اخترت دراسة شعر نزار قباني انطلاقاً من مجموعته الشعرية الأولى، «قالت السمراء»، الصادرة في العام 1944، وعدت إليها في طبعة 1962 (1)، التي تبدو أكثر قرباً، على ما تحققت، من الطبعة الأولى، مما هي عليه في «الأعمال الشعرية الكاملة» (الجزء الأول، منشورات نزار قباني، بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1983). واعتمادي على هذه المجموعة استند إلى قراءة حدسية، ما لبثت أن تأكدت من صلاحيتها، وهي أن هذه المجموعة قابلة، في مستويات تعبيرها المختلفة، لأن تعين تكوين الصنيع الشعري عند قباني، و«اقتصاده» الشعري (2). وهي قراءة أشبه بخيار-رهان، إذاً. ولكن، كيف أدرس المجموعة؟

كنت عمدت في دراسة سابقة (3) إلى تجريب واختبار ما كان اقترحه الدارس اللساني أ. ج. غريماس، وهو التمييز بين مستويين في القصيدة: المستوى العروضي والمستوى النحوي، على أن لكل مستوى صيغاً مختلفة، منها الشكل العروضي-الايقاعي وغيره للمستوى الأول، والشكل الدلالي للمستوى الثاني. إلا أنني ما لبثت أن تأكدت، في بحوث لاحقة، من «تعسفية» هذا الطرح، ومن عدم تناسبه مع ما هو عليه تركيب القصيدة في مستوياته كلها؛ وخلصت إلى أن القصيدة تمثل للقارىء كما للناقد في هيئتين:


- هيئة بصرية، أي الصيغة الطباعية المظهرية: هذا الشأن ناشىء في الشعر نفسه، وعمد الشعراء إليه في أزمنة متأخرة، بعد أن تنبهوا، من جهة، إلى توافر «عدة» طباعية مميزة قابلة لتمييز مواد القصيدة في ظهورها العيني للقارىء -الناظر إليها، وبعد أن سعوا، من جهة ثانية، ولا سيما في مطالع القرن العشرين، في تجارب أوروبية عديدة، إلى «استغلال» العدة الطباعية هذه في توظيفات تعبيرية، بل شكلية، في القصيدة الحديثة (4). غير باحث سعى في هذا المجال، إلا أن جيرار جينيت عمل على تدبير «نسقية» بحثية متماسكة له، وهو ما تمثل في كتابه ذي العنوان الدال، «عتبات» (Seuils). فلقد خرج الدارس الفرنسي من حدود النص، إلى خارجه، إلى المدونات المحيطة به، الممهدة له، أشبه بمداخله؛ وهي مدونات عديدة: العنوان، تمهيد (أو مقدمة) الكتاب، المواد الصحفية وغيرها التي تتحدث عنه، المادة النقدية أو التعريفية المثبتة على صفحة الغلاف الأخيرة وغيرها. ولقد وجدت أن مقترحات جينيت تقدم جديداً في القراءة النقدية للنص الأدبي، في التفاتها إلى مواد «مهملة»، إذا جاز القول، في النصوص الأدبية، إلا أن المقترحات هذه تشكو، على ما أعتقد، من جمعٍ لا يبدو لازماً أحياناً بين النص و«خارجه» في آن، وبين اشتغال الكاتب على نصه (في المتن كما في تقديم الكتاب) وبين اشتغال غيره (مثل الصحفي أو صاحب دار النشر) عليه، ما يجمع بين استهدافات مختلفة تصب في «مصلحة» الكتاب، كما يقال، لكنها تصدر عن جهات مختلفة، ولمقاصد متباينة.


- هيئة لغوية، أو «لفظية» (لو شئت التعويل على لغة النقد العربي القديم)، ذلك أن القصيدة تمثل للناقد، لا في معناها بل في هيئة لفظية، نحوية في المقام الأول. وهو ما أكدت عليه الدراسات البنيوية بدورها في تشديدها على أن الدخول إلى عالم النص، إلى عناصره المختلفة، إلى علاقاته، غير ممكن في صورة سليمة إلا انطلاقاً من مبناه اللغوي، من مواده (أصوات، ألفاظ...) ومن علاقاته التركيبية. وهو توصيف سليم يفيد كذلك أن ما نتبينه من مستويات، مثل المستوى العروضي-الايقاعي، أو المستوى النحوي-التركيبي، أو مستوى الأغراض والمضامين والدلالات، لا يعدو كونه في حاصله النصي، أي في أحواله ووقائعه النصية، مبنى تتداخل فيه وتتشابك (أو «تنسج» فيه، حسب عبارة رولان بارت) العناصر والعلاقات المختلفة المتأتية من المستويات كلها. وهو ما يدفعني إلى القول بأن هذه الهيئة، التي سأسميها من الآن وصاعداً «الهيئة النحوية»، حاصل جمعي، ومدخل لازم بالضرورة لمستويات النص كلها. وهذا يعني - على ما سأوضحه في مدى هذه الدراسة - أن علينا أن نباشر تحليل مستويات القصيدة انطلاقاً من مبناها النحوي، سواء ذلك في المستوى العروضي-الايقاعي، أو في البناء التركيبي، أو في الأغراض والمضامين والدلالات.

