العنوان الذي اقترحَه عليَّ منظمو اللقاء (: الموارنة من مؤسسي "النهضة" إلى سعاة الاستنهاض) طموح للغاية، فضلاً عن أنه يضعني في موقع العارف والقادر على سبر إمكانيات الاستنهاض في أحوال لبنان والموارنة خصوصاً. المهمة صعبة لكنها مغرية، لكنني أقف منها موقف الدارس، لا موقف الموجه أو المحرض.
هكذا قبلتُ – شاكراً – الدعوة وموضوعها، جاعلاً من القبول مناسبةًً لكي أمتحن بنفسي مقدرة الدارس على أن يكون مفيداً - في صورة مباشرة أحياناً - في الجماعة. قبلتُ بعد أن توقفتُ في أحد كتبي الأخيرة، "العربية والتمدن"، الصادر قبل عام، عند "النهضة" نفسها، وتبينت الدوافع والاستهدافات التي دفعت أجهزةً مارونية، بين كنسية ورهبانية، ومشايخ وأعياناً وكتاباً، وربما أكثر من غيرهم، إلى الاندفاع، بل إلى إحداث حراك كبير اجتمعَ في كتابي تحت عنوان عام، هو: "التمدن". قبلتُ الموضوع، إذن، طالباً منه استخلاص دروس من تجربة عين ورقة الرائدة في "النهضة"، ناقلاً إياها إلى سياق حالي لمعرفة ما إذا كان في الإمكان استحداث الاستنهاض المرجو. فكيف ذلك؟
أنطلقُ في كلامي من السؤال التالي: ماذا للمدرسة أن تكون عليه من أدوار في التربية، في المعرفة، في الوطن، في العالم؟ وهو ما أجمعه في مهمتين: كيف للمدرسة، على اختلاف مستوياتها التعليمية، أن تفعل لبناء ثقافة المواطن لدى الطالب؟ كيف للمدرسة أن تفعل لبناء ثقافة المثقف لدى الطالب؟ كيف لي أن أعالج المهمتين ابتداء من تجربة عين ورقة التاريخية؟

هذا ما أتحدثُ عنه، بداية، بالكلام عما أسميه "التمدن من تحت"، وهو غير "التمدن من فوق"، الذي يشير إلى سياسات انتهجَها بعض السلاطين العثمانيين في القرن التاسع عشر تحديداً، ومحمد علي خصوصاً في مصر وخارجها أحياناً. فمن يعود إلى وقائع بناء مدرسة عين ورقة يتحقق من أنها أتت بناء لسياسات محلية، من عدد من البطاركة – وأولهم البطريرك يوسف اسطفان -، من وقفية لآل اسطفان، ومع عدد من المشايخ من آل الخازن وحبيش والدحداح وغيرهم. يشكل هذا التأسيس لحظة جديرة بالدرس، من ناحية علاقة الأجهزة المارونية، البطريركية وغيرها، بالسلطة الباباوية، ومن ناحية علاقة المشايخ والأعيان بالتعليم واحتياجاتهم إليه، ومن ناحية علاقات الأهل، وأبنائهم، بين طالبين إكليريكيين وعَلمانيين، بالتعليم وطلبهم عليه. ولحظةُ التأسيس تخفِّف، إن لا تنقض، في هذا الفعل تحديداً، ما قيل عن "ليتنة" الطائفة المارونية، المتمادية منذ العقود الأولى في القرن السادس عشر. فما تجدد بين سلطة روما وسلطة الكنيسة المارونية منذ هذا التاريخ اندرج في عملية تاريخية واسعة، يحتاج درسُها التنبه غالباً إلى خفايا القرارات فضلاً عن صريحها العالي. فهي عملية شهدت ضغوطات من سلطات روما وغيرها على حال الطائفة وأجهزتها ومؤسساتها، إلا أنها شهدت أيضاً أحوال ممانعة وتحوير واختلافات في هذه العلاقة المعقدة. فمن يتابع الكثير من الوقائع، ويقرأ العديد من المراسلات الدينية، يتحقق من أن هذه العملية مرت في أطوار مختلفة، في أزمات (قد تكون أشهرها قصة الراهبة هندية)، ولم تسلم أحياناً من ردات فعل محلية، في النطاق الديني أو التعليمي. فلا تغيب عن عين المؤرخ التشديدات والتنبيهات التي طبعت عدداً من مقررات "المجمع اللبناني" (مجمع اللويزة)، في العام 1736، عن لزوم عودة الطلاب المرسلين إلى لبنان بعد انتهاء دراساتهم في روما، أو لزوم عدم دخول هؤلاء الطلاب في أنظمة رهبانية أجنبية، أو التشديد على بناء مدارس هنا وهناك في بلدات وقرى لبنانية عديدة، أو التأكيد على لزوم السريانية في الرتب الدينية المختلفة... ويكفي – لمن يطلب التأكد من حاصل هذه العملية في العقود الأخيرة - أن يعود إلى مقدمة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير لكتاب القداس الحالي، لكي ينتبه إلى أنه القداس الوحيد الذي "أجازه" بطريرك ماروني منذ عهد بعيد...
