قبل أن نعمد إلى مناقشة أهمّ القضايا التي تطرّق اليها كتاب «كيان النص» لشربل داغر (دار منتدى المعارف)، لا بدّ أن نعرض ولو بإيجاز لما انطوى عليه العمل النقديّ اللافت. بداية، يستهلّ الباحث شربل داغر كتابه بـ«مدخل» رسّخ فيه أهمّ منطلقاته الإبيستمولوجية والنقدية؛ إذ اعتبر الخوض في مسألة «النص» مندرجا في سياق نقديّ عام يهجر التفكيكية النامية إلى درّيدا، أو ينأى عنها بأحسن الأحوال، إلى اتجاهات نقدية تتصالح مع محيط النص (التاريخ، السيرة..)، باعتباره اللسانية البنيوية جزءا من التاريخ، أو أحد الخيارات النقدية، لا الخيار الأوحد. أما المنطلق الثاني فهو اعتباره «الشعر» منتمياً إلى عالمٍ ونتاجَ سيرورة اجتماعية وثقافية، وليس منقطعا البتة عن إطاره أو بيئته بخلاف ما صوّرته البنيوية، وعملت على تظهير مادّيته التدوينية المحضة، مقطوع الصلة بكاتبه أو بمن أوحى له بموضوعه أو بأسلوبه. وفي السياق عينه، يطلق الباحث منطلقه الثالث وهو أنّ للشعر معنى يفترض بالدارس والمحلل أن يكشف عنه، رابطا إياه ـ ثانية ـ بإطاره التاريخي الذي صدر عنه، ويحوط ذلك المعنى في حدوده المعقولة. وكان في ذلك محقّا، بإحالته إيانا إلى كتاب أومبرتو إيكو «حدود التأويل»، ذلك أن العديد من النقّاد، ممن تسلّقوا شجرة البنيوية، ذهبوا بعيدا في تأويلاتهم، بل تأوّلاتهم، بما لا يتّفق مع المضامين التي تستدعيها النصوص المدروسة. ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في النقد الأدبي العربي. أما المنطلق الرابع فكان «النص» لأنه «لفظٌ عمادٌ» في البحث الذي يجريه لكونه مفهوما وصفيا، بل قلْ إنه قالبٌ وصفيّ ونقديّ يستحيل الشروع في النقد الأدبي من دونه. وقد باشر تعيين دلالة هذا المصطلح بالاستناد إلى مرجع في علم اللسانية، هو «القاموس الموسوعيّ الجديد لعلوم اللغة» لكاتبيْه ديكرو- شيفر. والمرجع الأخير مزيدٌ عن المرجع الأوّل، وبالعنوان نفسه تقريبا، «القاموس الموسوعي لعلوم اللغة»، حيث النصّ هو «سلسلة قوليّة أو كتابية شفوية أو كتابية تؤلّف وحدة تواصليّة». وبناء عليه، بات بمقدور الباحث أن ينظر في ما خلّفته تجارب الشعراء العرب، بالمرحلة الزمنية المحددة أعلاه، من نصوص أو قصائد، ويتفحّص تعالقاتها وبنياتها ومعانيها المرتبطة بعصرها وأحداثه. 

وما دام الكلام كان جاريا على النصّ، وتعريفاته كان حريّا بالكاتب داغر أن يستنطق المعاجم العربية معنى «النص»، ومعجم "محيط المحيط" لمؤلّفه بطرس البستاني، فيتحصّل لديه أنّ النصّ «يُطلق على كلّ كلام مفهوم (أي الكتاب والسنّة)»، وأنّ ذلك البوْن بين التعريفين الصادريْن في لحظتين تاريخيّتين متباعدتين (أواخر القرن التاسع عشر، أواخر القرن العشرين) يسعه أن يؤشّر إلى وعي الشعراء، المعنيين بالدراسة ـ في الشرق العربي ـ لمفهوم النصّ، بالمعنى الدلالي والتركيبي والبنائي الذي بات يعاينه في توليف الشعراء نصوصهم وإخراجها بهيئتها الجاري درسها. على أنّ المنطلق الخامس كان قصد الباحث النّظر في «التشكّل الطباعي للقصيدة» قياسا على ما وضعه جينيت من معايير في «تطريساته»، وما أطلق عليه «النص الجامع»، إضافة إلى دراسة مستويات القصيدة الثلاثة: مستوى النحو، مستوى الوزن (الإيقاع) ومستوى المعنى.

