أسندتْ لجنةُ تحكيم "جائزة البنك التونسي: أبو القاسم الشابي للأدب العربي" جائزة هذه الدورة 30 إلى شربل داغر عن كتابه "يغتسل النثر في نهره" (دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، طبعة أولى، 2024)؛ وكان ذلك في حفل بهيج انعقد بمدينة توزر في روضة الشابي، حيث ضريحه. وقد أثار هذا الفوز المستحقّ، بإجماع أعضاء اللجنة برئاستي، لغطا لا مسوّغ له سوى عدم الاطلاع على الكتاب الفائز؛ وأنّ هذه جائزة عربيّة بتمويل تونسي، تسند إلى كتاب قد يكون باكورة صاحبه، وليس إلى أعمال الشاعر أو الكاتب. ولا أحبّ في هذا المقال أن أسرد مسوّغات فوز هذا الكتاب، فقد نشرتها اللجنة العلميّة المحكّمة وأعلنتها، وإنّما أسوق قراءتي الخاصّة في هذا العمل المتميّز؛ وأقتصر على ناحية منه هي "تجاوب الأجناس"(و"تجاوب" أدقّ من "تراسل")؛ على نحو قلّ أن نقف عليه في "القصيدة النثر" كما أحبّ أن أترجم المصطلح الأجنبي، معتمدا "الوصف بالمصدر" وهو من لطائف العربيّة؛ وليس التركيب بالإضافة "قصيدة النثر" أو "القصيدة بالنثر" كما يقترح شربل، والباء إنّما تستعمل للاستعانة أو الظرفيّة أو المصاحبة أو العوض... صحيح أنّ النصّ الشعري "واحد" أو هو غير قابل للتجزئة، أو هو نوع"اللعب" الذي يأخذ به الشاعر؛ وهو يشرع قصيدته على أجناس أدبيّة غير الشعر. لكن من حقّنا ، أن نطرح مسألة "تجاوب الأجناس" من منظور "التشابك" أو "التراكب" وما يمكن أن يفضي إليه من نعت النصّ ب"العمل الهجين" دون أن يعني ذلك تنقّصه أو الحطّ من قيمته؛ خاصّة أنّ  المصطلح "أدب" نفسه ليس بالسلاسة التي تجري على ألسنتنا. وهذا رأي لأهل العلم؛ فقد بيّن تودودوروف أنّ "الأدب" ليس مفهومًا ثابتًا. والكلمة لم تظهر في اللغات الأوروبيّة إلاّ في القرن السابع عشر...  
وعليه يمكن القول إنّ مسألة "الجنس الأدبي" إنّما تنزّل في هذا الأفق "التأويلي"، وفي الصميم من النهج السيميائي، إذ على أساس من مفهوم العلامة ومكوّناتها، وهي مجموعة من الإحالات والمراجع المتشابكة، يمكن لنا تصنيف النصّ الذي نحن بصدده، وإن تحاشيت أن أتمثّل بشواهد منه، إذ هو يُقرأ كله بمتعة. وشربل ليس شاعرا وحسب، وإنّما هو باحث وناقد ومترجم، مستوعب بحكم ثقافته الموسوعيّة، لمنجزات الحداثة؛ بل هو يفعل في هذا النصّ ما كان فعله بودلير في موضوع التجاوب بين الأدب والفنون في الأزمنة الحديثة،  وأعني نصّه المؤسّس قصيدة "المنارات". وهي القصيدة السادسة في كتابه الشعري الشهير "أزهار الشرّ"، وقد كتبها عام 1856؛ وهي تحتفي بثمانية فنّانين تنضوي أعمالهم إلى الفنّ البصريّ وهم (روبنز، ليوناردو دافنشي، رامبرانت، مايكل أنجلو، بوجيه، واتو، غويا، وديلاكروا). وهذه قصيدة "تجاوب" ما انفكّ السجال يُدالُ عليها مرّة تلو أخرى عند قارئي بودلير. وكلّ منهم