رسم الكاتب شربل داغر في كتابه الجديد ("بين السلطان والمقاطعجيين والعوام: الحراك والأفق"، دار سائر المشرق، جديدة المتن، لبنان، 2013)، صورة قرى تنورين، وهي بعض ريف لبنان الشمالي خلال قرن، إبتداء من منتصف التاسع عشر. أعاد تكوين صورة هذا الريف، بنسيجه السكاني وكيفية تحصيل القاطنين لعيشهم وبتجربتهم التي ربطها بالعام، خصوصاً المتصرفية. أهمية الكتاب أنه صورة غنية وحيّة لمنطقة بعينها، تصلح للتعميم على كل ريف لبنان.

تم ذلك للكاتب باستخدام سجلات العماد والتثبيت وتقارير "الزيارات الرعائية" لقرى تنورين، الموجودة في مطرانية البترون وفي بكركي، ومن خلال السجل العقاري الذي وفرته المتصرفية عام 1870. أوضح الكاتب أن تكوين السجلات كان يتم إنفاذاً لتعميم بابا روما الصادر أثناء "المجمع التريدنتيني" بين 1545 و 1563، الذي عقد لمواجهة إنشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة. فُرِض على الكنائس تكوين سجلات عماد وتثبيت وزواج وتقديم تقارير دورية عن أحوال الرعايا، تحت إسم "الزيارات الرعائية". وقد أظهرت حالة الأرشيف في بداية القرن العشرين، أن رجال الإكليروس المعنيين بتكوين هذه السجلات لم يتنكبوا لمهماتهم بالجدية الكافية (ص 32).

 

العصر الذهبي ديمغرافياً

استخدم الكاتب لتعداد السكان لوائح "المثبّتين"، وهي ست لوائح خلال النصف الثاني من التاسع عشر، أهمها العائدان لعامي 1852 و 1894. وهي تُظهِر ارتفاع الأعداد بين هذين التاريخين، أي خلال 42 عاماً، بنسبة 86 %، ما يُظهِر نمواً سكانياً قوياً خلال النصف الثاني من التاسع عشر (ص 82). وقد بلغ عدد السكان 3000 عام 1883، وفقاً لتقرير "الزيارة الرعائية" (ص 103). وارتفع إلى 4100 في 1903، ثم إلى 5600 عام 1913 (ص 104). أي أن النمو السكاني حافظ على وتيرة عالية خلال العقد الأول من القرن العشرين، رغم الهجرة الكثيفة آنذاك. أما بين 1894 و 1939، فقد نقص العدد بنسبة 37 %. وإذا قارنا السنة الأخيرة هذه بأرقام 1852، تكون الزيادة بنسبة 16 %  فقط خلال 90 عاماً (ص 88). تعاونت المجاعة مع الهجرة لضرب إمكان تراكم ديغرافي جدي لهؤلاء الناس.

الجزء الأول من الكتاب، أي نحو 200 صفحة، هو عرض وقائع ومعلومات بحت محلية، اعتمد الكاتب فيها المراجع التي سبقت الإشارة إليها. أما في الجزء الثاني منه، فربط الكاتب بين الخاص والعام، أي عرَض الواقع المحلي، رابطاً إياه بما كان يجري في المتصرّفية ولبنان الكبير. يروي الكاتب سيرة إجهاض عملية دخول ناجح لهذا الجزء من الهلال الخصيب إلى الحداثة، ومساراً له على حافة الهاوية على امتداد الحقبة المذكورة.

