الأدبُ، وحدَه، لا يَجري كلامُهُ مَجرى الأمثالِ، إذا لم يُوَشَّ بفِكرٍ كلَمعِ السَّراب، هو الأَبلَغُ في الأَلسنةِ الفِصاح، يَصِلُ إلى حيثُ تُقَصِّرُ الكلماتُ في الإِبانةِ، والدّلالة. وإذا كان، هناك، اتّصالٌ بين الأدبِ والذَّهَب، فالمَرمَرُ هو لونُ الفِكرِ حلاوةِ المَجالِس، هذه التي تُنَبِّهُ إلى أنّ النّشاطَ الذِّهنيَّ حاضِر.
شربل داغر الذي لم يَلبسْ للدَّهرِ ثوباً من الصَّبر، كانَ في نتاجاتِهِ مثلَ الأَشجارِ للأثمار، يملكُ في الإبداعِ قلباً، ويَداً. وعندما زارَتِ الكتابةُ شربل، كانَ حَطَبُها رَطِباً، وانصرَفَت عنهُ يَقدحُ نارُها. ولمّا كانت لا يخرجُ من ضرسِها، مع سواه، إلّا بِنَزعِ نفسِها، فهي، في موجِ حِبرِهِ تلوي عُنُقَها إعجاباً، وكأنّها في مَرجِ إِجاداتٍ يَشقُّ لها لِحافُ الدَّهشة. ويصحُّ القَولُ إنّ شربل داغر قَنَّنَ للإبداعِ في غَزوَةِ نِتاجِهِ الكِتابيّ، وبمهارةٍ بَلَّغَته حدَّ التَفَوّق.
إنّ شِعرَ شربل داغر يحلو ماؤُهُ، فهو أخذَ من الجَمالِ جُرَعاً، فبينَ داغر والجَمال قوّةُ أَسر، نتحسَّسُها أَنّى سرَّحنا أبصارَنا في تصويراتِهِ، ومَشاهدِهِ الأخّاذةِ التي تجعلُ الأُذنَ، أحياناً، تَغارُ من العَين. وتَصويراتُهُ ابتكارٌ يدفعُ إلى النَّشوةِ، فكأنّه سقاها بجَدولٍ من خَمر، فقَسَمَت سَكْراً بين
ناظِريها. إنّ سقفَ الشِّعرِ المُسَطَّحَ، تحوَّلَ معه مُقَبَّباً بالعِبرةِ، والقِيَم، ونُقوشاً مُرَصَّعةً على صفائحِ وَرَقِه، ولوحاتٍ رقيقةَ الجَنبات، ظاهرُها أشكالٌ، وألوان، وأهدافُها دروسٌ مُوَجَّهةٌ إلى مُتَلَقّين. وهؤلاءِ لم يعتبرْهم شربل داغر من أُسُسِ الإبداعِ الرئيسيّة، بل مُشارِكين في إنتاجِ القصيدةِ بالذّات.
كنتُ أَحسبُ أنّ شربل انقطعَ إلى الشِّعرِ لا يَسمعُ إلّا حسِّه، واستوطنَهُ لِطيبِ عيشِهِ معه، وراح ينقشُ في خُدودِ عواميدِهِ آياتٍ صفَّقَ لها الجَمالُ، ورَقَص، خاصةً أنّ هذا الجَمالَ، معه، لم يكنْ نَمَطيّاً، لذلك، لم يَمُتْ أمامَ مرآة. لكنّ الطَّوافَ في كتاباتِ شربل داغر، يُترجِمُ عمّا في قلمِ هذا المُبدِعِ من هَوًى لِحِسانِ الأَنماطِ في التّأليف. وإنّ استقصاءً لأمرِهِ يكشفُ أنّه، وبقَدْرِ ما كان أديباً وشاعراً، بِقَدرِ ما كان باحثاً مملوءاً بالحميّةِ لكلِّ جديد، لتأتيَ دراساتُهُ تَخطرُ في جَوٍّ من المَهارةِ الرّاقية، أبرزُ ما فيها الجرأةُ التي ارتضاها طريقاً مسلوكاً ركبَ معه المَخاطِر. ففي أبحاثِهِ، انطلقَ إلى غرضِهِ انطلاقَ السَّهمِ الى رِميَتِه، بعنايةٍ رائدة، ورفعَها على عَوارضَ جديدةٍ وفَّرَتها ثقافتُه النّاضجةُ التي خَضَّعَها لقوانينِ الفكرِ، وفروسيّةِ الخُلُق، معاً. إنّ الفكرَ في النّتاجِ الأدبي هو كهَلِّ الغَيثِ على أرضٍ عَطشى، يمنعُ وُقوعَ حَيفٍ عليه، ويشدُّ أَزرَهُ فكأنَّ ما يربطُ بينهما صِلَةُ دَمّ.
