1 - قراءات ثلاث كبرى لـ"قصيدة النثر" العربية
يتصف مُنجز "قصيدة النثر" العربية بدءًا بالكثرة، إن نظرنا في مُتراكم النصوص منذ حركة "شعر" اللبنانية إلى اليوم. إلاّ أنّ الدراسات والبحوث الخاصة بها قليلة، كأن تُخصص لها فصول من كُتب أو مقالات في دوريات، شأن الأعمال المهمّشة في تاريخ الأدب العربي، التي يقتصر النقاد عادةً على الإلماح إليها في المتون، أو ذكرها عَرَضًا في الحواشي. وإذا أعدنا قراءة ما كُتب عن "قصيدة النثر" تبين لنا دمجها عادة ضمن دراسة الحداثة الشعرية العربية، التي تؤالف وتُقارب بين هدم العمود والالتزام بالتفعيلة وبين ظاهرة تُجاوز الوزن بوسائل تعبيرية جديدة، لا صلة لها بالإيقاع الصوتي إلقاءً وتقبّلاً بالسماع، أو اشتراطه مَرْجعًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه. وإنْ خُصص لـ"قصيدة النثر" بحث بأكمله، فالقصد الاساسي من ذلك هو إدانة الظاهرة، ونفي صفة الشاعرية عنها بمسبق الحكم المعياري القائم على إقرار ضرورة الوزن، ووصفها ضمنًا وعلنًا، بالتنكّر للتراث الشعري العربي والتمرّد على السنن الادبية الموروثة الجازمة بثنائية النثر والشعر.
وكذا تنكشف عند قراءة المدونة النقدية العربية ثلاث رؤى/مواقف أساسية سنحرص على تحليلها في هذا المقام، وهي كالآتي:

أ . رؤية تصل بين "الشعر الحر" (قصيدة التفعيلة) و"قصيدة النثر" ضمن منظور حداثي مشترك، وتنكشف في أعمال أدونيس (علي أحمد سعيد) وكمال خير بك وشربل داغر النقدية...

ب . رُؤية تنتصر صراحة "للشعر الحر" (قصيدة التفعيلة)، حسب التسمية الشائعة، على "قصيدة النثر"، كأن نستدل عليها بما كتبه نقدًا كل من سامي مهدي وعز الدين المناصرة، على وجه الخصوص...

ج . رؤية تنتصر لمستقبل الشعر العربي دون القطع مع راهن القصيدة وماضيها، وتظهر في عدد من القراءات التي لم تؤسس بعد لنظرية نقدية أو لأسس نظرية نقدية مرجعية. ونُشير هنا إلى يوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا وفاضل العزّاوي وبول شاوول وحاتم الصكر وفخري صالح، على سبيل المثال، لا الحصر.


2-القراءة الأولى:
الحداثة الجامعة بين "الشعر الحر" (قصيدة التفعيلة) و"قصيدة النثر"
2-1 . يعتبر أدونيس أنّ اللحظة الجبرانية هي الحد الفارق بين زمنين في تاريخ الشعر العربي، إذ يُمثل جبران "انبثاق زمن "الرؤيا" التي تطمح إلى تغيير العالم..." ، كأن يسعى إلى استكناه العالم عوضًا عن تفسيره، بالسعي إلى مقاربة عديد أسراره، وإبداع "الشكل الجديد" القادر على تبليغ المعنى المختلف، والحرص على كتابة "الحرية" .
فيتحدد الشعر بـ"الوزن" الذي هو ظاهرة "خارجية سطحية"، على حد قوله، بل يُفارق بين "الشعر" و"النظم"، كما يُغاير بين الشعر وما ليس شعْرًا ضمن "قصيدة التفعيلة"، أي ما سُميَ "شعرًا حُرًا" في المصطلح المتداول، وفي مجال "قصيدة النثر" على حد سواء .
إنّ انتصار أدونيس الواضح لـ"قصيدة النثر" مشروط بمدى شاعريتها، وليس بظاهر الخروج عن الوزن، كما لا يعني الالتزام بالوزن، بالضرورة، كتابة شعر.
ولئن تحدد الوزن بـ"الايقاعات القديمة" فإنّ لـ"قصيدة النثر" إيقاعها الحادث المختلف المتعدد .
وإذا الانتصار لـ"قصيدة النثر" ليس إلاّ بعضًا من الانتصار لما أسماه "القصيدة الجديدة"، التي تشمل كُلاّ من "الشعر الحر" (قصيدة التفعيلة) و"قصيدة النثر".
فالتحديث، إذن، لا ينحصر في الظاهرة الإيقاعية، ممثلة في الوزن، أو في السعي إلى إنشاء إيقاع/إيقاعات جديدة، بل يتسع مَداه بالمعنى الشعري، بما يعمق ويغمض ذلك الما-وراء الذي يتجاوز ظاهر الدلالة (signification) إلى بعيد التدلال (significance) . فلا يفارق أدونيس، بهذا المنظور، بين "الشعر الحر" (قصيدة التفعيلة) و"قصيدة النثر"، ضمن جامع مشترك هو "القصيدة الجديدة" أو "الحديثة"، تلك الظاهرة الحادثة في تاريخ الشعر العربي المنفتحة على ماضي التراث ، كأن يُشير الباحث إلى تجاوز الواقع في بنية هذه "القصيدة الجديدة" وإلى "الحدس الصوفيّ" والحرية والتخييل و"اللا-نهائية" ومعنى الحياة والموت وطرح فكرة الإنسان الكامل ، ومستقبل الوجود.
إنّ "القصيدة الجديدة" أو "القصيدة الحديثة" أو "الشعر الجديد" بنية شكلية جديدة بمجموع دوال أسلوبية وموسيقية حادثة، وتمثل جديد مختلف أيضًا للمعنى الشعري، إذ هي/هو: "كشف عن حياتنا المعاصرة في عبثيتها وخللها (...) كشف عن التشققات في الكينونة المعاصرة" .
فهي تجربة استلزمت نهج "التجريبية"، تلك "المحاولة الدائمة للخروج من طرق التعبير المستقرة، أو التي أصبحت قوالب وأنماطًا وابتكار طرق جديدة. وتعني هذه المحاولة إعطاء الواقع طابعًا إبداعيًا حركيًا ". إلا أن قارئ أدونيس، في هذا الحيز النظري، يصطدم بمطلق معنى التجربة في اتجاه، وبنسبوية (relativisme) التجريب آنَ التردد المضمر بين الالتزام بمسبق الوزن وحرية تجاوزه الذي ينكشف صراحة عند قراءة "المسرح والمرايا" ومجمل أعمال أدونيس الشعرية الأخرى التي نزع فيها غالبًا إلى إنشاء "قصيدة التفعيلة"، وعند اعترافه بأنه شاعر "ملوث"، هو الآخر بـ"التقليد".

