"القصيدة لا تنام، ولا تواعد أحداً
تتمشى أمام مرآتها
من دون أن تمسك بضفيرتها
لعوب، وجسورة:
تعطي قبلتها
لمن يشتهيها"("القصيدة لمن يشتهيها"، ص53)
نعم، لقد أشعلَت الرغبة بالقصيدة كيانَه بنارٍ لا تخلّف رماداً بل شغفاً لا يُطفئه ضجر، وإبداعاً لا يؤطّره نسق، وتحليقاً لا يحدّه أفق. إنها القصيدة المتلبّسة بجرم الاشتهاء، تتمدّد على شاشته الإلكترونية لتبعث فيها روحاً يُحيي رتابة الصور، وتفتحَ نوافذ مشرّعة على مشهدية يتمايل فيها الكلام ليفسح المجال لعمل الخيال واجتهاد العقل في آن. "كشاشُ ألفاظ" هو، "قناصٌ محترمٌ، يباغت، يقطف على عجل زهرة المفاجأة، لمعانَ الخطى: قناصٌ محترمٌ وجعبته وليمةٌ لغيره" ("إعراباً لشكل"، ص152)
القصيدة محركٌ قائمٌ بذاته، لها أن تولّد، أن تبعث، أن تمزّق، أن تقوم بما يحلو لها. تقوده إما إلى كتابتها، أو إلى البحث فيها والتنظير في كيفية انبثاقها. من الصعب أن نجد له مجموعة شعرية خالية من الكلام على القصيدة وفيها. إنها المحور. إنها "جسده الثاني"، تقوله، تفضحه، تبوح بعطر أنفاسه، هي التي تكتبه. إنها الفاعل، وهو المتلقّي.
هذا المقيم دائماً في قاعة "ترانزيت"، يتهيأ للرحلة التالية. يسكن في سفر دائم في فضاء المعنى. لا يعرف الوصول، بل تراه يستريح فقط استعداداً لإقلاع يليه إقلاعٌ بعده إقلاع... معه لا يصل الكلامُ بل يميل. رواحٌ ومجيءٌ بين الألفاظ ومعانيها... "حياة تسري في دبيب حاء خلف باء" ("لا تبحث عن معنى لعلّه يلقاك").
مقيم في النص
إذا توقفتَ عند نصه، لا تعثر على بصماته فحسب. فالبصمات آثارٌ يُستدلّ بها على غياب صاحبها.
شربل داغر مقيمٌ في نصه، أشعراً كان أم نثراً. تلتقيه في الواقع المعيوش كما في النص المكتوب. إنه هو هو. حتى إنك تسأل نفسك معه: هل هذا الرجل "يعيش لكي يكتب؟" أم "يكتب لكي يعيش؟" نادراً ما ينصهرُ فِعلا العيش والكتابة على هذا النحو. شغفُ الحياة يتفجّر في الكتابة، قلقُ الوجود يربض فوق أنفاس النص، خيبة السياسة وانكسار الانتظار يضبطان علامات الوقف في ما يُكتب. جرح الوطن ينزف متخفياً في "مواكب الجُمَل". عناء البحث الرصين، والإشتغال على الذات، وتحصيلُ أفضل ما توفر من مناهج وعلوم، أمورٌ تستحوذ على عمر بكامله، يتمّ تقديمها بسخاء للقارئ في وليمة ممدودة على وسع الرغبة في اللقاء. يقول في ديوانه "إعراباً لشكل" مشيراً إلى علاقته بما يكتب، بالقصيدة تحديداً، ما يلي:
"أرميها أمامي ولا ألبث أن أتعقبها
على أن فيها ما يفيد عني:
ما أخفاني في ما يصدر عني!
برتقالة هامدة فوق طاولة اللفظ
من دون أن يكفي لونُها
لبناء فقرة" ("إعراباً لشكل"، ص120)
فإن بدأتُ الكلام بالتحدّث عنه، لا أكون قد خرجتُ فعلا عن الموضوع، عن كتابه-الحدث، فالشبه قائم، والمقارنة جائزة.
يحطّ شربل داغر الرّحال بعد جهد سنين عند "الشعر العربي الحديث" في رحاب "القصيدة العصرية" تحديداً. انشغل منذ فترة طويلة بالبحث فيها، في تكوّنها، في كيفية صدورها، في تبدّلاتها وما آلت اليه. همّه المعرفي قاده إلى سبر أغوارِ ما كُتب شعراً في الزمن الحديث. وفضولُه المتأججُ جعلَه يمدّ اليد ليقطف ما يحلو للنظر من قصائد موقّعة بختم الانتظار. انتظار عيون لوّنتها شهوة اللقاء.
