هيثم حسين : الحوار في الرواية
العالم الروائيّ عالمٌ يمتاز بالغنى والثراء، ويتأتّى له ذلكمن مقدرة الرواية الاستيعابيّة، التي تعيد إنتاج الأساليب المختلفة،لتظهرها بحلّتهاالروائيّة، فتتضمّن الشعر، والكثير من القصص، والتنظيرات الأدبيّة والفكريّة،والتحليلات النفسيّة، والتكهنّات المستقبليّة... إلخ. وكلّ ذلك يتمّ من خلال تلبيسالروائيّ ما يريد أن ينقله إلى قارئه، لبوساً روائيّاً،في سياق لا يبدوفيه أنّه قد جاء مُقحَماً أو مضافاً في غير موضعه.. وليس للرواية طريقة تقيّدها، أوأسلوباً يكبّلها، بل تأتي قوّتها من الانفتاح على الطرق والأساليب المتنوّعة، حيثأنّ باب الاجتهاد ما يزال مفتوحاً على مصراعيه، وهذا ما يدأب الروائيّون بمختلفأجيالهم وانتماءاتهم، على العمل عليه وبلوغه. وكما يقول جاك بريفير: إنّ الروايةتنمو كالعشبة البرّيّة.. ولا يُقصَد بها ذاك النموّ العشوائيّ، بل أنّ التناميالروائيّ يكون من خلال تحكّم الكاتب الشديد ببصائر ومصائر شخصيّاته، التي قد لاتوافق توجّهاتها ورؤاها هذا الواقع أو ذاك، لكنّها بالنتيجة تعبّر عن وجهات نظرموجودة، ومعمولاً بها، ومأخوذة على محمل الجدّ، حتّى تلك المستسخفة، تعود بجذرهاإلى الجدّيّة المبالغة أحياناً، فليس بالضرورة أن يقال كلّ شيء هامّ بجدّيّةوصرامة، بل أنّ هنالك كثيراً من الأمور التي تناقش قضايا مصيريّة، تطرح بواقعيّةعلى لسان شخصيّات لا تعقّد أيّ شيء، وهذا ما قد يولّد نفوراً أو استنكاراً من بعضالقرّاء، حول وجوب تقديم تلك القضايا بأساليب تليق بها، وبحجمها وعظمتها، لا بتلكالطريقة التي تنال منها، تحت ادّعاءات أو مسمّيات الانتصار لها. تنبني الرواية علىعدّة أركان رئيسة، إحدى أهمّ تلك الأركان: الحوار. والحوار بشكل عام يعرَّف علىأنّه طريقة من طرق التواصل هدفه المراجعة في الكلام للوصول إلى الصواب أو الأكثرصواباً. وفيه حجة ودليل. وقد يكون نقاشاً وتبادلاً للحديث بين طرفين. أمّا فيالعالم الروائيّ فإنّه يعتبر عنصراً أدبيّاً هاماً، يشكّل مدماكاً رئيساً فيالعمارة الروائيّة، ولكن أيّ مدماك يكون، هل يكون داعماً مسانداً لهذه العمارة أويكون مضعضِعاً مُضعفاً لها. نتساءل عن الكيفيّة التي قد يأتي بها، مُضمّناً فيالرواية، مقولاً على ألسنة الشخصيّات، وهل يجوز أن نتساءل عن إمكانيّةٍ أو احتمالٍفي العالم الروائيّ، أم أنّ الحدود مفتوحة، ولا قيود إلاّ ما تفترضه العمليةالإبداعيّة، ورؤية الكاتب في كتابته؟
كيف يكون الحوارفي الرواية؟ هل يعبّر عن ثقافة الشخصيّات وآرائها..؟! هل هو تقويل الكاتب أمأقوال أبطاله؟ لماذا يكون اللجوء إلى الحوار من قبل البعض، ولماذا الرغبة عنهوتهميشه من قبل آخرين؟ هل يستقيم البنيان الروائيّ بدون الحوار؟ هل يجوز أنتكون الرواية كلّها حواراً/ حواريّة؟ هل اكتفاء الروائيّ بسرد الرواية على لسانراويه نيابة عن الحوار يقوّي أم يضعف الرواية؟
لا شكّ أنّالحوار ركن أساسيّ تتكون عن طريقه ملامح الشخصيّة وتكتسب المواقف قوّة الإقناع أوالتبرير. ومن إحدى الإشكاليّات أو التحدّيات التي تواجه الروائيّ كيفيّة التعامل معاللغة، وكيفية إجراء حوار بين الشخصيات، وهل يعتمد اللهجات وحدها أم الفصحى أميزاوج بينهما لتكون هناك لغة وسطى.. يردم من خلالها الفجوة بين الشخصيّة وعالمهاالروائيّ، والقارئ وعالمه الواقعيّ.