 

1 . الهيئة الطباعية

يمكن أن نتساءل ما إذا كانت دراسة هذه الهيئة لازمة في تناول أي قصيدة، أم أنها تناسب نوعاً بعينه من القصائد ودون غيره؟ السؤال طبيعي فيما خص القصائد القديمة، السابقة على العهد الطباعي، ولكن ماذا يمكن القول عن غيرها مما صدر في هيئة طباعية، كان للشاعر فيها غالباً رأي وتدخل؟ ويكون السؤال في اطار هذه الدراسة: ماذا يمكن القول عن الهيئة الطباعية في المجموعة المدروسة؟

تتألف المجموعة من ثمانية وعشرين قصيدة، مثبتة في هيئة طباعية ظاهرة، وإن كانت تقتصر على أدوات التنقيط في صورة أساسية: لا تخلو قصيدة، ولا بيت، ولا صدر أو عجز من أدوات التنقيط؛ كما لاحظت لجوء الشاعر إلى تغييرات في هذا المجال بين طبعتي المجموعة المختلفتين (1962 و1983). أسوق مثالاً وحيداً على ما أقول، مستقى من القصيدة الأولى في المجموعة، وهو بيتاها الأولان:

«كميس الهوادج .. شرقية

ترشُّ على الشمس حلو الحدا..

كدندنة البدو.. فوق سريرٍ

من الرمل، ينشف فيه الندا» (ص 27، طبعة 1962).

«كميس الهوادج .. شرقية

ترشُّ على الشمس حلو الحدا

كدندنة البدو فوق سريرٍ

من الرمل، ينشف فيه الندا» (ص 15، طبعة 1983).

يستعمل الشاعر أداتي تنقيط، هما: الفاصلة في عجز البيت الثاني، وأداة تنقيط غير معروفة (بل مبتكرة، على ما سأتبين أدناه)، هي: النقطتان المتتابعتان (..) في البيتين المذكورين. لكن الشاعر عمد في طبعة العام 1983 إلى الغاء النقطتين المتتابعتين في عجز البيت الأول، وفي وسط صدر البيت الثاني. هذا يشير بالضرورة إلى استهدافات، وإلى تغييرات أو تصويبات في الاستهدافات، طلبها الشاعر وسعى إليها من خلال هذه الأدوات.

لا يمكن أن أرى إلى الهيئة الطباعية لقصيدة ما، مثل قصيدة نزار قباني هنا، مثلما يرى سكرتير التحرير إلى المادة الصحافية المطلوب تدقيقها، لغوياً وطباعياً، قبل دفعها إلى الطبع: قد يخطىء الشاعر في استعمال هذه الأداة التنقيطية أو تلك (وهو ما تحققت منه في دراسة سابقة)، من دون أن يجلب الأمر نفعاً أكيداً في دراسة القصيدة. وقد يعمد الشاعر، على ما تحققت أيضاً، إلى «تسليح» قصيدته بعدة واسعة من أدوات التنقيط، قلما ألقاها عادة في القصائد الأوروبية الحديثة، ما يشير إلى طلب مخصوص في شعرنا الحديث على أدوات التنقيط (5). وهو ما يتضح في طلب قباني اللافت للأدوات هذه، والذي يصل إلى ابتكار أداة تنقيط جديدة، لا أعثر عليها في ما هو معروف من الأدوات التنقيطية، هي النقطتان المتتابعتان (..). فما تعني الأداة هذه؟

ان مراقبة القصائد، وتتبع استعمالات الأداة فيها، أبانت أننا أمام أداة مطلوبة للغاية في القصائد: في القصيدة الأولى من المجموعة، «ورقة إلى القارىء»، لا يخلو بيت منها، وتحضر ثلاث مرات في البيت التاسع، ومرتين في غير بيت. فما دور الأداة هذه؟

لا أجد أثراً لهذه الأداة في جاري الكتابة العربية، ولا في مقررات «مجمع اللغة العربية»، ولا في «سجل مفردات القواعد الطباعية، المستعملة في المطبعة الوطنية» الفرنسية (6)، على سبيل المثال، فكيف أتعامل معها؟