ذهب منذ الفجر يطارد فراشات رسمتها محابرُ التجربة والمعاناة. يجمع النادر منها، يقلّب أجنحتها، يتفحّص ما علق عليها من غبار الكلام. كعالمٍ في مختبر، يدقق، يقارن، يُقَيّم الإختبار. كفيلسوفٍ غارق في الماوراء يبحث عن سبب القصيدة الأول، عن المسكوت عنه فيها، يخط المنهج بتأنّ، كالسائر بين الألغام. بحرَفيةٍ عالية يُمسك بالقصيدة، يُلقي عليها قبضةً محكمة بنظره الثاقب، يفكّك طبقات معانيها، يسائلها، يستدرجها إلى حلبة البوح والإفصاح. كقاضٍ ظالم يحاسب نفسه، ويطلب منها المزيد من الاحتراف لتواجه بعنادٍ مخاطر الإبحار صوب "أفق المعنى". لا يرضى بما تيسّر، لا تكفيه حدود الإمكان. يتحرّى ويسترق النظر، علّه يوفّق ويعثر على ضالته.
تجربتي مع نص شربل داغر، وضعتني، منذ اللحظة الأولى، في دهشة انفتاح الافق وتجلّي المعنى، وتجريد المحسوس، وهضم مكتسبات الحداثة على صعيد المنهج والإشكالية. كلُّ ذلك يرد في صياغة فريدة مغمّسة بالهم الفلسفي، والقلق الذي أشعل فتيل التفلسف منذ زمن، وألهب الذهن المتّقد وحثّه على سبر أغوار المعنى. هو الذي أحسن كيفية التنقّل بين علوم الإنسان واللغة، وامتصاص رحيقها، وإعادته إلينا بشكل مختلف ملؤه الجدّة والتفنن. له أن يزحزح الحدود، وَيعبُر الأفق لكي يُنتج ما يليق بفكر المستنير الناسك على قمة التوحّد والتأمل المجدي. ولنا أن نغرف من معجنه روائح معطرة بنبض الفكر المتجدّد والثائر على نفسه.
يشتغل باللغة وفيها. العربية مداه الرحب. ألفاظها أجنحة تقوده إلى ما هو أبعد، تستنفِره لكي يعصُرَ تراكم السنين في كؤوس المعنى. اللغة بالنسبة إليه لا تُستعمل بل تُكتب. إنها مكان التجدّد والنتاج الدائم. إنها الأداة والموضوع، مهمّتها الرئيسة تكمن في تطوير الملكات الإنسانية. اللغة والفكر والتاريخ، محاور ثلاثة تحرّك دراسته للشعر الحديث، ولمفهوم الحداثة على وجه الخصوص. وتكمن نقطة ارتكاز كتابه في التوقف مليّاً عند دراسة "التبيئة" التي تتعين في التثاقف، بين المجالين الغربي والعربي. يتوقف عند مفاهيم رئيسة في الفكر الأوروبي كالنهضة والحداثة مثلا، لكي يرصد كيفيات دخولها إلى الثقافة العربية، وما تعرّضت له من انقلابات مردّها إلى الإيديولوجيات التي سيطرت على الشعراء، وإلى العلاقات التي تربطهم بالسياسات، ما يشير إلى نقطة يتقاطع فيها السياسي مع الثقافي.
توّاق إلى رصف مداميك متينة للحداثة في الفكر العربي المعاصر، من خلال الاشتغال على القصيدة كما حبكها إبداعُ أصحابٍ لها عبروا الأفق، وسكنوا الهناك. يميّزه أسلوبٌ تتشابك فيه السلاسة مع الصعوبة، بقيادة الانضباط الصارم، فلا مجال لمضيعة الوقت، ولا لهدر الطاقات. جدّي، يسكنه هوس الموضوعية، محترف يقوده شغف النقد. كل تفصيل له قيمة لديه، وكل عمل رصين يحفظ له مكانته، حتى لو ان اسم صاحبه لم يتربع بعد على أغلفة الصحف والمجلات. فالواجهة في هذا العمل ليست وحدها الهدف، إنما خلفَ الستارة. إنه التوجه نحو المهمّش، والمنسيّ، والقابع في عتمة الإغفال المتعمّد أو العفوي.