التنقيح
ولدى بلوغنا متن الدراسة، في الفصل الأوّل منها، يعرض لنا الباحث، وفي عنوان «الشعر والشاعر بين تنقيح وتصحيح»، لمسار تنامي الوعي لدى شعراء الحداثة بالنصّ، من حيث كونه مجالا طباعيا، تتجسّد فيه تحوّلات كتابتهم الشعرية، وتتظهّر أساليبهم وخياراتهم اللغوية والدلالية؛ وفي هذا الشأن يفرد الباحث الفصل الأول لدراسة المسودّات الأدبية لشعراء مثل بدر شاكر السّيّاب، وأدونيس، وغيرهما، والتي كشفت للباحث تعامل هؤلاء الشعراء مع قصائدهم، إذ يمعنون في التصرّف بها إسقاطا، ووضعا، وتبديلا. ذلك أنّ إخضاع القصائد لألفاظ، وصوَر، وتراكيب، على أنها «ما قبل النصوص» لهذا الكمّ من التحويل والتحوير في متنها، وعتباتها، من قبل الشعراء كفيلٌ بتصويرهم مالكي نصوصهم، وعاملين على تحويرها لتوافق زمنهم المتوالي، لا لتكون شاهدة على مواقفهم أو آرائهم في الزمن الذي نظموا فيه هذه القصائد. أما الظاهرة الثانية التي تُضاف إلى ما عرضه الباحث ـ حول عمليات الحذف والتحوير والتبديل ـ فتتمثّل في نزعة كلّ من الشاعرين، بدر شاكر السياب وأدونيس (علي أحمد سعيد)، إلى «إثبات» حداثته، أي انتمائه إلى الشعر الحديث، بما يتّفق مع توزيع الأبيات أشطرا، لتصير سطورا شعرية، بينما هي منظومة أبياتا ذات أشطر، وفق بحور شعرية تامة وقوافٍ تقليدية. وهذا الأمر ينطبق على الحقبة الأولى من إنتاج هذين الشاعرين. وقد تسنّى للباحث ذلك من خلال مقارنته طبعات المجموعات الشعرية لكلا الشاعرين، ولا سيّما الأعمال الشعرية الأولى. ولئن اكتفى الباحث بمدوّنة شاعرَين لإثبات التدخّل الطباعي والتعديل التحويري السالف وصفهما على النصوص الشعرية، فإنّ لنا أمثلة عديدة، منها التعديلات التي أجراها الشاعر خليل حاوي على كتابه «نهر الرماد»، في طبعتين متباعدتين زمنا، تؤكّد هذا الميل لدى فئة من الشعراء العرب إلى التعديل في نتاجهم الشعري بما يتناسب مع الاتّجاه أو الذّوق الشّعري السائد.
ولا يزال المؤلّف داغر حتى يخصّ الفصل الثاني من كتابه بـ«نصوص ورسائل مجهولة» لكلّ من الشاعر بدر شاكر السّياب، وتوفيق صايغ، منها ما أُرسِلتْ إلى الفنان صليبا الدويهي، وكل من أنطون سعادة، وخليل حاوي، ويوسف الخال. وكان القارئ، شأني عاقد العزم على متابعة الفصل الأوّل، الشيّق، في ما خصّ حواشي النصّ أو عتباته، وما قد تظهره الأمثلة الجديدة في هذا الشأن. ولكنّ النصوص المكشوف عنها للمرة الأولى، من قبل المؤلّف، كان لها فضلُ الإضاءة على الجانب الشخصي من حياة كل من بدر شاكر السيّاب وتوفيق الصايغ، وعلى بعض علاقاتهما بالشعراء والأدباء والفنانين.
في حين أنها لم تسلّط أنوارا إضافية على مسألة العناية بعتبات النصوص أو حواشيها من قبل شاعري الحداثة اللذين اتّخذهما الباحث نموذجين لدراسته، عنينا بهما بدر شاكر السياب، وأدونيس، إلاّ في حدود ما تبيّنه النصوص المكتشفة، وغير المنشورة، من قصديّة الشاعرين، ومن روابط أولى كانت سببا لمسار فنّي وأدبي وسياسي اختطّه كلّ من المذكورين، من أصحاب القصائد المدروسة على أنها نصوص ذات بنيان مستقلّ أو كيان.