بدا لي، من تتبع أحوال عديدة لحضور الأداة هذه في قصائد المجموعة، أنها تحقق دور «استراحة متوسطة»، أعلى من الفاصلة، وأدنى من النقطة، وتوفر انتقالات نحوية أو ايقاعية، كما يتضح ذلك في عدد من الأمثلة. فلو عدت إلى البيتين المذكورين أعلاه لوجدت أن الأداة تحقق في صدر البيت الأول وقفة نحوية أساساً، قوامها الفصل بين الجملة الأولى («كميس الهوادج») والجملة الثانية («شرقية ترش...»)، وإن كانت توفر استراحة ايقاعية بالفصل التنقيطي الوارد في الصدر. ولكن ماذا أقول عن دور الأداة في نهاية عجز البيت الأول؟ هو دور ايقاعي بالضرورة، إذ يختم البيت، ولكن كيف تتحقق في الحالة هذه وظيفة القافية، كما هي مرسومة في العروض؟ هل يعني دورها في هذه الحالة أنها تزيد من طول الوقفة الاعتيادية؟

هذا ما تنبه له قباني، على الأرجح، عند إعداد الطبعات اللاحقة من مجموعته هذه، إذ عمد إلى حذف أداة التنقيط هذه من طبعة 1983، على سبيل المثال، الواقعة في نهاية كل بيت، بعد القافية، إلا في موضعين اثنين في هذه القصيدة.

أتحقق من ورود أداة التنقيط في سائر قصائد المجموعة، وتبدو أكثر حضوراً من غيرها من الأدوات، ما يشير إلى الطلب الشديد عليها. وهو طلب ايقاعي في المقام الأول، يفيد في "مَوْسَقَة" الشطر، في زيادة تنويعات فيه، ما يعزز ايقاعيته العالية والمطلوبة. لأتوقف عند الأبيات الثلاثة الأولى من قصيدة «الموعد الأول»:

«.. ويمنحني ثغرها موعدا

فيخضرُّ في شفتيها الصدى

وأمضي إليها.. أنا شهقات القلوع

تغازلُ لون المدى..

وأين القرار ؟ سبقتُ الزمان

سبقتُ المكان. سبقتُ غدا» (ص 45).

يعمد قباني إلى استعمال أداة التنقيط المذكورة ثلاث مرات في هذه الأبيات، ولكن وفق استعمالات مختلفة، على الرغم من ورودها في ثلاثة أمكنة متغيرة:

- تظهر في المرة الأولى، في مطلع البيت الأول، ويفيد إيرادها، هنا، شيئاً ما واقعاً في مبنى القصيدة، وفي موضوعها: الأداة تُظهر أن ما تبدأ به القصيدة يندرج في زمن سابق، أو موصول بغيره، مما لا يذكره الشاعر؛ أي أن الأداة تساعد الشاعر في الاشارة إلى أن مفتتح القصيدة، أو وضعية انطلاقها، مختار، بل مطلوب، في لحظة معينة، إثر حدوث فعل بعينه (وعد الحبيبة بموعد للحبيب).

- تظهر أداة التنقيط هذه في المرة الثانية، في صدر البيت الثاني، وتؤدي دوراً بيناً في توزيع االمضامين، إذ أن الشاعر عاد إلى الأداة لإجراء وقفة في تدفق المعنى، وإجراء انتقالة من الحديث عن الحبيبة («وأمضي إليها»)، المشفوع بحدوث حركة ما في السرد، إلى الحديث عن الحبيب («أنا شهقات القلوع»)، الذي هو أشبه بحديث للنفس.

- تظهر أداة التنقيط في نهاية البيت الثاني، وتزيد من طول القافية، واستراحتها اللازمة؛ وتبدو الحاجة إليها ماثلة لإظهار انتقالات المعاني، أي الفصل بين نقلة معنى وأخرى، كما تحققت منها في الفقرة السابقة.

يتبين، إذاً، أن استعمال أداة التنقيط هذه يبلبل، أو يطيل غالباً من امتداد الأبيات، في أوساطها أو نهاياتها، ما يبدو مثل تحايل أو استثمار جديد لإمكانات العروض التقليدي. كما ان الاستعمالات هذه تحقق أدواراً مختلفة في الانتقالات، سواء في البناء أو في المضامين.

أكتفي بهذا القدر من التحليل على أن أعود أدناه إلى أوجه الاستعمال المختلفة هذه، في مواضعها المناسبة (7). كما يمكن أن أشير إلى سمات طباعية أخرى في المجموعة الأولى، تفيد عن لجوء الشاعر إلى تقطيعات طباعية في القصيدة الواحدة (واعتماد المقاطع فيها)، ما يمكن أن يساعد في التعرف على بناء القصيدة، وفي الوقوف على توزع المضامين فيها. وأخلص من تناول الهيئة الطباعية إلى القول: يعمد قباني في تثبيت قصيدته على عدة طباعية، تقوم على توزيعها في مقاطع، وعلى تقسيم أبياتها وفق أدوات تنقيط، منها النقطتان المتتابعتان، التي تحقق استراحة متوسطة تفيد الفصل بين الجمل أحياناً، وخصوصاً "الموسقة" الداخلية المزيدة في البيت الواحد وبين أبيات عديدة.

