طالما تساءلت ما إذا كان غيرنا، نحن اللبنانيين، يتمتع ببيتين: واحد صيفي وآخر شتوي: الأول يحتجب عن المتوسط في غالب الأحوال، والثاني لا يبنى في الغالب، ولا يشترى، ولا يقام فيه إلا إذا أطل على البحر. ومن يراجع سيراً عديدة، ومنها سيرة عائلتي، يتحقق من أنها اختارت النزول إلى البحر، على أنه أيضاً - وفقاً لجغرافيا لبنان - النزول إلى المدينة.
من بيتي الصيفي - وأقضي فيه خصوصاً أيام الصيف وغيرها أحياناً - لا أرى البحر أبداً. أخمن من دون صعوبة كبيرة موقعه، إذ يتعين في الوادي، في منتهى النهر النازل من قريتي صوب الساحل المتوسطي. من بيتي الشتوي أشرف على البحر من دون تعب: هو أمامي، لي، وتبدو الشرفات الثلاث التي تفضي عليه أشبه بنوافذ تفضي على مشهد داخلي، على مشهد أليف.
بين هذين البيتين أقيم، وفي التوسط بينهما.
                                                                     ***

طالما تساءلت ما إذا كنا متوسطيين فعلاً؟ ما إذا كنا نتفاعل مع هذا البحر كما هو، بثقله القديم، بتراثه، بغناه التعددي. إذ أنني أخشى من أن نكون ندير الظهر له، وإن كان أول من يستقبلنا وآخر من يودعنا في بيتنا أو في حياتنا.
أتساءل إذ أن هذا البحر يباعد بيننا فيما نعايشه معاً. نتلصص فيه على بعضنا البعض أكثر مما نزور بعضنا البعض. هذا إن لم نخطط لمشروعات غلبة، وننظم حملات عداء، في هذا الفضاء المشترك، الذي له أن يتحمل فوق سطوحنا غسيلنا الوسخ!
أخذنا من القربى أبشع احتمالاتها، وهو التعدي على القريب واقتناص ما لديه: هذا ما ترويه سير الحروب المديدة؛ وهذا ما ترويه أيضاً سير الحروب المصغرة، أي سير القراصنة، التي ضاقت بها أخبار المتوسط.
وهذا ما ترويه اليوم سير الناجين من بلادهم الفقيرة إلى دفء الشمال المتوسطي.
                                                                           ***

أجرى الكاتب الفرنسي لوسيان فافر لعبة طريفة ودالة في أحد كتبه، وهو أنه طلب من هيرودوتس أن يتنقل من جديد في المناطق نفسها التي جال فيها وكتب عنها، فأصابته الدهشة مما رأى: أشجار برتقال وليمون حامض و"يوسفي" (مندرين) جلبها عرب من الشرق الأقصى، وصبار مجلوب من أميركا، وأشجار كينا من أوستراليا وغيرها الكثير من بن وأرز وذرة وبندوره ...
ولو أجرى الكاتب جولة في الفضاء المتوسطي، بين غاباته وحقوله ومزروعاته وأشجاره وثماره وحيواناته، لوجد بين جباله وسهوله وشواطئه ما يشير إلى عيش بيئي واحد، بل إلى ما هو أجمل من ذلك، وهو التنوع في هذا المشهد البيئي. وهذا ما يمكنني قوله في التفاحة والليمونة  وعنقود العنب، وفي غيرها من ثمار وأشجار نألفها في عيشنا ومشهدنا، ولكن في التباعد.
                                                           