تأسيس مدرسة عين ورقة لحظة مفصلية في هذا التاريخ المفتوح، وتشير إلى صيغة أولى لبناء أجهزة محلية في التعليم وأبعد منه. هذا لم يكن بالعملية السهلة في أوساط لم تكن معتادة على صياغة مشروعات تتعدى سلطة الوالي والمقاطعجي، أو سلطة البطريرك والمطران، أو سلطة رب العائلة، إلى علاقات أوسع منها، بدليل الصراع الحاد الذي حصل في العقود عينها بين البطريرك والمطارنة لجهة صلاحيات كل واحد منهم... وقد يكون قرار الإنشاء، ونجاح الانطلاقة، وقوة الإنجازات التعليمية والثقافية وغيرها في هذه المدرسة، خيرَ دليل، أو أولَ تعبير عن حاصل الانفتاح على روما، من جهة، وعن قدرات محلية باتت ممكنة في إنشاء مؤسسة "عصرية"، من جهة ثانية.
قيل الكثير عن مدرسة عين ورقة، عن أنها "أم المدارس الوطنية" وغيرها، وهو واقع أكيد، إلا أنه واقع تاريخي لم يكن ممكناً إلا بفعل المثاقفة التي نشطت، بين الموارنة والكرسي البابوي، واستطراداًَ مع إرساليات أجنبية، وأدت، إثر المجمع التريدنتيني (1545-1563)، إلى قبول التعليم – في ما بخص موضوعنا – لمفاهيم وتدابير جديدة اتخذت في لغتنا تسمية: "التعليم العصري". ومن يتابع الكثير من المقررات المحلية يتحقق من طلب على التعليم لا يعود إلى أن الموارنة كانوا أصحاب زاد تعليمي سابق وقوي، وإنما لأنهم كانوا بعيدين ومبعدين عنه في النطاق العثماني. فأخبار الدروس البسيطة قرب الدير، وتحت السنديانة، لا تقارن طبعاً بما ستضمه مواد التعليم، ومستويات التعليم، في مدرسة عين ورقة، إذ تعكس نقلة كبيرة مستندة إلى علوم إسلامية وغيرها، وإلى علوم وافدة من التعليم الأوروبي، في الوقت عينه. ولا يمكن فهم الإقبال على المدارس سوى أنه تعبيرٌ بل ظهور أول لما لم يكن موجوداً في جبل لبنان، ولا سيما في جروده، وهو التعليم العثماني نفسه. بل هو ظهور أول لخروج من عزلة – وإن تتخذ أحياناً شكل التحصن -، ولانفتاح على عالم بما فيه عالم العرب وعالم الإسلام. ومن يتلمسُ العديد من الوقائع وأخبار المهن يتحقق من أن إقبال متعلمين عديدين، بين كاثوليك وموارنة وغيرهم، على العربية وإتقانها كان فرصتهم الأولى والأكيدة في أن يكونوا أصحاب دور إداري وسياسي في دواوين الحكم. لهذا عنى الخروجُ إلى العالم خروجاً إلى أوروبا وثقافتها ولغاتها، كما عنى، ضمن العملية نفسها، خروجَ الذمي إلى مواقع ظهور وعمل وفعل مستجدة ومطلوبة.