 

2 . الهيئة النحوية

درج النقد التقليدي على تعيين نسبة القصائد في مجموعة، أو ديوان، إلى هذا البحر أو ذاك، مكتفياً بذلك. وهو في هذا التدبير يعمد إلى تصرف تقني خالص، يفيد في عمليات «التصنيف» - وما أكثره في الكتابات العربية القديمة، حتى أنه يبدو بديلاً عن التأليف أو التعليل في غالب الأحيان! -، سواء للبناء العروضي-الإيقاعي نفسه، أو لعلاقات هذا البناء ومقتضياته مع تعبيرات القصيدة ومضامينها.

فما يفيد لو جرى القول إن قصائد مجموعة قباني الأولى تتوزع بالتدرج بين البحور التالية: 10 قصائد على البحر السريع (مستفعلن مستفعلن فاعلن)، 7 قصائد على المتقارب (فعولن أربع مرات)، 3 قصائد على الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)، قصيدتان على الرمل (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن)، قصيدتان على الطويل (فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن)، قصيدتان على الكامل (متفاعلن ثلاث مرات)، قصيدة واحدة على المجتث (مستفعلن فاعلاتن) وقصيدة واحدة على الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن)؟

طبعاً بإمكاننا القول إن الشاعر اختار البحور «المركبة» أكثر من البحور «الصافية»، وإن اختياره أحد البحور الصافية، مثل «المتقارب»، جعله يقترب من النثر، إذ يصح في هذا البحر قول القدامى من العروضيين إنه «نثر موزون». كما نستطيع أن نحصي أنواع القوافي في مجموع القصائد، وأن نفرزها في مجموعات متباينة الاختلافات والتقاربات، من دون أن يفيد هذا الدرس الشيء الكثير. يمكن أن أعدد الملاحظات التقنية، التي لا تختلف كثيراً عما فعله، في دراسة شهيرة، كلود-ليفي شتراوس ورومان ياكوبسون في دراستهما لقصيدة «القطط» لبودلير، إذ أفاضا في تعيين أنواع القوافي واختلافاتها، من دون شيء كبير غير هذا التوصيف التقني، على جمالاته الدقيقة وحذاقته اللافتة.

 

2 . أ : من العروض إلى "المَوْسَقَة"

طبعاً يمكن القول إن قباني عمد إلى اتباع النسق التقليدي، العمودي، في البناء العروضي، من دون تعديل أو تجديد، إلا في قصيدتين: خرج من البيت الشعري المتناظر إلى الأسطر الشعرية المتفاوتة الطول العروضي في قصيدة واحدة، «اندفاع»:

«أريدُكِ

أعرفُ أني أريدُ المحالْ

وأنكِ فوق ادعاء الخيالْ

وفوق الحيازة، فوق النوالْ» (ص 85).

كما نوَّع القافية في قصيدة واحدة، «البغي»، القصيدة الأخيرة في المجموعة (4 قوافٍ).

لا يكفي الحديث عن نسبة البحور، ولا عن تغيرات حاصلة في توزيع الأشطر، أو عن اختلالات وتدبيرات في الطول العروضي لهذا البيت أو ذاك، أو عن تنويعات في القوافي، فمثل هذه الأحاديث لا تجيب عن مجموع المعالجة العروضية-الإيقاعية في مجموعة نزار قباني الأولى.

لا يكفي الحديث، إذاً، عن النسق العروضي، ولا عن تغيراته، ذلك أنه يمكن الانتباه إلى وجود معالجات مختلفة في هذا المستوى، يُظهرها الشكل العروضي (أو يتضمنها): منها حدوث تكرارات تعزز بدورها ايقاعية البيت كما القصيدة، ومنها التوزيع الداخلي للأبيات.

فنحن نلاحظ، في عدد من القصائد، اعتماد الشاعر على أنواع من التكرارات، سواء لألفاظ بعينها (مثل تكرار لفظ «شارعنا» في مداخل عدد من أبيات قصيدة «مذعورة الفستان»، أو تكرار لفظ «أحبك...» في مطالع عدد من أبيات قصيدة «حبيبة وشتاء»، وغيرها من الألفاظ والتراكيب، مما لا أجد حاجة إلى ذكره).

ويمكن أيضاً الالتفات إلى تدابير ايقاعية تقوم على ايجاد «استراحات» قصيرة في تتابع الشطر الواحد. ففي قصيدة «حبيبة وشتاء»، يعمد الشاعر إلى إجراء وقفة ايقاعية في مطلع عدد من الأبيات، كما في هذين البيتين:

«أحبك.. في مراهقة الدوالي

وفيما يضمر الكرمُ الرضيعُ» (ص 86)؛

و«أحبكِ.. مقلةً وصفاء عينٍ

إليها قبلُ، ما اهتدت القلوعُ» (ص 87).

