(...) اختتم الدكتور شربل داغر أخيراً ملتقى الشعر العربي الحديث في إطار مهرجان الأردن الأول، في أمسيته الأخيرة التي انعقدت في "رابطة الكتاب الأردنيين"، وكانت له قبلها أربع أمسيات توزعت بين الكرك ومعان ووادي موسى و بيت الشعر في عمان. وهي من المرات القليلة التي يلقي فيها الشاعر شعره في أمسيات عامة، حيث أنه قلما يلقي الشعر، ويفضل القراءة عليه، إذ يقول: "أنا أكتب الشعر وفق منطق كتابي، لا سماعي، عدا أن كتابة القصيدة عندي تفترض وجود القارىء المكمل لها" (...).

- كيف نشأت الرواية العربية، وإلى أي مدى تعتبر في بدايتها متصلة بالظاهرة السردية التي كانت رائجة في المجتمعات العربية؟
= يمكن للإجابة أن تتعين في اتجاهين: اتجاه يأخذ في عين الاعتبار المساعي السردية التي تمثلت عند محمد المويلحي وناصيف اليازجي في إعادة تجديد حياة المقامة كشكل سردي موروث، واتجاه آخر يأخذ في عين الاعتبار ابتداء السرد انطلاقاً من تقنيات الرواية الأوروبية. وإذا كان الاتجاه الأول سقط في النسيان والإهمال سريعاً، وبقي مأثرة لغوية وحسب، فذلك لا يعود إلى صعوبته القائمة في جزء منها على التعقيد اللغوي والأسلوبي، وإنما أيضاً إلى ما وفره الأسلوب السردي الأوروبي من مغريات، واقعة في السرد نفسه وفي لغته أيضاً، فضلاً عن قربه من حياة القارىء نفسه.إلا أنني تبينت، عند إعدادي التحقيق النقدي الذي طاول رواية خليل الخوري: "وَي. إذن لستُ بإفرنجي"، أن هناك نصوصاً سردية نشرت في مجلة الخوري، "حديقة الأخبار"، وسعت إلى استثمار مرويات عربية قديمة في أسلوب قريب من الحكي القديم، إلا أن هذه النصوص ما لبثت أن اختفت لصالح الرواية، على ما تأكدت.
- ما خصائص كتابة الرواية، وإلى أي مدى تختلف عن كتابة القصة القصيرة؟
= تصعب الإجابة عن هذا السؤال، اليوم، فيما كان الأمر ممكناً وميسراً قبل عقود، حيث كانت تقتصر فنية الرواية والقصة القصيرة على قواعد مقرة ومتبعة، يمكن القياس عليها. أما اليوم، فقد اختلف الوضع، بعد أن اتسعت تقنيات الرواية والقصة القصيرة، وتبلبلت الحدود بينهما، مثلما حصل للشعر قبل ذلك. هكذا لا يقوى الدارس، اليوم، على رسم خطوط ومعالم بينة بينهما. فهناك روايات باتت تنبني على لحظة، أو سياق زمني محدود، وهو ما كان يناسب القصة القصيرة أساساً. وهناك قصص قصيرة باتت تنبني على لحظات زمنية تتعدى الثواني والساعات والأيام لتشمل قروناً بعينها أحياناً.لهذا لم يعد القياس القديم، بين قصر القصة القصيرة الزمني وطول الرواية الزمني، لجهة أحداث كل واحدة منهما، صالحاً في أحوال قليلة، وإن كان يناسب غالبَها حتى اليوم، ولا سيما للروايات والقصص السردية التي لا تتخذ من بناء الشكل السردي غرضاً حاسماً في البناء الفني. لهذه الأسباب وغيرها، وجب التنبه لبناء كل عمل سردي انطلاقاً مما يقترحه الكاتب في عمله السردي، لا ابتداء من قواعد مسبقة ومتخطاة في أحوال عديدة.- هل يعتبر أسلوب السرد الروائي أكثر سهولة من أسلوب السرد القصصي، إذ يتطلب هذا الأخير تكثيف المعنى في مساحة محددة، ونرى اليوم قصصاً لا تتجاوز الصفحة الواحدة أو بضعة أسطر؟ = الأمر سيان. قد تكمن الصعوبة في كتابة جملة واحدة... أذكر أنني قرأت في يوميات غوستاف فلوبير، التي كتبها على هامش كتابته لروايته الرائدة "السيدة بوفاري"، ما معناه: لقد أمضيت يوماً بأكمله من دون أن أنجح في إدخال السيدة بوفاري إلى الحفل الراقص...غيره من الروائيين، الضعيفي العدة السردية، ما كانت لتواجههم مثل هذه الصعوبة، أما فلوبير، وغيره ممن يجعلون من السرد شكلأً كتابياً، لا حكاية مروية قبل كتابتها، تشغلهم مسألة البناء الفني.
