يعدّ مفهوم النصّ في الوقت الحاضر من أكثر المفاهيم أهمية على الساحة اللغوية والأدبية. ويأتي هذا الاهتمام بالنص إثر اقتناع علماء اللغة بضرورة تجاوز الدراسة اللسانية للجملة، الموضوع المفضّل لدى البنيويين، وإخراج الدراسة الأدبية من الإطار الشكلاني الذي طالما انحصرت فيه.
يعتبر علماء اللسانيات أن النص لا يعرّف فقط بتوالي أو تسلسل عدد من الجمل (وهذا ليس حتمياً)، ولا يعرّف كذلك بأنه وحدة لغوية تتجاوز مستوى الجــملة، وإنما يــعرّف بأنّه «وحدة لغوية في الاستعمال»، وهو ما يقتضي أن يأخذ في الاعتبار ارتبــاط النص بسياقه (مقام التلفّظ، ومرجعية الخطاب). ويؤكّد هؤلاء في هذا المجال ضرورة مراعاة البعد التداولي للنص، وذلك انطلاقاً من أن لكل نص رسالة معيّنة يريد الكاتب إيصالها إلى القارئ أو المتلقّي؛ ويضيفون أن أحد معايير الحكم على النص بالقبول، هي مدى ملاءمته للسياق الذي يرد فيه. وعليه، فإلى جانب العلاقات الداخلية للنص، هناك علاقات أخرى تنسج بين النص ومحيطه المباشر، وغير المباشر. من هنا، فأي فصل بين العلاقات الداخلية والعلاقات الخارجية التي يقيمها النص، يؤدّي إلى العجز عن إثبات الوحدة الكلية، أو التماسك والانسجام الدلاليين للنص.
ان اهتمام علماء اللسانيات بسياق النص حملهم على معالجة علاقة النص بشيء وافدٍ إليه من محيطه يعبّر عنه بظاهرة «التناص»، إذ لا يوجد نص يخلو من حضور أجزاء أو مقاطع من نصوص أخرى. وأبرز أشكال الحضور هو الاقتباسات والأقوال التي عادة ما يستشهد بها الكاتب. ذلك أن كل نص يمثّل فضاء تلتقي فيه نصوص عدة، بما تتضمّنه من رؤى فكرية وحضارية مختلفة، يحكم الكاتب مزجها بطريقته الخاصة، فيشكّل بذلك نصاً منسجماً متناسقاً، يحمل معاني خاصة به ومميّزة عن النصوص الأخرى. لذلك كان تساؤل البعض: هل الكتابة انبثاق من صميم الذات، أم هي إبداع متولّد من أشتات الغير، أم هي مزيج من هذا وذاك؟ بكلام آخر، كل أسلوب في الكتابة، لا يخلو من سجالات أسلوبية مع كتّاب متعدّدين، ويفسّر ذلك في أن الكاتب يعيش وينمو في محيط مملوء بكلمات الآخرين.

التغيرات البنائية
يمهّد هذا الكلام في الاقتراب من منهج الناقد الاكاديمي والشاعر شربل داغر في كتابه الصادر بعنوان «الشعر العربي الحديث – كيان النص»، وهو كتاب يدرس التغيّرات البنائية في القصيدة العربية لجهة أبنية النحو، وأبنية الوزن، وأبنية المعنى. يرتكز منهج الكاتب على مكتسبات اللسانية البنيوية والتداولية والتناص. وهذا ما يتبيّنه القارئ من خلال دعوة الكاتب إلى التنبّه في درس النص الشعري إلى ما «يَعبر» النص، ويتشكّل في أبنيته اللغوية المختلفة، ذلك أنه لا يتعيّن في مثوله، في حدوده الداخلية وحسب، وإنما يتفاعل كذلك طوعاً، أو من دون قصد، مع نصوص مزامنة له، أو سابقة عليه، وفق مقاصد، وأشكال مختلفة. ودعوة الكاتب أيضاً لمعاينة النص الشعري لجهة تداخله مع غيره، مما يستدعي الانتباه إلى قصد النص، أو «نيّته» وفق عبارة ابن رشيق. ذلك أن النص لا يؤلّف واقعاً لغوياً محايداً، وإنما هو فعل تخاطبي سياقي بالضرورة، يرتبط بغيره من نصوص عربية وأجنبية. هذه المعطيات المنهجية كانت الوسائل التي اختارها الباحث اللبناني، ليقرأ من خلالها قصيدتين شهيرتين الأولى هي: «المساء» لخليل مطران، والثانية هي: «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب.