وهي وقفة افتتاحية، يكاد حدوثها يوازن بل يزيد زمنياً عن الوقفة الضرورية بعد نهاية الشطر. ينوع قباني الوقفات هذه داخل أشطر الأبيات، كما في هذا البيت:

«وفي اللون.. في الصوت.. في كل شيء

وفي الله.. في دمعة الراهبه» (ص 93).

ويبلغ التجريب هذا حدوداً تبلبل النسق التقليدي كله في البيت الواحد، كما في هذا البيت:

«وأبحري في جرح جرحي.. أنا

لشهوتي صوت.. لجوعي يدان» (ص 101).

ننتبه إلى أن الشكل النحوي والطباعي في البيت لا يناسب أبداً الشكل العروضي-الإيقاعي، بل يعارضه تماماً، حيث أننا نرى في التحققات هذه نزاعاً لافتاً بين الشكلين. فالوقفة في نهاية الشطر معدومة، ويحتاج البيت بالتالي إلى "جريان" لازم (أي امتداد البيت إلى تإليه)، فيما الوقفة غير ضرورية (في النسق العروضي) بعد «جرحي»، إلا أنها لازمة لاعتبارات نحوية (نهاية جملة)، ولاعتبارات طباعية (ورود أداة التنقيط). باتت تتحقق النقلات، إذاً، في البيت الواحد، كما ألقاها في هذا المثل:

«يعيش في الظن.. فوق

الوقوع.. فوق الحصولِ» (ص 53)؛

وفي القصيدة نفسها:

«طيف تثلج.. خلف

الزجاج. هيا افتحي لي..

من أنتَ؟ وارتاع نهدٌ

طفلٌ.. كثيرُ الفضولِ» (ص 55).

بل أتحقق من وجود نوع من "الجريان" يقتضيه البناء النحوي، كما هو عليه الحال في البيت الأول المذكور. ويمكن القول إن الشاعر توصل في هذا البيت إلى نسق قصيدة التفعيلة، لكنه حافظ طباعياً على الشكل العامودي، إذ كان بمقدوره عرض الجمل في صورة مختلفة، كهذه:

يعيش في الظن

فوق الوقوع

فوق الحصول.

إلى هذا، ننتبه إلى أمر آخر في البيت الثاني المذكور، وهو أن الشاعر استعمل أداة النقطة بعد «الزجاج»، ما يوقف - لزوماً - جريان البيت، ويبلبل نسقه التقليدي.

لهذا أقول إن نزار قباني توصل في غير قصيدة من قصائد المجموعة هذه إلى تجريب إيقاعات جديدة ومتباينة ضمن النسق العروضي التقليدي، في "موسقة" داخلية للأبيات، وإن كان التجريب هذا لا يظهر في ترتيب أشطر الأبيات، إلا في قصيدة واحدة في المجموعة، هي قصيدة «اندفاع» (8).

إلا أن ما يسترعي الانتباه في معالجات قباني يتعدى ذلك، ويَظهر في إسهامات البناء النحوي في التشكيلات العروضية. ذلك أنني أتحقق من عمليات أخرى، ومن وجود صلات تتعدى اطار البيت الواحد، ومنشؤها التركيب النحوي للجمل وتصور بناء عام للقصيدة. وهي صلات أتحقق منها في غير جملة، وفي غير نوع من الجمل في القصيدة الواحدة. لو أتوقف أمام القصيدة الثانية في المجموعة، «مذعورة الفستان»، لوجدت القصيدة تتوزع في أنواع معدودة من الجمل:

- الجملة الأولى ندائية، افتتاحية، تعين المخاطب في القصيدة، وتشير إلى لحظة الحركة التي تحدد انطلاق رسالة التخاطب:

«مذعورةَ الفستان، لا تهربي

لي رأيُ فنانٍ، وعينا نبي» (ص 35).

- الجملة الثانية وصفية، تتحدث عن «شارع» المتكلم والمخاطب في آن، المجتمعَين في نون الجماعة، وتتركز في مفتتح الجملة هذه: «شارعنا...». تتعدد هذه الجملة في الصيغة النحوية نفسها في ثلاثة أبيات متتابعة؛ ويكرر الشاعر المسعى نفسه في بيتين متتابعين، تتركز الجملة فيهما على المسمى نفسه، وفق الصيغة النحوية نفسها: «شارعنا»، ما أجمعه كله في تركيب واحد:

«شارعُنا أنكرَ تاريخه

والتف بالعقد.. وبالجوربِ

والتهمَ الخيط.. وما تحته

وأتعب الخصرَ ولم يتعبِ

واقتحمَ النهدَ، وأسواره

ولم يَعُدْ من ذلك الكوكبِ

شارعنا يمشي على شوقه

يمشي على جرح هوى مرعبِ

يمشي بلا وعيٍ ولا غايةٍ

مثلكِ، يا مبهمة المطلبِ» (ص 35-36).