وقد اجتهدكثيرون من الروائيّين في هذا الحقل الروائيّ، وأبدعوا فيه، من دون أن يلغوا غيرهم،أو أن يستبدّوا برأيهم. فقد تمكّن نجيب محفوظ من تقديم إنجازات لافتة ومهمّة فيلغة الحوار، حيث أنّ الشخصيّة في كثير من أعماله، تتكلّم وفق ثقافتها، حتّى لَيظنالقارئ أنّه لا دخل أو تدخّل للروائيّ فيما يحصل، وذلك وفق استراتيجيّة مدروسة،وتخطيط واعٍ.. وقد عِيب عليه ذلك من قبل بعض النقّاد.. وهذا أيضاً يحتمل الأخذوالردّ، لكنّه لن يكون من منطلق الإقصاء يقيناً. كما نجد الحوار عند آخرين يأتيبلغة السرد نفسها، بتلك السويّة العالية، كالحوار في روايات سليم بركات، إذ لا فرقبين أيّ متحدّث وآخر، من حيث السويّة، فكلام الإنسان البسيط يأتي ككلام العالم أوالمثقّف، مكثّفاً مفعماً باللغة الجزلة التي لا تليق وثقافة الشخصيّة، لأنّ الساردهو الذي يأخذ على عاتقه تفكير الشخصيّات بفكره، رغم محاولة أيّ كاتب تقمّص شخصيّاتهحين كتابتها، ذلك حتّى تكون دالّة على الشريحة التي تعبّر عنها، أو تمثّلها.. وقديأتي الحوار متأرجحاً بين بين بحسب تطويع الكاتب للغته، ونجد هذا الاجتهاد في بعضمن روايات رشيد الضعيف الذي يخلط بين أكثر من لغة حين الحديث، كما في روايته «أوكيمع السلامة»، التي يستخدم فيها عدّة مستويات وسويّات، تتكامل فيما بينها مشهداًمشهداً، منتجة المشهد العامّ.
وهناك منالروائيّين من اعتمد الحوار بشكلٍ مطلق لبناء روايته، كالروائيّ اللبنانيّ شربلداغر في روايته «وصيّة هابيل»، التي جاءت على شكل حوار بينه وبين نفسه، أناهالمنقسمة على نفسها، المحاورة لهواجسها وآمالها طوال الرواية، إذ تقترب الرواية منالمَسْرحة، ذلك أنّ الحوار الروائيّ الذي يفترض به أن يكسر بعضاً من الملل الذييتولّد جرّاء استطالة السرد، يتمسرح، ويكاد القارئ يشتاق إلى قراءة بعض السرد بينطيّات الحوار الذي لا ينتهي إلاّ بانتهاء الرواية نفسها. وقد يعتمد بعض الكتّابعلى الحوار في بناء فصول بعينها، من دون أن يكون له الحيّز كلّه، وجاء استخدام ذلكبذكاء من قبل الروائيّ محمّد أبو معتوق في روايته «القمقم والجنّيّ»، حيث نقرأفصولاً، شبه كاملة، حواريّة، حيث الجمل تكون طويلة، من دون أن تنقطع الفكرة، إذيغدو الحوار سرداً للأحداث، وشرحاً وتفصيلاً لبعض الحوادث الأخرى، وذلك من دون أنيطغى على السياق العامّ. أي يترقّى الحوار ليؤدّي عمل السرد أحياناً، ويبادل بينهوبين السرد في المهمّة، يغني روايته بهما معاً، من دون أن يستغني عن أحدهمابالإضافة إلى التقنيات الأخرى المستخدمة من قبله بحِرفيّة.
ولا نعدم وجودبعض ممّن يرون في الحوار الروائيّ فرصة من الكتّاب لدسّ أفكارهم بين ثنايا أقوالوأفكار الشخصيّات، وأنّ اصطناع أو إقحام الحوار ما هو إلاّ التفاف مكشوف من قبلهم،أو هو ضعف في امتلاك الأدوات، إذ لا يجوز أن يفلت النصّ من بين يدي كاتبه، ويجبعليه أن يكون حريصاً وواعياً لاسترساله أو إسهابه، عندها لا يكون في حاجة إلىالاستعانة بالحوار لكسر رتابة السرد، أو تشكيل منعطف منبّه إلى أنّ هناك تنويعاًملموساً في الرواية.
يبقى نجاحوتفعيل الحوار الروائيّ شرطيّاً غير مكتمل إلاّ باكتمال العناصر كلّها، ذلك لأنّهقد يؤدّي عكس المراد منه، عندما لا يجاد استخدامه وتجييره، فلا عبث ولا مصادفة فيالرواية، كلّ ما يتسرّب إليها، لابدّ أنّه يكون بناء على تخطيط كاتبها، ورغبتهواجتهاده.
هل يجوز تقعيد أو إيجاب في الرواية؟ أليست من إحدى فضائل الرواية أنّها لا تقف عند حواجز أو تنظيرات تحاول تقييدها، ولا تنقاد لمزاعم تربكها وتقلّل من هيبتها بتضييق شساعة عوالمها، بل تختطّ كلّ يوم، خطّها الذي ينفتح في الفراغ ويمتدّ فيه، ذلك أنّ وضع نهاية للاجتهادات يعني قتل كلّ المبدعين، كما أنّ استلاب المبدعين وجهات نظرهم يعتبر تعدّياً على حرّيّة التفكير والتعبير التي تؤمّنها الرواية كميدان عصيّ على الإحاطة والتسوير. وهذا من بعض ما يقوّي قواعد الرواية ويبني أسساً متينة يقوم عليها البنيان الروائيّ الذي يتهندس تبعاً للروائيّ ونظرته إلى العالم.
(ملحق "الثورة" الثقافي، دمشق، 23-12-2008).