لم يبقَ شربل داغر قابعاً في شرنقة المقاربات الكلاسيكية للتجربة الشعرية الحديثة. أراد أن يطرق باب الجدّة، في البحث أولا عن الموضوع، وفي الاختيار ثانياً للمنهج. لم يحلُ له ترداد أسماء ونظريات تم استهلاكُها وعصرُ ما فيها من محتوى، بل خطا نحو ما هو غير مستهلك بعد، كما يفعل الشاعر تماماً حينما يريد مفاجأة القارئ وإدهاشه بصورة ما أو مشهدية غير متوقعة.
يجوز لنا بعد قراءة كتاب "الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية"، الصادر حديثاً عن "منتدى المعارف"، أن نقول بأن هذه المقاربة للشعر العربي الحديث غير مسبوقة. ليس الأمر بالمستجد عليه، فإن صدف وتصفحتَ كتبه الشعرية سوف تلحظ سريعاً أن قصائده تتميّز بصياغة فريدة، ومشهدية تمزج بين المحسوس والمجرّد حتى الالتباس، ومقاربة جديدة للواقع تخرج منه لتعود إليه محمّلة بالمعنى. قصائده لا تشبه حتى نفسها، لأنها متغيرة، تتجدد في كل مرة، رافضة حتى أن تقلّد نموذجاً سبق لها أن نحتته. كذلك في اشتغاله على الفن الإسلامي في كتابه "الفن والشرق" وغيره، يقوم بقراءة غير مسبوقة تعيد النظر في فلسفة الفن الأوروبية والأميركية بالعربية، وفي نقد الخطاب الإستشراقي الذي أنتج خطاباً وهمياً عن الشرق، وفي التوقف عند القيمة والمعنى للعمل الفني، اللذين يتعينان في "التداول"، كما عند العلاقة بين الندرة والملكية وسيرورة المعنى في المجال الفني. ذلك أن شربل داغر يجلّ قارئه، لا يسمح بالاستهانة بذكائه، ولا بوقته الثمين. يُجهد النفس لكي يقدّم لنا في كل مرّة بحب عارمٍ ما هو الأفضل والأكثر إفادة. لا يحجب كنوزه عن الآخرين.
بين أركون وداغر
بين اللغة والتاريخ تمتدّ أقنية التواصل والبحث عن تجليات الأحداث التي كان لها أن تمرّ من هنا، فيغمس المفكر قلمه في محبرة من قصائد ينثرها على مرمى عينيك، ليكشف لك عن إبداعات سبق أن حلقت في شرقٍ، زرقةُ سمائه ملبّدةٌ بأحلام التحرر والتغيير والإنتظار اللامحدود. يتأمل في ماض انطوى، يقف أمام بقايا من ورق تحكي بصوت خافت عن خبايا دفينة لم تلتفت إليها أضواء المنابر ولا بهرجة الشاشات. إنها الرغبة في القيام بما يسمّيه محمد أركون بـ"القراءة السلبية للتاريخ". إنه فعل سفرٍ إلى أماكن "اللا مفكر فيه" ونبش خبايا "المسكوت عنه"، عن قصدٍ أو عن جهلٍ، لا فرق. إنه القبض على لحظة فريدة بما ولّدته، والنظر إليها من زاوية المنهج المبني على مكتسبات الحداثة، فيتعانق بذلك الشعر والفلسفة فوق صفحات من فكر مشبع بقلق البحث عن المعنى.
ذلك أن شربل داغر هو أشبه بـ"جوقة" من المفكرين مجتمعة تحت اسم أراد أن يسكن الأشكلة، فاخترق لوحة التصنيفات التقليدية الجامدة. مفكر يصعب تحديد شغبه، وضبط قفزاته المتجهة في كل صوب، بخاصة في حال كان المتلقّي رابضاً في محدودية التصنيفات المتجمّدة داخل أسر الماضي.
ها هو في أحدث أعمال خروجه عن السائد والمألوف، وفي سياق مغامراته الفكرية المعهودة، يدخل هذه المرة ولاية الكلمة التي غلفت نفسها بوشاح القصيدة العصرية. على الرغم من تعدد الدراسات والأطروحات حول الشعر الحديث، نجده يقوم بنبش إبداعات طُمست أو صُنفت في خانة التهميش. ينقّب في الماضي القريب ليكشف عن مواضع القوة كما الضعف، يقارن، يحلل، ينتقد. يفجر ليرمم، ويقطع ليصل، ويحفر ليحلق، كما أنه يرجع إلى الخلف ليقفز إلى ما وراء المألوف، مشاغباً في كل اتجاه علّه يعثر على ضالته.