- يستعيد قباني في الأبيات المتبقية من القصيدة (5 أبيات) الجملة الندائية، الافتتاحية في مطلع القصيدة، ولكنه ينوع ويعدد أوجه المخاطبة التي يطلقها المتكلم صوب المخاطب، ما يتمثل في أفعال المناداة والأمر: «حرَّكْتِ»، «فُدِيتِ»، «تمهلي»، «دوسي»:

«حركتِ بالايقاعِ أحجاره

فاندفعتْ في عزةِ الموكبِ

فُديتِ يا ساحبةً خلفها

شيئاً من الليلِ.. من المغربِ

أهذهِ أنتِ؟ صباحي رضا

أعمارنا قبلكِ لم تُكتبِ..

تمهلي في السير.. هل رغبةٌ

ظلتْ بصدر الدربِ لم ترغبِ ؟

(...)

دُوسي، فمن خطوكِ قد زرَّرَ

الرصيفُ، يا للموسمِ الطيبِ..» (ص 37 و40).

يمكن التحقق في مدى هذه القصيدة من تعويل الشاعر على جملتين بنائيتين، اعتمد عليهما في غير أمر، ما يعكس الترابط، أو التناسج المحكم، بين عناصر المستويات المختلفة، مثلما أشرت إليه في الهيئة النحوية أعلاه: ففي هاتين الجملتين تكرار ايقاعي أكيد، يتمثل في تكرار اللفظ «شارعنا» (وهو ما يتكرر كذلك في صيغة الفعل المستعملة في مطالع الأبيات الأولى في القصيدة)، وفي تكرار صيغة الفعل الندائية: «فديتِ»، «دوسي» وغيرها. فتشابهُ الأبنية النحوية يوفر إيقاعية مزيدة، تخفف من رتابة العروض التقليدي.

يمكن أن أرى إلى الظاهرة نفسها، لو توقفت عند القصيدة التالية في المجموعة، «مكابرة»: تنطلق القصيدة في كل مرة، في كل مقطع، ابتداء من جملة تساؤلية: «تراني أحبك؟»، التي تتكرر في مطلع البيت الأول، وفي ختام البيت الخامس، وفي ختام البيت الثامن، وفي مطلع البيت التاسع عشر، قبل ختام القصيدة النهائي.

هذا ما أجده في القصيدة الرابعة، «اكتبي لي»، إذ تبدأ بالجملة التالية: «إليَّ اكتبي» (وبديلتُها في البيت الثالث: «عليَّ اقصصي»)، وتنطلق بها من جديد في البيت الحادي عشر. وهو ما يتكرر في غير قصيدة في المجموعة...

يبقى أن أتوقف، أخيراً، عند تجربة لافتة في المجموعة هي قصيدة «اندفاع»، إذ يقوم التوزيع العروضي والايقاعي فيها وفق تدرجات وانتقالات جديدة قلما عثرت عليها في المجموعة (9). يتلافى الشاعر في هذه القصيدة ما سبق أن أشرت إليه أعلاه، أي «النزاع» بين الشكل الطباعي والنسق العروضي. فهو يورد أشطر الأبيات تبعاً لمواضع الانتقال فيها:

«أريدكِ

أعرف أني أريدُ المحالْ

وأنك فوق ادعاء الخيالْ

...» (ص 58).

ما يعني أنه يخصص لكل جملة انتقالتها، ويحقق التناسب بالتالي بين الشكل الطباعي والشكل العروضي (أو التفعيلة بالأحرى). إلا أنني ألاحظ في القصيدة شيئاً يتعدى ذلك، وهو إنتاج موسيقية مزيدة، كما في هذا المقطع من القصيدة نفسها:

«أريدكِ

أعلمُ أن النجومْ

أرومْ

ودونَ هوانا تقومْ

تخومْ

طوالٌ. طوالْ» (ص 59).

أتحقق، إذاً، من تعويل الشاعر على أدوات عديدة، طباعية ونحوية وتوزيعية للعروض أو التفعيلات، تزيد من إيقاعية القصيدة، من «زخارفها» الداخلية كما في المقطع الأخير، بل تؤدي أحياناً إلى مَوْسَقَة القصيدة (10).

 

2 . ب . البنية «المغلقة»

ما أريد قوله هو أن البناء النحوي موجَّه، إذا جاز القول، أو موظَّف في كيفيات تضمن إيقاعية مزيدة في الأبيات كما في القصيدة كلها. غير أن الشكل النحوي يخضع لمقتضيات أخرى، أو ينشأ وفقاً لخيارات وتدبيرات في البناء التركيبي، لا تختصرها ولا تستدعيها الايقاعية الشديدة المطلوبة في إعداد نزار قباني لـ«اقتصاده» الشعري. وهي مقتضيات وخيارات وتدبيرات أتحقق منها في الجملة الواحدة، كما بين الجمل، وفي الصلات «النَسْجية» بين النحو والبناء، وبين النحو والمعنى.