2-2 . ويسعى كمال خير بك، بالمنظور ذاته لحداثة الشعر العربي، إلى دراسة "قصيدة النثر" في علاقتها بـ"قصيدة التفعيلة" (الشعر الحر)، بأن يحيل أيضًا على جبران خليل جبران، وتحديداً على "الظاهرة الجبرانية" . غير أن هذه الإحالة لا تعني لدى خير بك البداية الحاسمة في تاريخ الحداثة الشعرية العربية، إذ "الظاهرة الجبرانية هي بعض من الرومنسية"، والرومنسية استمرار في نهج القصيدة العمودية . في حين يُعتبر بدر شاكر السياب نقطة التحول الأولى الحاسمة في مسار الشعر العربي المعاصر، تليه حركة "شعر" ممثلة في النواة الأولى لمجلة "شعر": يوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي ونذير العظمة . كما يُشير إلى كتاب "يارا" (yara)، الصادر سَنَةَ 1961 لسعيد عقل، الذي جمع فيه بين "اللهجة اللبنانية" و"الأحرف اللاتينية" .
إن "الحداثة الشعرية العربية"، في منظور الدكتور كمال خير بك، موضوع للاختلاف بين اتجاهين، أساسيين كأن ينخرط الأول في ثقافة الشعر العالمي من موقع "قُطْري" (لبنان على سبيل المثال)، أو إقليمي (بلاد الشام وما جاورها)، ويسعى الثاني إلى التواصل مع أوسع الآفاق الكونية ايضًا بتمثل قومي عربي . إلا أن تمثيل أُفق الحداثة لدى خير بك بـ"قصيدة التفعيلة" (الشعر الحر) و"قصيدة النثر" معًا، كالذي تردد في مجمل أعمال أدونيس النقدية الخاصة بالشعر العربي المعاصر، يشي في عميق الخطاب النقدي ببعض من الانحياز لمشروع حركة "شعر" التحديثي، عند استقراء تفاصيله، منذ نشأة المجلة (1958) ومرورًا بأعوام التأسيس والإضافة، وانضمام عدد من الأسماء كمحمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا وأنسي الحاج وتوفيق صايغ وميشيل كمال وهنري حاماتي وشوقي أبي شقرا ، وصولا إلى الأزمة، وانسحاب أدونيس من هيئة تحرير المجلة، (العدد 27، 1963)، ثم توقفها عن الصدور (1964). وإذا بحثنا في أبرز سمات التحديث في تجربة "قصيدة النثر" من خلال مجلة "شعر"، وإصدارات دار "شعر" للنشر، أمكن إجمالها، حسب دراسة الدكتور كمال خير بك، في الآتي:
- إنشاء تفضية جديدة للشعر نتيجة التحول من الإنشاد، وتلقي السماع إلى الكتابة، وتقبّل القراءة البصرية.
- تفكيك البنية اللسانية التقليدية (فخامة القصيدة) بإحداث نحو شعري جديد يقوم على "سيادة الجملة الاسمية" و"شبه الجملة"، أي ظهور "الجملة الفوضوية" .
- تبسيط الخطاب الشعري .
- استخدام العامية احيانًا ضمن السعي إلى كسر منظومة التكرار باعتماد "الفوضى" مرجعًا للكتابة بعيدًا عن تأثير "النظام" المتقادِم.
- التوسل بالغموض، عكس الوضوح المخادع، الذي هو أفق تحديث القصيدة العربية في بعدها الدلالي.
- تحويل وجهة الإيقاع من الوزن، وتنغيم السماع إلى إيقاع الداخل.
- القطع مع مفهوم التراث الواحدي دون الانفصال عن "التراث المتعدد".
2- 3. ويتأكد هذا المنهج العام تَبعًا للمفهوم الحداثي الشامل عند قراءة شربل داغر، الناقد الذي يستثني هو الآخر القصيدة العمودية، ويؤالف ضمن التسمية الواحدة بين "قصيدة التفعيلة" (الشعر الحر) و"قصيدة النثر"، كما يعود إلى أربعينات القرن الماضي . وكأن جهد شربل داغر البحثي ينبثق، في الأساس، من مُحصّل مفاهيم أدونيس للحداثة الشعرية العربية (المستوى النظري- الخاص بالظاهرة)، ومن مُجمل النتائج التي أفضى إليها مبحث د. كمال خير بك، المترددة بين التنظير والإجراء، كأن يسعى شربل داغر إلى البحث في مجلات ثلاث هي: "الآداب" (1953 – 1954) و"شعر" (1957 – 1958) و"مواقف" (1968 – 1970) . وتتمثل إضافة شربل داغر النقدية، رغم التشميل المذكور، في استقراء فضاء "القصيدة الحديثة" بثقافة "الفنون التشكيلية" التي يعتمدها الباحث عند المقاربة، بين استخدام بياض الصفحة في تشكيل "القصيدة الحديثة" وفضاء اللوحة ، نتيجة الإقرار بأن "القصيدة الحديثة"، أكانت عربية أم أجنبية، هي جسم طباعي له هيئة بصرية مظهرية، حتى أنها ... "محسوسة" في بعض الأحيان (قصائد المستقبليين في "إيطاليا"، أو تجارب "القصائد العينية" في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية).
فتتضح أبرز سمات التحديث في مجال التفضية الخاصة بظاهرة "القصيدة الحديثة" لدى شربل داغر كالآتي:
- تنويع الحروف خطيًا: الطباعة، النسخ، العنونة، الحواشي، التنقيط، الترقيم...
- التنويعات الطباعية، كتفكيك الكلمة إلى حروف، واعتماد المساحة البيضاء (الجريان) ، الذي هو ظاهرة جديدة لم تألفها القصيدة العمودية القائمة على حدية البيت وتماثل التكرار.
- انتشار ظاهرة البياض داخل الجُمل، كأن يندس حضوره داخل الكلمات والحروف، ويبدد كثافة الاسترسال .
- اقتران التشكيل البصري الجديد بالمعنى الشعري وبالإيقاع، إذ ليس هو ظاهرة جمالية مرئية فحسب...
- تشريك المتقبل (القارئ) في إنشاء المعنى الشعري، ذلك أن الشعر العربي أخذ مع "القصيدة الجديدة" يقترب أكثر من القراءة منه إلى الإلقاء (أو المنبرية)، ويناسب الصلة الإنفرادية بين قارئ ومطبوع شعري أكثر منه بين الشاعر – الخطيب والجماعة .
- اتساع المجال الثقافي بتداخل عديد الأساليب وتوظيف مختلف الضمائر، من الحوار الذاتي إلى الحوار والسرد استنادًا إلى الغائب.
وكما القصيدة متعددة في واحد فإن الشاعر "مفرد بصيغة جمع" .
ولئن اختار شربل داغر "قصيدة النثر" سبيلاً وأُفقًا للكتابة ، فهو لا يفرق نقدًا بين "قصيدة التفعيلة" (الشعر الحر) و"قصيدة النثر" ضمن سياق واحد وتسمية مشتركة (القصيدة الجديدة) .

