تحمل هذه الرواية أكثر من مفاجأة للقارىء العربي. أولها مفاجأة الكشف عن كاتبة، أناندا ديفي، لم تعرف سبيلها، قبل هذا الكتاب، إلى المكتبة العربية. وهو الكشف أيضاً عن أدب الجزر ذي الصفات الخصوصية. وثانية المفاجآت هي الكشف عن رواية ذائعة الصيت في اللغة الفرنسية، وذات نبرة "نسوية" لافتة ومميزة. لهذا كانت ترجمة هذه الرواية أشبه برحلة عامرة في المحيط الهندي كما في المحيط الإنساني، في إرث الجذور وثمار الأغصان، في خبايا الجسد وتدافعات القول.
---
هذا الكتاب، بداية، يعود إلى "مواطنة في العالم" (وفق العبارة الفرنسية المأثورة). هذا ما يحرك الكثيرين من أبناء الجزر، مثل أناندا ديفي من جزيرة موريس في المحيط الهندي، إذ يدفعهم دفعاً طبيعياً صوب اللقاء بالغير، أو يجعلهم عرضةً لغزوات الغير. هذا بعد أن اجتاحت أساطيل الدول الكبرى البحار والمحيطات، وبحثت عن "مواطىء قدم"، عن نقاط اتصال، في خطوط سيطرتها الدولية. فقد وُلدت ديفي في الجزيرة، ودرست وتزوجت في لندن، وأقامت في فرنسا، هي وعائلتها، فيما تعمل في جنيف. وقد تكون صورة سكنِها - عملِها دالةً على ما هي عليه في أدبها: تعمل في منظمة دولية في جنيف (السويسرية)، وتقيم في مدينة فرنسية لصيقة بها، فيرني-فولتير، المدينتين اللتين تتلامسان في الحدود. أما في أدبها فهي تقيم تماماً على الحدود، حدود أنواع الأدب المختلفة، إذ تتعايش في كتبها اندفاعات الشعر الباطنية مع معاينات العين الفاحصة. هذا ما يتضح في كتبها، سواء في الشعر أو في اللرواية، كما يتضح في ثنايا كتابتها، بل في أمواجها الداخلية. هذه الإقامة على الحدود تجعلها تقيم في السفر: السفر الجغرافي، السفر الكتبي، والسفر النفسي.
اتخذت أناندا ديفي من الجزيرة شاطئاً للترحال، من دون أن تتناسى جراح الاستعمار في أقدام الساعين من أهلها صوب فجر كراماتهم. شاطىء للانتقال في الجغرافيا، في التاريخ، في النفس، وفي المرأة خصوصاً: بوصفها مراهقة ترى إلى الحياة من خلف زجاج سيارة أبيها، أو تعيشها مع أشعة الشمس الحارة، وبوصفها زوجة صابرة، وأماً حانية، وامرأة متفردة. وهو سعيها إلى أن تكون ذاتها، من دون قشور أو أقنعة. ولقد كانت روايتها هذه أصعب الأسفار لها، إذ اقتضت منها - جغرافياً ومكانياً – الانتقال من بيتها إلى غرفة في فندق على مسافة أمتار منه. إلا أنها اقتضت منها – نفسياً وانفعالياً – الإبحار في عتمة الجسد، في ليل الرغبة، في البحث عن كيانها المفقود، والساكنٍ فيها.
في هذا لا تروي أناندا ديفي بقدر ما تعترف، لا تسرد بقدر ما تبوح، في سرد يقيم علاقة شفافة بين الأدب والحياة. وهذا ما يتضح في ما تعيش، في ما تكتب، من دون أن يتبين مقدار الشهادة الشخصية من مقدار التخيل السردي. إذ إن في لغتها، في بناء جملتها، في نبر الكلام، ما يجعل الانفعال صادقاً، عابراً لمسام الحروف.
الكتابة بحد السكين، إذا جاز القول. عما ينغص العيش اليومي، عما يجعل الحائط الفاصل بين الزوج والزوجة، بين الأم وابنها المراهق، أبعد من جزيرة نائية، وأعمق من محيط. الكتابة عما يخفى ويعمل فينا، عما يخرج منا بفجاءة عنيفة، فننكره فيما يسحب أعصابنا من جلدنا.