لاستكمال الدرس أتوقف عند قصيدة «اسمها»: تبدأ من منطلق، من مقصد تعبيري، هو الحديث عن اسم الحبيبة في هذه القصيدة، على أن أول بيت فيها، أو لاحقه، أو غيره من الأبيات، حتى ختام القصيدة، لا ينتظم وفق تتابع يفرضه «تطور» ما في العرض، أو في علاقات البناء. فالقصيدة تبدأ وتستمر وتنتهي من دون لزوم بنيوي بين أبياتها. هذا ما يوفره بناء الجملة البسيطة، منذ البيت الأول:

«اسمها في فمي.. بكاءُ النوافيرِ

رحيلُ الشذا.. حقولُ الشقيقِ

حزمةٌ من توجع الرصدِ.. رصدٌ

من سنونو يهمَُ بالتحليقِ

كنهورِ الفيروز...» (ص 69-70).

لهذه القصيدة بناء جملة، يستمر ويتكرر في أكثر من بيت منها (على قدر خفيف من التبديل والتنويع فيها)، وأجده في غير قصيدة، وهو ما أسميه مبدأ الجملة المعطوفة أو المتعلقة ذات البناء التركيبي الواحد والمتكرر. يتخذ هذا المبدأ أشكالاً مختلفة في الجملة المعطوفة، منها شكل الجملة الاسمية (مبتدأ وخبر غالباً، كما في قصيدة «اسمها»)، ومنها الجمل ذات التركيب الواحد، كما في هذا المثل:

«وكيف بالغتَ بتدويره؟

وكيف وزَّعْتَ نقاطَ الدمِ؟

وكيف بالتوليب سوَّرْتَه

بالورد، بالعناب، بالعندمِ؟

وكيف ركزَّتَ إلى جنبه

غمَّازةٌ.. تهزأ بالأنجمِ..» (ص 109-110).

أو في هذا المثل:

«أنتِ شطٌ أغفتْ عليه الهناءاتُ

وقلبي حيرانُ فوق عبابِكْ

أنتِ حانوتُ خمرتي إن طغي الدهر

وجدتُ السلوان في أكوابِكْ

أنتِ كرمي الدفيقُ.. لو يُعبدُ الكرمُ

عبدتُ النيرانَ في أعنابِكْ» (ص 118).

ومنها الجمل المعطوفة إلى فعل واحد، كما في هذا المثل:

«أحبك.. في مراهقة الدوالي

وفيما يضمر الكرمُ الرضيعُ

وفي تشرين، في الحطب المغني

وفي الأوتارِ عذَّبها الهجوعُ

وفي كَرَمِ الغمائمِ في بلادي

وفي النجمات في وطني تضيعُ» (ص 86-87).

وهو الشكل عينه الذي ألقاه في قصيدة أخرى:

«اطار حزينٌ أحبكِ فيه

وفي الحرج يستنظر الحاطبه

وفي عبق الخبز في ضيعتي

وطفرات تنورةٍ أيبه..

...» (ص 92).

ويكرر الصيغة، بل الجملة المعطوفة عينها، في المضمون نفسه، في قصيدة ثالثة:

«أحبكِ.. في لهو بيض الخرافِ

وفي مرح العنزة الصاعده

وفي زُمَرِ السرو والسنديان

وفي كل صفصافةٍ مارده

وفي مقطعٍ من أغاني جبالي

تغنيه فلاحة عائده..» (ص 106).

ومنها جمل معطوفة بأداة التشبيه، كما في هذا المثل:

«كلوحةٍ ناجحةٍ.. لونُها

أثار حتى حائط المرسمِ

كفكرةٍ.. جناحها أحمر

كجملةٍ قيلتْ ولم تُفهمِ

كنجمةٍ قد ضيَّعَتْ دربَها

في خصلاتِ الأسود المعتمِ» (ص 108- 109).

ويتخذ هذا المبدأ أشكالاً مختلفة في الجمل المتعلقة، منها الجملة المتعلقة بأداة النصب، كما في هذا المثل:

«مشاويرُ تموز.. عادت وعدنا

لننهبَ دالية راقده ..

لنسرقَ تيناً من الحقل فجاً

لننقفَ عصفورة شارده

لأفرط حباتِ توت السياج

وأطعمَ حلمتكِ الناهده

...» (ص 104-105).