2-4. وإذا اختيار الوزن أو الاستغناء عنه لا يمثل أي إشكال في منظور شربل داغر الناقد، عكس تجربته الشعرية الحريصة على إنشاء التماثل بين لغة النص الشعري والمعنى الحادث أو الممكن والإيقاع الداخلي المختلف الرافض لـ"نمذجة" الوزن، فيلتقي بذلك مع كل من أدونيس وكمال خير بك في اعتبار "قصيدة النثر" بعضًا من كل، هو "القصيدة الحديثة" أو "الجديدة". وكما يتسع أفق البحث في ظاهرة "الحداثة الشعرية" العربية بهذا الازدواج يضيق بالتردد بين القول بنموذج إيقاع الوزن وبين التمرد على جاهز الإيقاع.
كذا المشروع الأدونيسي يتسع ليشمل كلاّ من كمال خير بك وشربل داغر. إلاّ أنّ اللافت للنظر، عند استقراء مجمل أعمالهما النقدية، التجاذب بين موقف الشمول في تمثُل الظاهرة الحداثية الشعرية لدى داغر والتزامه بقصيدة النثر تحديدًا عند الكتابة، وجمْع أدونيس بين "قصيدة التفعيلة" و"قصيدة النثر" ، بضرب من التماثل بين الموقف النقدي والكتابة الشعرية. أما خير بك فهو الباحث الذي يستضيء عَلَنًا وضمنًا بالمنهج العام الأدونيسي.