واضح الجهد الذي بذله لإرساء قواعد اللعبة، لعبة البحث عن المعنى المتخفي داخل القصيدة ـ الحدث. لا تهدأ حركته ولا تستكين حتى يقبض بشراسة على خيوط تقوده إلى المستور. لا يرضى بالمادون، ولا يستهويه النسخ عن نموذج سبق.الحداثة محور اجتذبه ليبذل ما يكفي من جهد من أجل البحث في أصوله، وفي كيفية دخوله الى الفكر العربي، وفي أبرز تجلياته. فما معنى الحداثة في الشعر؟ وما هي بالتحديد القصيدة العصرية؟
سؤالان يحاول الإجابة عنهما المؤلف على مدى ست مئة صفحة، موزّعة على مدخل وثلاثة أقسام تتضمن ثمانية فصول، وخاتمة مفتوحة تأبى التقوقع في جواب.
له أن يطرح السؤال على نفسه، ليكلّفها في ما بعد بمهمة الذهاب بعيداً لالتقاط خيوطٍ من جواب، يُخضعه في ما بعد للبحث والتدقيق، ومن ثم يضعه بين يدي القارئ، ويدعوه للمشاركة في البحث. يرفض العزف المنفرد، لكن قدر المفكر الجدّي والرصين، يبدو أنه البقاء في الوحدة التي تنشد المشاركة، حتى إشعارٍ آخر.
قراءتي لنص شربل داغر كشفت لي عن مسارات فكرية تربط بين الفلسفة والشعر، كما بين علوم اللسان والمنهج. إنه نص يؤشكل في الذهن ألف سؤال حول تصنيف العلوم، كما هو سائد ومتعارفٌ عليه في الأوساط الكلاسيكية، وحول وضع علامة فارقة تميّز الشاعر عن الفيلسوف، والباحث في الجماليات عن الفيلسوف، والمنظّر في شؤون وشجون اللغة والمنهج عن الفيلسوف.
فما دخل شربل داغر بالفلسفة؟ سؤال يطرح تارة في السر، وأخرى في العلن. هل إن صفة الشاعر تلغي الفيلسوف؟ أو تحجب عنه الحق في اجتراح التفكير الفلسفي؟ هل من حدود واضحة يضعها "المتفلسفون" لترسيم الخط الأحمر الفاصل بين الفلسفة من فوق والشعر من تحت؟ هل نحن بحاجة - بعد كل ما أفرزته الحداثة من تعددية مناهج، وزحزحة حدود بين مختلف علوم الإنسان واللغة والمجتمع - إلى البرهنة على أن الشاعر بإمكانه أن يدخل المقرّ الفلسفي ويتفوق بجدارة في عملية مقاربة المعنى، والبحث في أغواره، على الرغم من أنه لم يتدرّج في حمل إفادات تزوده ببطاقة هوية فلسفية أو إخراج قيد ينسبه إلى السلالة؟ هل يمكن لنا أن نستمر في الفصل بين المناهج، وترسيخ القطيعة بين علوم الإنسان واللغة والمجتمع، فنعتمد النفي، والنفي المعاكس؟
قراءتي واشتغالي على نص محمد أركون منذ زمن، جعلاني أكثر قناعة بأنه من الصعب جداً الفصل الناجز والتام في مجال العلوم الإنسانية. فالمؤرخ يمكنه أن يصبح فيلسوفاً، وعالم الأنتروبولوجيا أن يستعين بعلم النفس والإجتماع والتاريخ، وعالم اللسانيات ليس ببعيد عن كل ما سبق ذكره، فالحقيقة التي يبحث عنها المفكر تجبره على مقاربتها من عدة مواقع، وهذا ما قصده أركون حين تحدّث عن "طوبولوجيا الموقع". هو المؤرخ الذي دخل على موضوعه من باب تعددية المناهج. لقد وضع عمل الفيلسوف في الأخير، بعد أن يقدّم الجميع ما لديهم من معطيات وقراءات، يأتي لكي يقوم بالتجريد، وصياغة المعنى انطلاقاً مما تقدّم.