إلا أنها لا تسرد أحياناً إلا بمقدار ما تقرأ، ما تجد في كلمات غيرها من عزاء أو تفسير. هذا ما يفسر الشواهد والإحالات العديدة إلى كُتاب وكاتبات من بلاد وثقافات ولغات متباعدة. إنها مكتبتها الخاصة، بل كتبها التي تبقى لصيقة سريرها، أو إلى جانب حاسوبها النقال. كُتب، بل كُتاب بمثابة رفاق، وعشاق شرعيين، وأحبة في وضح النهار كما في عتمة الكتابة. إنهم يحيطون بها مثل نعمة مفقودة، مثل ساعد طري... ولا ينقطعون عنها أبداً، ولا يتشاجرون معها قط.
إنهم "يحادثونها"، لدرجة أنها لا تميز تماماً بينهم وبين رجال في حياتها. ذلك أنها تعيش في الكتاب، في كتابها، في كتب غيرها، أكثر مما تعيش أحياناً في الحياة نفسها.
الرواية هذه، قبل أن تكون قطعةَ حياةٍ موجوعة، كتابٌ في مدح الكتب، في محبة الكُتاب، في الخيط الفاصل – الواصل بين الكلمات: خيط الرغبة في الحياة.
تتوجع أناندا في ما تعيش، وتفرح في ما تكتب. خصوصاً وأنها تبقى حيية، خفرة، كتومة أحياناً في ما لها أن تسرده، أن تعترف به، أن تلقيه على غيرها مثل عقاب أو شتيمة. إذ تبقي لنفسها الوجع، وتجرده في فكرة منفعلة ليس إلا.
تبقى أناندا زوجة وأماً في كتابها، حتى حين تنفصل عن زوجها، وعن ابنَيها، في الحياة نفسها. تبقى ثورتها "داخلية"، إذ لا تقتصر في الخارج إلا على أفعال محدودة، قد يكون أعلاها وأصعبها: مغادرة المنزل الزوجي.
هي مثل شهرزاد بمعنى من المعاني: تروي لكي تنقذ حياتها؛ تروي لكي يكون للحياة – المنكسرة – معنى.
---
نقاد كثيرون يعتبرون آناندا ديفي مثل "نجمة" الأدب في جزيرة موريس، بل في المحيط الهندي، وقد أصدرت أكثر من خمسة عشر عشر كتاباً، بالفرنسية، بين روايات وقصائد، وفاز بعضها بجوائز أدبية مرموقة. إلى ذلك، حصلت شهادة الدكتوراه في علم الإناسة (أنتروبولوجيا)، وانصرفت مهنياً إلى الترجمة. تقيم في فرنسا، وتعمل في جنيف، في "المنظمة العالمية للملكية الفكرية"، وتقوم بترجمة شهادات "البراءة العلمية" من الفرنسية إلى الإنكليزية، وبالعكس. وهي قد عاشت في بلدان مختلفة، فضلاً عن أصول إتنية متعددة، ومتقاطعة في سيرتها.
من مواليد العام 1957، يعود أسلافها إلى الهند، وجرى استقدامهم من قبل الإنكليز للعمل في جزيرة موريس، حيث ولدت، وعايشت بلوغ الجزيرة استقلالها، وهي في الحادية عشرة من عمرها. شرعت في الكتابة منذ سن مبكرة، بالفرنسية، منفتحة ومغتذية من مصادر مختلفة، مثل: اللغة الخليطة المعروفة بـ"الكريول"، والموسيقى الهندية، ولغة "التيلوكو" المعروفة في جنوب الهند (والتي أخذتها عن أمها). انتقلت إلى لندن في الدراسات العالية، حيث حصلت شهادة الدكتوراه في علم الأناسة (أنتروبولوجيا)، كما تزوجت فيها من والد ابنَيها، المتحدر بدوره من الجزيرة نفسها، والذي يعمل في إخراج الأفلام الوثائقية، في "منظمة الصحة العالمية".