3-القراءة الثانية: "قصيدة النثر"، تسميةً شائعةً ومُسَمًّى غامِضًاً
3-1. ولئن آثر محمد بنّيس الصمت عن "قصيدة النثر" والانصراف إلى "قصيدة التفعيلة" كتابةً، ونقدًا. فقد سعى عز الدين المناصرة إلى إعلان رفضه الصريح "لقصيدة النثر" والتزامه بـ"قصيدة التفعيلة" عند الكتاب .
فيعود المناصرة إلى بدايات "قصيدة النثر" ، ممثلة في ديوان "هتاف الأودية" لأمين الريحاني ، وإحدى قصائد ديوان "الكلم المنظوم" لجميل صدقي الزهاوي ، و"دمعة وابتسامة" لجبران خليل جبران، و"بلوتولاند وقصائد أخرى "للويس عوض . إن إحالة عز الدين المناصرة على بدايات "قصيدة النثر" يؤكد لا محالة على أنها ظاهرة ضاربة بجذورها في الماضي القريب والبعيد، إذا بحثنا في نص "سطيح الكائن" من سيرة ابن هشام، وخطب العرب، كأقوال قس بن ساعدة، ونصوص أبي يزيد البسطامي وجلال الدين الرومي والنفري والكاهن الكنعاني وإيلي ملكو و"كتاب الموتى" الفرعوني، وملحمة جلجامش و"نشيد الأناشيد"...
غير أن "فصيدة النثر" لم تتخذ لها سمات النص الشعري الجديد المختلف إلا بحركة "شعر" اللبنانية، ولم تتبلور التسمية وتستقر، في ما يشبه "النوع الأدبي" الحادث، إلا بمقالة أدونيس الشهيرة سنة 1960، وبمجموع "القواعد" التي ذكرتها سوزان برنار .
إن العلامة الفارقة بين الشعر والنثر لدى المناصرة تتمثل أساساً في الإيقاع، وبذلك يحضر سؤال الاختلاف بين "الإيقاع الصوتي" و"الإيقاع النبري"، وإن سلّم الباحث بوجود "الإيقاع الصوتي"، وذهب إلى ترجيح نفي "الإيقاع النبري" ، شأن التمييز بين "الإيقاع الخارجي" و"الإيقاع الداخلي" ا، لذي يُعتبر في منظور المناصرة، تثنية لمُسمى واحد، إذ لا وجود أصلاً لهذا الذي يُسمى إيقاعًا داخليًا. وبذلك ينحصر وجود الإيقاع في الصوت أي التنغيم (موسيقى الشعر أو الوزن) وما يتقبّل سمَاعًا.
وإذا في "النبر" و"الإيقاع الداخلي" أساس نظري يعتمده عز الدين المناصرة في تحديد موقفه الرافض لـ"قصيدة النثر" بالتشكيك فيها ، رغم إقراره الكم الهائل المتمثل في عدد نصوصها، عبر "دفقات" ثلاث، كأن تُحد الأولى بالفترة الفارقة بين 1947 و1957، ومن شعرائها توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وأدونيس في "المسرح والمرايا" و"أقاليم النهار والليل" ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا. أما الدفقة الثانية فهي تحد بالمدة الفاصلة بين منتصف الستينات و1979، ومن شعرائها سرجون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وصادق الصائغ من العراق وميشيل حداد من الأردن ورياض فاخوري وسمير الصائغ من لبنان وسنية صالح من سوريا. وقد تزايد عدد شعراء هذه "الدفقة الثانية" خلال السبعينات بظهور نصوص عباس بيضون وبول شاوول وسليم بركات وشربل داغر وبسام حجار ومحمد العبد الله وحمزة عبود ووديع سعادة ورشيد الضعيف وعبد القادر الجنّابي وعبد الكريم قاصد ومحمد علي فرحات وأحمد فرحات وطلال الحسيني ورياض الصالح الحسين ومنذر المصري وكاظم جهاد وشوقي عبد الأمير وجليل حيدر وصدر الدين الماغوط. وأما "الدفقة الثالثة"، التي انطلقت منذ الثمانينات، فقد شهدت ظهور نصوص قاسم حداد وعلي الشرقاوي وعقل العويط ونوري الجراح وهاشم شفيق وأمجد ناصر وشاكر لعيبي ورفعت سلاّم وحلمي سالم وسيف الرحبي وعبد الله زريقة ووليد خزندار وزكريا محمد وغسان زقطان وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان وعائشة أرناؤوط وعيسى مخلوف وخالد المعالي.
وقد تعاظم عدد شعراء قصيدة النثر منذ 1985 . فتكمن أهمية كتاب عز الدين المناصرة أساسًا في محاولة التوثيق والتأريخ للظاهرة عودًا بها إلى الجذور التراثية والتجربة الرومنسية (جبران خليل جيران على وجه الخصوص)، وبحثًا في متراكم نصوص على امتداد خمسة عقود تقريبًا. وإذا موقف المناصرة من "قصيدة النثر" متردد بين إقرار الظاهرة في اتجاه ونفي "الشرعية" عنها في اتجاه آخر بمزيج من المفاهيم الأدبية والجمالية المعيارية الإيديولوجية، كالتسليم في خاتمة كتابه بأنها "جنس مستقل ونص مفتوح على الأنواع وعلى الآخر (هجين). أما إيديولوجيا قصيدة النثر فهي إيديولوجيا العولمة (...) العولمة بجماليتها الشكلية ووحشيتها المرعبة... .

