الحدود بين الفن المتعارف عليه وبين ما ليس بفن؟ هلى الخروج للعرض في شارع، في ساحة عمومية، يُسقط المتحف أو صالة العرض؟ هل تنامي ظهور وحضور أعمال ليست بلوحات أو منحوتات أو محفورات سيلغي أو يبدل سيادة اللوحة في عالم الفن منذ أكثر من خمس مئة سنة ؟ هل نحن في مهب العاصفة أم نخرج منها إلى استقرار عهد جديد؟
السبت 2024/07/13