يقترح قراءة خاصّة، ليس هنا مجال الخوض فيها؛ إنّما يعنينا منها مفهوم "التأويل" الذي آخذ به في قراءتي لكتاب شربل من حيث علاقات "التعلّق" الداخليّة التي تشكّل "توازن" عناصر النصّ أو مكوّناته الإيقاعيّة والمعجميّة والصرفيّة والنحويّة التركيبيّة، في حال سكونه وحركته، والذهاب من ثمّة نحو"مشرق النص" أو مصدر ضوئه وتألّقه؛ في رحلة هي أشبه برحلة كشف واستكشاف ل"شرق" هذ "النهر" أو "للتعبير عن الحياة" أو عن تجربة ما مشاعرَ وأفكارا ومواقف. وهذا  يفترض في أيّ فنّ وجود وسيط (اللغة أو اللون أو الحركة أو الحوار أو المشهد...أي الجسد في علاقته بالزمان والمكان). وهو في تقديري صورة بارعة من"الحديقة الفنّيّة" ومن أثر كلّ من الشعر والرسم فيها، حيث الحديقة صورة من القصيدة، والقصيدة صورة من الحديقة في غناها وتنوّعها، وحيث حرّيّة المبدع أو إرادته هي الأساس؛ حيث الحديقة موطن أو فضاء لـ"الفنون" جميعها تجاورا كما في التعبير الكنائي أو الرمزي، أو تشابها أو تداخلا بالتماهي كما في التعبير المجازي أو الاستعاري؛ أي هي حديقة غير مسيّجة أو لا أبواب لها. لكأنّنا ننتقل في هذه النصوص، من مكان سائل إلى زمان متجمّد، ومن زمان سائل إلى مكان متجمّد، تنويعا على "شطح" محي الدين بن عربي في "فتوحاته"، عبر ثقوب "شبكة القراءة" حيث نرى تجاوبا فنّيّا جماليّا قد يصل بين عالَم الفنّ وعالَم ثقافة الشاعر. وكتاب شربل أشبه بلوحة تشكيليّة مثل لوحةُ ماغريت "حرّيّة التجوّل": مشهد طبيعي خلف نافذة ذات زجاج مكسور. لكن المثير للاهتمام هو أنّ شظايا الزجاج المكسور المتناثرة على الأرض تحتوي على مقتطفات من المشهد الذي كانت تعرضه وتبنيه. هي كانت في الأصل مجزّأة، دون أن تكون أجزاؤها منقطعة عن المشهد الطبيعي. وهذا من شأنه أن يثير قدراً كبيراً من الالتباس والغموض في العلاقة بين الداخل والخارج، بين الواقع والوهم أو الحلم. وهناك حركة بصريّة في هذه القصائد حيث يتقاطع التشكيلي والسردي والمسرحي والسينمائي خاصّة. وهذا يكاد يجعل من المستحيل التمييز بين المرئي الطبيعي أو الواقعي والمرئي المتخيّل، في سياق هذه الكتابة التي لا تتردّد في محو الحدود بين الشعر وما يتجاوب فيه من الفنون والأنواع، بمهارة وقوّة لافتتين. ولنا إذن أن نتساءل: كيف يحوّل الشعر موادّ ليست من جنسه (السرد والمسرح والحِجاج والرسم والموسيقى والموسيقى والسينما...) إلى مادّة شعريّة؟  