3-2. وتعود حداثة الشعر العربي المعاصر، حسب منظور سامي مهدي، إلى أربعينات القرن الماضي في العراق، وتحديدًا إلى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري . أما مؤسسو حركة "شعر" في الخمسينات من القرن العشرين فقد كانوا مغمورين في ساحة الإبداع الشعري العربي. ولئن استقطبت حركة "شعر" بعض العروبيين إليها، فقد كان أغلب أعضائها ينتمون إلى "القوميين السوريين" . ومن أبرز سمات هذه الحركة، في تعريف سامي مهدي لها، حضور اتجاهين ثقافيين مُتغايرين فيها: الثقافة الأنغلوسكسونية والثقافة الفرنسية . ولئن تجاذبت الحركة في البدء حداثة قصيدة التفعيلة وحداثة "قصيدة النثر" فقد أفضى هذا التجاذب بعد تقلص تأثير الاتجاه الأنغلوسكسوني إلى هيمنة "قصيدة النثر"، واصطدام هذه الحركة بمأزق التكرار وانحباس الأفق بسبب الالتجاء إلى الغموض والسريالية . كذا ينحصر وجود "قصيدة النثر" لدى سامي مهدي في حركة "شعر"، إذ بتوقف هذه الحركة حدث تلاشيها . إن مشكلة "قصيدة النثر" ناتجة في الأساس عن "فوضى الشكل"، إذ حينما هدمت الشكل العمودي وتجاوزت التفعيلة لم تؤسس لها شكلا جديدًا . وما تداوله بعض نقادها على كونه مقاييس ليس إلا أحكامًا مطلقة لا تعني في الأساس أي وجه للخصوصية الأسلوبية والدلالية . إن "قصيدة النثر"، في تقدير سامي مهدي، بنية مفككة، فوضى غير قادرة على التأسيس لجديد مختلف، ظاهرة عاجزة عن نفي صفتها "النثرية" الملازمة لها بناء ووظيفة جمالية. فلا اختلاف، إذن، بين عز الدين المناصرة وسامي المهدي في تحديد "الإيقاع" بنفي ما سُمي "الإيقاع الداخلي" ، إذ الإيقاع لا يمكن أن يكون إلا صوتيًا. وبهذه القراءة لمتراكم نصوص "قصيدة النثر" ضمن حركة "شعر" على وجه الخصوص، بمسبق الموقف الرافض لها، ينتفي أي مستقبل لهذه التجربة ، أو يتصف هذا المستقبل بدءًا بالغموض وانغلاق الأفق .

4-القراءة الثالثة: قصيدة النثر وضرورة تحديث الكتابة الشعرية
4-1. فالقول بحداثة كُل من "قصيدة التفعيلة" (الشعر الحر)، و"قصيدة النثر"، وتفضيل "قصيدة التفعيلة" على "قصيدة النثر"، بنزع صفة الشاعرية عنها، هما موقفان متفقان، وإن اختلفا في التسليم بأن "قصيدة النثر" مشروع حداثي لم يكتمل بعد، رغم تراكم تجربة عقود ونصوص. وهو يبحث له عن سمات جمالية دلالية شعرية خاصة. لذلك تغلب على القراءتين، صفة التعميم في تنزيل هذا النوع ضمن مجمل موضوع حداثة الشعر العربي أو الحكم عليه بـ"النثرية" و"فوضى البناء" وغياب الأفق.
إلا أن قراءة ثالثة تستدعي التوقف في هذا المجال، تلك التي يصل فيها أصحابها بين كتابة هذا النوع الشعري، والسعي إلى التنظير له، بإثبات شرعية وجوده راهنا، والحاجة الماسة إليه مستقبلاً، على اساس القول بضرورة مواكبة تطور الحياة وتحديث أساليب الكتابة الشعرية، كدعوة يوسف الخال الصريحة إلى الترجمة وإنشاء وسائل تعبير جديدة تلائم حياة الفرد الكاتب وواقع الوجود .
إن "قصيدة النثر"، بهذا المنظور، ضرورة أدبية لأداء وجود حادث مختلف، إذ الشعر لدى يوسف الخال ليس مجرد ظاهرة كغيرها من الظواهر التعبيرية الأخرى، بل هو "الوجود ذاته" ، بدلالة الوعي المختلف، وبالمفهوم التأسيسي لذلك الوعي المتجدد النابض حياة . إن قارئ آراء يوسف الخال في الشعر يلاحظ نزعته الرومنسية عند رفضه "التعقل" وإيمانه بـ"القلب" ، كأن يُشبّه الشعر بالمرأة: "يعصرك حين لا تعصر له قلبك" . كذا تُضحي "قصيدة النثر" اختبارًا وحيدًا لا بدّ منه لمواكبة الحياة الجديدة والحرص على إنشاء لغة شعرية جديدة. فهي البديل للعمود الشعري، الذي لم يعد قادرًا على تأدية تفاصيل الحالات والوقائع الجديدة، و"لقصيدة التفعيلة" (الشعر الحر) المترددة بين قديم الحال الشعرية وحادث الوجود ، إذ التقليد موت والتردد بين التقليد والتحديث وجه آخر للتقليد، ولا مفرّ من وضعية الانحباس هذه إلا بكتابة شعر "يستمد مفهومه ووجوده من الحياة. فإذا تغيرت الحياة تغير الشعر. إذا كان لا يتغير، فمعنى ذلك شيئان: إما أن الحياة وقفت، وإما أن الشعر هو الذي يقف متحديًا حركة الحياة" .

4-2. إن الحياة الجديدة تستدعي بالضرورة لغة جديدة وإيقاعًا جديدًا أيضًا، كوصف جبرا إبراهيم جبرا لإيقاع "قصيدة النثر" العربية بـ"المشروع" الذي يتبلور في الأثناء بفعل الكتابة وتراكم التجربة المنفتحة على المستقبل. "فهناك حضارة جديدة مسموعاتها مختلفة، أصواتها مختلفة، تُصدر إيقاعات مختلفة ... ولئن اتّصفت إيقاعات "قصيدة النثر" العربية اليوم بالانفلات عن إمكان الحد كـ"العروض القديم" فإن وضع مقاييس لإيقاع/إيقاعات جديدة ممكن في مستقبل التنظير لهذا النوع الحادث .

