مساء الخير،
الشكر، بداية، لـ"الحركة الثقافية"، لدعوتها إلى هذه الندوة، وهي التي وفرت لي ولغيري فسحات حرة لعرض مجهوداتهم التأليفية، ولمناقشتها من قبل نخبة من المؤلفين والدارسين. ويزيد من شكري كوني أجتمع مع أعداد من قياديي هذه الحركة، منذ سنوات بعيدة، حول قيم: المعرفة، والوطن والمواطنة.
الشكر، ثانية، للزملاء المتحدثين على ما تكبدوه من عناء التفكير في مسائل كتابي، والاجتماع حوله، شاكراً لهم ما قالوه، وسأسعى للإجابة عن عدد من المسائل التي تناولوها في كلماتهم.
اسمحوا لي، قبل كل شيء، أن أقول كلمة في مشروع هذا الكتاب: عقدت العزم على كتابته في الشهور الأولى من العام 1995، وانتهيت منه في الصيف المنصرم. لماذا كل هذه المدة الطويلة؟
في تلك السنة، التي تلت عودتي إلى لبنان، بعد طول غياب في فرنسا، وبعد التحاقي بجامعتي العزيزة، جامعة البلمند، للتدريس فيها، كان من المقررات التدريسية التي أوكلت إلي مهمة تدريسها مقرر: "عصر النهضة". قمت حينها بتجميع عدد من المواد الملازمة للتدريس، ووقعت حينها على اسم كاتب ما كانت لي معرفة سابقة به، وهو: خليل الخوري، وعلى الصفة الملازمة له: "الشاعر العصري".
تحدثت الدكتورة أبي نادر في بعض كلمتها عن وجه الشاعر في مؤلفاتي، وفي استكمال لما قالته أجيب بأن الغموض جميل ومحرض في عتمة القصيدة. هذا ما خبرته، هذا ما يثيرني، إذ أذهب إلى القصيدة مثل حاطب ليل... أما في البحث فإن هذا الغموض يمكن أن يكون مفيداً في إثارة الأهمية، في التنبه إلى مسألة غير مجلوة، لكن البحث لا يستقيم من دون التثبت من الأرض التي يسعى إلى القيام فيها، ومن دون التأكد من حدودها، من معالمها، من أبنيتها... وهو ما لم يكن ممكناً في عملي البحثي إذ أنني لم أجد دراسة واحدة في القرن العشرين تتحدث عن الشاعر الخوري، ولا عن "الشعر العصري"، فيما خلا كتاب صدر قبل سنوات قليلة عن هذا الشعر في تجربة تونس تحديداً... هذا ما قادني، إذاً، إلى تتبع البحث في مجهولات الكتب، وإذا بي أجد، إذ عدت إلى مدونة القرن التاسع عشر، مادة واسعة عن هذا الشعر، تتمثل في عشرات المجموعات الشعرية، التي تعود إلى عشرات الشعراء ممن اختفت غالب أسمائهم في عتمة الإهمال...
وما بقي من هذا الشعر، في بعض الكتب، هو الحديث عن "الإحيائية"، أو عن البارودي من دون غيره؛ ولقد انتهيت إلى التحقق من أن هذا الفهم محدود وغير سليم بالمعنى التاريخي، عدا أنه يختصر شعرية البارودي وأقرانه في جانب فني-تقني، بل في استعادة "فصاحة" الشعر العباسي ليس إلا. فقد أغفل النقد، أو لم ينتبه إلى أن هذه الإحيائية تمثل قطيعة مع شعر البلاط، وشعر الندماء، وشعر "الإخوانيات"، صوب شعرية عمل فيها الشاعر، بما فيهم البارودي، على الإمساك بالقصيدة، على جعلها لسانه المخصوص، أي الفردي، فلا يعود موظفاً أو ناطقاً باسم غيره وفق ما ترتضيه جمالية البلاط من قيم وأساليب وموضوعات. ونقدي يطاول أدونيس الأستاذ الجامعي أيضاً – وهو من علمني مقرر "عصر النهضة" في الجامعة – إذ أنه تعامل مع هذا العصر تعامل الشاعر (الذي يطلب حداثة مزيدة) لا تعامل الدارس، الذي له أن يقرأ التاريخ بحسب مواده.
لهذا مثَّلَ لي هذا الكتاب، في مشروعه الأول، صفعة كبيرة لما كنت أعرفه، لما درسته. وهي صفعة تطاول – مع الاعتذار – أساتذتي المباشرين أو أستاذتهم البعيدين، إذ وجدت أنني على إثرهم بنيت بناء دراسياً غير مستقيم القواعد.
أقول في مكان ما في هذا الكتاب: "خرج الأمير من القصيدة..."؛ وهو خروج استطاعه هؤلاء الشعراء الرواد في مغادرة البلاط كدورة للشعر، وفي تجريب منتديات أخرى للقصيدة تجد في ختامها: القارىء، وهو الطرف الجديد في هذه العلاقة الناشئة، التي استندت إلى المطبعة، ووليدتها الأولى: الجريدة، وراحت تتعامل مع القارىء بوصفه "مخاطَب" القصيدة، أي من تتوجه إليه ليس بمعنى الإرسال الموجَّه وإنما بمعنى الشريك الملازم في دورة المعنى.
