جرت العادة أن يكتب أحد الفاعلين في حقل من حقول الفنون أو الثقافة أو السياسة أو أي مجال آخر مذكراته، لتكون مادة تستقى منها العبر، تقدم خطوطاً عريضة، بالموازاة مع تفاصيل دقيقة عن حياته، ينقب في مفاصل حياته الهامة، ينبش في التفاصيل، لا يتنازل عن إثارة الأسئلة، بحثاً عن الإجابات الجريئة، والاعترافات الخطيرة. لكن هناك عادة موازية تصاعدت في عالم الأدب، وهي الرواية المتكئة على السيرة الذاتية، أو السيرة المتخفية تحت تسمية الرواية.
لا يخفى أن العلاقة بين الرواية والسيرة الذاتية، ظلت مثار جدل بين كثير من الكتاب، بين مؤمن بوجود تعالق بينهما، إلى مفترض فك الارتباط بينهما، إلى موفق في العلاقة التكاملية. لكن الثابت أن الروائي متواجد في شخصياته كلها، يعيشها وهو يخترعها ويكتبها، يستعين بسيرته الذاتية وثقافته ومكتسباته الحياتية في تفكيرها وتحريكها، بحيث يكون له وجود متوار مذوب في عوالم شخصياته دون الجهر بذلك.
كما تنشط ثيمة روائية تكاد تغدو عادة رائجة، وهي تسمية الروائي شخصيته الرئيسة، بطله الأوحد، باسمه، ما قد يُوهم أنه يكتب سيرته الشخصية، دون أن يكون ملزماً بتقديم إجابات أو إيضاحات، يرتاح للبس والإشكال والإيهام، ربما يكون ذلك من دافع إثبات الأهمية وتمثل البطولة، سواء كانت تلك البعيدة أم تلك التي كانت في متناول اليد.
قد يكون التجنيس قلق الكاتب، لأنه يحدد الخانة التي ينتوي التقدم بها، حصراً أو تعميماً. ولعل الرابط الأبرز بين الروايات المتكئة على السير الذاتية اعتمادها على راو متكلم، عليم وحيد أليم، ناطق بائح، مطلع على الكيفيات التي أديرت بها المصائر ورتبت. الروايات المعتمدة على السير حفريات في الذاكرة، تنقيبات أدبية في بحور الآلام. ولا شك أن كل رواية تحمل شيئاً من سيرة كاتبها، بطريقة أو أخرى، فلا يعقل ألا يتسرب شيء، أو أشياء، من ذات الكاتب إلى عمله، وهذا التسرب يحمي الرواية بقدر حماية الروائي، لأن تمرئي الذات من ممكنات التهدئة. كما أن التسلل إلى السيرة الذاتية من بوابة الرواية سياج حام للروائي ولروايته. تحصين للرواية من منزلق السيرة والمذكرات التي تحمل الفرض والوصائية والتمركز، وحصانة للروائي الذي يتقدم صك براءته مع الرواية، فلا يكون هناك احتمال مساءلة أو مقاضاة، بل تكون المكاشفة ملازمة للتحرر، منعتقة من قيود التاريخ، وهاربة ومموهة لاقتفاء القارئ الرقيب.
وقد كتب الكثير من الكتاب جوانب من سيرهم، محطات مهمة مفصلية استوقفتهم، كسليم بركات الذي كتب سيرته في كتابيه "الجندب الحديدي" و"سيرة الصبا"، كما كتب محمود درويش بعضاً من سيرته في كتابه الأثير "ذاكرة للنسيان", فكان، وهو يوثق ذاكرته، يلقي بها في مهب التوثيق، مداوراً بطريقته الشاعرية، معرضاً إياها للنسيان المخلد غير القابل للنسيان. ويحضر تحت توصيف الرواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، الذي كتب نص السيرة الذاتية، متمتعاً بجرأة مغامرة، وهو يكشف الكوارث المتفشية، وما عاشه وعاناه من جوع وحرمان وأسى وتهميش (...).
قد يشطر الروائي ذاته ذواتاً متعددة، يروي سيرها مدموجة ومدغومة في سيرته، كحالة اللبناني شربل داغر في روايته "وصية هابيل"، التي غاص فيها إلى عالمه الداخلي، يقول هابيلـ:(ـه) وقابيلـ:(ـه)، إذ أن دم كليهما ينبض في عروق كل بني آدم، على الرغم مما يقال عن أن السلالة البشرية هي سلالة قاين، أما هابيل فلم يسعفه قدره أن يخلف أبناء يخلفونه، بل تراه خلف صفاته التي انتقلت إلى سلالة أخيه، فكان أن أصبح الإنسان جلاداً وضحية في آن، وبقي وفياً لجيناته المتوارثة. استجاب لقاين في داخله، ولم ينس التعاطف مع هابيلـ:(ـه). وكل ذلك من خلال أخذ ورد لا ينقطعان طوال الرواية: بين الوافد الذي قد يكون صحفياً، أو قريناً للراوي المتوحد مع الروائي نفسه، فيكون التحاور حول أمور كثيرة يتكاملان في الإحاطة بها وإبانتها.
