منذ أن أصدر شربل داغر روايته الأولى، "وصية هابيل" (2007)، ، بدا هذا الروائي مصرًا على تدشين مرحلة مختلفة في مساره الإبداعي كروائي يشغله البحث الدائم عن ممكنات فنية مغايرة تعطي الرواية، بعيدًا عن خط التصوير النفسي والاجتماعي الكامل، نفسًا قويًا يمكنها من التعبير عن السعي الإنساني في عالم يشهد تحولات متسارعة تلقي بظلالها على الوجود والقيم والمؤسسات الاجتماعية والرؤية للعالم، ويهتمّ أيضًا بفتح مختبر الكتابة على أشكال فنية ووسائل لقول الحكاية، وسجلات ولغات اجتماعية تسمح له بارتياد المتخيل الجموح في مسعى للاقتراب أكثر من الحقيقة المسكونة باللايقين والغموض والتعدّد والالتباس. وهذا ما أكدته نصوصه الروائية اللاحقة مثل : "بدل عن ضائع" (2014)، و"شهوة الترجمان" (2015)، و"ابنة بونابرت المصرية" (2016)، و"الخروج من العائلة" (0 (202، بالإضافة إلى رواية "اللوحة المحجوبة" (2022) ، الصادرة عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع بالأردن.

من المؤكد أن الناقد المهتمّ بالتجربة الروائية لشربل داغر، يعلم من خلال قراءة روايته الجديدة "اللوحة المحجوبة" أن هذا النص منقوش في خطّ جمالي سبق أن امتحنه الكاتب بمهارة فنية في روايته التاريخية "ابنة بونابارت المصرية" التي اهتمّ فيها بالتمثيل السردي لحقبة مفصلية من تاريخ مصر والمنطقة العربية طبعتها الحملة الفرنسية بأواخر القرن الثامن عشر. وما يؤكد اندراج الرواية في هذا الخط، ليس هو فقط الفعالية التي ينطوي عليها البحث والتحقيق في بناء الحبكة، وفي فتح الرواية على مزيد من التخييل والكشف والتعرية، وإنما أيضًا المساحة الجمالية التي يتيحها الشكل الفني البوليسي لرصد الأسئلة العميقة الوجودية والقيمية التي يطرحها الوجود في عالم تضاءل فيه القليل الذي يبعث على اليقين، والتنويع على مستوى السّاردين الذين ينهضون بسرد القصّة ذاتها التي تثير فضولنا وتقدّم لنا مختلف وجوه الحياة. هكذا يستمر الكاتب في تعميق هذا الخط في روايته الجديدة بجرعات أكبر من الخيال، ومتح من الأحداث التاريخية والوقائع الاجتماعية، وتمرّد على المواضعات الواقعية السائدة في كتابة الرواية، سعيًا إلى استكناه التجارب الإنسانية والاجتماعية التي تتخذها الرواية موضوعًا لها.

 

مقتلة غامضة

تنهض القصّة في "اللوحة المحجوبة" على أساس حدث يتمثل في المقتل الغامض للسيد غسان الحلبي الذي يقدّم نفسه في الرواية باعتباره "المهندس غسان الحلبي مستشار صاحب السمو في "الديوان الأميري" (الرواية، ص 278). كان يعمل في الدوحة، وجنى فيها ثروة كبيرة قبل أن يحال على التقاعد، ويستقرّ في بيروت. وهو عارف بأمور كثيرة في الفن، ولا سيّما في فنّ الرسم، كما أنه يهتم باقتناء رسوم أو لوحات لفنانين لبنانيين تندرج ضمن "الرسم العاري"، وتعود إلى الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي، وخاصّة أعمال الفنان قيصر الجميل التي ألهمت أجيالا من الرسامين، وكان أستاذه. فضلًا عن ذلك، يمتلك السيد غسّان مجموعة فنية واسعة، من بينها عمل "اللوحة المحجوبة" التي لم يكن أي أحد على معرفة لا بفنانها ولا بموضوعها، بما في ذلك الأستاذ عصام الذي كان السيد غسان يستشيره ويستوضحه عن أمور تخصّ بعض اللوحات. تقول ياسمين للمحقق: "إلا أن هناك لوحة في مكتبه كانت غريبة... لعلها لوحة، من دون أن أتمكن من رؤيتها، إذ كانت مغطاة دومًا، ومنعتنا مدبّرة المنزل من نزع الغطاء عنها" (الرواية: ص251). إذًا، يُظهرُ وجود الجريمة، والتحقيق في ظروفها وملابساتها والمتورطين فيها، أن الرواية تنتمي من حيث الجنس الأدبي إلى الرواية البوليسية التي يربط مؤرخو الرواية ظهورها بالكاتب الأميركي إدغار ألان بو.