 

النخب

النخب التي يتحدث عنها الكتاب نوعان، تقليدية وجديدة. الأولى يمثلها المقاطعجية، أو جباة الضرائب، أو المتحدرون منهم، كحلقة كانت تربط المنتج المحلي بالسلطان. أما الجديدة فمثّلها أبناء رجال الدين، أو كهنة الرعايا، وهي نشأت في التاسع عشر وليس قبل. مثّل الأولى على امتداد حقبة المتصرفية شخص واحد، هو أنطون بك طربيه، الذي كان مدير الناحية، التي ضمّت قرى البترون الأعلى. وحين مات استعاد إبنه المركز بعد انقطاع قصير. إستمد أنطون طربيه سلطته على الناس من كونه "إبن شهيد" قُتِل في بيصور في 1841. يصعب على القارئ أن يجد شيئاً إيجابياً في سيرة هذا الشخص الذي كان مسكوناً بتصوّر محبِط للعالم قائم على التراتبية والإخضاع (hierarchy and domination). أمضى عمره في التناحر مع أقرانه لإثبات وجوده، وفي التنكيل بأبناء بلدته. وقد هرب منه آل مرعب، وهم جب من آل حرب طيلة 17 عاماً واستوطنوا  "شير الحرية" في الجرد العالي، أي فوق الألفي متر عن سطح البحر. ولعل القارئ كان يرغب بمعرفة شيء عن الأفراد الذين كان يستخدمهم "البيك" (retainers) لفرض سلطته.

أما النخب من الفئة الثانية، فهم ممن أوفدهم آباؤهم الكهنة للدراسة في الخارج. أصبح أغلبهم محامين وموظفين كباراً في الإدارة العامة. وكان قسم منهم رجال دين. وسوف يخرج من هذه الفئة نواب الأمة وممثلوها في عهدي الإنتداب والإستقلال.

 

التعليم

هناك بضعة أفراد كانوا يتعلّمون على امتداد الحقبة. أما الكثرة الساحقة فلا. يعرض الكاتب وقائع كثيرة حول التعليم، أولها اتفاق الأهالي منذ الثامن عشر، مع رهبان "دير حوب" على التخلي لهم عن أرض "حوب" مقابل تعليم أولادهم. ولو أخذنا صورة الوضع أول القرن العشرين في عز الثورة الصناعية في الغرب، لبدا هذا الريف في عالم آخر، خارج أي سياق يتيح له الدخول بفعالية إلى الحداثة. تعلّل الرهبان بأن ليس ثمة تلاميذ لكي يقفلوا المدرسة. لكن الحقبة نفسها شهدت افتتاح مدرسة للإناث أدارتها راهبات فرنسيات حتى الحرب الأولى. إجتازت قرى تنورين القرن العشرين بمدارس إبتدائية. لن يعرف أهلها المدرسة الثانوية إلا في مطلع سبعينيات القرن العشرين.

النقاش القديم هو أن الناس هم المسؤولون عن عدم تعليم أولادهم لأن هؤلاء قوة عمل. والكلام الدقيق في هذا المجال، هو أن التعليم كان في تجربة الغرب مسؤولية الدولة، وكان إلزامياً، وأنه كان يوفر تأهيلاً يمكن استخدامه في سوق للعمل تتيح تشغيل القوى العاملة الوطنية. لماذا يتعلّم الناس إذا كان علمهم لن يوفر لهم عملاً؟ والتعليم في لبنان منذ المتصرفية هو الطريق الأقصر للهجرة النهائية، لأن النخب لم تكن في وارد بناء إقتصاد منتج.

 