لقد فاتَ البعضَ مِمَّن عملوا في نَقدِ الشِّعر، القَرابةُ بين الصّورةِ والفِكرِ، ولمّا كان القَصدُ من تركيبِ الصّورةِ وَضعَ ما هو غائبٌ حاضِراً، يمكنُ اعتبارُ أنّ، هنالكَ، في آليّةِ الإبتكار، عملاً ذَكائيّاً وليسَ تَوَهُّماً. من هنا، نجدُ في ابتكاراتِ داغر الشِّعريّةِ حركةَ انبثاقٍ من الإدراك، تُحوِّلُ الصورةَ عنصراً فاعِلاً في إِحداثِ الدَّهشةِ، والصَّدى، لا شكلاً ملتَبِساً يتغيَّرُ اتِّجاهُهُ. فهو، تارةً، ظِلٌّ وخَلفيّة، وتارةً أخرى، إبداع.
يعتبرُ بعضُهم الهَوَسَ من العاداتِ البغيضة، فمن مؤشّراتِهِ السّلوكُ الاندفاعيُّ، من دون احتسابٍ للعَواقِب. لكنّ بعضَ الهَوَسِ مطلوبٌ للوصولِ إلى النّجاح، ولتحقيقِ الأهدافِ الطَّموحةِ، حتى المُعَقَّدةِ منها. شربل داغر الشَّغِفُ بالكتابةِ التي اعتبرَها قطعةً من الحياة، ضَيَّقَ هَوَسُهُ الهوَّةَ بينَه وبينها، فاعتقلَ نفسَه في حِبرِها، وأعلنَ له مواثيقَ أَقَلّها الإجادةُ. ولمّا كان بين شربل داغر والكتابةِ طَقسٌ عاطفيّ، قاربَ الرَّجُلُ مَهَمَّتَه باندفاع، وسرَّعَ إيقاعَ الابتكار، وفتحَ له مَنافذَ، في التّأليف، لبلوغِ درجةِ الإتقانِ ببراعةٍ هَمُّها الإدهاشُ، والارتقاءُ، وافتتاحُ مدرسةٍ احترافيّةٍ تجاوزَ صيتُها القِطرَ اللبنانيَّ، إلى بلادِ العَرَب، وما بعد.
في الدّراساتِ، كانت عِدَّتُهُ الفكريةُ تسعى إلى مضاعفةِ وزناتِه، فلم يضمرْ فيها التَّجاوزُ، ولم تَعتَلّْ صحّةُ أَطباقِ الموضوعاتِ التي قارَبَتها. فداغر لم يزهدْ في نصوصِهِ بطَرحِ قضايا لها وَقع، وليسَت مجرَّدَ قَواريرَ يَصفرُ في أجوافِها الفَراغ، فهي مرتبطةٌ بالحضارةِ، وبالإنسان، وبالمَعارف، ولم يطلِقْها جِزافاً، كمناورةٍ ذهنيّةٍ عابرة، بل هي نقطةُ الدّائرةِ في مواقفِهِ التي تنضحُ نُضوجَ فكرٍ، وتَرَفَ روح، وعمقَ فصاحةٍ، وصِلَةً بالصَّواب. عندما أَظلمَ وقتُ الصِّلَةِ بالكلمة، وراجَ إِخفاقُ المحصولِ في المُفيدِ الصّافي من التآليف، برزَ شربل داغر ، وبعمقِ ارتباطِهِ بمناراتِ الفكر، ليفسحَ للناسِ أن يتغلغلوا في رياضِ الثقافة، بأطايبَ تأليفيّةٍ تكشفُ عن الحقيقةِ ضباباتِها، في مسائلَ كان الشَّوكُ يأكلُ أَلوانَها، حُبِسَت في قوالبَ جامدةٍ جعلتِ الأمّةَ وهي على جوعٍ وعَوَز. لقد كرَّسَ داغر ذاتَه للمَطافِ التأليفيِّ، وللدراساتِ التي اختزنَت قيمةً، وتشويقاً، وأبعاداً راقيةً، وشموليّةً ضاجّةً لا تُصادِقُ سوى الموهوبين.