- ما هو الإطار التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه رواية "وَي. إذن لست بافرنجي"؟
= لا يمكن نسبة هذه الرواية إلا لسياق التمدن الناشىء في بيروت وغيرها في مدى القرن التاسع عشر. فهي نتاج أول لكاتب استثنائي، بل لأحد رجالات النهضة البارزين، من أمثال بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي وغيرهم. وهو كاتب قد يجمع في نتاجه وحده إجمال التجديد في هذا العصر، وعلامته الأكيدة الأولى. فهو أول العرب الذين أطلقوا جريدة في مدينة عربية، وأول من افتتح تاريخ "الشعر العصري"، والرواية العصرية، وترجمة الشعر، فضلاً عن أدوار أخرى لا تقلّ أهمية وفعلاً وتأثيراً. بل يمكن القول إن الخوري يجسد في عائلته، في شخصه، تاريخ اللقاء الحاسم بين إرث جبل لبنان وإرث بيروت الناشىء. وهو اللقاء الذي جمع حاصل التجربة وأطلقها وفق إيقاع قوي من التجدد، حيث أن بيروت تعدّ المدينة التي قام فيها أفراد وجميعات، لا السياسات الحكومية، بإطلاق عملية التمدن الثقافي والقيمي، بخلاف نماذج أخرى للنهضة الناشئة. وهو الدور الذي لا تزال بيروت تنهل منه وتجدده.
- لماذا صنفتها بالرائدة؟
= لأنني تحريت واستقصيت تعرفاً على معالم البدايات هذه، في بيروت وغيرها، وفي عمل الخوري وغيره، مثل رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وغيرهما، ووجدت أن رواية الخوري تسبق غيرها في أكثر من مجال: فهي تنتسب إلى الرواية، لا إلى السيرة الذاتية، مثلما تتجلى ملامحها في عمل الشدياق المبكر والرائد في نوعه: "الساق على الساق..."، كما لا تنتسب إلى كتاب الرحلة مثلما تظهر في "تخليص الإبريز..." عند الطهطاوي. كما يتبين في رواية الخوري استنادها الجلي إلى تراث الرواية الأوروبية، ولا سيما إلى الروايات المبنية على نقد العوائد الاجتماعية، مثلما شرع بها في فرنسا الروائي هونوريه دو بلزاك، فضلاً على اعتماد الخوري على تقليد فرنسي آخر وناشىء، وهو نشر الروايات مسلسلة في جريدة.
إلى هذا تتميز رواية الخوري بأنها أقامت السرد على ترابط تعاقبي وسببي، تتكفل به شخصيات في سياقات بعينها، ما يختلف عن الإخبار الإسلامي القديم، وعن الموروث الحكائي التقليدي. وما جعلني إلى هذه الأسباب أطلق على هذه الرواية صفة الرائدة، هو أنني تحققت من تقليد أعمال سردية، سواء في بيروت أو في القاهرة، بعد وقت، لمثل هذه الخصائص الفنية في السرد.وما استوقفني في درس هذه الرواية هو أنها تنبني وفق بناء مرئي، إذا جاز القول، حيث أن "رأى" تماثل "روى" فيها، كما قلت في تقديم الرواية المحققة. وهي أكثر من لقيا لغوية، إذ تشير إلى ضلوع الأدب الجديد عموماً بالمعاينة، بالمشاهدة: يكفي للدلالة على ذلك أن ننتبه إلى أنه جرى إطلاق صفة رواية في ذلك العهد، ولعقود لاحقة، على ما نسميه الرواية اليوم وعلى المسرح في حينه. هناك طلبٌ، في هذا القرن، على العلانية، على الظهور، على المباني المرئية، ما يتمثل في بروز الصورة الفوتوغرافية، واللوحة الزيتية، والمباني المرئية في الرواية والمسرحية وغيرها. وهو ما درسته، في العهد عينه، في حياة مدينة مثل بيروت، حيث أنها بلغت في هذا القرن، على ما درست في كتابي "العربية والتمدن"، العلانية العمرانية، بدليل انفتاح البيت على خارجه بعد طول انغلاق، وارتفاع الصور الشخصية ولوحات المناظر الطبيعية فوق جدران البيوت.