عملية الخروج هذه لم تُدرس كفاية، ولا أشكال ومعاني الدخول إلى السياقين الأوروبي والعثماني في آن، وما عنته من بناء تجارب ومؤسسات وقيم واستهدافات ناشئة حركتْ النافذين في الجماعة مثل أبنائها، على اختلاف رتبهم الاجتماعية. بل يمكن القول إن مدرسة عين ورقة تحولت في زمانها إلى مثال احتذته إدارة أكثر من طائفة: دير بزمار للأرمن الكاثوليك في العام 1797، وعين تراز للروم الكاثوليك في العام 1811، ودير البلمند للروم الأرثوذوكس في العام 1823... وهو ما يصح بعدها في غيرها، مثل "الكلية البطريركية" في العام 1865 و"المقاصد الخيرية الإسلامية" ابتداء من العام 1878... وهي اندفاعة كبيرة أوصلت جبل لبنان الممتد إلى بيروت وغيرها إلى أن يكون صاحب أعلى نسبة تعليم في السلطنة العثمانية: كانت نسبة التعليم في العام 1800 تبلغ واحداً بالمئة في مجموع السلطنة ثم 5 و10 بالمئة في العام 1914 بينما بلغت في هذه السنة في لبنان خمسين بالمئة.
هذا ما جعلني، في كتابي المذكور، أتحدث عن "النهضة" في لبنان بوصفها "مثاقفة" في المقام الأول، أي أنها نهضة تعليمية خصوصاً. وهي عملية – لو طلبنا نقلَها إلى سياق اليوم- تعني الدخول في السياق المحيط ببلادنا، من جهة، وبعالم اليوم، كما هو عليه، من جهة ثانية. هذا ما يتيحه التعليم، وبناء المعرفة، والتمرس بالتكنولوجيات، وهو ما طلبته مدرسة عين ورقة، وما نجده ماثلاً في تعليم اليوم، حيث إن المدرسة اللبنانية لا تزال محلَّ تطوير وعناية، ما يظهر خصوصاً في نجاحات طلابنا في الدخول الميسر إلى كبريات الجامعات في العالم، أو في نجاحات خريجينا في معاهد البحوث والبراءات العلمية وغيرها. إلا أن ما يحز في نفسي- وهنا أحدثكم بوصفي مسؤولاً عن عدة دوائر في جامعتي، أو أستاذاً في اختصاصات مختلفة -، وهو ما ظهر في العقود الأخيرة، هو أن الطلاب يختارون الهجرة، اليوم، ومنذ الشهادات الثانوية أحياناً: براعم التعليم تهاجر وتجد جذوراً لها في بوسطن أو باريس أو لندن وغيرها، بأعداد كبيرة، ما يعني أن ما كانت ترسمه عين ورقة وغيرها يتراجع من جهة مأمولاته الوطنية، ما يشير إلى تراجع قيمة الوطن في آمال الطلاب أنفسهم. أيعني هذا أن الجانب الوطني، التربوي والمدني، في التعليم يتراجع أو لا يحقق سوى أهدافه التعليمية الصرفة، التقنية وحسب، إذا جاز القول؟
مثل هذه الهجرة حصلت سابقاً في أوساط المتعلمين العصريين من أمثال جرجي زيدان ورشيد الدحداح وابراهيم اليازجي وشبلي الشميل وغيرهم الكثير، إلا أن هجرتهم عنت هجرة "فائضِ عمل"، "فائضِ قوة"، عما كان لا يستوعبه النمو المحلي، فيما تعني الهجرة الحالية أكثر من ذلك، وهي القطيعة مع اللغة والثقافة فضلاً عن الوطن.
لقد استوجب بناء مدرسة عين ورقة "فصلَ" الطالب عن أهله، بل أوجدت المدرسة، بمسلكياتها وأخلاقياتها، "مباينةً" (على ما كتبت) بين ثقافة الأهل وثقافة المدرسة، ما يعني تغيراً في السلوك والنظرة والموقف وغيرها. وهو فصل تاريخي صعب، إذ كان الطفل قوةَ عمل، قوةَ إنتاج، بحيث يصعب التخلي عنه، لصالح مدرسة لم يكن واضحاً دائماً أو كفايةً مردودُها المالي والاجتماعي على الأهل. هذا ما أنتبهُ إليه في أحد مقررات "المجمع اللبناني"، حيث تم التشديد على لزوم التعليم، وإن اقتضى الأمر "سَوقَ" الأبناء – "ولو مكرهين" - إلى المدرسة. هذا ما تعلمه الأهل، من موارنة وغيرهم، منذ هذا الوقت وبعده خصوصاً، حيث ترى حديث الوالد اللبناني لا ينقطع – حتى أيامنا هذه – عن لزوم التعليم للأبناء، وعن الاستقواء به لتحسين شروط عيش العائلة ومكانتها الاجتماعية.
