لم يفاجئني شربل داغر في كتابه الجديد "الشعر العربي الحديث - القصيدة العصرية". فأنا اعرفه منذ عقود، أيام الدراسة وأيام السفر وأيام العطاء الأدبي، وصولاً إلى كرسي الأستاذية. حتى عندما كان شربل يتكاسل إنما كان يكتنز ويخزّن، على طريقة "الملك يلهو"، وعندما تحين الفرصة يعطي بكثافة، هي وليدة التعب والسهر والتدقيق الذي لا يتعامل باستسهال أو بتسرع مع الموضوعات وطرق مقاربتها.
هذه الانطباعات السريعة ليست تحية مني إلى زميل على طريقة "الإخوانيات"، إنما هي واقع عاد إلى رأسي متزاحماً عندما قرأت الكتاب. فالكاتب ليس طارئاً، لا على الحداثة، ولا على العصرنة، وهو الذي له دواوين شربت، في وقت مبكر، من نبع التغايرية، وتوكأت بما يشبه المغامرة على التجريب. لذلك هو حين يقارب الشعر الحديث إنما يعكف على أدوات هي لعبته وملعبه في آن. يركّز عليها تركيز الخبير العارف بخباياها، لغة وصوراً وتصّوراً بكل ما للكلمة من معنى.
واضح من الكتاب أن الدكتور شربل داغر ينطلق من ثقافة تراثية راسخة. أساساً لا يمكن الوصول إلى التجاوز ما لم نختبر محطة الانطلاق، ونمتلك ألغازها وفنونها... وإلاّ يكون بناؤنا على الرمال. وتجربة شربل داغر في هذا الكتاب، وغيره قبله، لاسيما في الشعر، تثبت أنه رفيق الصخر يتعامل معه بالصلابة المطلوبة، ويؤسس على متانة ما يرجو له أن يدوم.
وتتحاور تلك الخلفية التراثية عنده مع ثقافة منفتحة ومستعدة للقبول والرفض، بعد التجريب والانتقاء. وتلك واحدة من سمات العقل الجدلي الذي يتحلى به شربل داغر، الماهر في النقاشات الفلسفية الكينونية، الهادفة دوماً إلى وضع إطار صالح للتحرك ضمنه باتجاه فتوحات جديدة. فالتجارب العربية، التي لم تخرج إلى العالم، موجودة عنده، جنباً إلى جنب مع تجارب عربية سبحت في فضاء الفكر الغربي، ومتحاورة مع تجارب أوروبية غربية اجتذبت الآباء المؤسسين للحداثة منذ آواخر النصف الأول من القرن العشرين، وربما قبل ذلك.
ويمسك شربل داغر تلك الخيوط ويحركها تحريك المقتدر العارف لما يريد. فإذا بكتابه مترامي الأطراف والثقافات والأصوات التي تدور حول محورية الحداثة والعصرنة في الشعر، وتسعى إلى اختراقها وامتلاك أجزاء منها بغية التأسيس عليها.
قد يتساءل كثيرون، أمام مئات، إن لم يكن آلاف الأبحاث، عن الشعر العربي الحديث: هل غادر الشعراء من متردّم؟ بمعنى هل ثمة مجال للمزيد من الأبحاث غير المكرّرة، والتي تعيد طرح إشكاليات قديمة على طريقة المزيد من الشيء نفسه؟
الحقيقة أن اضافة شربل داغر في هذا المجال تكمن، في رأيي، في المزاوجة الذكية بين الذاتي والموضوعي (وضمير المتكلم موجود بكثافة واضحة في معظم أجزاء بحثه). يعني أنه يصدر عن تأملات شخصية في الموضوع بما هو تجربة ذاتية، وعن متابعات حيادية للموضوع بما هو موضوع مجرد. وهذه توليفة عالية المخاطر لا يمكن الوصول إليها إلاّ لمن بلغوا من الاقتدار في البحث شاؤاً عالياً.
وصعوبة قراءة كل هـذا البحث المتشابك المتداخل المتوالد المكتنز، تكمـن فـي كونه غير بسيط في جدليته الداخلية. لذلك ليس سهلاً الارتقاء إلى مدوناته دائماً. لا يهم! فذوو الاهتمام من المختصين، وأكاد أقول المحترفين، يتكبدون مشاق الغوص على اللؤلؤ. أما الأقل جلَداً وخبرة فحسبهم أنهم امام نص يخلق جوّا، يشيع مناخاً، ينشر حالة تحرّض على التقصي والمناقشة. مثلا لا يمكن المرور بسهولة امام فكرة "أطياف الحداثة، وليس طيفها" (ص 12)، ولا على فكرة أن الحداثة مفهوم مفتوح" (ص 18). وقد يستعصي على كثيرين إدراك واقع الالتباسات بين الحديث والجديد والحر (ص 25)، أو استيعاب دلالات "احتياج الشعر الى النثر" وانعكاس ذلك على اتساق مستوى الشعرية.