- إلى أي مدى تعكس غنى السرد الروائي العربي؟
= رواية الخوري امتحان أول، تجريب أول، مسعى أول، في مسار سردي لن يعدم الامتحانات والتجريبات والمساعي بعد ذلك. وهي لا تقوى وحدها، على الرغم من توافر خصائص فنية عديدة فيها، أن تتكفل بمححدات الغنى التالي. ولو عاد الدارس أو القارىء إلى أعمال سردية أخرى لاحقة عليها، لسليم البستاني أو فرنسيس المراش، لما وجد فيها بالضرورة خصائص السرد الماثل في "وي..." نفسها. مع ذلك أقول بأن رواية الخوري شكل أول لما ستكونه الرواية بالمعنى الفني الدقيق.
- ماذا تعني بـ "البداية المستجدة" للدورة الثقافية العربية؟
= يختلف الدارسون ويجتهدون في فهم عصر النهضة. فمنهم من يرى إليه بعين مكبرة، وآخرون بعين مصغرة. ابتعدت عن هؤلاء وأولئك في النظر، وسعيت إلى فهم الحراك الجاري، كما تعين بداية في نظر فاعليه المباشرين. فأنا لا يسعني فهم ما أقدم عليه الخوري في روايته المبكرة من دون كلامه المبكر بدوره عن التمدن، وهو ما يظهر جلياً في سخريته الماثلة منذ عنوان روايته. إلا أنني ما اكتفيت بنظر النهضويين إلى أفعالهم، إذ أنها، في جانب منها، تنتسب إلى المرتجيات، لا إلى الوقائع. فكثير من رجالات النهضة كانوا أقرب إلى المبشرين منهم إلى صانعي التاريخ، وهو أشد ما يظهر في الدعاوى السياسية، حيث أنها بقيت في حدود الترويج أو الدعاية أو الشرح المبسط لإيديولوجيات ومشروعات ما كانت تجد لها أي مرتكز واقعي أو مادي في حياة المجتمعات العربية، سوى ولع أصحابها أو اقتناعهم الثقافي بها.هكذا سعيت إلى فهم نقدي للحراك الجاري، يأخذ في عين الاعتبار بواعثه وممهداته ونتائجه. وقد يكون توقفي عند دخول الطباعة أشد الأسباب فهماً لحاصل ما جرى. فانتهاء عهد النسخ ما عنى نهاية عمل يدوي لصالح عمل صناعي، وإنما عنى خصوصاً إدخال الثقافة، والكتاب، والكاتب، والقارىء هذا الطرف الجديد، أو وفق شروط ظهور مختلفة في وضعية جديدة، قادت إلى الدورة المستجدة التي أتحدث عنها. وهي دورة أعادت النظر في هيئة العربية، أي في رسم حروفها وسطورها والهيئات المادية للكتاب، كما قضت بتوجيه الكتابة صوب القارىْ ، وخارج الدورة البلاطية و العلمائية السابقة... وهو ما أفادت منه الرواية، وعززته بدورها.- هل للرواية العربية خصوصية تفرّقها عن الرواية الأجنبية؟= أتجنب الحديث في الإجمال عن الخصوصية، وخاصة في النطاق الثقافي والكتابي. ولا يسعني استعمال مثل هذه الصفة لتحديد مميزات فنية أو غيرها ماثلة في بعض الرواية العربية.
