لا أتوانى عن العودة إلى كتاب أحمد فارس الشدياق: "الساق على الساق في ما هو الفارياق، أو أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام"، لما فيه من إطلالة حداثية حاسمة ذات تجليات مختلفة. ولا يعنيني الوقوف، هنا، بعد فحصٍ ودرس متماديين لهذا الكتاب الزاخر في كتب ودراسات سابقة لي، سوى الحديث عن علامتين مضيئتين فيه، هما: القارىء، من جهة، والاسم الفني، من جهة ثانية. فماذا عن الأولى منهما؟
يتوجه سرفنتس في رائعته "دون كيخوته" إلى مخلوق جديد، هو: القارىء، إذ يفتتح كتابه الشهير، منذ جملته الأولى، بالعبارة التالية: "أيها القارىء...". وهو ما أخذه كتاب أوروبيون عديدون عنه، بعد أن عَرف كتابه، إثر نشره الأول في العام 1605، نجاحاً مذهلاً، إذ بلغت طبعاته في إسبانيا، في السنة عينها، ست طبعات. وهو ما بلغ أوروبا بدورها، حتى أن السفراء الفرنسيين، الذين صاحبوا ملكة فرنسا، آن النمساوية، إلى إسبانيا في العام 1615، أصروا على المجيء بأنفسهم لتحية سرفنتس في بيته.
هذا ما يفعله الشدياق في أكثر من مكان في كتابه، إذ يتوجه فيه بدوره إلى "القارىء"، بل يستدعي في "الكتاب الأول" أحد المتحدثين: "كأني بمتعنتٍ يقول في نفسه أو لغيره...". وهو ما كان قد فعله سرفنتس، منذ تقديم كتابه، إذ يستدعي أحدهم لكي يساعده في مسعاه الكتابي. كما يتحدث الشدياق، في الكتاب عينه، عن أن له شرطاً على القارىء، أو يقول في الفصل الثاني عشر ("في أكلة وأكال"): "لا بد لي أن أطيل الكلام في هذا الفصل امتحاناً لصبر القارىء" وغيرها الكثير...
إلا أن أوجهَ تأثر الشدياق بسرفانتس تتعدى ذلك (على ما أذهب في التفسير)، إذ تشمل اختلاق "الخليص"، أو "كاتب السيرة" أو غيرها من الصفات التي ترد عند الشدياق للحديث عن الراوي، بينما كان سرفنتس قد تحدث عن عملية "التبني" التي تقوم في كتابه بين المؤلف ودون كيخوته. يتحدث الراوي في كتاب الشدياق: "نذرتُ على نفسي أن أمشي وراءه خطوةً خطوةً، وأحاكيه في سيرته. فإن رأيتُ منه حمقةً جئتُ بمثلها. أو غوايةً غويتُ مثله. أو رشداً قابلتُه بنظيره، وإلا لأني أكون خصمَه، لا كاتبَ سيرته، أو ناقلَ كلامه".
إن التوجه إلى "القارىء" سبق بالتالي ظهور الصحافة، التي نجد فيها أشكالاً متعددة من هذا التوجه. بل عنى هذا التوجه المختلف شيئاً مزيداً، وهو أن الكاتب لا يتوجه إلى الملك أو الأمير، بل خرج كذلك من دورة البلاط، ومن مجالس المتأدبين والعلماء، لينظر إلى جهة مجهولة تقوم في بيوت مختلفة: القارىء كفيلُ الكاتب وراعي الكتاب بالتالي.
وهو توجهٌ لا يختلف بل يمهد أو يوافق ميلاد "بَدَل" الكاتب، حيث بات سرفنتس، أو الشدياق، يفصلان بين جسديهما واسميهما، الطبيعيين إن جاز القول، وبين جسدين واسمين جديدين، هما الجسدان والاسمان الثقافيان أو الفنيان. هكذا أوجد سرفنتس حواراً بينه وبين دون كيخوته، وهو ما فعله الشدياق بينه وبين الفارياق، ما فتح قنوات اتصال وتباعد وتخيل بين كلٍّ من الاسمين والسيرتين.
إذا كان الكتاب الأوروبيون وجدوا في هذا "التوأم" أصول عائلة الأدب الحديث، فإن هذا ما عنى الشيء نفسه، بعد الشدياق، إذ تتعثر الكتابة العربية في شق طريقها الحديث، طالما أن البعض من كُتابها يطلبون في الكاتب هيئة الخطيب أو الفقيه أو الأمين العام، لا الكاتب المختفي-المتجلي وراء معاني تعبيره.
(صيف 2012).