لقد اتضح للباحث في درسه التشكلاّت في مستويات القصيدتين المختلفتين، وجود مسار متصل ومتقطّع بين لحظتي القصيدتين. وهو مسار حمل من جهة استكمالاً وتتابعاً لما كان قد تجلّى في تشكّلات «القصيدة العصرية»، أي ما يمكن اختصاره بالخروج المتعدّد والمتنوّع من عهد العمود الشعري القديم، كما حمل من جهة ثانية انبثاقات جديدة، باتت فيها القصيدة المتأخرة بعيدة الصلة والشبه بما كان عليه الشعر العربي، ليس في قديمه وحسب وإنما في «الشعر العصري» ايضاً. وفي التخصيص، ففي دراسة قصيدة «المساء» لخليل مطران تنبّه الدارس إلى خروج القصيدة من «النوع» الشعري نحو جديد تأليفي غير مسبوق، تتنزّل فيه المضامين من بيت شعري إلى آخر، لكنها تتمدّد أيضاً في القصيدة كلها، بما يبني معنى موصولاً أو موضوعاً جامعاً وبانياً للقصيدة. وهو موضوع ينبني تبعاً لمنظور الشاعر وحاجاته في التعبير، مقيماً صلة لافتة بين القصيدة والعالم، وبين الشاعر والطبيعة؛ وهذا ما عنى، في واقع العمليات التنصيصية توافقاً أحياناً بين المستويات، وتبايناً أو تجاذباً أحياناً أخـــرى بينها. أما دراسة «أنشودة المطر»، التي صدرت بعد خمسين سنة على قصيدة مطران، فسمحت بالتعرّف على تغيّرات أخرى، إذ بدت هذه القصيدة أبعد صلة بما كانت عليه صلة قصيدة مطران بسابقها وظهر انبناء جديد للقصيدة في «أنشودة المطر»، ما دّل على كيانها المخصوص والمختلف عن سابقه، وعن غيره من القصائد المزامنة لها. وهذا ما ظهر في انتهاء عهد البناء الوزني المتناظر لمصلحة السطر؛ وهو سطر متفاوت الطول نحوياً ووزنياً، ويقطع مع مبدأ وحدة البيت القديم، ويقيم أشكالاً مختلفة من التمدّد النحوي والوزني بين وحداته المختلفة.

القصيدة بوصفها نصاً لغوياً
يلاحظ الكاتب إثر قراءته للقصيدتين أن حديثه عن «كيان النص» له مبرّراته في ضوء المنهج الذي يجري البحث من خلاله. فقد تبيّن له أن مقاربة القصيدة بوصفها نصاً لغوياً وضمن حدوده الداخلية، حاجة لازمة للدرس، وخصوصاً لتشكّلات القصيدة، إذ لم تعد مقاربتها من خارجها، مما يسبقها كما اعتاد النقاد العرب القدامى على مساءلتها، وإنما باتت القصيدة تحتاج إلى ما يساعد في استجلاء بنائها المخصوص، بيتاً بيتاً وسطراً سطراً، وفي بنائها العام. ذلك أن النص الشعري قابل لاحتمالات بنائية وتركيبية واسعة ومتحوّلة بدورها. وهذا ما جعل الباحث اللبناني يبتعد عن «العمود» و «النوع» وعن النماذج المعهودة، وعن المعاينات البلاغية الجزئية وعن الأغراض والفصول.
إن خروج القصيدة من لزوم «النوع» وبناء «الموضوع» يشير إلى أن المعنى بات يتشكّل من مصادر متنوّعة، ثقافية ومعيشية فردية واجتماعية، ويتكوّن من مدارك ومشاعر وتطلّعات وميول، ومساعٍ في التأليب والحضّ والتحفيز وغيرها، الأمر الذي جعل من القصيدة «صنيعاً ثقافياً»، وكشف عن علاقات شفّافة بينها وبين محيطها الخارجي بأوجهه المختلفة. كما تبيّن للمؤلف أن الشاعر يطالب بتحديد جديد لهويّته، وموقعه أبعد قليلاً من الخطيب، أو المُلهم، لمصلحة صيغ أخرى من الإعلان التوكيدي عن النفس. فالمنبرية التي صالت وجالت في أيام زاهية في العقود العثمانية المتأخّرة، ما لبثت أن تداعت وتراجعت لمصلحة تواصلية مختلفة، قد تكون «نجومية» جبران خليل جبران الباكرة إحدى علاماتها. كما أن الخطابية التي كانت تجعل من القصيدة مناسبة تحوّلت إلى قصيدة عن الحزن الشفيف والسخرية والمفارقة الضدية والأحلام التي لا تنتهي.
إذا مضى زمن ولم نقرأ فيه دراسة جادّة حول الشعر العربي الذي لطالما اعتبر «ديوان العرب»، فإن دراسة شربل داغر جادة بكل ما للكلمة من معنى التمكّن من مكتسبات اللسانية للحفر تحت المعتاد، والكشف عن المغيّب، والتحليل المضيء لحال الشعر وأحواله.
(جريدة "الحياة"، بيروت، 4-4-2014).