مصادر العيش

تبدو واضحة، منذ الجزء الأول من الكتاب، من خلال تقسيم الأرض الذي وفّرته الوثيقة العقارية الصادرة عام 1870. وهي توزّعت بين سليخ يخصّص لزراعة الحبوب، ومختلف يحتوي على أشجار مثمرة، خصوصاً العنب والتين، وأراض مخصصة لشجر التوت المستخدم في اقتصاد الحرير.  يقول الكاتب أن الجانب الأساسي من المحاصيل كان مخصّصاً لتأمين الإكتفاء الذاتي، وأن زراعة التوت بقيت ضعيفة مقارنة بالأنحاء الأخرى للمتصرفية (ص 126). وكان يضاف إلى ذلك تربية قطعان كبيرة من الماشية، توفرت لها مساحات كافية للرعي في الجرد العالي. وهي كانت تقدّر بمئة ألف رأس أيام الإنتداب، نقلاً عن الخورأسقف يوسف داغر (ص 129)، ما يؤكد ما قاله المؤرخ كمال الصليبي من أن الموارنة كانوا فلاحين ورعاة غنم وماعز. كان الناس "يزرعون القمح والذرة والحمّص والبطاطا واللوبياء ويحضرون البرغل والكشك"، ويأكلون "الرشتة والمخلوطة والمجدرة والمعكرون" ، يضاف إلى ذلك "الدهن والجبن واللبن واللبنة"، نقلاً عن الخورأسقف يوسف مرعب حرب ( ص 450 و499). تظهِر هذه المعطيات تنوعاً في السلة الغذائية، وقدرة لهذا الريف على تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي.

 

إدارة المتصرفية وتكوين تلك الإدارة

ذكر الكاتب العديد من الوقائع حول فساد وطمع المتصرفين. وذكر أنهم كانوا يبيعون ألقاب "البيك" التي اشتراها العديدون (ص 349). إستخدم الكاتب مراجع عدة أتاحت وصف بعض إداريي المتصرفية، من دون أن يوفر صورة متكاملة للإدارة العامة خلال تلك الحقبة. بدا الإداريون منخرطين في منازعات وشد حبال وعمليات رشوة. وبدت فكرة الدولة بوصفها معنية بتقديم خدمات عامة غائبة عن إدراكهم.

 

أوضاع الطرق والمواصلات

المذهل أن زعامة أنطون بك، ومكوثه على رأس تلك المديرية قرابة نصف قرن، لم يؤديا لتحقيق إنجاز واحد في التنمية والمواصلات. سوف تنتظر تنورين قرناً كاملاً بعد إقامة المتصرفية قبل أن تصل الطريق إليها. استخدم الكاتب مراجع حول أوضاع الطرق في المتصرفية. وهي أوضاع بائسة لأن هذه الأخيرة لم يكن لديها إنفاق عام في أي ميدان. أورد تعميماً صدر عن مجلس إدارة المتصرفية عام 1879، يطلب من السلطات المحلية إلزام كل قاطن في نطاقها تخصيص أربعة أيام في السنة للمساعدة بدون بدل في شق الطرقات (ص 429).

لكن الأكثر بؤساً من طرقات المتصرفية كانت طرقات تنورين. أنجز أهل دوما جارة تنورين، الطريق من بزيزا في الكورة إلى بلدتهم بجهدهم وعلى نفقتهم خلال حقبة الإنتداب. وأكمل أهل تنورين التحتا الطريق إلى بلدتهم. وأُنجِزت الكيلومترات العشرة من تنورين التحتا إلى وطى حوب عام 1946 (ص 433). وانتظر أهل تنورين الفوقا 17 سنة إضافية لإنجاز وصلة لا تتجاوز الكيلومتر الواحد توصل الطريق إليهم من جهة البترون. وصلت الجرافة إلى ساحة البلدة عام 1963. أما من جهة جبيل، فقد أوصل أسعد بك يونس،  أخ النائب في البرلمان أيام الإنتداب، الطريق من إهمج إلى اللقلوق مكان اصطيافه (ص 427). واستكمل الأهالي الكيلومترات العشرة حتى شاتين، بمبادرة من الأباتي مرتينوس طربيه. ووصلت الطريق إلى مدخل تنورين الفوقا أول الستينيات بـ"عونة" من الأهالي ومبادرة من النائب جان حرب آنذاك. ماية عام بكاملها انقضت منذ إقامة المتصرفية قبل أن يصبح لأهل تنورين طريق تصلهم بالساحل. ماية عام، كان الأهالي خلالها يحاولون بشق النفس البقاء في أرضهم الصعبة، ويخلّفون ويرسلون أولادهم إلى المهجر.