انطلاقًا من هذا الحدث تكتب الرواية سير كثير من شخصياتها التي تتحركّ في فضاءات مختلفة كبيروت والدوحة وروما وباريس، بما في ذلك سيرة "اللوحة المحجوبة" وصاحبتها مريم التي تقول عنها ابنتها ياسمين: "كانت مريم قد خافت من وقوع لبنان المتزايد في الحرب. كانت تريد بيع عدد من اللوحات، ونقل ثروتها إلى أحد المصارف السويسرية، لترتيب حياة لائقة لي، وربما في المهجر" (الرواية: ص 279). هذا ما يتيح استكشاف المناخ الفني في لبنان في منتصف القرن العشرين، وهي مرحلة تقدّمها الرواية على أنها فترة نبوغ أنتجت مجموعة من الأعمال الفنية التي تعينت بوصفها مصدرًا إلهاميًا لكثير من الفنانين في لبنان والمنطقة العربية. لذلك يمكن أن نشدّد على الفكرة التي مفادها أن الموضوع الحقيقي للرواية، أو العالم الذي تطل عليه من منفذ الحبكة البوليسية، هو مشهد التجربة الفنية في لبنان خلال منتصف القرن الماضي، ومن ارتبطوا بها سواء كفاعلين أساسيين في بلورتها وترسيخها وثرائها، أو كانتهازيين يسخرون رأسمالها الرمزي لخدمة أهداف ومآرب خاصّة. من هنا تتعين الرواية بوصفها ضربًا من الحفر في ثنايا الذاكرة الفنية اللبنانية. فإذا كان الروائي يستدعي الأسماء الفاعلة في مشهد التجربة الفنية في هذه المرحلة، فلأنه يتقصّد تحديد بداياتها، والكشف عن مصادرها القوية وتأثيرها في جمهورها، فضلًا عن الاستقبال الذي كانت تحظى به من قبل جمهور محدّد.

 

تناوب بين المؤلف والشخصيات

يندسّ شربل داغر في عالم روايته إلى جانب شخوصه الذين يضطلع كلّ واحد منهم، في نوع من التناوب، بسرد وقائع وأحداث مختلفة، سواء ما تعلق منها بالمقتل الغامض للسيد غسان، بما في ذلك التحقيق في جريمة القتل، والتحقيق في تاريخ الحركة الفنية في لبنان، والدور الريادي والطليعي الذي نهضت به مجموعة من الفنانين على صعيد ترسيخ "الرسم العاري" في الحركة الفنية العربية، أو تعلّق برواية بعض الشخصيات لحياتها كما هي الحال بالنسبة للينا التي تروي إقامتها الباريسية بتتابع مدروس. أما الطريقة السردية التي يجرّبها شربل داغر، فهي مستلهمة من عالم الرياضة، وبالتحديد من سباق التتابع الذي يحمل فيه العداء الأول عصا ويجري لمسافة محدودة ليسلمها للعداء الثاني، وهكذا وصولًا إلى العداء الرابع. وبمقتضى هذه اللعبة، فإن كلّ شخصية تنهض بسرد جانب من القصّة/ قصتها، وما يتعلّق بها من محكيات وروايات، لتسلّم المشعل لشخصية أخرى، وهكذا وصولًا إلى خاتمة الرواية حيث تضطلع ياسمين المتورّطة في قتل السيد غسّان بسرد القصّة كاملة كاشفة عنّ اللغز أو السر الذي ينطوي عليه فعل القتل، والمتمثّل في إظهار حقيقة اللوحة المحجوبة التي كانت في ملك والدتها مريم قبل أن يسرقها منها غسان الحلبي. فهي صاحبة اللوحة المحجوبة، وكانت أكثر جرأة وتحرّرًا في مرحلة لا يزال فيها المجتمع العربي محافظًا، وبتشجيع من الرسام قيصر الجميل قدّمت نفسها موديلًا للتصوير العاري، واستلهمها كثير من الفنانين اللبنانيين، كما كانت فاعلًا مهمًا وحقيقيًا في مشهد التجربة الفنية في لبنان كما يتبيّن من سرد ياسمين. ولما كانت الشخصيات تصدر عن خلفيات متباينة، وهنا نفكّر أساسًا في الشخصيات التي ترتبط بأشد الارتباط بعالمي الرسم والأدب، فإنها تكشف من خلال محكياتها تلك التوافقات والتشابهات المدهشة بين هذين العالمين. يقول عصام وهو رسّام وفنان: "حادثة التوقيف جعلتني أسرد لنفسي قبل غيري: ما قمت به، ما عشته من دون أن أنتبه إليه، ما في إمكاني فعله، وفعلته، أو لم أفعله. جعلتني أحتاج إلى لغة تحكيني، وهو ما لا يوفره الرسم" (الرواية، ص 55).