من طبيعة الرواية وهذا ما يظهر منذ رواية الخوري قابلياتها على القبول والاستيعاب، من جهة، وقابلياتها على التعين في النطاق المحلي، من جهة ثانية. فرواية الخوري تشير، في جانب منها، إلى تأثرها البين بنمط بعينه في الرواية الفرنسية، وهي تشير، من جهة ثانية، إلى أحوال بيروتية وغيرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، في لحظات اللقاء المدني بين مقيمين وأجانب.
- ما مدى تأثر الفن الروائي العربي بالفن الروائي الغربي؟
= للرواية العربية، في نشأتها، تأثر أكيد بالرواية الفرنسية خصوصاً. هذا ما يظهر في صنيع الخوري، كما سبق القول. وهذا ما يظهر في روايات جرجي زيدان التاريخية، التي تأثرت برواية ألكسندر دوماس، بروايات الحب والمغامرة والفروسية المسندة إلى خلفيات تاريخية معروفة.
ما استوقفني أكثر، في درسي لمرحلة البدايات، هو خلو الدراسات العربية الجادة من فهم هذا المكوّن التاريخي السردي، ما يجعل الدارس يتشكك من صلاحيتها.
- "وصية هابيل"، الرواية الأولى لك، لماذا لم تصدر قبل اليوم؟
= كان لها أن تصدر في صور مختلفة لو اتبعت كتابتها حسب المشروعات المختلفة التي تلبستها في أوقات مختلفة من حياتي. فبعض مواد الرواية يعود إلى أكثر من عشرين سنة، أثناء إقامتي في باريس، عدا أن مواد غيرها تفاعلت في مخيلتي وذاكرتي واتخذت أشكالاً متباينة بين فترة وأخرى.
صدرت الرواية حين صدرت، بعد أن ترددت طويلاً في نشرها. فهي تقوم على مبنى سردي أقل ما يقال فيه إنه غريب، غير معتمد في أي من الروايات، العربية أو غيرها. فهي رواية تقوم على الحوار من أولها إلى آخرها، ما يعد تجريباً خطراً: كيف لتقنيات الرواية أن تظهر في هذا الشكل الوحيد؟
 
- تحدث بعض الأقلام الصحافية عن أنها قراءة جديدة وحديثة لقصة هابيل، ما ردّك؟
= قول متسرّع اكتفى أصحابه بقراءة العنوان، أو صدر الغلاف الأخير، فيما تقع الرواية في صلب هوية الراوي، وفي الأيام الجارية. فهذا العمل هو أقرب إلى أن يكون من السيرة الذاتية، من دون أن يكون أميناً بالضرورة في نقل سيرة شربل داغر، عدا وجود متكلمين في العمل لا نعلم أيهما شربل من قرينه أو من توأمه أو من بدله أو من صوته الخافي، وغيرها من الصيغ السردية الممكنة. واعتماد مثل هذا التعدد في السيرة، وفي التكلم عنها، يشير من جهة خفية إلى صعوبة الاعتراف.
- هل يمكن اعتبارها خلاصة دراستك التاريخية والنقدية للرواية العربية؟
= يطلب مني الجواب نقداً لغيري، وإعلاء من شأن مسعاي في كتابة الرواية. هذا ما أتجنب الحديث عنه...
ما يمكنني قوله هو أن الحاسوب أداتي في الكتابة، أياَ كان نوعها. وأنا لا أقحم الحاسوب فيها عمدياً، بل السؤال البديهي هو: هل يعقل أن يبقى السرد بمنأى عن الحاسوب؟
عدت في روايتي إلى طرق كتابية متعددة يتيحها الحاسوب. عدت إلى الرسالة الإلكترونية، حيث أن القسم الأوسع من الفصل الأول يقوم على تبادل رسائل إلكترونية. وعدت إلى الدردشة الإلكترونية "التشات"، كما يسميه البعض وغيرها مما يسميه أحد المتكلمين في الرواية بـ "التكالم". وهي طرق كتابية لها أن تنوع الكتابة وتجددها، عدا أنها تتيح لعبة التخفي والظهور المختلف أو المؤجل. وهذا ما يناسب السرد نفسه في روايتي.
