عبدالله إبراهيم : تحقيق دقيق لأول رواية عربية

 

 

لم يمر إلا سنة واحدة على صدور الطبعة المصرية المصورة لأول رواية عربية، وهي "وي. إذن لست بإفرنجي" لخليل الخوري حتى صدرت طبعة لبنانية لها في ختام شهر نوفمبر 2008 بتحقيق وتقديم الباحث والشاعر شربل داغر. وكانت قد صدرت في نهاية عام 2007 في القاهرة طبعة رديئة عن الطبعة الأولى للرواية التي صدرت في عام 1860، وقد وجدت فيها كل مساوئ الطبعة القديمة التي صدرت منذ نحو مئة وخمسين عاما، ومع أنها أعادت الحياة إلى نص طمره النسيان مدة طويلة، لكنها خلت من الإطار التاريخي- النقدي الذي يعيد وضع هذه الرواية في سياق موضوع الريادة. فلا تكاد تفي بحاجة الباحث المدقق الذي يريد أن يتقصى أبعاد الظاهرة السردية في الأدب العربي الحديث.

منذ سنوات شغل الزميل شربل داغر بأمر هذه الرواية، وتبادلنا رسائل حول ذلك، وتحاورنا مباشرة حول الموضوع في الدوحة، وكلما مضى في البحث والتنقيب كان يتفضل علي بإرسال فصلات وشذرات مما أنجز، فعرفت أنه عازم على انجاز تحقيق النص. ومنذ أشهر أرسل لي النص كاملا بتحقيقه استنادا لما نشر في جريدة حديقة الأخبار خلال عام 1859، وما جاء في الطبعة الأولى من الرواية، فتمكن من إظهار المتن الكامل للرواية. وما لبث أن أرسل لي دراسته القيمة للرواية التي ظهرت مرفقة بالنص. ولم يخف داغر أبدا جذور الجدل حول موضوع ريادة هذه الرواية، إذ أخبرني بأنه بدأ البحث في ضوء إشارتي إلى ريادة هذه الرواية في كتابي"السردية العربية الحديثة". وهذا من تواضع الباحثين الكبار الذين تشغلهم الظواهر الأدبية أكثر ما تشغلهم الأدوار الشخصية.

خلال الرسائل المتبادلة بيننا حول الموضوع، والمكالمات الهاتفية، كنت أدرك الجهد الكبير الذي يبذله داغر، فذلك كان يعيدني سنوات إلى الوراء حينما أمضيت طرفا من صيف 2001 أفحص رقوق الميكروفيلم العتيقة المحفوظة لجريدة "حديقة الأخبار" في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، حيث نشرت الرواية مسلسلة أول مرة خلال الأشهر الأخيرة من عام 1859. وكتبت عنها باعتبارها أول رواية عربية في سياق إعادة تفسير نشأة الرواية العربية، وخصصت لها موقعا في كتابي "السردية العربية الحديثة" الذي صدر في مطلع عام 2003، ثم توسعت بذلك في "موسوعة السرد العربي" التي صدرت في عام 2005، واستكملت الموضوع حول هذه الرواية في الطبعة الجديدة من الموسوعة التي صدرت في منتصف عام 2008. ولطالما أشرت إلى ريادتها في أكثر من مناسبة، ولكن جهل الباحثين الآخرين بالنص نفسه، وظروف نشره، حال دون الأخذ بهذا الرأي بصورة واسعة، ناهيك عمّن لا يعرف عن هذه القضية إلا معلومات مدرسية حول نشأة الرواية العربية، فينكر تراثا سرديا غزيرا ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقبل أكثر من خمسة عقود من نشر رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل في عام 1913، وقد كتبت في عامي 1910 و1911.

إن صدور طبعة محققة لرواية "وي. إذن..." من قبل باحث متمرّس يبرهن على أن طمس الحقائق بسبب الجهل لا يصمد طويلا، فالحراك الثقافي المتواصل، فيما يخص نشأة الآداب، يدفع بكثير من الحقائق المخفية للظهور إذا ما جرى كشف السياق الحاضن لها، ويخرب، في الوقت نفسه، ركائز الادعاءات المزيفة، ويبطل مفعولها، ويطيح بها، وهذه المراجعة التاريخية-النقدية هي ما تحتاج إليه قضية الريادة في الأدب العربي الحديث.

وأود أن أكرر القول بأنني دافعت عن ريادة هذه الرواية في أكثر من مؤتمر وندوة، وفي أكثر من مقالة أو بحث أو كتاب، وفي جميع الحالات كنت أشدّد على أن خارطة السرد العربي الحديث في القرن التاسع عشر تكشف عن غنى خاص في مجال التأليف الروائي، وبغضّ النظر عن الأحكام النقدية الشائعة في حقّه، وكثير منها أسقطت قيما لاحقة على حقبة التشكّل الأولى للنوع الروائي، فإنَّ تلك المدوّنة السردية شديدة التنوّع والثراء، ولعلّها الوثيقة الرمزية الأكثر تعبيرا عن الانتماء المزدوج لأسلوبين ورؤيتين ونسقين ثقافيين؛ فهي تتصل بالمدوّنات والمرويات السردية في كلّ ذلك، وتنفصل في الوقت نفسه عنها. تتصل بها لأنّها ورثت مكوّناتها العامة، واستوحت عوالمها التخيّلية، وموضوعاتها، وصيغها التعبيرية، وتنفصل عنها لأنّها انشقّت بوضوح عن القوالب الأسلوبية والأبنية السردية المقفلة والثنائية الضدّية للقيم الشائعة في الموروث السردي، وبدأت ببطء تشكّل خصوصياتها في كلّ ذلك، وليس خافيا أن ذلك استغرق زمنا طويلا.