لا تتكون الرواية من فصول محددة، كما أنها ليست عبارة عن قصّة مسرودة بطريقة خطية، بل تأتي عبارة عن مشاهد سردية مستقلة تضطلع فيها كلّ شخصية بدورها كاملًا في سرد يمتزج فيه الذاتي بالموضوعي، والحميمي بالمشترك، والواقعي بالخيالي. وقد وردت هذه المشاهد كما يلي: ما أسرده عن سعدى، ما أسرده عن هند، ما سرده عبد السلام، ما سردته لينا، ما أسرده عن نقولا، ما سردته ياسمين.

ترتبط الشخصيات فيما بينها بعلائق مختلفة، ومن منفذ هذه العلائق تستكنه الرواية الحياة العاطفية للفاعلين في القصة مثل غسان وسعدى وهند ولينا وغادة، وياسمين ووالدتها مريم صاحبة اللوحة المحجوبة، كما تربطها علائق متباينة بالقتيل السيد غسان. بعض هذه العلائق يأخذ شكل العلاقة المباشرة كما هي الحال بالنسبة لعصام، الأستاذ الجامعي الذي يدرّس الترميم الفني والرسم في "الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة"، كما أنه رسّام ومصحّح للرسوم والتماثيل واللوحات التي أصابتها أضرار. وقد زاره السيد غسان في مرسمه، فهو أحد زبائنه وقام بترميم العديد من لوحاته، أو علاقة قرابة كما هي الحال بالنسبة لعبد السلام الذي يعدّ الوريث المباشر للسيد غسّان، ومن خلال سرده تسلّط الرواية الضوء على الطريقة التي كان غسان يتصرّف بها مع عبد السلام ووالده، فقد كان على قطيعة مع أقربائه، أو بعلاقة عمل مثلما هي الحال بالنسبة لياسمين التي كان يجمعها بغسان عقد عمل، فهي تخدمه في حاجاته اليومية، وقد طلبت من السيدة إيفون أن تدبّر لها وظيفة عنده بنيّة الانتقام لوالدتها الراحلة وردّ الاعتبار لها من خلال العناية بحضورها في أعمال عدد من الفنانين، أو بعلاقة غير مباشرة كما يتبيّن من حالة سعدى التي كانت تشتغل مدبّرة لبيت عصام الذي يتكون من شقتين متلاصقتين: واحدة للسكن والثانية للعمل، أو بالنسبة للينا طالبة عصام التي تعدّ بحثا عن أعمال الجميل، أو بالنسبة للضابط نيقولا الذي يتولى التحقيق في الجريمة أو حالة زوجة النائب السيدة هند الباحثة عن حقيقتها في عالم الفن.

 

