يستوقفنا كتاب الباحث والشاعر والناقد الجمالي، شربل داغر، الأخير "العربية والتمدّن"، الذي صدرت طباعته الاولى، في العام 2008، عن" دار النهار" و"منشورات البلمند"، ولا سيما مقاربته الداعية إلى وجوب النظر في العلاقة بين تعليم العربية، وتعليم اللغات بعامة، وبين التمدّن والحداثة.
ومن اجل ذلك، كان لا بدّ لشربل داغر من أن يضع خريطة جغرافية ـ تاريخية يبيّن فيها مقام العربية وحالها التي انتهت إليها، إبان المتصرّفية، أو ما قبلها بثلاثين عاما، وهو الزمن الذي افترضه المؤرخون ومنظّرو تاريخ الثقافة في لبنان، على انه مطلع النهضة. فتبين له، لدى استقرائه تاريخ تعليم اللغة العربية لدى سائر الملل، على التسمية القديمة، ان تفاوتا بيّنا كان يسم واقع التعليم هذا: ففي حين اتّسم تعليم العربية في الحلقات والكتاتيب والخلوات والحوزات، سواء في جبل عامل أو المدن الساحلية (طرابلس، بيروت، صيدا)، بقدر كبير من الظرفية وعدم الثبات، ولا سيما في القرنين السابع عشر والثامن عشر، انتظم التعليم في المدارس التابعة للطائفة المارونية، بدءا من مطلع الثامن عشر (1736) وفق درجات ثلاث: الدنيا والمتوسطة والعالية. وقد اقتبست السلطنة العثمانية هذه الدرجات (الرشدية، الإعدادية، العالية) لترسم بها المسار التعليمي للمدارس التي افتتحتها للملل، بدءا من منتصف القرن التاسع عشر، في جبل لبنان وألويته ومدنه.
لكنّ أبرز النقاط التي سلّط الكاتب عليها ضوءا كاشفا هي ربطه التمدّن الذي حازه اللبنانيون، على اختلاف مللهم، بنشاط من الانشطة الفكرية والثقافية التي كانت جارية في ظهرانيهم؛ فتعليم العربية، على ما أشرنا، بات للموارنة كميدان مميز ومجال امتياز ومساواة مع إخوانهم من المسلمين. على أن هذا التعليم البالغ مداه المتقدّم، بحسب المؤلف، كان علامة على ان عصر الانوار العربي، الذي اصطلح المؤرخون على تسميته عصر النهضة أوائل القرن التاسع عشر، إنما حصل منذ ما يزيد على المئة عام من هذا التاريخ .
وفي سياق بحثه، استند المؤلف الى ظاهرة الترجمة اللافتة في أوساط النخبة المتعلمة المدينية دلّت على ثلاثة أمور بالغة الأهمية، بحسب داغر:
أولا: بلوغ تعليم اللغات، مقرونا بالفصحى "المليحة" الذروة، وشروع النخبة من متعلّمي اللغات اللبنانيين في الترجمة الأدبية والعلمية، على نطاق واسع (البستاني، الشدياق، اليازجي، خليل الخوري، وغيرهم.
ثانيا : إسهام المترجمين والصحافيين اللبنانيين، المتضلّعين من اللغات، في الحراك الاجتماعي والسياسي والعمراني ـ بل المدني ـ القائم بين الغرب، ممثلا بفرنسا، في المقام الاول، وانكلترا، في المقام الثاني، وبين الشرق العربي، الناهض لتوّه، والساعي إلى نسخ التجربة الفرنسية في إقامة مؤسسات الدولة العامة، ومثال الخديوي محمد علي كان لا يزال عالقا في الأذهان. وكان للشاميين ممن أرسلوا في بعثات علمية، على إثر حملة نابليون بونابرت إلى مصر، إسهام كبير في نقل 31 كتابا من أصل 191 ترجمت في عهد الخديوي محمد علي. وأورد الباحث، كذلك، دليلا آخر على اشتغال الكثيرين في الصحافة، مترجمين ومحرّرين ومعلّمين، ممن يسّروا انتقال اللغة، من حال الانغلاق على الأصول ومحدودية القول وركاكة الجملة وعامية العبارة، إلى لغة عربية فصيحة، متينة التراكيب ميسّرة العبارات، ذات مصطلحات جديدة منحوتة ودالة على الحياة المدينية بمختلف مظاهرها، مما أدخلته المدنية الغربية إلى مدننا العربية وفي طليعتها مدينتان: حلب وبيروت .
ثالثا، اضطلاع هذه النخبة من المترجمين الصحافيين بمهمة الإبداع، شعرا ونثرا وقصة. والحال أن الباحث تقصّى تقصّيا دؤوبا عن اللحظة التي انتظم فيها الإبداع وبات مستقلا برأسه عن المناسبات، واستدعاء المقامات الاجتماعية والسياسية التي لطالما كانت لصيقة بالأدب، لصوق المتأدّب بذوي السلطان.
فكانت هذه اللحظة، برأي داغر، أوان نشأة المثقف المبدع، الذي وفّرت له الصحافة فرصة استقلاله المهني والاجتماعي، فاندفع الى تكوين صورته العصرية و"شعره العصري" (خليل الخوري).
وبناء عالى ذلك، يخلص داغر إلى ان عصرنة الادب العربي (اللبناني تحديدا)، شعرا وقصة ومسرحا ورواية، إنما انطلقت أواخر القرن التاسع عشر. وأورد دلائل على استخلاصه عيّنات من شعر خليل الخوري العصري، إلى جانب رزق الله حسّون وسليم عنحوري وغيرهم، ممن تلاعبوا بالفضاء الطباعي، ونوّعوا بالقوافي وابتكروا القصائد ذات الأشطر، تمثلا بالشعر الأجنبي..
وأيا تكن التساؤلات حول ثبوت صورة التمرد على الأصل الملّي، لكل من هؤلاء المبدعين، وحول تنامي فردانية كل منهم، على النحو الذي يصفه داغر، وحول البون الشاسع الذي اصطنعوه حيال أصولهم، فإن البحث الشيّق والعميق الذي أجراه الباحث أعادنا إلى بدء عزيز، عنيت به صلة النخبة باللغة العربية وبالتمدّن وحركته، وهما غايتان أثيرتان إلى يومنا هذا.
(جريدة "السفير"، بير وت، 5 شباط 2010).