 

الهجرة

في الكتاب بضعة معطيات حول الهجرة، أهمها التي أوردها تقرير "الزيارة الرعائية" عام 1913، حيث ثمة 2470 مهاجر، مقابل عدد إجمالي للسكان هو 5600 نسمة (ص 172-173). أي أن المهاجرين مثلوا آنذاك نسبة تساوي 44 % من القاطنين. يورد الكتاب أسباباً غير إقتصادية لهجرة البعض، أملتها صراعات مع المتنفّذين أو ملاحقات قضائية ( ص 456 و 466). وأفضل تعبير عن ما باتت تمثله الهجرة من خطر آنذاك، إرتياع كاتب تقرير "الزيارة الرعائية" لعام 1913، أمام هجرة 70 شخصاً خلال أسبوع واحد إلى الولايات المتحدة، وتحضّر عدد مماثل للأمر ذاته.

 

رجال الدين

خصّص الكاتب صفحات كثيرة لرجال الدين على اختلافهم. الأب طوبيا يونس هو الأقرب إلى القلب. عاد من فرنسا بعد الدراسة وشيّد مدرسة الراهبات وعلّم فيها الصغار والكبار ( ص 401). والخورسقف يوسف مرعب حرب، المولود عام 1909 عاش مئة عام وعام، ولم يعد فيه على امتداد كهولته وشيخوخته الطويلة سوى الوداعة. صمد إلى جانب أهل بلدته حين امتلأت بالناس حتى ستينيات القرن العشرين، وحين أصبحت شبه خالية، بل أثراً بعد عين، في آخر القرن ذاته. لم يكن يبكي كما نفعل، أو يشتكي أو يقارن أو يجادل. ربما لأنه كان يأخذ الأمور على أنها إرادة الله وقسمته لنا. والخورأسقف يوسف داغر مؤرخ تنورين هجرها لأن أحدهم قلّل من احترامه. أغفل الكاتب إيراد ولو نصف صفحة عن المونسنيور اغناطيوس داغر، رئيس الرهبنة المارونية خلال الحرب الأولى، وهو الأقرب بين إكليروس لبنان كله إلى وداعة المسيح وفحوى رسالته.

 

المعطيات حول المجاعة

غابت معطيات كان لا بد منها حول المجاعة التي أبادت نصف شعب لبنان. ثمة إشارات حولها أهمها ما ذكرته رسالة الخورأسقف بولس عقل في 1916 إلى مطران الموارنة في مصر، الواردة في كتاب الدكتور عصام خليفة، والتي يقول فيها أن "منطقة البترون تكاد تكون مقفرة لولا وجود 200 شخص في تنورين" (ص 183). والمار في بلاد البترون الموحِشة حتى الساعة تأخذه القشعريرة. وفي الوقائع التي أوردها الكاتب أن سعر الحنطة ارتفع من 20 قرشاً عام 1915 إلى 150 قرشاً عام 1918، وأن سعر البطاطا ارتفع من 6 قروش إلى 75 قرشاً  بين هذين التاريخين (ص 187). وفي صيف 1916، كان جرس الكنيسة يقرع حزناً كل يوم، معلناً موت شخص. وكان أحياناً "يأتي خبر" عائلة بكاملها بقيت تجالد صامتة حتى ماتت عن بكرة أبيها.

قدّم الكاتب وصفاً لحقبة من قصة لم تُختم بعد. وهي قصة حكمتها حتى الآن، ثوابت قرن ونصف قرن، جسّدها التحاق نخب هذه المجموعة البشرية بالأجنبي الغربي، وخروج هذه الأخيرة من هويتها العربية لصالح لا شيء، وعجزها عن إقامة دولة تحمي وجودها في المدى الطويل.

 

(مداخلة في ندوة الحركة الثقافية- انطلياس، في 6/ 11/ 2013 ؛ أُعيد نشرها في جريدة "الأخبار"، بيروت، 20 / 11 / 2013).