صدر للدكتور شربل داغر كتاب في التأريخ المحلي، تناول احدى نواحي جبل لبنان الشمالي الممثلة بقرى تنورين في الحقبة العثمانية ("تنورين في الحقبة العثمانية: حجر، بشر، عامر، داتر"، بيروت، دار الفرات للنشر والتوزيع، 2006). لاقت فكرة اعداد تاريخ لتنورين استحساناً عند من اطلعهم الكاتب على مشروعه. الكلّ لديه جوع لمعرفة جذوره وماضي بيئته ولـ"كشف صورة "الاهل" المبهمة" (ص 107). لكن هذا الاستحسان رافقته خشية. هل يمكن التأريخ لتنورين بطريقة علمية، أخذاً بالاعتبار لشح المصادر حول الموضوع ؟ كانت الخشية ان لا يتجاوز ما سوف يتحقق، المرويات التي يعرفها البعض والتي تُتناقل شفاهة. إلا ان قراءة عمل شربل داغر اظهرت ان الجهد الذي كرّسه الكاتب لهذا الموضوع، يجعل من كتابه نموذجاً يصعب ان نجد مثيلاً له في التأريخ للقرى والبلدات والنواحي في لبنان. استخدم الكاتب جمهرة هائلة من الكتب والمراجع، اعطت عمله مقاماً علمياً لا يرقى الى مستواه سوى القليل من اعمال التأريخ المحلي. وهو يتشارك مع قلة من الكتب التي تتناول تاريخ لبنان، في مستوى المتعة الذي يقدمه للقارئ وفي جودة النص. تأتي الى الذهن مباشرة في هذا الاطار اعمال كمال الصليبي واحمد بيضون. يمكن تناول الكتاب، من خلال الاشارة الى المراجع التي اعتمدها الكاتب، والاستنتاجات التي خرج بها وتشكّل اضافة في هذا الميدان.
- عوّل الكاتب اولاً على "حجج التزام" جباية الضرائب في ناحية البترون في الحقبة العثمانية، التي استحصل عليها من سجلات المحاكم الشرعية في طرابلس، وعلى "حجج الملكية"، خصوصاً تلك العائدة للرهبنة المارونية في تنورين، والتي جمعها من مصادر متفرقة ومتعددة، واقدمها يعود الى العام 1656. واستخدم "السجلّ العقاري" للمنطقة الذي أُثبتت فيه الاراضي المملوكة واسماء اصحابها، والذي بدأ تكوينه في العام 1862، في بداية عهد المتصرفية. واستخدم مصدراً مهماً هو "الطابو دفتري" العثماني، أي تعداد السكان والموارد لعامي 1519 و 1571، والذي استحصل على مادته وقدمها للقراء الدكتور عصام خليفة. اتاحت له المادة الموجودة في هذه المصادر معرفة بعض اهل هذه الناحية بالاسم منذ القرن السادس عشر، وتعيين مواقعهم الاجتماعية وادوارهم. واستخدم المخطوطات والمؤلفات التي وضعت حول تنورين، والتي ربما يكون الاهم بينها مخطوط الخورأسقف يوسف داغر العائد للعام 1932 وكتابه الصادر في العام 1938. وقد استقى هذا الاخير جزءاً من معلوماته من مخطوطين لمؤرخَين من رجال الدين هما يوحنا المعادي (1599) وبطرس مطر (1650). وعاد الى كتابات الاب ليباوس الثالث، الذي استخدم "اوراق" ليباوس الاول في القرن التاسع عشر. وقرأ الكتب التي وضعت خلال السنوات او العقود الاخيرة حول الموضوع، ومنها العائدة للأب يوحنا قمير وبردليان طربيه وشارل غوش. ورجع الى كتابات المؤرخين المعروفين من رجال الدين الموارنة، ممن كتبوا تاريخاً للطائفة، كالبطريرك الدويهي وجبرايل القلاعي والمطران جرمانوس فرحات، والى كتب مؤرخي الامارتين المعنية والشهابية، كالامير حيدر الشهابي وطنوس الشدياق، والمتصرفية كأسد رستم. وذلك بهدف وضع تطور الجزء الذي هو تنورين ضمن اطار الكل الذي هو جبل لبنان خلال حقبة الامارتين وما بعدها. واستخدم عدداً لا يحصى من كتب الرهبان ورجال الكهنوت الذين تناولوا شؤون الرهبنة وعلاقتها بالبيئة المحيطة. واطلع على النصوص المعاصرة في الانتروبولوجيا السياسية التي عالجت الموضوع، واهمها كتاب الدكتور محمد دكروب حول تنورين. واستعان بكتابات المؤرخين الغربيين التي تناولت تاريخ المنطقة ككل، والتواريخ الجزئية لمناطق وقوى في مراحل معينة، ومنها اعمال فرنان بروديل حول حوض المتوسط، والمؤرخ الكندي ستيفان وينتر حول تاريخ آل حمادة، ودومينيك شوفالييه حول جبل لبنان. واستعان بالكتب التي تناولت آثار لبنان، ومنها القائمة في تنورين، خصوصاً كنيسة مار شليطا فيها. ولم تفته العودة الى أرنست رينان، في الكتاب الذي اعده عن لبنان واورد فيه معلومات عن تنورين. والى هذا الجهد الهائل في رصد المراجع والاطلاع عليها، ثمة جهد آخر وضع للولوج الى مضمون الحجج المستخدمة والكتابات القديمة، وصبر تحلى به الكاتب لقراءة العربية العثمانية الركيكة، ولاستخراج شيء ذي قيمة من الكم الهائل من الهراء الذي تحتويه المدونات القديمة.