- ما علاقة الرواية بالسينما، خصوصاً أن الرواية تعتبر من أكثر الأنماط الأدبية تداخلا مع السينما، وعدد الروايات العربية والأجنبية وحتى اللبنانية التي نقلت إلى السينما كبير؟
= العلاقة قوية وأكيدة، في بلادنا وخارجها. ويمكن الحديث عن تواكل بين الرواية والسينما، حيث أن هذه استفادت من تلك، والعكس صحيح. هذا نراه في عدد الروايات المنقولة إلى الشاشة، ولا سيما في السينما الأميركية. كما نرى كذلك تأثر الرواية بتقنيات مأخوذة من التقطيع السينمائي. ولو طلبت مثالاً واحداً على ما أقول، لذكرت الروائي الأميركي الشهير وليم فولكنر الذي كتب للسينما، كما استفادت تقنيته السردية من السينما بدورها.لا يقتصر الأمر على هذه الجوانب، وإنما يتصل بطبيعة اللغة السردية واللغة السينمائية، حيث أنهما تعتمدان على المونتاج والتوليف.
- من جانب آخر، نجد أن الرواية تتبع في مشاهدها التقطيع السينمائي عند كثير من الروائيين، وماذا عن تجربتك في هذا المجال؟
= هذا يصح في تجربتي الروائية، حيث أن "وصية هابيل" ليست قابلة للمتابعة من دون وضع الحوارات فيها في سياقات زمانية ومكانية هي أقرب ما تكون لتقطيع السيناريو إلى مشاهد ولقطات. بل يمكن الذهاب أبعد في الجواب حيث أن الرواية - وهو منظوري لها - لا تستقيم من دون بناء مرئي، شديد التعيين المادي. وهو ما تجنبه السرد العربي القديم بعض الشيء، فيما يعول السرد الأوروبي عليه.
- تتكلم في "ترانزيت"، عملك الشعري الأخير، عن احتجاز مسافرين بمن فيهم ممثلون ومخرج في قاعة ترانزيت في مطار: ألهذا صلة بما حدث في مطار بيروت في أحداث ربيع العام 2008؟
= لا، لأنني كتبت هذا النص الطويل قبل وقوع الأحداث التي تشيرين إليها.
- أليس هذا ما قاله الدكتور مصطفى الكيلاني في كتابه عنك: "شربل داغر: الرغبة في القصيدة"، عن "الهجس بالكارثة"؟
= فعلاً، تحدث الكيلاني عن هذا، ابتداء من قصيدتين في مجموعة سابقة... وهو ما يمكن قوله في هذه المجموعة الجديدة. إلا أنني سأجيب عن سؤالك بسؤال: ألا يكون الهاجس شكلاً من الانهمام، من الاندراج في سياق يخصني ويتعداني...ما أعرفه هو أن الشعر لا يصوغ معنى، وإنما يتقلب ويتحرق في ما له أن يقول... حتى الاستيهامات لا مشاريع الوعي الصاحية للنفوذ التي يحمله البعض للقصيدة تكتب القصيدة.
- تعتمد الشكل الحواري، والكاميرا والحاسوب والشاشة الإلكترونية: أهذا شعر؟
= ألا ترين أنك تمسكين بنموذج سابق للقصيدة، فتسقطين سلفاً أساليب في الكتابة وتعلين من غيرها أو تصطفينه وحده؟ ألا ترين أنك قد لا تكونين طارحة أسئلة بل قاضية وحسب؟
- عملتَ على تصحيح اسم هذا النوع من الشعر: القصيدة بالنثر أو القصيدة نثراً. أهي هذه القصيدة كما ترى إليها؟
= أنا أكتب، ولا أوزع الجمل كما يوزع ساعي البريد طروده في علبها المنتظرة. أنا أكتب في اتجاه ما يسبقني وأعالجه. أنا أكتب ما له أن يستقبلني من دون استئذاني برفع بطاقة الهوية أو إذن المرور.