  هذا "التجاوب" حيث الزوج القائم في القصيدة ، قد لا يكون أكثر من جدليّة العين واليد،  وهذا هو عالم الشعر، والشعر هو دائما مسموع مقروء، وفيه تتضافر اليد الكاتبة والعين القارئة والأذن السامعة وتتجاوب. أسوق هذا، دون أن أغفل عن  أنّ لكل "جنس" لغته وأدواته وأساليبه، ولكلّ عالمه المميّز؛ مثلما له مناهجه واصطلاحاته في القراءة . فكيف لهما أي لجنسين أدبيّين أو لفنّين "مختلفين" إذن أن ينضمّا ويندمجا؟ فإذا سوّغنا أن هذا التجاوب بإمكانهما، وهو يجري في نصّ شربل: فأين موقعه؟ أهو عمل الشاعر أم عمل السارد مثلا أو المسرحي أو المترسّل أو الرسّام أو السينمائي؟ بل هل يمكن أن نعقد حوارا بين هذه الأجناس والفنون؟  وكلّ منها كيان واحد لا يتجزّأ. إنّ الشاعر منصرف في هذ "النصّ النهر"إلى "نكهة" العمل الفني؛ وهو يدرك أن الدوافع تستثير العين التي ترصدها، وهي تدفعها في الآن نفسه. ومع ذلك تستبدّ بنا الرغبة في أن نفهم كيف يخلق الشاعر نصّه "المتجاوب"؟ وربما لا جواب سوى التطلع إلى ظلمة الأشياء السحيقة، واستثارة رغبتها في الضوء، والمقام في السياق الذي أنا  به، مقام اتحاد بين القصيدة والقصّة ، وبين القصيدة والمسرحيّة، وبين القصيدة والرسالة، وبين القصيدة واللوحة، بين الشاعر والرسام؛ أو أنّ هذا ذاك، وذاك هذا؛ أو هي خبرة ذاتية. فليس بالمستغرب إذن أن تتسرّب لغة شربل الشاعر إلى كلام الرسام، وتتلبّس به، ولغة هذا إلى ذاك. وهذا مسعى الشاعر مثلما هو مسعى الفنّان عامّة، حيث الجنس الأدبي أو الفنّي يمتثل سَلِسا للشاعر، وكأنّه ينصاع لوحي الوجدان. ومع ذلك فإنّ الرسام مثلا يضع كلّ شيء موضعا محكما؛ أو أنّ عمله إفراط محسوب من جهة وحسن تدبير من جهة أخرى، ولعبة أضواء وخطوط وظلال. وهذا حقّ الشاعر وحرّيته. ف"الحرّية" هي الدليل الأصلي لكل فنّ أو هي "أمّ الفنون"، والشاعر هو الذي يرسم ويصوّر بيدِ هذا الرسّام؛ أو هو يعير الرسّام يده. وقد أستخلص من ذلك أن للاثنين رؤية متجانسة للعالم، أو أنّهما ينشدان الهدف نفسه، خاصّة أنّ كلاّ منهما يسمع في الآخر رجع صداه، في ما يشبه الترديد في الموسيقى. وليس بالمستغرب أن نلحق الرسم بالشعر، والعين بالصوت؛ وهما اللذان يتحدّران من أرومة واحدة هي الكتابة (الخطّ)، وشربل مرجع علميّ في هذا؛ بل يمكن القول إنّهما ينضويان إلى جنس واحد، ويومئان إلى ارتباط متين بين الكلمة والعين. ومع ذلك يبقى السؤال قائما، فإذا كانت الأعمال الفنّية من شعر وأجناس وفنون، تتمّثّل الشيء نفسه؛ أفلا يعني ذلك أن كلاّ منهما يتمخّض عن قرينه، وأنّ بميسورنا أن نستخدم أيّا منهما لتفسير الآخر؟ ومن ثمة نتعلمّ شيئا فشيئا اللغة المشتركة التي ابتكرها كلّ فنّ. لنقل بلسان رونيه شار إنّه ليس ثمة سرّ بين الحياة الحقيقيّة والأشياء التي تكوّنها؛ إنّما هناك أكثر من غياب طبيعي، ومن رفض ومن سرّ. فليس بالمستغرب إذن أن نرى في قصيدة شربل صورة من "نهر" الفيلسوف الفرنسي هنري مالديناي"الإيقاع في دوّامات النهر وليس في جريانه"، أو صورة من "حجرِ رشيد"، إذ هي تفسّر لوحات الرسام؛ والعكس بالعكس، حيث الحياة محكومة بحرّية لا حدّ لها ولا رادّ.
(جريدة "القدس العربي"، لندن، 19-1-2025).