على أنّ الشيّق في الدراسة أنّ المؤلّف لا يني يؤصّل المصطلحات أو المفاهيم الواصفة، كأن يستقصي أركان الشعر لدى قدامة بن جعفر، تحتَ عنوان «النص هيئة لفظية»، فيتبيّن له أنّ الشعر ثلاثة، بحسب الأخير، وهي: اللفظ والمعنى والوزن. وبيّن كذلك كيف أنّ قدامة تنبّه لمفهوم الائتلاف معيارا أساسيا لبناء النصّ الشعري. والحال أنّ المؤلّف داغر، إذ يستنطق قدامة في مفهوم الائتلاف، فلأجل أن يصله بمفهوم أحدث، ونامٍ إلى تيار في البنيانية، عنيتُ به التناسب في ما بين الشكل والمضمون (هايلمسليف، غريماس)، ولأجل أن يركّز على المستويات (المعجمي، والنحوي ـ التركيبي، الإيقاعي) التي استنبطها ياكوبسون ورفاقه. وبعد أن يستجلي المؤلّف تكوّن الشعر الحديث، في هيئة طباعية ناجزة، منذ بداية القرن العشرين مع خليل مطران، رابطا ذلك التكوّن باستقلال الشاعر في نظمه عن المناسبات والأغراض التقليدية، وانصرافه إلى «مجلسيّة جديدة» تليق بالكتاب ـ النص، وما يثيره من تفاعلات بين جمهوره والحلقات. وعلى هذا النحو، يمضي الكاتب إلى تأريخ ظهور الكتاب ـ القصيدة ("المجدلية" لسعيد عقل).
ولكنّ القسم الذي يخصّه المؤلّف لدراسة مقارنة بين قصيدتي كلّ من خليل مطران وبدر شاكر السياب، والذي أراده بحثا عن تشكّل كيان القصيدة العربية الحديثة، تحوّل برأينا إلى تحليل قرطاجنيّ للقصيدتين، وفق التعالقات؛ ولئن نجح المؤلّف في الكشف عن وجود تعالقات تركيبية وإيقاعية في قصيدتي مطران والسيّاب، فإنّ عمله كان محاولة ـ غير معلنة ـ لتظهير وحدة النص الشعري، باستناده إلى شواهد من النصين كثيرة، وغير منسّقة وفق كلّ مستوى على حدة. ذلك ان آراء القرطاجنّي، رغم أهمّيتها في زمنه، لا ترقى إلى المنهج الوصفي التحليلي الذي بلغته السيميائية أو الرموزية الأدبية، من ربطها مظاهر كلّ مستوى بدلالاته الممكنة والتي تتيحها سياقات النص.
ومهما يكن من أمر، فإنّ الباحث داغر قام بجهد دؤوب ليبيّن، بالشواهد المستقاة من قصيدتي مطران والسيّاب، أنّ تهافت القافية لدى الأخير وتواصل «جريان» السطر الشعري تركيبيا، هما دليلان على الحداثة الشعرية، في مقابل التزام مطران بوحدة البيت التقليدي، وبالقالب التركيبي المحدود في إطار ذلك البيت. ويخلص الباحث من هذا الفصل إلى ردّ التحرّر الماثل في الشعر العربي الحديث إلى وعي الشاعر أوّليّته حيال الشعر، وإخضاعه الإيقاع (تنويع القوافي) لموسيقاه الداخلية، وتبديد نمطية التراكيب في داخل الأبيات (لصالح الأنساق المفاجئة)، واستدخال أشكال غنائية (اللازمة، مثلا) في النصوص الشعرية الحديثة.

التحول
في الفصل الخامس من القسم الثاني، يجري شربل داغر تقصّيا وافيا لمظاهر التحوّل الذي آل اليه الشعر العربي الحديث؛ نجمله في أنّ الباحث لحظ، لدى مقارنته ما بين المضامين التي نظمت من أجلها القصيدة التقليدية، وبين تلك التي صيغت من أجلها القصائد الحديثة، تحوّلا من إيثار الأغراض الشعرية إلى جعل الشاعر مركزا للقصيدة، وتجربته ومشاعره ومعانيه أساسا أول للشعر. وعلى هذا أمكن الباحث تقصّي بوادر ذلك التحرر من درسه «القصيدة العصرية»، وملاحظته موضوعاتها المستمدة من عصر الشاعر وحياته ومعايناته ومعاناته.