لا يعدّ اتصال الرواية العربية، في أول نشأتها، بالمرويات السردية الموروثة انتقاصا لها، ولا يعدّ انفصالها ميزة لها، فالحراك البنيوي والأسلوبي في الآداب القومية يؤدّي باستمرار إلى تحوّلات أجناسية، وأسلوبية، ودلالية، فيعاد تقويم الآداب في ضوء هذه التحوّلات الكبرى، ويتّضح لكلّ باحث يستغرقه حال الثقافة العربية في القرن التاسع عشر أنّه كان القرن الذي شهد بداية هذه التحوّلات التي تفاعلت، فيما بينها، فأفضت إلى تغيير كبير في الأدب بأنواعه ووظائفه، والثقافة بشكل عام، فيما بعد.

بدأ الخوري في نشر روايته ابتداء من العدد 93 الصادر يوم الخميس 13 تشرين الأول/أكتوبر1859 فقال مخاطبا قراء جريدته "إذا كنتَ أيها القارئ مللتَ مطالعة القصص المترجمة، وكنتَ من ذوي الحذاقة، فبادر إلى مطالعة هذا التأليف الجديد المسمّى "ويْ. إذن لست بإفرنجي" ". ووضع للرواية مقدمتين سمّى الأولى مقدّمة المقدّمـة، والثانيـة المقدّمـة. وإثر انتهاء النشر بمدة وجيزة صـدرت الرواية كاملة بكـتاب في162صفحة، وذلك في عام 1860.

كشف التقديم الذي وضعه المؤلف حقيقة ينبغي أخذها بالحسبان، وهي أنَّ الخوري قرّر أمرين متلازمين: الأول كثرة المعرّبات من اللغات الأخرى، إلى درجة أشعرته بالملل، كما يلمس من مخاطبته القارئ، ونرجّح أنّه كان يقصد تلك المعرّبات التي نشرتها "حديقة الأخبار" دون سواها، إذ لم يكن التعريب قد شاع آنذاك في تلك الفترة المبكّرة، بحيث يصبح ظاهرة عامة تستحق هذه الإشارة، ولا تكشف فهارس المعرّبات عن نص معرّب قبل ذلك. وعن هذا الأمر يتأدّى الثاني، وهو ضرورة العناية بالمؤلّفات، ويتقدّم الخوري نفسه لذلك في روايته، فكأنّه بذلك يريد لفت الانتباه إلى أهمية التأليف الروائي وضرورته. وإذا أُخذ الأمر بظاهره فيمكن تأويل كلامه على أنّه ضرب من الشعور بالحاجة إلى التأليف أكثر منه للتعريب، والإشارة إلى هذه الحاجة تظهر وعيا أوليا بضرورة الكتابة الروائية، مع أهمية التأكيد أنَّ المعرّبات التي ظهرت في "حديقة الأخبار" خلال السنة الأولى من صدورها، كانت تخضع لشروط التأليف السردي الموروث في الأدب العربي، ولا تراعى فيها الدقة والأمانة.

عنيت رواية "وي. إذن لست بإفرنجي" باللقاء الأول مع الغرب، ذلك اللقاء الذي عرفته بلاد الشام قبل غيرها بزمن طويل، فوجد طريقة إلى الأدب الروائي، ولم يكن المؤلّف يكتب دون أن يلحظ ما يترتب عليه من مهمة اجتماعية وأخلاقية، وذلك ما دعاه شأن غيره من الكتّاب إلى الاهتمام بالبعد الاعتباري لروايته، التي كانت تتراوح بين نوع من المغامرة الارتحالية في أماكن متعددة، والأحداث المباشرة التي يراد بها التعبير عن جانب من عصر المؤلّف. والملاحظة التي تفرض حضورها هنا خاصة باللغة والأسلوب وطريقة السرد؛ فقد كان الخوري انتقائيا في ألفاظه، وذلك حال دون السلاسة التعبيرية التي ظلّت تلمس بوضوح إلى عقود بعد الخوري، ولكنّه هيّأ للتخلّص من الصيغ الجامدة في النثر المتصنّع، وإن لم يفلح كثيرا في ذلك، وجاء أسلوبه أقرب إلى محاكاة الأساليب الشائعة في المرويات السردية القديمة، لكنّها أكثر عناية في اهتمامه بالصورة الفنية.

وأخيراً وضعت رواية "وي. إذن لست بإفرنجي" السُنن الأولى للسرد الذي تتداخل فيه، في وقت واحد، مسارات السرد الحكائي وتعليقات المؤلف، ثم العناية البالغة بالحركة والتنقل وقلة الاهتمام بالبعد الواقعي للشخصيات، وعدم مراعاة الترتيب الزمني للوقائع بدقة، وخضوع العلاقات بين الوقائع للصدفة وليس للعلة، بما يكشف سيادة العلاقات السردية على حساب العلاقات المنطقية بين الأحداث، وهذه السُنن اللغوية والسردية المستعارة بمجملها من المرويات السردية ستلازم الرواية العربية في طور نشأتها الأول.

("العرب"، الدوحة، 7 كانون الأول-ديسمبر، 2008).