تحدثتُ عن نهضة تعليمية، ما يشير إلى قيمتها وإلى حدودها في الوقت عينه. وهو ما يتبينه الدارس في وجوه عمل أخرى شملت، إلى جانب المدرسة، الجريدةَ، والمطبعة، والمستشفى، والمصرف، والشركة التجارية وغيرها، ما يمكن أن يكون التطبيقَ العملي للنهضة التعليمية المذكورة. وهو ما تعين، غداة الاستقلال، في نجاحات متمادية من إرث عين ورقة، تمثل في مهن: المحامي والطبيب والمهندس والمصرفي وغيرهم. وهو ما يتعين، اليوم، في تغيرات تعليمية ومهنية تواكب مستجدات العلوم والتقنيات، ولا سيما في عهد العولمة الإلكترونية.
هذا لا يغيِّب أننا ننتج طلاباً متميزين، اليوم كما بالأمس، ولكن من دون أن يكونوا بالضرورة ذوي مواطنية ناجزة. للمدرسة، على اختلاف مستوياتها، من أدناها حتى عاليها، مسؤولية في ذلك، في تمكين الطالب من أن يكون "مواطناً" في العالم، وفق ما هو عليه عالم اليوم، لا أن يظن أنه بمنأى عنه، أو قادر على الاستفادة النفعية منه من دون ما يستند إليه من قيم واستهدافات وغيرها. وهو تمكين الطالب من ثقافة وطنية، مبنية على أن الوطن ليس لساعات البحبوحة فقط، وأنه "ليس حقيبة" (مثلما قال الشاعر)، وأنه كلٌّ لا جزء، وأنه بمجموع أبنائه لا بقسم منهم وحسب. وهو ما يتعين في تمكين الطالب من أن يبني رأيه في ما يعرض له، فلا يستسلم لقناعات موروثة أو خطابات سياسات الأمر الواقع – التي تدوم في لبنان، وتصبح نوعاً من طبيعة وطنية ثانية. ومعه أطرح السؤال: هل تؤثر ثقافة المدرسة وتبني فعلاً ثقافة المواطن؟
هذا ما ظننت أنه حاصل بعد انفجار الحرب في لبنان. قلتُ يومها: تنتهي الحرب ونستخلص دروسها، ونتعلم منها العبر، بما يبني وطناً منيعاً، ومواطنية لا تكتفي بخطابات التكاذب الطائفي والمذهبي... ما لم أكن أتوقعه يومها هو أن بعض أسياد الحرب سيكونون أسياد السلم، وأن إنجازات "النهضة" ومأمولاتها ستتراجع، ولا سيما مع المد "الإسلاموي"، الذي وجد في العنف ضد الأهل، مسلمين ومسيحيين، أسلوبه في أن يكون مؤثراً في السياسة، بل أن يكون متسيِّداً على أهله.
كنت أنتقد قبل الحرب خطاباً كان يرى أن مشاكل لبنان تقع على "الخارج"، أو على أطراف غير لبنانية، بينما كنت أرى أن هناك مشاكل تكوينية، وفي بناء الشراكة، لم تتم معالجتُها، بل جرى التعامي عنها. جرى التغافل عن أن لبنان الحديث، الذي خرج من عين ورقة، ورث دورات عنف في بنيته، فما عمل على معالجتها، فكيف إن أضيفت إليها طموحات ومطامع من "الجيران".
حلمُ عين ورقة أنتج طلاباً بارعين، لكنه لم ينتج مواطنين بالضرورة، لا لنقص فيه وإنما لأن المدرسة لا تكفي حين لا يتكفل الوطن والعائلة ببناء مختلف لعناصر الشخصية الوطنية. فالمدرسة قد تنتج أفضل الأطباء والمهندسين والمحامين ورجال الأدب والقانون لكنها لا تنتج حكماً مواطنين في نظام سياسي معطوب. كيف للطالب أن يصبح مواطناً إن كان مُخضَعاً سلفاً في بنية تقليدية، تجعل السياسة محميةً للزعيم، والمشروعَ السياسي مشروعَ تزعمٍ و"ركوب" على مجموعات من أفراد!