                                                    ***

أريد أن أستعير من فرقة "الجسر الصغير" اسمها، أن أعامله مثل استعارة كافية للدلالة على ما أقول عن المتوسط، بل عن التوسط، كما يحلو لي القول نقلاً عن العربية. وهو ما أتبعه بقول لهايدغر، إذ يقول ما معناه: "إن الصلة لا تقوم قبل قيام الجسر". وأنا لا أتوخى الحديث عن جسر بالإطلاق، بل عن "جسر صغير" وحسب.
فالجسر الصغير لا يصلح واقعاً إلا للمسافات القريبة؛ وهو ما يصلح للمتوسط واقعاً، حيث أن هذا البحر لا يعدو كونه بحيرة في واقع الأمر. جسر صغير، أي ما يكفي هذه الجزر التي تتناثر فيه مثل لؤ لؤ لم ينتظم بعد في عقد، حيث بين الجزيرة والأخرى حكايات ترقى إلى سالف القرون: منذ أن انتقلت أوروبا، أخت قدموس، على قرنين إلى الجزر اليونانية، ومنذ أن انتقلت أليسا من صور إلى قرطاج (في تونس الحالية) ، ومنذ أن تاه عوليس فوق أكثر من جزيرة بين مالطة وغيرها، ومنذ ان جاب بياض الجدران وزرقة النوافذ فوق أكثر من بيت أو ارتفع القرميد هنا وهناك مثل قبعات تقي البيوت من برد الشتاء كما من حر الصيف، ومنذ أن اصطحب الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير مهندسين وفنانين من توسكانة إلى بيروت لبناء قصره...
جسر صغير يكفي للتقارب وإن تمايزنا أو اختلفنا في أكثر من أمر.
جسر صغير يكفي لكي تتشابك  الخطى – خطوات العائدين أو الراحلين – فوقه، بما يتيح التوقف أو التفرس في وجه الآخر، بما يتيح تبادل التحيات وعقد الصفقات والتسويات.
جسر صغير للتوسط، للشراكة، لعقد آمال مستحقة، وإن نتباطأ في رسمها.
جسر صغير بما يكفي لنقل الخطى الخفيفة، خطى الخيال والرقة والنسائم التي تداعب العشايا على اليابسة أو فوق مرتفعات الجبال.
جسر صغير بما لا يتيح نقل مدفع، أو دبابة، أو جيش من عداء.
كما أستل عنوان قصيدة من شعري الأول، كتبتها في العام 1972، وهو: "جسر يبتل من هنا يشتعل من هناك"، وأستدل به على الحيوية الواصلة بين ضفتين ممسوستين بالنار عينها – نار ما يشتعل في ألق العيون، في الليالي الباردة، وفي القلوب الراجفة.
أأكتب عن المتوسط فعلاً؟ أأكتب عن استعارة؟ أأكتب عن قصيدة؟ أأكتب عما يتلجلج فوق شفاه  الرجاء؟ لعلي أكتب عن عالم خيالي؟ لا، عن عالم احتمالي واقعاً.
هذا رهن الإرادات الطيبة والمشروعات الخلاقة.
لعلنا، في المتوسط، أقرب إلى سيرة الجيران، سيرة الأقرباء، الذين ينشغلون بالأبعدين من دون الأقربين، خاصة في عالم جديد، تغيرت فيه معالم الاتصال القديمة، مثلما تكشفت معالم اتصال متحولة ومنشطة.
                                                        ***

تحفل الكتابات العربية القديمة بأقوال كثيرة عن "الواسطة"، وقد عاد إليها بدوره أحمد فارس الشدياق في كتابه عن رحلاته، وطبقاً للسجع الذي طلبه منذ العنوان عند حديثه عن مالطه: احتاج الشدياق إلى الواسطة عند الحديث عن السفر والتنقل، فيما يستوقفني في الأمر أن كتاباً عديدين قلما انتقلوا من المكان الذي كانوا يقيمون فيه: مثل هايدغر الذي لم يركب الطائرة في حياته، ولعله لم يزر برلين إلا لمرة واحدة أو لمرتين، فيما ركب القطار مرة لزيارة باريس. وقد تكون لهايدغر أسباب أخرى في عدم التنقل لا تعود إلى إصرار نجيب محفوظ على البقاء في القاهرة الأثيرة لديه (حتى أنه لم يغادرها عند فوزه بجائزة نوبل للآداب، واضطر للسفر بالطائرة مرة واحدة إلى اليمن، بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر). ولقد استوقفني في هايدغر قوله في دراسته الشهيرة عن "أصل العمل الفني" أن القدمين اللتين لهما الحذاء الذي صوره فان كوخ، في أكثر من لوحة، "تعودان لفلاح حكماً"، بما لا يرقى إليه شك، فيما قد يكون الذي انتعل الحذاء، الذي يعود إلى فلاح، جندياً أو بورجوازياً أو فيلسوفاً...
بقدر ما انا متجذر في لغتي، أستقصي فيها وأتحرى عما يلبي رغباتي في التعبير، فأنا أشم وأذوق  حيثما يحلو لي. ولا يعنيني الكلام عن "الشرقي" و"الغربي"، وإن كان له معنى في سياقات أخرى، طالما أنني أهجس بالبحث عن الآخر، أي آخر، واجداً فيه أناي المفقودة، المكملة، أو المقلوبة. ففي نفسي هواء وأصوات متحصلة، أو تهب علي من أنحاء بعيدة مختلفة، فكيف لي أن أمنع هبوبها، وقد جعلت من الهبوب إيقاعاً لكلامي!
من القرية التي آتي منها لا أرى البحر؛ له وجهة فقط. الجبل أفقي، وهو ما يحدني واقعاً، إذ أن ما وراء الجبل يسحرني عند الغروب، بعد أن تسقط الشمس خلف الجبل فيتلألأ عاليه مثل عقد أو سبحة مترامية حتى الماء البعيد. أعلم عندها أن الشمس انتقلت إلى غيري...
هذا المتوسط الذي لي رابية مطلة عليه. فضاء يسبقنا ويبقى بعدنا. فضاء لنا ولغيرنا. إطار لوحة أحياناً، نرسم فوقها ما نشاء. وهو نافذتنا على العالم أحياناً. لكل شباكه فيه، أو شرفته، من دون أن نلتقي في غالب الأحيان. لنا وحسب عيون ريبة وخشية واشتهاء للقريب. ننظر إلى بعضنا البعض شزراً. ما أن ندرج فوق رصيف، يدرج الآخر فوق رصيف مقابل. في هذه العداوة ما يثير، ما يحرض أحياناً، وفيها من الغباوة أيضاً.
جميل أن يكوت للزيتون غير عصير، وللعنب غير لون...
                                                                 ***
 