- اتاح كتاب شربل داغر اصدار حكم نهائي في "تأسيس" او "اعادة تأسيس" تنورين في بداية الحقبة العثمانية. وهو أكّد ما كان يتم تناقله محلياً من ان آل مطر وغوش كانوا يقطنون تنورين الفوقا قبل العام 1520، عام مجيء جرجس ابي قرقماز اليها. وأكّد ان هذا الاخير هو فعلاً جد العائلات الخمس، حرب وطربيه ويعقوب ويونس وداغر. واستعاد تاريخ كل عائلة، ومنها تلك التي اتت الى تنورين في ما بعد، كعائلات قمير والبكاسيني وغيرها. واظهر من جهة اخرى، دوراً مؤكداً لآل طربيه كعائلة، كان يعيّن من بين ابنائها "شيخ تنورين"، أي "ملتزم الجباية" المحلي. كما اظهر ان آل طربيه لم يحتكروا هذا الموقع في الفترة الممتدة الى بداية القرن التاسع عشر (ص 133).
يحتل موضوع الضرائب وجبايتها موقعاً مركزياً في تأريخ شربل داغر لناحية تنورين. نجد فيه عرضاً لتطور النظام الضريبي على امتداد العهد العثماني، يستطيع الاكاديميون استخراج مادة لطلابهم منه. وهو يظهر كيف ان بنية السلطة السياسية في العهد العثماني كانت تتمحور بكاملها حول جباية الضرائب، وكيف ان هذه الجباية كانت ترسم شكل الهرم السياسي على مستوى السلطنة وصولاً الى ناحية البترون بالذات، أي من السلطان حتى شيخ البلدة. وهي سلطة لا تظهر في الكتاب، إلا من خلال اهتمامها بجباية الضرائب وتأديب المتخلفين عن تأديتها. وقد أدى توزيع القشلق في العام 1525(ص 68)، أي اعلام المكلّفين بالضريبة المتوجبة عليهم، الى ان يقرر قاطنو تنورين تركها، والى النتائج التي ترتبت على ذلك. كما أدت الحملات التي كانت السلطة المركزية تجردها لتأديب "ملتزمي الجباية" الى دمار متكرر في ناحيتين على وجه الخصوص من تنورين. وهي سلطة لا تستصلح ارضاً ولا تدعم منتجاً ولا تولد سبباً اضافياً من اسباب العيش للاهالي. تصلح المقارنة في هذا الباب، لئلا يبدو الامر تجنياً. شهدت الحقبة ذاتها، أي القرون الثلاث التي سبقت القرن التاسع عشر، ظاهرة "الكولبرتية" في فرنسا، كاحدى تعبيرات المركنتيلية (mercantilisme) السائدة في ميدان الفكر الاقتصادي والسياسة الاقتصادية في عموم اوروبا، والمرافقة لتكوّن الامم الاوروبية الحديثة. سوّغت المركنتيلية تدخّل الدولة لتشجيع المنتجين المحليين، من خلال حماية السوق المحلية من جهة، ومن خلال مساعدة المصدّرين على اختراق الاسواق الخارجية، ولو بقوة البوارج الحربية. وشهدت الحقبة نقيض ذلك في الامبراطورية العثمانية، أي فتح اسواق السلطنة على الاستيراد، من خلال اعتماد رسوم على الاستيراد لم تتجاوز الـ 3 بالماية ( العيساوي، 35:1985). وذلك منذ اتفاقية "الامتيازات" التي وقّعها الباب العالي مع انجلترا في العام 1675. ودام هذا الواقع حتى العام 1908بدون انقطاع، مع العلم ان السلطان محمود الثاني حاول في ثلاثينيات القرن التاسع عشر تغييره واخفق.