ومن يتصفح كتاب داغر، يكتشف قبل القراءة المتأنية، كم هو ماهر في وضع العناوين الجذابة. ربما هي لوثة الصحافة التي برع فيها داغر أيام عز الكلمة المكتوبة. كل عنوان مادة لكتاب، وكل فكرة فتح لملف، ودعوة إلى اعادة النظر في مسلمات ومتوارثات. وهذا على ما أعتقد هو العصب الذي عمل عليه داغر: عدم القبول إلاّ بعد نقاش، وإخضاع ما يُعتقد أنه بدهي لفحص العقل الذي يقرر الرفض أو التبني أو موقفاً بين بين.
من العناوين اللماحة التي تفتح ملفات وتحرك جوامد: "الموعد العروضي" (ص 39)، "سوق الشعراء الكاسد" (ص 243)، "ظلام الشعر" (ص 262)، "شعر المجلس وشعر المطبعة" (ص 276)، "مثول القصيدة" (ص 371)، وغيرها كثير لا مجال في هذه العجالة للدخول في فضاءاتها. كلها عناوين - تساؤلات. وكل تساؤل مقدمة، أو دعوة إلى اعادة التأمل في الأصول والجذور، وفي أبجدية الفكر، كما في عودته إلى طرح السؤال التالي: "هل يوافق دخول الطباعة إلى ثقافة ما، مثل الثقافة العربية في القرن التاسع عشر، دخول منظور جديد إلى الكتابة نفسها، فلا يقتصر الانتقال من عهد نسخي إلى عهد طباعي على الشأن المادي الصرف، بل يطاول أيضاً أبنية الثقافة وتعبيراتها؟" (ص180). ليست الإجابة هي المهمة هنا. يكفي طرح السؤال الذي قد يفتح كوة في جدارات جامدة!
أشياء كثيرة أعجبتني في كتاب شربل داغر، وتعلمت منها الكثير، رغم قدم عهدي بدراسة الشعر الحديث وأدواته وشرفاته. تجربة محمود سامي البارودي مثلاً الذي حّور بحر المتدارك من 8 مرات "فاعلن" إلى مرتين مع الوتد مرتين (علن). طرحتُ هذه الفكرة أمام مجموعة من الأساتذة الجامعيين المشهود لهم، ومن بينهم أستاذ مقتدر لعلم العروض، ففوجىء باكتشاف داغر، ووعد بالتأسيس عليه، لاسيما وأن داغر أشار إلى أن هذه التجريب عند البارودي ربما يكون أول قصيدة في شعر التفعيلة (ص 464).
في "الموعد العروضي" عودة إلى مسألة الأسبقية المعروفة الى الشعر الحر بين السيّاب والملائكة، التي يستغلها الباحث بوابة للمزيد من التقصي، وليس لحسم أسبقية وهمية، وإنما لتأصيل تجربة مغادرة أقاليم درج عليها الشعر مئات السنين.
وهنا أود سريعاً أن أورد تجربة شخصية حول الموضوع نفسه، حيث التقيت المفكر المصري الراحل د. لويس عوض في القاهرة العام 1983، وسألته رأيه في أيهما كان السبّاق: الملائكة أم السيّاب؟ فقام من مقعده إلى مكتبته، وأخذ كتاباً له اسم: "بلوتولاند وقصائد اخرى"، كتبه في كامبريدج العام 1942، ودفع به إلي قائلاً: اقرأ وستقع على الجواب... وعندما قرأت اكتشفت أنه سبقهما الى شعر التفعيلة بخمس سنوات على الأقل!
لن أطيل. بل سأختم بما ورد في خاتمة الكتاب، وهي خاتمة مفتوحة على رؤى أخرى مختلفة، وربما مكمّلة، حيث يشير الباحث إلى أن "مهمة كتابة تاريخ شعري واحد أو جامع اشكاليةٌ في حد ذاتها" (586) اساساً، ليس المطروح مقاربة مدرسية كتبية شاملة مانعة، وانما طرح الآفاق التي يمكن السباحة فيها، كل بأدواته الذاتية وبمهاراته.
لفتة أخيرة، صديقي شربل، في إهدائك الكتاب لي تقول: "هذا ما ارتكبتُ". أطمئنك: ليس في الأمر أي ارتكاب، أو فلنقُلْ انه ارتكاب جميل!
(كلمة في الندوة النقدية حول كتاب شربل داغر: "الشعر العربي الحديث: القصيدة العصرية"، في المهرجان اللبناني للكتاب، في 17 آذار 2012، في انطلياس – جبل لبنان).