مضى الزمن الذي يفرد فيه طه حسين عشرات الصفحات، في كتابه الأهم "مستقبل الثقافة المصرية"، للمتوسط ... مضى الزمن الذي يخصص فيه كاتب لبناني، رينه حبشي، مقدرته في الفلسفة والحجاج للدفاع عن الفكرة "المتوسطية". مضى الزمن الذي يلخص فيه جاك بيرك حياته، بل سيرته، بعبارة بسيطة تتصدر أحد كتبه، وهي: "عابر الضفتين".
ذلك أن الدعوات "القومية"، على اختلافاتها وتنوعاتها، باعدت بين ضفتي المتوسط، بعد الانقسامات القديمة، الدينية وغيرها. كما باعد بينها خط الغنى، خط الفقر، بين شمال غني ومسيطر وجنوب فقير ومهمش. والغريب الأغرب في هذه القسمة المتجددة، هو أن هذه المشروعات لم تنجح: فقد تهاوت المشروعات "القومية" في العالم العربي، وأصبحت تحول بين البلد العربي والآخر مصاعب ومصاعب (ومنها حروب مدمرة)، بل بات الشعار المرفوع ضمن إطار البلد العربي الواحد هو "العيش المشترك"، الذي أصبح شعاراً "طوباوياً" في أحوال عديدة. وأوروبا، التي نجحت طبعاً أفضل من العالم العربي في بناء "قومياتها"، تفشل هي الأخرى في بناء "حلم أوروبي" يتعدى حدود القوميات، حتى أن أوروبا تبدو أقرب إلى "سوق نقدية" أكثر منها مشروعاً سياسياً محتملاً.
السياسة تبقى دون الطموحات، وإن تزايدت في السنوات الأخيرة "اتفاقيات شراكة" كثيرة بين بلدان الاتحاد الأوروبي وعدد من البلدان العربية. وهي اتفاقيات تكرر التجربة الأوروبية، إذ تصبح اتفاقيات مشتملة على الشق المالي في الغالب، من دون عوامل العيش المشترك في الفضاء المتوسطي، ومنها وأولها تعويلنا على عناصر البيئة المتوسطية نفسها، على عناصرها السكانية والبيئية والحيوانية المشتركة.
ولهذا أطرح السؤال: هل المتوسط دعوة فاشلة، وطوباوية؟ قد يكون كذلك، إذا احتكمنا إلى السياسات الجارية. إلا أن المشهد أغنى لو تأملنا في إنتاجات الثقافة والفن، التي تتفاعل فيما بينها في الفضاء المتوسطي في صورة أكيدة وفعالة أكثر من أي وقت مضى.
هذا لا يعني أن الحلم يخطىء. لا، أبداً، فالأحلام الإنسانية تبقى صالحة وإن لم يتبعها أحد. تبقى في شرفها ونبالتها الشهادة الأسمى عن إنسانية الإنسان.
لهذا يحتاج المتوسط دوماً إلى حلمه، وإن قاده ربابنة قليلون. وهو يحتاج إلى العقل والحكمة والسياسات النبيهة التي تجعله أكثر قرباً من الحلم.
يتحدث مرلو-بونتي عن "لزوم الاعتراف بإنسانية الآخر".
كما يتحدث بول ريكور عن "الاحترام" بوصفه ممارسة عملية يتم بواسطتها تعريف " وجود الآخر". والاعتراف بالآخر هو اعتراف بكونه "غايةِ" (fin en soi).
إن التواصل مع الآخر ممكن حين يحتفظ الآخر بغيريته الناجزة والتامة في علاقة التواصل هذا، وحين تمتنع الأنا عن التعامل مع الأخر مثل شيء، وتمتنع عن "استعماله" بالتالي. يقول أحدهم في رواية "الضجر" لألبرتو مورافيا عن سيسيليا: "ما كان في حسابي وضع اليد على سيسيليا، بل النطر إليها وهي تعيش؛ هكذا باتت موجودة بالنسبة لي – وفي مفارقة لافتة –  ابتداء من هذا التخلي عنها (...) كنت سعيداً لأنها موجودة (...) وبطريقة غير التي لي، ومع رجل غيري أنا، وبعيداً عني".

(الكلمة الافتتاحية في مؤتمر حول المتوسط، المنستير التونسية، ربيع 2006).