يعيد كتاب «الشعر العربيّ الحديث: القصيدة العصريّة»، لمؤلفه الباحث اللبنانيّ الدكتور شربل داغر، في نهجه الدراسيّ، النظر في التاريخ الشعريّ والثقافيّ، بما فيه التاريخ الحضاريّ لعصر النهضة، منطلقاً من مراجعة خطاب الحداثة نفسه، ومتوصّلاً إلى تعيين أسمائها ومعانيها الأولى في عالم العربيّة. ويعتمد في ذلك، المقاربات التاريخيّة والاجتماعيّة، ويُخضع القصيدة العصريّة لقراءة نقديّة تتناول مبانيها العروضيّة والنحويّة والمضمونيّة، ليظهر قواعد نشأتها وأسس التجديد اللاحق في القرن العشرين.يُسلّط داغر، الضوء على شعراء نقلوا الشعر من القصيدة إلى الكتاب الشعريّ، ومن البلاط والمجالس إلى القارئ، من السلطان إلى الوطن، ومن أنواع الأغراض الشعريّة، إلى موضوعات ومواقف متفاعلة مع زمن التمدّن.ويُقسّم المؤلف الكتاب إلى ثلاثة أقسام، بالإضافة إلى المدخل.وفي القسم الأوّل، يتناول داغر جملة موضوعات، مثل: الكتاب والأدب والقارئ، متتبّعاً ذلك في أربعة محاور، وهي: مداولات ولطائف، من النسخيّ إلى الطباعيّ، الكتاب لـ«القارئ»، الأدب: التشكيل الجديد. وفي الثاني، يدرس داغر: الشعر حسب التاريخ، وفيه يناقش: الصراع على تصنيف العربيّة، قسمة التاريخ، تواريخ الشعر. وذلك في حين يدرس في الفصل الثالث: الشعر حسن النقد، ويتناول فيه: من «مجالسة الأحباب» إلى «مجالسة الكتاب»، المثقّف «العصريّ» ناقداً، انبناء الشعريّة من جديد.ويبحث في القسم الثاني المعنون بـ:"الشعر والعصر": خطاب التراجم، سوق الشعراء «الكاسد»، «ظلام» الشعر، بين شعر المجلس وشعر المطبعة. وينتقل بعد ذلك للحديث عن الشعراء العصريّين ليتحدّث عن: هواء جديد في فضاء قديم، وأرومة الأدب، وتأكّد الشعر العصريّ.في القسم الأخير يفصّل الباحث بالحديث عن أبنية القصيدة العصريّة. ويتحدّث بداية عن مثول القصيدة، وذلك عبر: تكوين القصيدة، ومن القصيدة إلى النبذة، وهيئة القصيدة. ثمّ ينتقل في الفصل التالي إلى دراسة الحالة بين الوزنيّ والنحويّ عبر المستوى الوزنيّ والنحويّ.وينتقل في الفصل الأخير إلى الحديث من «العمود» إلى الشاعر، راصداً: نهج الشعر بين المدح والسياسة، والقصيدة وعقيدة المرآة، اللسان والقصيدة، أبنية المعنى. لينهي بعدها بخاتمة مفتوحة، يسترجع فيها بعضاً من المخاضات والرؤى والتصوّرات.وفي العموم، ينطلق داغر في كتابه، من أسئلة مهمّة من قبيل: ما تعني الصفة "الحديثة"، اللاصقة بالقصيدة العربية، وصفة "الحديث" اللاصقة بالشعر العربي عموماً؟ أيُّ حداثة يتمُّ الكلام عنها إذ تَرِد في خطاب عربي غير معني بالشعر أساساً؟ هل «الحداثة» أو «الحديث» يَعْنيان ما يَرِد من معان ودلالات عن الحداثة في كتاب لآلان تورين أو ما قاله عنها الشاعر شارل بودلير؟وذلك في محاولة لتبيّن، حمولات «الحداثة» في الخطاب الغربيّ؛ ثمّ في وقفة ثانية، في الخطاب العربيّ، من دون أن يكون المقصودُ التحرّيَ فقط، أو التدقيق في الحمولات، وإنّما يعني شيئاً مزيداً، وهو التنبّه لعلاقة اللفظ بمسمّاه وبمرجعه، أي ما يشير إليه اللفظ ويسمّيه. لينتقل إلى أسئلة أخرى من قبيل: ما تعني الحداثة والحديث عربياً؟أهذان يوافقان أو يخالفان مسمياتهما في الخطاب الغربي؟ ماذا عن صدور هذا الخطاب العربي: مِمَّ نشأ؟ أمن تولّدات فلسفية أو جمالية أو أدبية، أم هو ناتجُ الاطلاع التثاقفي، ويعني طلبَ التشوُّف والتماثل؟ وماذا عمّا تعنيه الحداثة وتشمله؟ أهي تسمية لحقبة تاريخية أم لنزعة أسلوبية؟أهي تخصّ المجتمع والعلاقات كما الإنتاجات الأدبية والفنية على أنواعها (شعر، تشكيل..)؟ ويقول إنّ هذه الأسئلة لا تكتمل إلا بعد وضع القصيدة العربية «الحديثة» نفسها قيد المساءلة: ما تُعيِّن حداثتُها؟ أهي حداثة مسبوقة أم جديدة؟ أين تتعيَّن عربياً، وفي أي سياق زمنيّ؟بعد التمحيص والتدقيق والمقاربة والمقارنة، يخلص داغر إلى القول إنّ تسمية «العصريّ» هي الاسم الأوّل، عربياً، لـ«الحداثة» و«الحديث». ويعيّن ذلك في عدّة تغيرات، منها: أنّ القصيدة باتت، في هيئتها، منذ القصيدة «العصرية»، شبيهة بما ستؤول إليه بعد عقود وعقود الهيئة اللاحقة للقصيدة العربية عموماً. وأنّها عرفت تغيّرات أو اختلالات على مستوى الأبنية جعلتها أكثر قبولاً لما سيصيبها لاحقاً.وانقطعت عن أنواع الشعر المعهودة، واقترحت أنواعاً جديدة اجتمعتْ عموماً تحت مسمّيات مختلفة. ويرى أنّ هذه التغيّرات وغيرها ما كانت لتبرز بهذا الحجم والاتّساع والعمق، لولا اهتزاز مرجعية الشعر ومثاله وقيمه وتطبيقاته وإجراءاته، أي «عمود» الشعر نفسه.(جريدة "البيان"، بيان الكتب، الإمارات العربية المتحدة، دبي، 15-2-2013).