شربل داغر
اعتدتُ، في سنوات عملي الصحافي، أن أخصص مقالاً في ختام كل سنة أستعيد فيه ما وجدتُه لافتاً في نشر الكتب، أو في الجدالات حولها، أو في أحداث ثقافية استوقفتني. كما كانت هذه وقفةً مناسبة لي للرد على مسائل أو إيضاحات تخصُّ بعض مقالاتي...
هذه العادة انقطعتُ عنها مع انقطاعي عن العمل الصحفي الدوري، كما انقطعتْ متابعتي للكتب وجدالاتها، أو خفَّتْ بالأحرى. أما ما أتابعُه على الفيس بوك فيبقى متقطعاً، غير كافٍ بطبيعة الحال. مع ذلك تتزايد علاقتي بالكتابة والكتب، حتى إنها تكاد أن تكون حياتي نفسها، لا سيما في سنةٍ قطعتْنا الحرب في لبنان عن العالَم، عن السفر، حتى إن أكثر من كتاب لي لم تصلني أي نسخة منه بفعل انقطاع البريد المحلي عن العمل. ومنها هذه الكتب الأخيرة : مختاراتي الشعرية التي صدرت في بغداد، كتابي عن بدايات المسرح العربية تأليفا وعرضا (الشارقة)، والرواية المترجمة عن الفرنسية (الكويت)، والطبعة الرابعة لكتابي عن رسائل رامبو (الاردن). الكتاب الوحيد الذي تمكنتُ من الاطلاع على نسخه، كان كتابي الشعري السابع عشر : "يغتسل النثر في نهره"، عن "دار خطوط وظلال" في عَمان، الذي فاز قبل شهر بجائزة أبي القاسم الشابي.
هذا ما تمكنتُ منه، إذ سافرتُ في صيف السنة المنتهية إلى العاصمة الأردنية، وكان من حظي بالطبع أنني تمكنتُ من إرساله بالبريد العادي منها (حسب شروط الجائزة)، فيما لم أكن قادراً على القيام بالإرسال من لبنان...
هذا ما جعلني أتحمل، مثل غيري، فشل الدولة المتعاظم في أداء واجباتها، مضافاً إلى عدوان العدو. هذا ما كابدتُه في مخاطر الرحلة إلى مدينة الشابي، توزر، إذ كان على سيارة الأجرة، التي أقلَّتْني إلى المطار، أن تتسلل بين قصف صباحي وآخر. وهو ما واجهتُه بصعوبة أشد في ليلة العودة، إذ كانت أقسى ليالي القصف... إلا أن ما عايشتُه من فرحة احتفالية في توزر، وما لقيتُه من محبة وتقدير فيها من أحبَّة الشعر، جعل المصاعب أضعف من أن تنالني تحت رعاية صاحب "إرادة الحياة",
أستسيغ القراءة في الرحلات الجوية، فكيف في رحلة طويلة، من بيروت إلى استانبول، ومنها إلى مدينة تونس، ومنها إلى مدينة الشابي، مع ساعات انتظار بين محطة وأخرى. كنت قد حسبتُ اصطحاب رواية "عن علاقات الدائرة" (1975) للصديق الذي فارقنا في هذه السنة، إلياس خوري، إلا أنني ما عثرتُ عليها في مكتبتي. ولهذه ذكرى خاصة لي إذ إنها كانت أولى معرفتي به، ومن أولى كتاباتي الصحفية، في حريدة "السفير"، عند انطلاقتها عشية الحرب. فكان أن تدبرتُ كتاباً ينتظرني منذ رحلتي إلى الهند قبل سنوات قليلة، ويشتمل على منتخبات لرحَّالة فرنسيين زاروا تلك البلاد الشهيرة بتوابلها وبهاراتها وثقافتها العريقة من كل لون وطعم في نهايات القرن الثامن عشر.
ما استوقفني، في كتابات أكثر من واحد منهم، هذا العمل الدؤوب للحصول على نسخة أصلية لكتاب "الفيدس" العريق. وهو عملٌ استحواذي جازت لهم فيه كل الوسائل؛ وهو ما كنتُ قد تحققتُ منه في كتابي "الفن والشرق"، إذ وقعتُ على رسائل عديدة للوزير الشهير مازارين وهو يُوجِّه أعمال عدد من مراسليه للحصول على مخطوطات نادرة في اليونان ومصر واستانبول وغيرها؛ وهي أعمال متنوعة بين البلص والرشوة والشراء والاحتيال وغيرها. غير أن هذا التعامل الأخلاقي - على لزومه - لا يكفي، إن لم ينتبه إلى ما كان يسعى إليه الوزير، أو الرحالة، وغيرهما، وهو بناء مكتبة عن ثقافات العالم، ولا سيما القديمة منها، بما يشمل متونها الأساسية. هذا ما عنى تشكلَ "ثقافة الأنوار"، وحاجات حُكَّامها مثل نخبها الثقافية، إلى بناء ثقافة... عالمية. هذا ما سعى إليه خلفاء عباسيون في بناء ثقافة كهذه، متناسبةٍ مع تطلع الخلافة في حقبتها هذه إلى طور أعلى في قوة المعرفة ومعرفة القوة.
أتحقق من هذا، فيما أستعيد سياسات التلكوء العثمانية في اعتماد المطبعة وسيلة لنشر الأدب والمعرفة والدين، وتعميم ثقافة الكتاب، طوال ما يزيد على ثلاثة قرون. وهي القرون ذاتها التي "نهضت" فيها أمبراطوريات وممالك أوروبا. قيصر روسيا،بطرس الأكبر، تخفَّى في هيئة سائح، وملاح، وغيرها، وجال وأقام في أكثر من بلد أوروبي، لكي يتعلم "أسرار" الصناعات المتقدمة فيها...
هذا ما دفعتْ هذه البلاد كلفته الباهظة في إقبالها المتأخر على الكتابة والكتاب، وعلى تواصل المعرفة، واستمدادها لثقافات الغير والبناء عليها. هذا ما ندفع كلفته حتى اليوم، إذ لا يحظى الكتاب على مكانته ودوره في بناء قوة المجتمعات، وفي متعتها كذلك. فكيف إذا كانت المرويات والأحاديث هي التي تتكفل بكثير من أحكامنا وتواصلنا وغيرها !
يكفي أن نصعد إلى طائرة، أو مترو، أو نمضي في رحلة وغيرها لكي نتأكد من أن الكتاب هو "خير جليس" (حسب عبارة المتنبي الشهيرة) في بلدانهم، لا في بلادنا.
على أي حال، كانت السنة التي تنقضي كريهة، أتحقق فيها من الخسارات المتراكمة، على الرغم من انبلاج ضوء في نفق سورية الطويل.
سعدتُ، بالطبع، بفوزي بجائزة الشابي، إذ وجدتُ إرادةَ القصيدة تخاصر "إرادة الحياة", إلا أن انتظاراتي من الكتاب والزمن لا تزال تتقدمني من دون مواعيد أكيدة.
كل عام وأنتم بخير.
(موقع "قناص" الإلكتروني، نهاية العام 2024)