4-3. إن "قصيدة النثر"، بمنظور القراءة الثالثة، مشروع منفتح للكتابة لا يُقر جاهزية الشكل وثبوت المعنى لأنه إعادة نظر في مفهوم الشعر والعمل الفني عامة وتأسيس لرؤية جديدة للعالم بالنظر إليه على كونه "ناقصًا"، على حد عبارة، فاضل العزاوي، و"كذلك الموجودات والاشياء" ، إذ الفراغ هو أساس الوجود . كذا ترفض "قصيدة النثر"، بمفهوم تجربة العزاوي، السبل المسطورة، وتسعى إلى استقراء الفراغ، البياض، بُهمة الأشياء، اللاّ-معنى القادر على إنشاء معنى ما . فهي بدء لا يسعى إلى انقضائه، وهي السيرورة التي تنشد الاستمرار في المستقبل، بمنظور جديد للأدبية يحرص على تخطي ثنائية الشعر والنثر، على أساس القول بشعرية إبداعية شاملة توسع من آفاقها الفنية عند الانفتاح على مختلف الأجناس الادبية والفنون .
إن شرط الكتابة الشعرية، بهذا التوجه الإبداعي المختلف، الحرية أسلوبًا ورؤيًا . إلا أن الحرية تستدعي الحلم بالضرورة، كأن يُشبّه "ولوج منطقة الشعر (...) بولوج مدينة أسطورية مسحورة غامضة ، ذلك ما يوسّع أفق الشعر. كما يتآلف الحلم والواقع برمزية خاصة تجعل لغة الشعر "موجودة في كل الأشياء" تتبدى من خلالها وتنطق بها إيحاءً.
وإذا تلازمت الحرية والحلم والواقع، ضمن سياق اللغة الشعرية، يكون الاختلاف الذي هو الحد الفارق مفهومًا بين القصيدة و"اللاّ-قصيدة"، التي يُراد بها هدم النظام المتقادم بفوضى مؤسسة، يكون بها الانتقال "بالقصيدة الجديدة" إلى فضاء آخر غير الفضاء الذي قدمته لنا قصيدة جيل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة..." .

4-3. لم يعد الإيقاع الوزني، الذي يمثل على امتداد قرون العلامة الفارقة بين الشعر وما ليس شعرًا، الأساس الذي تُحد به شاعرية "القصيدة الجديدة"، بل إن الفوضى، انتفاء جاهزية المعنى، مغامرة البحث عن وسائل كتابية مختلفة عن السابق، هي بعض من مراجع الكتابة الحادثة، كأن يرى بول شاوول في "قصيدة النثر" قوة فوضوية مُدمرة تنفي الأشكال السائدة، وقوة منظمة تسعى إلى بناء "كل شعري" ، بضرب من التواصل والتقاطع بين الهدم والإنشاء، بنص شعري مختلف راهني الحدوث يرفض التسليم بجاهزية المعنى والإيقاع وقصدية الكتابة وواحدية القراءة أيضًا، بل إن القراءة، شأن الكتابة، مشروع للكشف والاكتشاف بعد أن راهن النص الشعري الجديد على طابعه الكتابي عند الانتصار للكتابي على الشفوي والتطريب والخطابة والمعنى الجاهز المباشر، إذ تمت مع "قصيدة النثر" محاولات كسر البنية التاريخية والإيقاعية للقصيدة العربية السائدة" بمنحى تجريبي اتخذ له عبر تراكم تجربة الكتابة سبعة "توجهات" كبرى أجملها بول شاوول في "التوجه ذي الملمح السريالي" كأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وخالد النجار وصلاح فائق وأحمد زرزور وعبد القادر الجنّابي وشبيب الأرمي ومؤيد الراوي، و"قصيدة الاختزال" التي سُميت أيضًا "قصيدة البياض" لمحاورتها فراغ الصفحة وانفتاحها على مختلف الدلالات والايحاءات، و"القصائد التي ترفض النمط الجاهز والإذعان لذاكرة نهائية" كعباس بيضون وأنطوان أبي زيد ورسمي أبي علي وشربل داغر ومحمد العبد الله، و"القصيدة القائمة على توليفية عناصر وجُمل دون ممارسة تأليفية ظاهرة" كيحيى جابر، و"القصيدة المقتصدة ذات الايماءات المشرعة" كأنطوان دويهي وعبده وازن وعيسى مخلوف وأيمن الأمين وسيف الرحبي وعقل العويط ووائل عبد الفتاح، و"القصيدة المطولة" كأنسي الحاج ("الرسولة بشعرها الطويل") وأدونيس (الكتاب) وقاسم حداد وأمين صالح وعدنان الصائغ، و"القصيدة القصصية" كأنسي الحاج في "لن" و"ماذا فعلت بالذهب"...
ولئن سعى بول شاوول إلى تحديد هذه "التوجهات" الكبرى في بناء "قصيدة النثر" بالإحالة على تجارب شعراء ونصوص تجارب، فإن التقسيم المذكور يظل تقريبيًا لتكرار أسماء شعراء ضمن التعريف بمختلف هذه "التوجهات" الكتابية. لذلك تتغلب صفة الفوضى على النظام ويتعسر تعريف "قصيدة النثر العربية" .
كذا التجريب، باعتباره منهجًا عامًا في إنشاء قصيدة النثر العربية، تُعتبر الحرية الحافز الأول عليه، والمغامرة سبيله، والعفوية وحدسية اللحظة الكاتبة بوعي التجربة ولا وعيها منشروطه الحينية، والبحث الدائم عن أشكال ووسائل تعبير جديدة تُواكب أحداث الوقائع وتُقارب أعمق الهموم وأدق الحالات في الذات الكاتبة أفقه المنفتح على مستقبل الكتابة.