أما القسم الثالث، والذي عنوانه «النص الشفّاف»، فيعالج فيه الباحث مسألة التناصّ في الشعر العربي الحديث، عائدا فيه إلى جذره الأساس، عنيتُ به علاقة الشاعر العربي بالتراث الشعري والفكري الغربيين واحتياجه للأخذ منهما. فانطلق من وعي النقد العربي الحديث لوجود هذه العلاقة التأثّرية بالأدب الغربي، سواء باللغة الفرنسية أو الانكليزية، وإدراكه حال المثاقفة التي كانت قائمة بين الطرفين (العربي، والغربي) فسوّغ البعض لذاته ألا يحسب الشعر العربي (الحديث) جديرا بالدراسة المقارِنة، إلاّ إذا توفّرت الأسباب التاريخية والتوثيقية الدالّة على وجود التأثّر العيني والمادي (الأدبي). ولكنّ الباحث داغر يدحض هذه النظرة الضيّقة إلى المثاقفة، ويعتبر أنّ التأثّر والتأثير الحاصليْن في الشعر العربي الحديث لا يحتاجان إلى دليل مادي خارج نطاق الشعر. وإن توفّر الدليل أو النصوص النقدية التي يثبت فيها الشعراء المعنيون أنهم تأثروا بالشعر الغربي أو بأحد اتجاهاته (كتاب جايمس فرايزر، "الغصن الذهبي"، وشعراء المنزع التمّوزي)، فإنه فاتهم أن يبيّنوا مواطن التأثّر وحدوده بين النصّين المقارنين. ولذلك عمد الباحث إلى تصويب إبيستمولوجي، في ما خصّ التناصّ، فجعله اثنين: تناصّ داخليّ، يُعنى بدراسة مقارِنة لنتاج الشاعر ومقدار التداخل والتقارب النصي بين عملين أو أكثر، وتناص اعتيادي (أو خارجي) يكون مجاله دراسة مقادير التأثّر التي أحدثها نصّ شعريّ (أجنبيّ) أو نقديّ في نصّ شعريّ عربيّ حديث، على أن يكون ثمة تعيينٌ لمجال التأثّر في نصوص الشاعر المعنيّ (مستوى الدلالة، المعجم، التراكيب، الصوَر الشعرية ...) تجنّبا للتعميم غير المنتِج.

أسطورة الشاعر

في الفصل السابع والأخير، يسلّط الباحث داغر الضوء على الصلة الحميمة التي تقوم بين الشاعر وقصيدته، وذلك تحت عنوان «القصيدة بين النص والقول». وعمادُ المسألة تمظهر الأنا الدالّ حينا على شخص الشاعر، وحينا آخر على أسطورته التي لا يني يصوغها في النص، على حدّ اعتبار شارل مورون، الذي نظر في تواترات الصور البلاغية ذات الإحالة إلى أنا الشاعر، واستخلص منها صورا متكررة ودالّة على هاجس لافت في تكوين صورة عن ذاته نموذجية أو مثالية أو منسجمة مع تصوّراته ومنزعه إلى الحياة. وفي هذا الشان يستعرض الباحث أشكالا عديدة من تمظهرات الذات لدى الشعراء العرب؛ فيبدأ بالكلام على «مسرحة» الذات عند محمود درويش، ويتبيّن له أنّ الشاعر يجعل ذاته خشبة مسرحية، تتعدد مظاهرها أو أماكنها، تنطلق منها صياغة المشاهد الشعرية، مستندة إلى أماكن هي تلك التي انتقلت اليها هذه الذات (روما، باريس، تونس، سمرقند...)، فتتعدد هذه الذات من دون أن تفقد مرجعيّتها، في الحوارات بل المناجيات التي يجريها الشاعر بين ذاته وذات أخرى. 

بيد أنّ المقارنة الأخرى، التي أجراها بين الذاتية المعتلنة لدى كل من معروف الرصافي وبين بول شاوول، بيّنت تفاوتا في النظرة إلى مكانة الأنا الاجتماعية ودورها الإبداعي؛ فمعروف الرصافي، على حد داغر، لم يكفّ عن إبلاغ قصده في شعره لدى كلّ قصيدة، أو ما ندعوه القصائد ـ المناسبات. وبالتالي، لم يكفّ الشاعر عن كونه شخصية اجتماعية تسعى إلى إثبات مكانتها بفضل الشعر. في حين أن بول شاوول يقيم الفصل بين الأنا الكاتبة والذات المكتوبة، في النص الشعري بحيث تصير آخر غريبا كليا، فتتيح الكتابة الشعرية بذلك قدرا متزايدا من «التبعيد»، مفيدا في تعدد المرايا والدلالات والاحتمالات حول هوية الكائن الشاعر، على ما نراه في كتابه «أوراق الغائب». وعليه، فإنّ إمعان أنا الشاعر، بحسب بول شاوول، في إعلان التشظّي والتعدد، في ظلّ غياب جنائزيّ مستوحى من أجواء ما بعد الحرب، لهو شكلٌ من أشكال الانخراط في الحداثة الشعرية، تكون فيها الكتابة الشعرية معادلا لحياة أو لموت فردانيّ منجَز.