إلى جانب هذه الحياة الدراسية والعائلية، انصرفت آناندا إلى القراءة الأدبية، وكان لـ"ألف ليلة وليلة" أثرها الكبير في نشأتها الأدبية، على ما قالت في أكثر من حديث صحفي وإذاعي. فقد قرأت، وهي في العاشرة من عمرها، هذا الأثر العربي الفريد، وتبينت فيه أن في إمكان المرأة أن "تعيش من أجل أن تكتب"، مثل شهرزاد، التي أنقذت حياتها بالقص: "امتلكتُ حرية في القول لم تكن لأمي. حين أكتب، أشعر بأن أجيالاً وأجيالاً من النساء تقرأ ما أكتبه، إذ أكتبه، واقفة وراء كتفي"، حسب قولها. وتضيف، في معرض حديثها عن هذه الرواية: "هذا الكتاب، صنعته من أجلهن".
نشرت ديفي عملها الأدبي الأول، وهي في التاسعة عشرة من عمرها، ثم نشرت الأعمال التالية: "وزن الكائنات" (1987)، و"شارع مخزن البارود" (1988)، و"شراع دروبادي" (1993)، و"نهاية الأحجار والأعمار" (1993)، و"الشجرة-السوط" (1996)، و"أنا، الممنوعة" (2000)، و"طُرق الرغبة المديدة" (2001)، و"باغلي" (2001)، و"الرغبة المديدة" (2003)، و"حياة حوزفِن المجنون" (2003)، و"تانغو هندي" (2007)، و"الساري الأخضر" (2009)، و"الرجال الذين يحادثونني" (2011) وغيرها.
هذه الرواية الأخيرة حازت نجاحاً أدبياً كبيراً بمجرد صدورها، وفازت بأكثر من جائزة، وهي أول مترجم للكاتبة إلى العربية. فماذا عنها؟
تقوم الرواية على خيط سردي بسيط: زوجة تنفصل عن زوجها وابنيها الشابين، وتقيم في فندق بالمدينة عينها التي تقيم فيها العائلة. ويتوزع السرد بين قسمين، إن جازت القسمة: بين ما يسبق الانفصال، وبين ما يتبعه. وهو عمل يقوم على التذكر والاستعادة بقدر ما يعاين لحظات حية، على أن التنقل السردي يجري في بواطن النفس، في جغرافيتها السرية، أكثر مما يجري في الجزيرة ولندن وفيرني-فولتير وبيروت وكندا وغيرها.
تتحدث المتكلمة في الرواية (كما يقول عنوان الرواية) عن الرجال الذين رافقوها في حياتها، مثل أصدقاء حميمين. تتحدث عن زوجها وولدَيها، وعن أديبات مثل: فرجينيا وولف، وتوني ماريسون، أو عن أدباء مثل وليم فولكنر أو إيمي سيزير وغوستاف فلوبير ورومان غاري وغيرهم. هم الذين صاحبوها ورافقوها مثل أصدقاء أو أقرباء لا تعرف معهم الخيانة أو التلكوء أو سوء الأمانة. ذلك أنهم "ربوها" بدورهم، مثل والدَيها أو أجدادها، كيف لا وهي عاشت في الكلمات والكتب مقدار عيشها قرب الشاطىء أو البحيرة، أو في سيارة "الفولزفاغن" لوالدها، التي كانت ترى من خلال نافذتها وتدون فوق دفترها الصغير. يبقى أن أشير إلى أن الروائية تورد في الرواية مقطعاً من شعر محمود درويش عن بيروت "نجمتنا" و"خيمتنا".
تقوم المتكلمة في الرواية بما قامت به "شخصيات" نسائية عديدة في روايات آناندا ديفي، أي: مغادرة البيت بعد طول صمت وكبت. تقول الروائية: "لطالما أعدت النظر في كياني... لماذا أنا امرأة صامتة في الحياة اليومية، فيما أنا، في الكتابة، أكتب من دون خشية من أي كان".
لهذا أمكن القول بأنها رواية "نسوية"، تقول المرأة في صمتها، في حبلها، في جراحها الكتومة، على أنها شهرزاد التي تجرأت على القول، على سرد الأليم. كيف لا، وهي "تقشر شخصياتها مثل بصلة" في مطبخ الكتابة، حسب قولها.
(مقدمة "الرجال الذين يحادثونني" لآناندي دايفي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2013).