بين محمد أركون وشربل داغر أكثر من وجه قربى، وأعمق من علاقة عابرة بين أستاذ في السوربون وتلميذ مجتهد لفت انتباهه. إنها مسألة قناعات مشتركة، ووضعية انفتاح ذهني، ورغبة في الحفر في طبقات المعنى.إنه العطش النهِم إلى تلقي العلوم الحديثة، وهضمها، وتطبيقها، والاستفادة منها. إنه الدخول في الحداثة واستثمارها، وأخذ مسافة نقدية منها. إنه الهمّ المعرفي الذي لا يهدأ ولا يعرف الراحة، فيجنّد المفكر نفسه في "مهمة لم يكلفه بها أحد"، يشاغب، يناضل. لا يهادن، لا يساوم، ولا يتراجع. إنه الانشغال بالتراث من وجهة البحث في المنهج. فالمنهج ليس عند المفكرين معا مشروعاً جاهزاً يتمّ تبنّيه منذ البداية، ولا بناءً مكتملا يتمّ اختياره مسبقاً، إنه يتبلور تباعاً وفق معطيات البحث، وانسجاماً مع طبيعة الحقل الذي يحفران فيه. من هنا نجد أركون يتحدث عن اختيار المنهج باعتباره مشروعاً يتحقق خطوة تلو الأخرى، ليس دفعة واحدة منذ البداية. كذلك نجد شربل داغر يستخدم مراراً مصطلح "انبناء" المنهج، لكي يشير إلى أن هذه العملية هي دائماً قيد التحقق، وبعيدة عن الإنجاز التام مسبقاً، قبل البدء بالبحث. فالاثنان معاً يتركان المجال مفتوحاً أمام الصدفة، والمفاجأة، طالما أن كلمة الباحث تعني التفتيش عن شيء مفقود، وسبر أغوار أمر مستور، فعنصر المفاجأة وارد في أي لحظة، ومن الضروري أن يحسب له حساب.
بين محمد أركون وشربل داغر أواصر مودة فكرية جعلتني أرى في تجربة كل منهما نموذجاً للمنهج النقدي، وللمقاربة الرصينة، ولخوض معترك الحداثة والاستفادة مما نتج عنها، كل في إطار عمله. هذا ما يحثّ باحثة مثلي في فكر محمد أركون على الاهتمام بنص شربل داغر والتوقف عنده عن كثب، لما فيه من همّ معرفي رصين، ومنهج علمي دقيق، وأطروحات تستوقف الباحث لكي تطرح عليه أكثر من سؤال.
هذه المقارنة بين محمد أركون وشربل داغر لا تخرج بالكامل عن الموضوع الرئيس لهذه المقالة، عنيت به، كتاب داغر الأخير: "الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية". فالحداثة هي المحور، والمنهج في قراءة القصيدة هو الأساس. كما أن تسليط الضوء على الشعراء الثواني، أي الذين لم يحظوا كغيرهم بقدر وافر من الشهرة، أمرٌ يجمع بين مفكرينا. فالمسألة لا تتعلّق فقط بالشعر، بل بالعقل الذي أنتجه، وبالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أحاطت به، وبالمجتمع الذي تلقاه بعد إنتاجه. كلها أمور أخذها بالاعتبار داغر عندما درس القصيدة العصرية، كما أنها كانت محور اهتمام أركون عند دراسته للتراث العربي الإسلامي خلال أربعين سنة من العمل الدؤوب.
إن علاقة اللفظ بمسمّاه وبمرجعه قد حددت عملية بحث داغر عما يسميه بـ "حمولات الحداثة"، إن على صعيد الخطاب الغربي، أو على صعيد الخطاب العربي. فتبدأ بذلك عملية الاستجواب، والمساءلة، في سبيل التوصل إلى معرفة الفرق بين معنى الحداثة في شرق المتوسط وغربه. يبحث عن السبب وراء صدور الخطاب العربي: هل هي الفلسفة، أم الجمالية، أم الأدب، أم التثاقف، وما نتج عنه من "تشوّف" و"تماثل"؟
بارعٌ داغر في صياغة أسئلته بهدف الإضاءة على إشكالية بحثه، ولفت الانتباه اليها. تظهر هنا، وبوضوح، مواهب التفصيل والإيضاح التي تتوفر عادة لدى الأستاذ المحترف، الذي يعنيه التواصل مع طلابه. يهدف من خلال بحثه هذا، "التأكد من صلابة القاعدة التي يرتكز إليها خطاب الحداثة الشعرية العربية، تمهيداً لإجراء مراجعة تحقيقية واسعة، تاريخية وفنية، في بيئات عربية مختلفة، ما يساعد في التأكد من حصول "تغيرات" (أو من عدم حصولها) ، أو من حصولها وفق وتائر مختلفة بين بيئة عربية وأخرى، أو من طبيعة هذه التغيرات" (ص12).