هذا الخروج استطاعه بعض الشعراء، ابتداء من تجربة بيروت في العقد الأول من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو ما تنبه له المعلم بطرس البستاني في "خطبة في آداب العرب"، التي ألقاها في العام 1859، إذ تحدث عن كاتب وحيد فيها، معاصر له، هو خليل الخوري، إذ يقول فيه: "كأني به (خليل الخوري) واقفاً على شاطىء البحر الكبير، الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد، يستشرف تارة على الجديد، ويلحظ أخرى إلى القديم؛ ولدى انتشار ديوانه الموسوم بـ"العصر الجديد"، الذي أفرغ فيه الشعر القديم في قالب جديد، يتضح المعنى المقصود (...). هلال الآداب الذي ولد في أواسط الجيل (القرن) التاسع عشر سيصير بدراً".
هذا الخروج من البلاط لم يكن خروجاً شعرياً فقط، وإنما كان خروجاً ثقافياً وسياسياً بمعنى من المعاني. ذلك أنني أعتقد أننا لم ندرس كفاية حقيقة التبدلات التي جرت في القرن التاسع عشر وقبله، ما جمعته تحت عنوان: "التمدن". وهو تمدن عنى واقعاً قيام العامة، أو دخولهم في قضايا الشأن العام، وهو ما كان يتكفل به السلطان وحاشيته من دون غيرهم.
يعنيني التوقف، كما في كلمة الدكتور حداد، عند غزو قوات بونابرت لمصر في نهاية القرن الثامن عشر، ذلك أن الغزو استدعى أو استولد ردة فعل من أهل القاهرة غير مسبوقة، وهي أنهم نزلوا إلى الشارع، بعد هزيمة المماليك وتقهقرهم إلى الداخل المصري، وأقاموا الخنادق وشرعوا في مقاومة المحتل بوسائل عنفية وغيرها... لم يقوَ المصريون حينها على "اصطياد" ممكنات هذه اللحظة التاريخية، وعلى أن يتحولوا إلى فاعلين في السياسة، بل نجح محمد علي، على رأس الفرقة الألبانية المرسلة من السلطان العثماني، في أن يفرض نفسه: ممثلاً للمصريين، وحليفاً للقوى الأوروبية، لاسيما الفرنسية، وعلى تفاهم مع سلطان العثمانيين. هذا ما عاشته قرى مختلفة في جبل لبنان، بعد عقود قليلة، في "العاميات"، ونحن على مقربة من موقع اجتماع "عامية انطلياس" الشهيرة... في هذه العامية وغيرها من "قومات" (كما أطلقت عليها التسمية كذلك) لم ينجح عوام اللبنانيين في "اصطياد" ممكنات اللحظة التاريخية، حتى أن "أنجح" قيادييهم، أبا سمرا غانم، لم ينجح في نهاية المطاف سوى أن يكون "مستشاراً عسكرياً" للوزير العثماني، فكلفه بمهام تأديب عسكري في مدن فلسطينية وغيرها؛ أي أنه لم ينجح في أن يكون ممثلاً سياسياً. هذا ما نجح فيه بعض النجاح يوسف (بك) كرم من دون أن يتمه إذ انتهى بدوره إلى عتمة العزلة والمنفى...
ما أريد قوله هو أن ما نجح بعض الشعراء فيه – في نطاقهم المحدود كفئة اجتماعية، وفوق سطور القصيدة -، لم يقوَ على فعله "العوام" وقياديوهم... وهو ما يتجلى في لحظة الحراك العربي الراهن حيث إننا نعيش لحظة جديدة في الخروج من حكم االسلطان، من حكم المستبد: هل سنقوى على الخروج بما يجعل للدماء المراقة معنى تاريخياً يزن في حسابات السياسة والتقدم؟ هل سيقوى هذا الحراك على توليد "شرعية" للحكم لا تجعل من العامة موضوعاً للسياسة وإنما فاعلين فيها؟
لأعد إلى الكتاب من جديد: قد يقول البعض إنه كتاب في الماضي، فيما أخالفهم الرأي فيه، إذ اعتبره كتاباً في الحاضر، طالما أنه يطلب التعرف على سوابق وأوضاع وأحوال قد تكون هي في معيقات أو محفزات التقدم في الراهن العربي. وهو ما أثيره في عدد من الأسئلة: خرج الشاعر من البلاط في القرن التاسع عشر، وتوجه إلى القارىء، ولكن: هل خرج القارىْ إلى ملاقاة القصيدة فوق سطورها في القرن العشرين؟ هل خرجت المدرسة والجامعة والناقد إلى ملاقاتها؟
هذه الأسئلة وغيرها يؤدي إليها هذا الكتاب، طالما أننا نتحقق فيه من أن الشاعر، مثل خليل الخوري وفرنسيس المراش ورزق الله حسون ومحمود سامي البارودي وجميل الزهاوي ومحمود قابادو وغيرهم، أدخلوا الشعر العربي في عهده الحديث الأول فعلاً: انتقلت القصيدة من عهد الديوان الجامع إلى عهد "النبذة" (أو "المجموعة"، كما نسميها اليوم)، كما أصابت القصيدة تغيرات في عروضها، في تبرمها من "ضيق القافية"، في سعيها إلى تراكيب نحوية أخلت بمبدإ وحدة البيت لصالح بناء نحوي ممتد بين الأبيات المختلفة، ما يوفر بناء متصلاً لموضوع القصيدة، عدا أن التجربة الجديدة جددت موضوعات الشعر نفسها، وخرجت من الأنواع الشعرية المعهودة منذ قرون وقرون.
(كلمة ختامية لشربل داغر إثر مداخلات الدكاترة: نايلة ابي نادر ومحمود حداد وأنطوان ابي زيد وجورج طراد، في الندوة النقدية حول كتاب: "الشعر العربي الحديث: القصيدة العصرية"، في المهرجان اللبناني للكتاب، في 17 آذار 2012، في انطلياس – جبل لبنان).