بل تبدو اهم مأثرة لممثلي السلطة المركزية في كتاب شربل داغر، تعقّب "ملتزم الجباية" للمنتجين الفارّين من الجور الضريبي، جرجس قرقماز وابو صادر مطر، كل في اتجاه، وتوصله الى اقناع الاول بان يعود الى الارض التي تخلى عنها، مقابل تخفيض "الميري" التي يدفعها. تسرد احدى روايات "تأسيس" تنورين الثلاث التي يستعيدها الكاتب، هذه الواقعة بشكل طريف (ص 68).
يحتل "ملتزمو الجباية" حيزاً مهماً في عملية التأريخ لتنورين. وقد برز منهم حتى الثلث الاخير من القرن الثامن عشر، آل حمادة. وهم الذين انتدبهم ولاة طرابلس لهذا الدور منذ عهد المماليك، وبالتحديد منذ العام 1440.لم يجرِ العثمانيون تعديلاً على هذا الوضع حين آلت السلطة اليهم. وقد نافس "الحمادية" على الجباية في بعض المراحل آل الشاعر، الى ان حلّ محل الاثنين ممثلو الامارة الشهابية من آل الخازن والبيطار وغيرهم.
يظهر الكتاب تنورين كمنطقة متنازع عليها بين الاهالي وبين "الحمادية"، الذين كانت لهم ملكيات كبيرة فيها. ويظهر ان تكرار تخريب القرى والمحاصيل الذي كانت تقوم به القوى المتنازعة او السلطة المركزية بهدف التأديب، اضافة لممانعة "ملتزمي الجباية" انفسهم لتملك الاهالي للاراضي، كان يمنع تكرّس وجود فاعل للمسيحيين في المنطقة، وذلك حتى الثلث الاخير من القرن الثامن عشر. يفسر الكاتب بهذه الطريقة تأخر تنورين كتجمّع سكاني كبير عن المشاركة في الحياة السياسية للموارنة. وهو ما يؤكده خلو تاريخها من مطارنة ورؤساء عامين للرهبنة حتى القرن العشرين، وعدم مشاركة أي من اعيانها في بعض المناسبات الكبرى في تاريخ الموارنة، كمجمع اللويزة في العام 1736. وقد اعتبر الكاتب بناء "دير حوب" للرهبنة المارونية في تنورين، دلالة على واقع سياسي وديمغرافي جديد، عكس ترسّخ الوجود الماروني فيها. وربط البدء بتشييد هذا الدير في العام 1766، الذي تأخر نحو 48 عاماً عن قرار الرهبنة بهذا الشأن، بالتحولات التي طرأت على مستوى الامارة الشهابية، وتمثلت بتسلّم الامير يوسف الشهابي سدّة الامارة، وبدوره المباشر في ترسيخ الوجود المسيحي في هذه الناحية، وفي بناء الدير.
اشار الكاتب الى ان مؤرخي الامارة اشاعوا صورة "شيطانية" عن "الحمادية" (ص 121)، ما يوحي انه لا يقاسمهم هذا الرأي. لكن الكتاب لا يظهر بوضوح هؤلاء بصفتهم منخرطين في حياة المنطقة منذ ما قبل العهد العثماني. والارجح ان المصادر المتوافرة لم تسمح بتظهير صورة افضل للعلاقة التي نسجوها مع اهل الناحية، لاسيما متنفذيها. وما يبقى عالقاً في الاذهان هو انهم كانوا "ملتزمي جباية" ومتملّكين، وانهم كانوا يمانعون في بناء الدير، ويهدمون ليلاً ما يبنيه الرهبان في النهار، وانهم كانوا يتعرّضون لحملات تأديب من السلطان لتمنّعهم عن دفع "الميري"، وان هذه الحملات كانت تتخذ شكل تخريب للعمران في ناحيتين من تنورين على وجه الخصوص.
- يترك الكتاب شعوراً لدى القارئ بان ثبات العائلات في ارضها بقي امراً غير نهائي حتى العقود الاخيرة من القرن الثامن عشر. علماً ان واقعة توطّن الاهالي في هذه الناحية سابقة لهذا التاريخ، ولم تتعرّض لتقطّع ناجم عن تهجير جماعي او ارتحال او شيء من هذا القبيل منذ العام 1531. أي ان اقامة اهالي تنورين الحاليين في ارضهم، بدأت في العقد الثالث من القرن السادس عشر واستمرت بدون انقطاع حتى اليوم. وليس في الكتاب معلومات عن قسط تنورين من الهجرة المارونية من شمال جبل لبنان الى وسطه وجنوبه، التي تميّزت بها حقبة الامارتين.