يستوقف القارئ هذا الالتباس الذي يشير إليه المؤلف بين معاينة الحداثة وبين تعيينها. هناك "بلبلة معممة" حول لفظ "الحداثة" ذي "الوجود الطيفي والمتقطع في آن". هل حدثت فعلا؟ هل يمكن ضبطها في لحظة تاريخية محددة من التاريخ؟ ويشير المؤلف إلى نوع من الشقاق في تعريف الحداثة بالإجمال على الصعيد الأوروبي أيضاً، متحدثاً عن تنازع بين محتويين: الأول مادي، والثاني ثقافي، نتج عنه تعيينات مختلفة للحداثة تفيد عن "الإختلاف على التعاقب" في الإبداع، المعروف خصوصاً في صراع الأجيال، على أنه صراع بين الأساليب والمضامين والقيم والسلوكات المتصلة به". كما يتوقف عند تبدّل حمولات لفظ الحداثة في الغرب بين بلزاك وبودلير وتورين، مشيراً إلى نزعتين، واحدة "جذرية" تؤرّخ للحداثة، وأخرى "نسبية" ترى فيها "قطيعة مع عهد تقليدي". هذا يعني أنه لا يمكن أن نقارب هذا اللفظ انطلاقاً من التقسيم التاريخي، أو من الزاوية السياسية أو الاجتماعية. فالحداثة في المفهوم الغربي "منزعٌ آخر، شامل العصور قبله، وهو منزع "القدامة" (أو "التقليد"). وهي، في ذلك، ذات حمولة اعتقادية، ما يجعلها مغرية، وجالبة التنافسات والجدالات".
يشدّد من خلال ذلك على أن الحداثة مفهوم مفتوح، يقبل النقاش كما الإجتهاد في الغرب الأوروبي. ويخلص إلى القول إن الحداثة باتت "حجر الزاوية" الفلسفي الذي يحدد في الغرب المدوّنة الفلسفية، أو معناها "المتعالي"، "في النظر إلى نفسها وإلى تاريخها، على أن "العقل"، أي طلب التناسب بين "الذات" و"التاريخ"، هو معيار النظر والتفلسف بالتالي" (ص20)
من هنا جاء تعيين حمولات الحداثة بداية في "الذات" أو في "الأنا أفكر" مع ديكارت، ثم في نقدها مع فرويد، إلى "موت المؤلف" مع فوكو. ثم يشير داغر إلى هيغل الذي فصل في تحقيبه التاريخي بين العهد القديم وعهد "قيد البزوغ"، مثبتاً "علاقة بين الزمني والتاريخي، مرهونة بفعل البشر". إن ما تقدّم به هيغل يجعل من الحداثة "تحقيقات" لمبدأ "الذاتوية"، تنفصل بموجبه عن النطاق الديني، لكي تخضع بالتالي "لقواعد يحددها الذوق أو البرهنة أو القضاء أو ما يتعاهده البشر ويتواضعون عليه".
يخلص داغر إلى أن هذا المسار الذي ترصّده في الغرب قد أدّى إلى التداول بألفاظ مثل: المواطن، والفرد، والكائن، والحرية الفردية (بمعنى القدرة على التفكير الحر والمراجعة النقدية)، والاستقلال الذاتي، والفكر الموضوعي، والتعبير الذاتوي، وغيرها من الألفاظ التي تبلورت تباعاً.
فإذا كان واقع الحال في الغرب جدل يلخصه داغر بين لفظين: "المعاينة" و"التعيين" في ما يخص الحداثة، فما الذي سيترصده على صعيد الخطاب العربي؟ إنه أيضاً يجد أن الامر يتعلق بجدل يمكن حصره بلفظين: "التثاقف" و"المناعة" (...).
تعلّمت منه الكثير في الفلسفة، والنقد، والجماليات، والشعر، وفي التعاطي مع المصطلح. إنها فرصة الآن لأقول له: شكراً.
(كلمة في الندوة النقدية حول كتاب شربل داغر: "الشعر العربي الحديث: القصيدة العصرية"، في المهرجان اللبناني للكتاب، في 17 آذار 2012، في انطلياس – جبل لبنان).