إذ أنظر إلى أعمال الأردنية دينا حدادين والعراقي دلير شاكر، إخال نفسي أعود بالمخيلة، وبالعمل الفني، إلى ما يزيد على خمس مئة سنة، إلى عهد تاريخي كان يمتزج فيه العمل الفني بالصنع الفني، والدربة في الإنتاج المادي بواسع التخيل والتمثل.

ما تنتهي إليه أعمالهما عند عرضها يرسمُ بشكل متقطع، وخفي في بعض جوانبه، مساراً طويلاً ومعقداً من الأفكار والعمليات، ومن تحولاتها خصوصاً. قد يكون من السهل القول إنه مسار ممتد بين المدينة والحامل الفني، لكن هذا القول لا يكفي أبداً، بل يُغيِّب علاقة الموقف بالفن، سواء عند الفنانة أو عند الفنان.

إنهما يخرجان من عالم فني إلى عالَم آخر، صوب تمثلٍ وصنعٍ مستجدَين. هذا ما بستسهل البعض الحديث عنه بوصفه من : "المعاصرة"، غير أن مفهوم "الحداثة" يحتمل الكثير من المفاهيم والتمثلات، فيما يبدو مفهوم "المعاصرة" بليداُ، حاملاً وحسب لعلاقة مع الزمن الجاري.

يزيد من الحاجة إلى هذه التدقيقات كون الفنانَين يخرجان من اللوحة، ثم يعودان إليها (بمعنى من المعاني) : يعودان الى إنتاج القطعة الفنية المتفردة، ولو بأدوات وعمليات غير متناسبة مع عدة الفن السابقة. ذلك أن ما ينطلقان منه لا يتعين في طلب الشبه أو التعديل بين سابقٍ ولاحقٍ، بل ينطلقان من موقف في الراهن، في التاريخ، في المجتمع (بشكله المديني خصوصاً) ليبنيا ابتداءً منه مشهد الفن.

دلير شاكر مثل دينا حدادين ينطلقان من مدينة، في مرئية بنائها، في مشاهدها، في موادها وأشكالها وتحولاتها. هذا يتيح للفنان نظرة مختلفة إلى ما للفن أن يكون عليه : لم يعد الفن (في نظرهما) كما كان؛ وليس له أن يبقى كما كان. بات الفن بعمل في خدمة شواغل إنسانية، لا في خدمة أسلوب مدرسي، أو مقتنٍ، أو متحف. في هذا تلتقي حدادين بشاكر في المدينة، ثم يفترقان فيها : هو يعود إلى بغداد، وهي إلى عَمان. انطلقتْ حدادين من تغير قسم عمراني من مدينة عمان، بحيث أصبح "مقتطَعاً"، أشبه بجزيرة، عما هو عليه مجموع المدينة؛ انطلقتْ من خرائط سابقة، كما وضعتْ خرائط جديدة، لما يعنيها في العلاقة التي تطلبها مع المدينة. هكذا يصدر العمل الفني عندها من مراجعة، من موقف، ممّا تسميه : "الحق في المدينة"، ما يشير إلى ما تعتبره حق المواطن في تملك مدينته (بمعنى من المعاني)، فيما تتحقق من أن للمدينة خرائط وحدوداً تشي، في بعضها، بالمنع والقطع والتهميش.

دلير شاكر خرج من مدينته، بغداد، ثم عاد إليها في زيارات، حاملاً معه صور الذاكرة والحنين، وضور كاميرته التي كانت تسجل تغيرات المشهد الحضري وتحولاته. هذه الاستعدادات تشارك في صنع العمل الفني، بل تبدو مثل دافعٍ صوبه، إلا أن ما يجري فوق السطح المادي للعمل الفني مختلف، إذ يجعل الفنان المواد (بين حديد وملح وماء وألوان وغيرها) تتفاعل مادياً، كيميائياً، لأيام معدودة، ما يتولد، بالتالي، في هيئة شكلية غير محسوبة، لا سيما مع ظهور حاصل "الأكسدة"، أي الزنجار، الذي بات يعين ظاهر الشكل الفني : اللوحة "تتنفس" تفاعلَ موادها، مثلما المدينة "تنفستْ" عوامل نزاعاتها !

هكذا ينطلق كل فنان من رؤى، من صور،  مما لا يجتمع في مشهد بعينه مطلوب للتصوير. هكذا باتت الطبيعة غير ثابتة، بل جارية في تحولاتها، ما يجعل الفنان متنبهاً إلى ما هو أبعد من متعة العين، ومتعة الشكل، إلى ما هو جريان الفعل الإنساني في المكان العمراني. هذا ما يجعل الفنان يبدل عدته الفنية السابقة، فيُسقط الريشة تماماً، ويعود في إنتاج عمله إلى خبرات عملية هي كانت من عدة عمل الصناع والحرفيين. كما لو أن الفنان لا ينتج مشهداً، أو صورة، وإنما يعيد صنع ما هو أقرب إلى عالَم، ولكن في أجزاء منه. لهذا تبدو حدود العمل الفني أوسع من حدوده المادية الظاهرة، والمؤطرة له.

هكذا ينطلق الفنان من سابق، جمعي بقدر ما هو فردي، يشمل البيت مثل اجتماع الشوارع : ينطلق من الإقامة الفردية والمتخيلة في المكان إلى ما يجمعه بغيره بين حجر وبشر. حدادين ترى إلى مدينتها وهي تتبدل، إلى ما يجعلها متحولة بفعل التمييز بين حي وآخر فيها. أما شاكر فهو يصنع أشكاله، أو يدعها تنمو من تلقاء نفسها، كما لو أن المدينة متروكة لأعمالٍ تتآكلها على عجل، إذ إن بغداده صارت مختلفة، كما لو أن الصدأ بات يعلو هيئتها.

تجعل حدادين (التي هي أيضاً مهندسة معمارية) من عالم الخرائط الهندسية عالمَ التكسرات والاختلالات، فيما يرى شاكر إلى المدينة في أشكالها العشوائية. وفي الصنيعين الفنين، لا نرى وجهاً إنسانياً واحداً، لكننا نرى الأثر الخفي، الأثر البادي، لما هو فعلُ البشر، من دون سياسات تخطيط مدني مناسبة.

يصنع دلير شاكر تكويناته لكي يشهد على ما يفتقده، وعما بات مشوَّهاً، متحولاً، في عالم الأسلاك المعدنية المكشوف، التي باتت تأسر سطوح العمارات والأفق والسماء في آن. يصنع تكوينات المشهد المديني في عشوائيته، المبددة للتاريخ العمراني والبشري، فيما تعمل حدادين على التموقع في فضاء عمراني بات يتشكل في مدينة قيد العمران والتشكل والتمدد والتحيز.

الفنان يرى الخراب في المكان، وخلخلتَه، وتحولاته، كما يرى إلى خطوط التمييز والتقطيع التي تحيل المدينة إلى جسم غير واحد، من دون شراكة فيه. هذا ما يقيم، بالتالي، علاقة غنية، متعددة الجوانب، بين الموقف الفني والأسلوب الفني، حيث إن مرئيات المدينة المتحولة تتشكل في صيغ تجريدية، ما يجمع أعمالهما – على تبايناتها – بين سابق ومنفتح في تجارب الفن.