ورث طلاب لبنان في القرنين الأخيرين زاداً دموياً هائلاً، لو صُرف لأجمل الثورات والتغيرات لكان أنجزَ أعدلََها وأجملها وأقواها، إلا أنه صُرف في شجار داخلي، معطوف على عنف خارجي متعدد المصادر. هذا اللبنان المعطوب، الذي أتحدث عنه هو لبنان المقاطعجية، ورثةِ جباية الضرائب في النظام العثماني، الفاعل عميقاً في البنية اللبنانية، معززاً بالعنف الخبيث والمستجد لسلطة المال والانتفاع الريعي. هكذا يعيش النظام حال احتباس مديد، ومن يدخل إليه يفسدُه هذا النظام حكماً، لأنه لم يحسن بناء شراكة تقوم على مصلحة العموم، لا على مصالح النافذين، بل المتنفذين. ودليلي على ذلك أن غالب من أسس، في مطالع القرن العشرين، أحزاباً وجرائد وشركات خرج من المدارس "العصرية"، فكان محامياً أو صيدلياً أو منشىء جريدة أو مصرفياً وغيرهم، لكن مشروعاتهم هذه - التي كان لها أن تكون مشروعات ليبرالية وتحديثية – تحولت إلى مشروعات "مشيخية"، أي وريثة الشرنقة التقليدية، بل معيدةَ إنتاجها.
في لبنان كهذا، ترى أحوال النافذين جيدة أينما كانوا: في النيابة أو خارجها، في الحكومة أو في المعارضة، مع السيادة أو ضدها، مع صيانة الكيان أو مع تعريضه لمخاطر لا قدرة له بها، فيما يعاني "الزلم" – وإن لم يستزلموا – من مجمل التعديات، حتى أن المتعلمين منهم تجدهم - إن تحركوا – يقلدون المتنفذ في مواقفه وسلوكاته.
يشعر مسيحيون، وموارنة خصوصاً، أنهم مغلوبون على أمرهم، وما يتغافلون عنه هو أن الجماعات كلها مغلوبة على أمرها حين تكون السيادة منقوصة، وحين يتبع هذا الفريق أو ذاك جهة خارجية ويحتكم إليها بل ويأتمر بها... هذا لا يبني وطناً، لا لهؤلاء ولا لأولئك. والتحرير لا يكفي إن لا يترافق مع تحرير الإرادة والتمثيل وإقرار السياسات.
لهذا فإن أي حديث عن "الاستنهاض"، أو "السعي" إليه (على ما يقول عنوان المحاضرة بدقة وحرص)، لا يكتمل تعليمياً من دون الحديث عن أوجه النهضة الوطنية الحقة، التي لن تكون ممكنة إذا بقي اللبناني "شحاذ منفعة" من "الزعيم"، لا صاحب حقوق من دولته وحكومته. نجاحات التعليم أكيدة بل باهرة منذ عين ورقة تحديداً لكنها تبقى دون بناء السياسة، إذ تشدها هذه إلى مواقع تقليدية للغاية، بما يفسد العلم نفسه ومأمولات الإنسان منه.
إن أي حديث عن "الاستنهاض" حديث سياسي، إذن، وهو غير ممكن – في حسابي – بالحديث فقط عن "وحدة المسيحيين" – الوحدة المرجوة، والتي لا يعمل لها أحد. أما الوحدة الممكنة فتتمثل تحديداً في وحدة الخيارات والقيم الوطنية: الاتفاق على خيار الدولة، لا الانقلاب عليها أو جعلها محميات زعماء. وتتمثل في الاحتكام إلى الدستور، إلى المؤسسات، إلى القوانين، ما يجعل المسيحيين مواطنين مع غيرهم من اللبنانيين، بدل الأحاديث البليدة عن التعايش والشراكة، وهي ألفاظ نبيلة عن بنية تجدد أسباب العنف. هذا حلم أكيد، لكنه جدير بالعمل، بالصبر، وبالتضحيات المجدية. الدستور، إذاً، لا إرادات النافذين وتسوياتهم. المؤسسات، إذاً، لا الوساطات والمداخلات. القوانين، إذاً، لا المنافع والترضيات. الاحتكام، إذاً، إلى السياسة، لا الاستزلام والطاعة، سواء لمتنفذ أو لـ"ولي فقيه".
(دير عين ورقة، غوسطا، جبل لبنان، 10-9-2010).