والاكيد هو ان النمو الديمغرافي في هذه الناحية بلغ أوجه في القرن التاسع عشر. يمكن الاستدلال على ذلك من تحوّل تنورين الى "مديرية" خلال حقبة المتصرفية. وهي لم تكن بعد قد عرفت الهجرة الى الاميركتين التي ستبدأ في العقود الاخيرة من القرن ذاته. كان يمكن الاستدلال على التطور الديمغرافي الذي عرفته منذ "الطابو دفتري" العثماني للعام 1519، حيث لم يكن عدد سكانها يتجاوز 198 شخصاً، و"الطابو دفتري للعام 1571، حين لم يكن تعداد سكان الهلال الخصيب بكامله يتجاوز 1.4 مليون شخص (كرباج وفارغ، 1997: 36) . وكان يمكن استخدام "المسح العقاري" الذي اجري في بداية المتصرفية للاستدلال على عدد السكان آنذاك. فاحتساب عدد السكان الذي قدمه اسكندر بك الاسود (ص 159)، وهو 870 شخصاً في العام 1908، لا يبدو مقنعاً. والارجح ان هذا التطور كان سيبدو منسجماً مع ما اثبته عمل باحثَين ديمغرافيَّين كبيرين هما يوسف كرباج وفيليب فارغ، ألا وهو النمو الديمغرافي الاستثنائي للمسيحيين في ظل السلطنة، ما جعل نسبتهم الى مجموع السكان في عموم اراضيها تنتقل من 7 بالماية في نهاية الحقبة المملوكية الى 20 بالماية في بداية القرن العشرين (المصدر نفسه: 144-145).
وبقدر ما كان التاسع عشر قرن النمو الديمغرافي والانتشار الجغرافي الاوسع، بقدر ما كان هو نفسه القرن الذي بدأت فيه النكبات، نكبة الحرب والمواجهات الطائفية اولاً، ونكبة الهجرة ثانياً. في بداية القرن العشرين، كان الموارنة ومسيحيو لبنان، الوحيدين من بين اقليات السلطنة الذين حصلوا على دولة. لم تكن دولة لبنان الكبير في العام 1920 نكبة، بل دلالة على النجاح في تثمير ما تراكم على امتداد القرون السابقة. وعبرت اقامتها، عن تجاوز نكبة المجاعة التي حصلت في الحرب العالمية الاولى، واودت بثلث السكان. وقد انتقل عدد المسيحيين في لبنان من 502 ألف في العام 1914، الى 335 ألف في العام 1922( المصدر نفسه: 315). الفشل أتى في ما بعد، حين تولّت النخب المحلية زمام الامور. عند كرباج وفارغ، قمة النمو الديمغرافي كانت في العام 1956(ص 316). بعدها جاءت الحرب الاهلية الاولى في العام 1958، التي تبعها ارتفاع رصيد الهجرة السنوي خلال فترة 1959-1962، الى المستوى الذي كان بلغه في بداية القرن، وهو 15 ألف مهاجر. بعد ذلك جاءت حرب العام 1975، التي ارتفع متوسط رصيد الهجرة السنوي خلال فترة 1975-1987 منها، الى 52 ألف مهاجر (ص 326). وقبل هذه وتلك وبينهما، هيمنة ليبرالية اقتصادية سلبية الطابع (passive) ودوغمائية لدى النخب، بديلاً عن قومية اقتصادية منفتحة، وقصة انفتاح اقتصادي لم ينقطع، ونجاحات فردية وفشل جماعي على مدى القرن العشرين. وهو فشل تبدى في ان تنورين بقيت منطقة نائية (ص 169) حتى اليوم، ولو انها لا تبعد إلا 80 كلم عن بيروت. وهو فشل ناجم عن غياب الادراك لضرورة بناء اقتصاد منتج صناعي وتنافسي ودولة تحميه، بما يمنع هجرة الناس ويسمح لهم بان يبنوا مستقبلاً افضل لهم ولشركائهم في الوطن.
Youssef Courbage, Philippe Fargues, Chrétiens et Juifs dans l’Islam arabe et turc, Payot, Paris, deuxième édition, 1997.
شارل عيساوي، "التاريخ الاقتصادي للشرق الاوسط وشمال افريقيا"، نيويورك، 1982؛ الترجمة العربية: بيروت، الحداثة، 1985.
(جريدة "النهار"، بيروت، النهار، 17 / 9 / 2006).