- يشتمل جوابك على نقد ضمني لهذه القصيدة كما تُكتب. أليس كذلك؟
= لو كان لي أن أكتب ما يكتبه غيري لانقطعت عنه، لما انصرفت إليه. يستوقفني، إذ أقرأ مجموعات الشعر المتتالية الصدور، كيف أنها متشابهة، كما لو أنها تصطف في تظاهرة أو في صيغ الامتثال، بينما يعنيني إذ أرى إلى نص كتبته ونسيته بين أوراقي وعدت إليه بعد وقت أن أكتشفه مثل نص لغيري، مثل نص أشتهيه على أنه لغيري.لا يسعني النظر إلى النص الشعري إلا مثل رحلة، مثل تجوال غير محسوب الخطوات والتوقعات.
- عنوان المجموعة الجديدة غريب: "ترانزيت"، ماذا جرى؟ لماذا؟
= هو غريب إن قورن بعناوين مجموعات سابقة عدت فيها إلى ألفاظ خارج الاستعمال، مثل: "رشم"، و"حاطب ليل" وغيرها. هذه السياسة في وضع العناوين تشير، في مثال بسيط، إلى كيفية تعاملي مع اللغة. فليست هناك ألفاظ مصطفاة أو مختارة، في حسابي، وتصلح للشعر من دون غيره، وإنما اللغة - اللغة كلها، بقديمها وجديدها - هي في تصرف الشاعر، في عهدته، أشبه بأصباغ اللون في عهدة التشكيلي.
- كيف لك أن تقرأ في أمسية ابتداء من هذه المجموعة؟
= الروائيون والقاصون لا يجدون صعوبة في ما يُقدمون عليه في قراءة علنية، فلماذا تكون للشاعر - ومهمته أسهل من هؤلاء على أي حال - مثل هذه الصعوبة؟! أقول هذا من باب افتراضي، ذلك أنني قلما اقرأ شعري، لا هذا ولا سابقه.هناك من يقرأ الشعر على أنه يسمعه واقعاً، طالما أنه يريد تسليم نفسه لمتعة أن تحمله الكلمات بصورها، برنينها، بمراكبها الخافية إلى حيث يسافر، فيما يحلو لي أن أكون قارئاً مختلفاً، مثل من يدخل إلى غابة: له أن يبقى يقظاً، ويرود فضاء القصيدة للمرة الأولى فعلاً.الصعوبة تكمن في توزع النص بين متكلمين متعددين. وهي ملاحظة تفيد كذلك في تبيان ما تقوله هذه المجموعة، وهذا النص بالتحديد، حيث أن الشاعر أي أنا لا يقوى، بل يمتنع أساساً عن أن ينسب قول المتكلمين إليه، وأن يتبناه كإعلان عنه. هو يتكفل بالأقوال كلها، طبعاً، ولكن بالمعنى الكتابي فقط، لا بالمعنى الاجتماعي.وما أردته من توزيع الكلام، أو من انتشاره بين متكلمين مختلفين، هو تحديداً ما قلته ابتداء من عنوان مجموعة شعرية سابقة: "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، فإنك قد لا تجد، بالمعنى المتعارف عليه، طالما أن الكلام يتوزع وينتشر، فيقول متكلم خلاف ما يقوله متكلم آخر، أو قد يتعين المعنى في تقليب له، يُظهر احتمالاته أو وجوهه التي تتشارك وتتنقل فوق خشبة القول. إذ أتحدث عن الضمائر، وعن توزيعها، أتحدث عن المسرح أيضاً. ولقد تنبهت مؤخراً إلى أن مسعاي في التمسرح ليس جديداً، لم ينتظم منذ مجموعتي الشعرية: لا تبحث عن معنى لعله يلقاك، وإنما قبل ذلك بكثير. ومن يطلب التدقيق في المسألة، سيجد في قصيدتي الأولى - "الاحترافية، إذا جاز القول - في "الملحق" الأدبي لجريدة "النهار"، في أيلول-سبتمبر من العام 1971، سيجد النص ينطلق أو يبتدئ ابتداءات تنبئ عن قولية صريحة، عن مخاطبة لا تشير دوماً إلى مكان صدورها، إلى تعينها، أشبه بانتقالات للصوت، لأصوات مختلفة في مدى القصيدة. ولو عاد المدقق إلى مجموعتي الأولى، "فتات البياض"، لانتبه إلى أنني وضعت في استهلالها قولاً شعرياً لا يرد في متن المجموعة؛ وهو قول أختمه بالقول: "وأنا الصوت، الصوت، الصوت".