يسهب داغر في الحوار البيني، حيث الاعتماد على الجمل القصيرة، وتبادل المتحاورين، دون أن يسميهما، بل كانا شربل داغر نفسه، وذلك عندما يبدأ بداية من رسائل يتلقاها من مجهول هو هو نفسه، يبدأ التلاقي بينهما ثم التكالم. أحدهما يسجل ويسأل، والآخر يجيب ويسأل أيضاً. أحدهما يترجم والآخر يدون. كلاهما مترجما حياة ووقائع. أحدهما يستدرج الآخر إلى نزال الذكريات والرؤى المنداحة، حيث تكون السيرة الذاتية محور الرواية، وكما يرد على لسان الراوي: "السيرة رواية مختلقة، وأنا لا أحسن كتابة الرواية...". قد يكون في هذا القول تهرباً ما من استحقاقات معينة، وقد يكون تبريرياً أو تواضعاً، لأنه وهو يقول ما يقوله، يكتب رواية السيرة، أو سيرته رواية. لكن القصص لا تكتمل إلا بسؤالهما وجوابهما معاً، فكلاهما يعرفان تفاصيل ما يرويانه تماماً، من خلال النبش في الذاكرة، حيث ينير حديثهما الدهاليز المعتمة فيها، وفي الماضي، يقلب في أوراق الزمن. يحلو لهما الرضوخ للعبة تبادل الهواجس، حيث لا يتحدد مسار السرد، يتفرع هنا وهناك، ولا يعود للتكالم بينهما وجهة محددة. من خلال الغوص إلى النفس، الوصول إلى الدواخل، تكليمها واستنطاق المخبوء فيها، ويأخذ الحديث بينهما، بين ذينك الساكنيْنِ فيه، سبلاً مختلفة، يبدأ من الحنين البادي إلى الصور القديمة، إلى الأزقة والمنعرجات والزواريب، إلى "النملية" و"الأوتومتريس"، وإلى الهواء الذي يسبقه إلى خطواته، والذي كان يداعب جبينه عندما يستلقي في ظلال شجرة الحور، وإليه وهو يحمله عبر المسافات مثل طائر. ثم يقع الروائي في فخ ينصبه لقرائه وذلك في نهاية الرواية، عندما يقدم شيفراته على طبق من تسهيل، في قوله: "أنت وأنا لسنا اثنين: واحد يسأل والآخر يجيب، واحد يتكلم والآخر يتكلم أيضاً. أنا وأنت: نتقدم الواحد في اتجاه الآخر". وكذلك عندما يصف نفسه المنقسمة اثنتين، كالقطار الذي يسير على سكتين. ثم يختم بأسئلة لا تنتظر الأجوبة، وكأن هناك حالة تيه قادمة، أو حالة وحشة ووحدة لا يطيقها. فيبدأ الاستنجاد بقسميه والبحث عنهما، عندما ينادي: "أين أنتما؟ أتتركاني أقف وحدي في هذا لبياض الحالك؟ لعلهما توجها إلى غيري". كما قد يتبادر إلى ذهن قارئ الرواية أن كاتبها يلهج في الحديث عن ذاته: يتبدى ذلك في الإكثار في الاستشهاد باسمه، أو قصيدة له، أي كأنه يُمحور كل ما يتعلق به، بينما يجعل من كل ما يحيط به دائراً في فلكه، مهيئاً له أرضية تريحه، أو تعظمه. يأتي تصريحه الأكثر لنفسه، في أحد حواراته، الذي هو مماحكة من خلال التلاعب بالضمير، وهو مسارة ومجاهرة في آن، يكون في تمشيه الليلي والبوح بما يعتمل في داخله مع تحاشي النظر إلى الوجه، وكأنه في ذلك يطبق وصية لعلي بن أبي طالب يقول فيها: "لا تطلبن حاجة ليلاً فإن الحياء في العين". وكي لا يكون هناك مجال للتدقيق في ملامح الوجه، التي تتغير بحسب المنقول، وبحسب الصدق والكذب فيه، لذلك نلحظ أنه يقال لمن لا يُوثق بكلامه: "ضع عينك في عيني"، للتأكد من مصداقية ما يقوله، حيث العيون فضاحة، والوجوه وقسماتها أكثر فضحاً ووشاية منها. فتتجلى في البوح بصور ملتبسة، غامضة، ملفقة، مختلقة، ولا يطلب من أحد أن تكون مصدقه، لأنه واثق من صدقها، أو لا حاجة به إلى غير ذلك (...).
يكتشف القارئ كماً كبيراً ممن لجأ إلى تضمين سيرته بين دفتي رواية، مستمتعاً بما توفره له الرواية من حرية وانطلاق، من تحرر من أي مساءلة، وتخفف من أي مسؤولية واقعية، أو تبعة محتملة، ملقياً بالسيرة إلى عهدة الرواية، متوارياً خلف عالم الرواية الرحب، ليُحيي سيرته، ويكسيها بلبوس رواية، ليُكسبها بذلك ديمومة منشودة. وبهذا تغدو سيرة الروائي هيكل الرواية في مثل هذه الحالات، يؤثثها الروائي بما يتوافق مع تصوراته واجتهاداته ورؤاه.
السيرة ما تزال في عهدة الرواية، التي تحتضنها وتعاود إطلاقها بشيء من التحوير والتزويق. الرواية ما تزال موكلة السيرة، الناطقة باسمها. ولكن، هل ستبقى الرواية ناهلة من السيرة، متجنية عليها؟ هل ستبقى السيرُ روايات راعفة، مُبهجة وأليمة في آن؟ هل سنشهد سباقاً بينهما أم ستظلان توأمين سياميين، تفريقهما عن بعضهما بعضاً قد يُودي بهما معاً، أو بواحدة منهما على الأقل؟
(المجلة العربية، يوليو 2011).