ميول نسائية مضادة

ما يميز بعض الشخصيات في الرواية، مثل لينا وغادة وحتى سعدى وياسمين وهند ومريم، هو ميولاتها المضادّة والمناهضة للتقاليد التي تفرضها المؤسسات الاجتماعية المحافظة بما في ذلك مؤسسة الأسرة، وأيضا الذوق البرجوازي وما يتضمنه من أبعاد اجتماعية وأخلاقية وجمالية، فهي شخصيات تبحث عن استقلاليتها، وتسعى لامتلاك قرارها الشخصي دفاعا عن القيم التي تلائمها، وبالتالي فالروائي حقق لها فرديتها من خلال لغاتها المضادة للمجتمع. إن الإصغاء إلى أصواتها، بما في ذلك صوت مريم الذي يحيل إلى فترة الأربعينيات من القرن العشرين، يبيّن أنها لا تتحدّد بالانتماء إلى الجماعة، بل بالضدّ من المجموع الاجتماعي، وهذا ما يفسّر الشعور بالغرابة المقلقة الذي يسيطر عليها. تقول مريم لابنتها: "كنت جميلة... كنت جميلة بالأحرى... كنت قد قرّرت، منذ أن اكتشفني الشيخ قيصر، أن جسدي نعمتي، وأن جسدي ثروتي". في نفس السياق تقول غادة في حوارها مع لينا: "فأنا لم أعد البنت التي رباني أهلي على أن أكون عليها. أنا مصطنعة كذلك، أي أجريت تعديلات على حياتي، على سلوكاتي وتصرفاتي" (الرواية، ص179). أما لينا فتقول: "أنا أشبهها. أنا أفتش عن هذه الوجهة بدوري" (الرواية، ص179). 

 

وعي نسائي مختلف

لنقل إن "اللوحة المحجوبة" تكتسب أهمية مضاعفة من خلال الدلالات الاجتماعية التي تثيرها، وبالتحديد فيما يتعلّق بوضع المرأة في المجتمعات العربية. في الرواية، نجد صوت مريم يجلي منذ فترة مبكرة من تاريخ لبنان ضربًا من الوعي النسوي المختلف الذي يظهر المرأة أكثر شعورًا باحترام الذات، وأقلّ انشغالًا بالمظاهر المجتمعية الخارجية التي تفرض عليها أن تكون بلا ميزات خاصّة. كانت مريم ملهمة الفنان قيصر الجميل. وكان هذا مصدر فخر بالنسبة لها رغم الشعور بالخوف من المجتمع القامع، خاصّة لما صارت ذات مهنة فنية قوامها عرض جسدها كموديل على طلاب الرسم في "الأكاديمية". في هذا السياق أيضًا، يلفي القارئ صوت سعدى قويا، ذلك أن التنشئة الاجتماعية التي ميزها بها الروائي، والظروف والسياقات التي أحاطت بها في عكار حيث ولدت وعاشت فترة معينة من حياتها قبل أن تنتقل إلى بيروت وتعمل خادمة في بيت السيد عصام، والأفكار المتحجرة لوالدها، كلّ ذلك يضيء على جوانب من المعاناة التي تحملتها في بيت تهيمن عليه أنساق تقليدية حرمتها حتى من تعلّم القراءة والكتابة. لقد فتح أمامها الانتقال إلى المدينة عالما آخر صارت فيه محط عناية واهتمام. تقول سعدى لوالدتها: "كنت، هنا، يا أمي، مثل الأرض البور، التي لا يعتني بها أحد... أما في المدينة، فقد أصبحت أرضا صالحة، ومحلّ عناية واهتمام" (الرواية: ص43).

يكتسي الشكل الفني، أي الطريقة التي تقدّم بها الحكاية، في "اللوحة المحجوبة" أهمية بالغة. فمن خلال البناء المركب الذي يتسم بتفرّع السرد وتداخل الأزمنة، جاءت الرواية متعددة الأصوات واللغات والمنظورات، بالرغم من وجود موضوعة مهيمنة يدور حولها السرد، كما أنّ الطريقة الفنية التي اختارها الكاتب لتقديم عالمه الروائي، والكيفية التي تعرض بها عناصر هذا العالم من قبل الشخصيات، جعل من هذه الرواية عملًا موسّعًا تطلّ علينا أكثر من دلالة اجتماعية وتاريخية من ثنايا الموضوعة المهيمنة فيه. فالروائي يلامس من خلالها أسئلة متعددة تستكنه علائق الإنسان العربي بعالمه. ومن بين الدلالات اللافتة التي يمكن تبينها من خلال الرواية ذلك الانزياح الذي أمكن الفنّ التشكيلي أن يحدثه في الثقافة العربية منذ فترة مبكرة في لبنان، متيحًا للإنسان العربي أسلوبًا جديدًا للتعبير عن همومه وهواجسه وعلائقه بذاته وبالعالم الذي يعيش فيه. لقد شكّل الفن التشكيلي أحد التعبيرات التي تولدت عن العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية منذ أواسط القرن التاسع عشر، وإذا كانت الفنون الأخرى التي تلقاها العرب في سياق الحداثة كالرواية والقصة والمسرحية، وجدت في الثقافة العربية ما يشكّل منافسًا لها إذا أخذنا بعين الاعتبار المكانة التي تحتلها الكلمة بالنسبة للإنسان العربي منذ الأزمنة القديمة، كما يشهد على ذلك الشعر العربي القديم، فإن الفن التشكيلي لم يجد من التعبيرات القائمة ما يشكّل مقاومة عدا التقاليد والعادات المترسخة التي كانت الحداثة تضعها على المحكّ. وهذا الجانب تثيره الرواية بقوة سواء من خلال الطبقات الاجتماعية التي تهتم بالفن والتصوير، وهي طبقات ضيقة جدًا ونخبوية قياسًا إلى الفئات الأخرى الواسعة، أو من خلال ردود الفعل على الرسم العاري، أو من خلال التداخل المعقد بين السلطة والمال وما يترتب عليه من ضروب الاعتلالات الاجتماعية.