من يتفحص أكثر من قصيدة في هذه المجموعة الأولى يتحقق من أنني أدخلت السرد، بل الجمل الحوارية بين متكلمين في بناء فني صريح لهذه القصائد.للقصيدة، في مثل هذا المنظور، أن تتدبر تشكلها، فضاءها التعبيري، من دون أن تحيل على شكل قالبي مستقر أو معهود.ومناسبة الجواب تتيح لي التوقف عند مسألة ملازمة لقولي هذا، وهي أننا ننساق غالباً إلى تنسيب القول إلى المؤلف، مثل شهادة أو اعتراف أو بوح، فيما أرى إلى الشاعر تخصيصاً، وإلى الكاتب عموماً، على أنه متعهد معنى إذا جاز القول، أي أن هذا هو ما يعمل عليه، وأن ما يكتبه هو ما يصل إليه ويثبته تحت توقيعه، تحت اسمه الفني أحياناً. ما يعنيني لو شئت الاختصار هو المعنى نفسه، لا أنا.
- وماذا عن اللفظ؟ أهو لقيا أثرية تعثر عليها، كما تقول في قصيدة لك؟ وما علاقته بالمعنى والمبنى في النص؟
= طبعاً اللفظ لقيا أثرية، طالما أنه يسبقني بما يحمله ويذيعه، وهو يكتبني ويقيمني في بنيان القصيدة بمنأى عني تقريباً. فأنا، في اللفظ، محمول على أجنحته الطرية، وفي ذلك أكتشف القصيدة أكثر مما أكتبها. ذلك أن اللغة تحملنا كما تستقبلنا.
- أين حياة شربل داغر وتفاصيلها في المجموعة الشعرية؟
= هي فيها بما لا أقوى على عرضه، وإن رغبت أو سعيت إلى ذلك. هي فيها بما يتعدى هذه الواقعة أو تلك، هذا الانفعال الحادث أو ذاك. هي في الرغبة التي تتملك أسباب القول، طالما أنها أسباب تعمل على دفع الموت بالضرورة، وعلى نصب خشبة أخرى للحياة، وما بعد الحياة كذلك. هي فيها طالما أن الشعر احتفال بالحياة، من حيث لم تكن ربما، ولن تكون. احتفالٌ وإن هو مبلل بدمع الفقدان.- تشدد في أحاديثك على أن "الكتابة تجربة": ماذا تقصد؟= يحلو لي الحديث عن أن الكتاب تجربة، وأنه عمل قيد التقدم. وهو تركيب لفظي يمكن نقله أو صياغته وفق أكثر من صيغة، كأن تقول: نص قيد الكتابة، عمل قيد العملان، أو لوحة قيد التشكل، وغيرها بما يفيد عن أن العمل ليس تدويناً، ولا تقييد حالة أو فكرة وغيرها؛ وأنه بالأحرى عمل يتعين في جريانه، في حصوله، بما يقدم لكاتبه أحوالاً ومقترحات ، فيحتفظ منها أو يشطب، ويعدل أو يحيد بما يعمله صوب وجهة أخرى...
وهي تجربة كتابية بالتالي تذهب فيها القصيدة إلى حيث لم تعرف الحياة، بدليل أن الكاتب، روائياً ومسرحياً، لا يعرف جميع الشخصيات التي تناولها في كتابته.وهو ما يدفع ببعض النقد الحالي إلى اعتبار الناقد بمثابة القارىء، طالما أن الناقد لا يقوى على استقبال النص إلا وفق مقدراته، وهي مقدرات - وإن فاقت مقدرات القراء الآخرين، أي غير المحترفين - مقيدة باحتمالات المعنى التاريخي بالضرورة. لهذا لا تخرج القصيدة عن أفق المعنى، وإن لم يقرأها أحد.
("اللواء"، عَمان، 11-8-2009).