4-4. وإذا القراءة الثالثة لحداثة الشعر العربي المعاصر لا تُداخل ولا تماثل بين "الشعر الحر" (قصيدة التفعيلة) و"قصيدة النثر"، بل تسعى إلى بيان أطوار ثلاثة لهذه الحداثة، كأن تتحدد البدايات بـ"الشعر المنثور" ويليه "الشعر الحر" (قصيدة التفعيلة) ليتسع أفق الحداثة بـ"قصيدة النثر". لذا يتضح لدى حاتم الصكر تقريبًا، الفوارق الجمالية للتجارب الشعرية الثلاثة بمفهوم تاريخي يتمثل حدث الانتقال من المشافهة إلى الكتابة، ومن الموسيقى إلى الإيقاع ومن تقبل السماع إلى القراءة. فالقراءة، إذن، هي أساس الكتابة ومرجعها في تشكل "قصيدة النثر"، وليست حدثًا بسيطًا عارضًا ينحصر وجوده في الاستماع كما هو الشأن عند تقبل القصيدة العمودية والبعض الكثير من قصائد التفعيلة، إذ القراءة هي بعض من النص الشعري الذي هو في حال تبنْيُن (Structuration) دائم يستلزم قارئًا/قُراءً دون أن يستقر على شاكلة نصية دلالية نهائية.
إن الإيحاء الدلالي المكثف الناتج عادة عن الجديد الاستعاري المفاجئ غير المنتظر، واتساع مجال التناص وتوظيف السرد والحوار من فنون أدبية مختلفة، وتشكيل الصفحة بما يقارب فضاء اللوحة، علامات لنص-مشروع يستدعي قراءة-شروعًا أيضًا، لتتعالق بذلك الكتابة والقراءة في مجال إبداعي مشترك، ينتهج سبيل المغامرة والسعي إلى الكشف والاكتشاف، ويرفض مسبق المعنى وجاهز الموضوع .

4-5. وإذا "قصيدة النثر" العربية مشروع كتابي جديد تولدت الحاجة إليه من داخل الشعر العربي، وبتأثيرات خارجية، كأن "تنتسب الصياغة النظرية لمفهوم قصيدة النثر"، في تقدير فخري صالح، "إلى أفق النظرية، في ضوء التجارب الشعرية الجديدة التي أرادت التخلص من ثقل الموروث، وضغط عمود الشعر العربي" ، إلا أنها تظل إلى الآن حبيسة الهامش ، نتيجة اصطدامها بـ"ذائقة شعرية" تقليدية تُباعد بصفة مسبقة بين الشعر والنثر، ولا ترى أي إمكان للشعر خارج دائرة الوزن. ولأن "قصيدة النثر" العربية مشروع كتابي جديد، كما أسلفنا، فإن قراءة هذا اللون الشعري الجديد تستدعي "ذائقة" جديدة وتمثلاً جماليًا مختلفا في علاقته بالوجود، وثقافة حادثة تقطع بالضرورة مع جمالية المشافهة وإيقاع الوزن و"وضوح" المعنى، وتسعى إلى معرفة نقدية جديدة بشروط إيقاع الصورة الناشئة وكتابة التفاصيل والغريب و"الفانتازيا" وعفوية اللحظة الكاتبة وإبداعية القراءة والتشارك الفاعل بين الكتابة والقراءة في تشكيل المعنى .


5- قصيدة النثر وجدل الإيقاع
5–1 . لا شك أن الحد الفارق بين القراءات الثلاث يتمثل أساسًا في الوزن، إذ تنتصر القراءة الثانية للوزن، وترى فيه أول مكونات الدالة على شاعرية النص عند مقارنته بالنصوص الأدبية الأخرى، في حين تنتصر القراءة الثالثة عليه باعتباره إيقاعًا قديمًا لنص حادث تستدعي وقائعه النفسية والوجودية الناشئة إيقاعات جديدة. وبين اشتراط الوزن في اتجاه، والدعوة إلى ضرورة تجاوزه في اتجاه آخر، تتموقع القراءة الأولى التي تنتصر "للشعر" على ما هو ليس بشعر دون اعتبار الوزن مرجع الشاعرية أو أحد مراجعها الأساسية، إذ قد تمثل صفات الشعر المؤسس المختلف في "الشعر الحر" (قصيدة التفعيلة) وفي "قصيدة النثر" على حد سواء .
وبهذا المنظور الحداثي الأقرب إلى الإطلاق، نتيجة غياب الأفق التاريخي للتناول البحثي، تبعًا لتطور بناء النص الشعري، تنعدم الفوارق الأسلوبية والدلالية والإيقاعية في القراءة الأولى بين "قصيدة التفعيلة" و"قصيدة النثر"، كأن يلوذ الملفوظ النقدي الأدونيسي على وجه الخصوص بمطلق القيمة الجمالية ممثلة في خطاب الحداثة.