ثمة ملاحظة مهمة لا بدّ من الإشارة إليها، ولا شك في أن المتتبع لتجربة شربل داغر في كتابة الرواية وتحقيقها سوف يلتقطها، وهي اهتمامه بتحقيق النصوص، وإعادة كتابة تاريخ الرواية العربية في زمن الحداثة بالحرص على ردّ الاعتبار للريادات المهمّشة أو التي لم ينصفها تاريخ الأدب العربي الحديث عندما ركز على تجارب أو أعمال بعينها على أساس أنها تمثل بداية الرواية العربية. وفي هذا السياق، يمكن أن نفكّر بالأعمال التي حققها من قبيل: "وي. إذن لست بإفرنجي" لخليل الخوري باعتبارها الرواية العربية الأولى، وأيضًا رواية "درّ الصّدف في غرائب الصّدف" (1872) باعتبارها الرواية المجهولة. ومن المعروف أن هذين النصّين كتبا قبل "زينب" التي عدّها أغلب مؤرخي الرواية العربية، الرواية الأولى. لذلك، لا غرابة أن نجد شربل داغر يحرص على الحفر عميقًا في تضاريس سؤال البدايات ليس فقط في كتبه النقدية والنظرية، وإنما أيضًا في أعماله الروائية والشعرية، وعلى التفكير في قضايا الثقافة العربية الحديثة، وهذا التفكير الذي يتبلور من خلال الرواية هو ضرب من الميتا تخييل أو الميتا سرد يسمح بالتأمل من داخل الرواية في قضايا وإشكالات ذات طبيعة نظرية أو فنية أو فكرية مرتبطة بعالم الرواية. تقول لينا مستعيدة مفهوم أستاذها غسان عن الفنّ: "هذا ما كان يردّده على مسامعنا: الرسم والتصوير خبرة، صنعة، لكن الثقافة هي التي تكفل قيمته في عيون الزّبائن والزمن" (الرواية، ص186).

على ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن رواية "اللوحة المحجوبة"، مضافة إلى النصوص الروائية الأخرى التي كتبها شربل داغر، تقدّم أكثر من علامة يمكن الاهتداء بها في طريق البحث في عالمه الروائي. من جهة، تلفت الانتباه بقوة مادة الرواية أو مكوناتها الأساس، بما في ذلك اللغة التي تحظى عند الروائي باهتمام خاص، يبرزه ذلك الضّرب من العمل الذي يجعل منها موضوعا مكتفيا بذاته، ومن جهة أخرى، تستثير القارئ تلك النصوص الصريحة أو المضمرة التي تحيل إلى عوالم شتى كالفن والشعر والموسيقى التي تغذي تفكيره، بما في ذلك الأعمال المشكلة للذاكرة الفنية والأدبية، والتي تكتسي في نصوصه حضورا جاذبا. ويضاف إلى هذا كلّه، المسارات السردية التي يحركها شربل داغر، ويؤدي فيها الأنا السارد بالضمير المتكلّم دورا مركزيا، حتى في أعماله الأخرى، ما يجعل الكتابة عند شربل داغر مرتبطة بأشد الارتباط بتجربته الشخصية، فهي ضرب من البحث عن الذات في مسعى لإعادة خلقها من خلال اللغة وطرائق السرد. لنقل إن البحث عن الذات يتعين بوصفه أحد المفاتيح الأساسية لولوج العالم الروائي لشربل داغر.

(موقع "ضفة ثالثة"، 13 آذار-مارس 2023).