ولئن كنّا نحمل بعض التساؤلات في ما خصّ العديد من الملحوظات التي يطرحها الباحث، ولا سيّما منهجه في تحليل قصيدة «المساء» لخليل مطران، وإدماجه رسائل بعض الأدباء ونصوصهم غير المعروفة في سياق لم تبدُ مسوّغاتُه موضّحة بما يكفي، فإنّ لهذا الكتاب فضلا كبيرا، وجليلا، في أنه تناول مسألة لم يعرْها النقّادُ العرب، منذ بدء ظهور النقد، أواخر القرن التاسع عشر (جرجي زيدان)، مرورا بأوائل القرن العشرين (طه حسين، أحمد حسن الزيات)، وصولا إلى أواخر القرن العشرين (محمد غنيمي هلال، محمد بنّيس)، وحتّى القرن الواحد والعشرين، اهتماما وعنيتُ بها: وعي الشعراء أنّ لنصّهم كيانا مطبعيا ودلاليا ولغويا وتداوليا مستقلا عما عداه من نماذج الكتابة التقليدية أو القديمة التي لم تخرج عن كونها نسَخا لا هيئة مطبعية لها ولا كيان ذا تاريخ معيّن ينبغي إدراجه في سجلّ الذات المجرّبة والمستقلّة عن سياق المناسبات والمنابر. ذلك أنّ جلّ النقد العربي القديم والحديث والأحدث «مضموني» في أحسن الأحوال، وانتقائيّ بل انتخابيّ لدى كلامه على مظاهر لغوية في قصيدة أو تلك. أضف إلى ذلك فإنّ بعضا من النقّاد اللسانيين ـ البنيويين العرب، ممن تناولوا ظاهرة الشعر العربي الحديث، لم يبلغوا حدّ الإحاطة بمستويات النص الأخرى، كالمستوى المطبعي وغيره. وهذا ما يُحسب للباحث شربل داغر، في كتابه دورا بحسب كتاب روجيه لوفير الأخير. وعلى الرغم من يقيني بأنّ لعلم النص في الكشف عن آليات إخراج النص الأدبي وتظهيره وفق تطلّع كاتبه، سواء أكان شاعرا أم روائيا أم ناثر مقالات وجدانية، وأنّ عناية النقد بالنصّ، بل بكيانه، على قول داغر، ينبغي أن يُشرع بها من متن النص إلى حواشيه، وبحركة تبادلية، فإنّه لا يسعني إنكار أنّ للوليد ـ النص صلةً ببيئته وتاريخها، وبالتالي فإنّ النص ابنُ بيئته، وكنّا لطالما اعتبرنا الأديب ابن بيئته وأهملنا صنيعه. وها أننا تعرّفنا إلى تاريخ هذا النص الشعري العربي الحديث، وتلمّسنا بعضا من ملامحه مشفوعا بحكايات صانعه، الشاعر العربي ربيب القرن العشرين وثوراته، وبقيَ لأجيال الباحثين الجدد ـ وللباحث داغر نفسه ـ العديد من الإشكاليات والظواهر الشعرية التي تحتاج إلى دراسة ومساءلة؛ من مثل إرساء علم النصوص على أسس أكاديمية ثابتة، واستنطاق الشعر العربي الحديث والمعاصر من منظور علم التداولية، ومحاولة الإحاطة بتعلّمية الشعر العربي الحديث، وتبيان علاقة الطالب العربي ـ اليوم ـ بالشعر، قراءة وفهما وتحليلا وتذوّقا وإبداعا.... وإلى أن تبتّ الأيام الآتية بهذه التطلّعات والمساءلات، فقد يجوز لنا الاحتفال بولادة "كيان" النص الشعري العربي الحديث للباحث شربل داغر.

(جريدة "السفير"، بيروت، 4-4-2014).