5-2. وهنا يُثار سؤال الإيقاع في خاتمة هذا المبحث الذي هو محور الاختلاف بين القراءات الثلاث. فهل الوزن هو مرادف الإيقاع فحسب في الشعر العربي، سالفًا ولاحقًا، أم هو أحد السمات الممكنة الدالة عليه؟ هل هو الصوت والكلمة وتناظم الجمل والمتواليات ونسيج الدلالات وفعلية الصور بتعالقات نصية شعرية سياقية خاصة؟ أليس تكثير العلامات، عند وصف الإيقاع، نفيًا ضمنيًا للإيقاعية، كأن يتبدد الواحد في العدد ويفقد تمركزه الدال عليه؟
فتتضح للباحث في "الظاهرة الإيقاعية"، أن الإيقاع تسمية لا تعني الواحد المطلق أو المحض، شأن التسليم بالتغاير التام بين الشعر والنثر، الذي هو تسليم خاطئ يشي به حضور السرد في الشعر وحضور الشعر في السرد . لقد اهتم القدامى، على حد عبارة جيرار ديسون (Gerard Dessons) وهنري ميشونيك (Henri Meschonnic)، بـ"إيقاع النثر" ، إذ تبين لهم أنه ليس ظاهرة شكلية، وإنما هو بعض من الدلالة، إذ الدلالة هي مجمل الخطاب، والخطاب هو ذاك الواحد المتعدد بمختلف عناصره التركيبية الدالة شعرًا وسردًا روائيًا أو غيره. وعلى هذا الأساس ينفتح الإيقاع على الخطاب ويشتمل الخطاب، أي خطاب، على الإيقاع .
إن الخلط بين الإيقاع والوزن ماثل في نقد الشعر العربي المعاصر اليوم، وفي النقد الغربي طيلة القرون ، لأن مفهوم الإيقاع القديم تأسس على البيت الشعري ومن أجله. لذلك اقترن بَدْءًا ومرجعًا بالقياس الصوتي، لا غير. وإذا البحث في الخطاب، ومختلف عناصر بنائه وآليات اشتغاله، يوسع من مفهوم الإيقاع، ويُكسبه صفة التعدد، ليتغير مدلوله من مجرد ظاهرة صوتية وزنية إلى "شعرية" خاصة عند البحث فيه لحظة أدائه (enonciation) قصد تمثُّل الملفوظ (enonce) ومقاربة الذات المتكلمة من خلاله .
وبذلك نتجاوز حدود الصوت إلى الدلالة، بمفهوم علم الدلالة (السمانطيقا)، لنتخلص بذلك من مطلق المفهوم إلى الخصوصية الماثلة في الذات المتكلمة عبر الخطاب وتاريخية الخطاب ذاته . وكذا يتحول مفهوم الخطاب من المشافهة والسماع إلى النص، هذا المفهوم الحادث الذي يستدعي بالضرورة دراسة العناصر التركيبية للخطاب بمختلف تعالقاتها وبانفتاحها الواسع على مجمل اللغة وكامل الأدب ومتناظم السلسلة المفاهيمية والإجتماعية .

5-3. لا شك أن تسكين الإيقاع قديمًا، في مطلق النسبية وواحدية العلامة الصوتية الوزنية، عائد في الأساس إلى القول بثنائية الشعر والنثر، والتفريق الحدي الجازم بينهما منذ أرسطو. وبهذا التبعيد الإعتباطي حدث الارتباك الهائل في تمثل الإيقاع ومعرفة الاستعارة على حد سواء، كأن خضع الشعر لمسبق القيمة الجمالية وواحدية معنى الإيقاع. لذلك يعتبر الباحثان "قصيدة النثر" مجالاً لإعادة النظر في مفهوم الإيقاع بتخليصه من محدودية الصوت إلى وسيع المجال النبري ، والخوض في أبعاد الدلالة الخطية وقصي المعنى، ذلك أن الظاهرة، الإيقاعية أوسع من أن تُحد في ظاهر الصوت، بل هي ضاربة في خفايا الواقع الذاتي بمشترك العلاقة الواصلة بين "النص-الذات" و"القارئ-الذات" . وللتدليل على هذا المفهوم والعمق الواسع للإيقاع يحلل الباحثان نصًا من "صلامبو" لغوستاف فلوبير (Gustave Flaubert) لتأكيد وجود الإيقاع في نص روائي لا حضور فيه للوزن . إن الإيقاع، في الأساس وبهذا المفهوم، ظاهرة لغوية، إذ هو في اللغة ومن اللغة. لذلك نراه ماثلأً في مختلف أنواع القول، والقول الأدبي تحديدًا.

5-4. وبهذه النسبية والتعدد يتسع أفق البحث في الإيقاع تجريبًا بالكتابة والقراءة معًا وعند الإحالة على مختلف العلاقات الجدولية والسياقية داخل بنية الخطاب.
كذا يتأكد، بما لا يدع مجالاً للشك، الاختلاف المفهومي بين الوزن والإيقاع، كأن تسعى "قصيدة النثر" إلى الإيقاع، وترفض الانحباس داخل نمط تكرار الوزن، وتنتهج سبيل التجريب بغية البحث عن نصّ شعري مختلف يغير طقوس الكتابة ويتغير بها .
وإذا مشروع الكتابة وليد قراءة لتراث الشعر العربي، قديمه وحادثه، وانخراط واعٍ في ثقافة العصر، هذا العصر، والتزام ضمن المشروع بكتابة اللحظة بمختلف وقائعها وهمومها، ومراهنة صريحة على مستقبل الكتابة ومستقبل الوجود.
("مرايا العتمة: قصيدة النثر ومستقبل الشعر العربي"، دار نقوش عربية، مدينة تونس، 2009، ص ص 9-41)