شربل داغر المثَقَّفُ، عزفَ على وَتَرِ المستوى في الكتابة، فجاءَ أداؤُه متأنِّقاً، متَفَرِّعاً بحيثُ يصعبُ أن نتصوَّرَ إمكانَ حَصرِهِ في إطارٍ ثابِتٍ مُحَدَّد. ولعلَّ داغر قصدَ إلى هذا السّلوكِ، لكي يتحرَّرَ من تخطيطٍ يُقَيِّدُ موهبتَهُ، ويُضعِفُ إمكانيّاتِهِ الإبداعيّة. وقد بدا، بذلك، صوتاً رَخيماً في أوركيسترا التأليف، تركَ مقاماتٍ احتلَّتِ الصَّدارةَ، ولم تَحُزْ على هذا اللَّقَبِ خِلعةً من أحد، فهي أثبتَت تَجاوزَها لأنها لم تُرَجِّعْ صدى ما كان، بل كانَت رَحّالةً في عالَمِ التَّجديدِ والإبداع، ترسمُ فَصلاً ديوانيّاً في مَسارِ الإنتاجِ الأدبيِّ والفِكريّ، وخطّاً أدائيّاً مُمَيَّزاً في إتقانِ المُحتَوى.
شربل داغر الهادئُ الرَّصين، والنّاهِضُ إلى المعرفة، جاءَت كُتُبُه رسائلَ هي عربونُ المصالحةِ بين الأدبِ والحياة. فالأدبُ، وحدَه، يرمِّمُ بناءَ الواقعِ ليبدوَ أَقَلَّ حزناً، وبُؤساً، وبِذا، ينتقلُ من مجرَّدِ حِليةٍ بديعيّةٍ، إلى قيمةٍ تطوفُ في صَحنِ دارِ الحياة. من هنا، استهجنَ شربل داغر ما أشاعَه بعضُ الرّاسِخين في شِحِّ الفَهم، من أنّ الأدبَ ليس سوى بقيّةٍ من بقايا عصورِ الجهلِ والأُميّة. فالأدبُ، معه، مَزارٌ، والطريقٌ إليهِ جسرٌ من العقولِ والعواطف، والوافِدون إليه يتناشدونَ التَّهاليلَ، وكأنّهم يستلمون الحَجَر.
شربل داغر يكتبُ لنفسِهِ قبلَ أيِّ شيء، لتكونَ نفسُهُ أَمْلَحَ ما يكتب. لذا، نجحَت منشوراتُهُ في أنّها أَشعرَتنا بوجودِه، فواجَهنا شخصيةً وقفَت من الحياةِ وَقفةَ نِضالٍ بارعة، ومن الأدبِ وَقفةَ عنايةٍ بهذا السِّفرِ النَّفيس، ومن الفكرِ وَقفةَ المُكتَنِزِ قِيَمَه، وهي الحَدُّ الفاصِلُ بين البديعِ والعاديّة، بين الموهبةِ المترسِّخةِ في الكيان، وبين الطارئيّةِ العابرة.
شربل داغر مُؤتَمَنٌ على الإبداعِ وإنْ لم يُقسِمْ.
(جريدة النهار، بيروت، 25 أيلول - سبتمبر 2021)