أبنية تركيبية ميسرة، لها آثارها ومقتضياتها في تدبير إيقاعات ذات أساس نحوي، وفي توزيع المعنى كذلك، إلا أن الأبنية تتحقق أيضاً في صيغ أكثر تركيباً، لها ارتباطات وثيقة بما يمليه «خيار» القصيدة الأول، الذي يقف وراء وضعها. فلقد بدا أن قصائد قباني تخضع لطريقة معينة، لخيار أول، يملي عليها - كما يفسر كذلك - بعض أسباب التعالق النحوي، في الجملة الواحدة، بين الجمل، وفي مجموع القصيدة. فما أقصد بـ«الخيار الأول»؟

القصيدة العربية القديمة اتبعت في عدد منها طريقة معينة في الافتتاح، ولا سيما في قصائد المديح، مثل الوقوف على الأطلال، وعقد الكلام أو الإرسال إلى مثنى («خليليَّ»)؛ واتبعتْ كذلك انتقالات معينة بين الأغراض (وصف مشاق السفر، التغني بالحبيبة...) وصولاً إلى الممدوح وصفاته. وهو توزيع، أو قالب متتابع من المضامين، لا يرسم في شكله وطريقته هذه، ما يمكن أن يدل على البناء النحوي في القصيدة (أي العلاقات بين الأبيات المختلفة)، ولا على المجموعات الدلالية بالمقابل. هكذا تكون للقصيدة العربية القديمة (11) قوالب معينة، أو نماذج يتم التباري ضمن أطرها ومواضعاتها، ما يجعل الميزة أو الفروق حاصلة في تضاعيف مستويات القصيدة، لا في خيارها الأول كما يتبدى ذلك في الكتابة تنصرف إلى انتاج «نصوص» بعينها، لها ما يعينها في حدود مبناها العام (وبالتالي في مستوياتها المختلفة).

ذلك أنه باتت للنصوص الشعرية حدوداً، تبدأ بها وتنتهي إليها (12)، وهي حدود جلية في قصائد قباني منذ مجموعته الأولى. فهي قصيدة لا تبدأ من مكان غائم، أو شديد الالتباس، ولا تنتقل انتقالات مباغتة، بل تتحقق وفق مقتضيات ما أسميته «الخيار الأول». وهو ما يمكن أن أتحقق منه منذ عناوين القصائد؛ فهي عناوين شديدة، بل دقيقة التعيين، تعتمد على لفظ واحد (13) أو على جملة فعلية أو اسمية قصيرة.

يمكن أن أفرز في سجل العناوين عدداً من الأنواع، وخلصت إلى ملاحظة ثلاثة منها:

- أطلقت على النوع الأول والأهم اسم «أحوال سردية»، ذلك أن العناوين هذه تشير أو تومىء إلى أحداث وشخوص ومواضع وأغراض تفيد سرداً في العرض الشعري : «الموعد الأول»، «أمام قصرها»، «في المقهى»، «غرفتها»، «حبيبة وشتاء»، «مساء»، «خاتم الخطبة»، «سمفونية على الرصيف»، «فم»، «القرط الطويل»، «رافعة النهد»، «نهداك»، «مدنسة الحليب»، «البغي»؛

- كائنات نسائية : «مذعورة الفستان»، «اسمها»، «زيتية العينين»، «إلى مصطافة»، «مسافرة»، «إلى عجوز»، «إلى زائرة»؛

- حالات وابلاغات عاطفية : «مكابرة»، «اندفاع»، «أنا محرومة»، «اكتبي لي»، «أحبك»، «أفيقي» (14).

انتهيت إلى هذا الفرز بعد أن أجريت تدقيقات في صحة نسبة العناوين، بل القصائد، إلى هذا النوع أو ذاك (طالما أن المضامين تتداخل في بعض القصائد): كان في إمكاني أن أضع، على سبيل المثال، «مدنسة الحليب» و«البغي»، في نوع «كائنات نسائية»، لكنني امتنعت عن ذلك بعد أن تحققت من حال السرد، بل «القصة الشعرية» (كما سأؤكد ذلك أدناه) فيهما. يمكن أن أدقق في نسبة بعض العناوين، لا كلها على أي حال؛ عدا أنني خلصت إلى هذا الفرز مثل «مؤشر» ليس إلا، وإن استندت فيه إلى شيء أوسع من قراءة العناوين في حد ذاتها، أي إلى قراءة ما تعرضه القصائد في أبنيتها من أحوال نحوية-مضمونية.

قلت عنه إنه «خيار أول»، أي أن القصيدة تنطلق من قصدٍ ما في التعبير، من موضوعٍ ما في تقطيعات محددة له، من خطة في التأليف، من دون أن نعلم ما إذا كان الخيار هذا سابقاً على لحظة انتاج القصيدة، أو متضمناً في عمليات انتاجها. وهو خيار يقوم على ابتكار «الزاوية» (كما يقال في لغة التصوير)، كالحديث عن الحب من خلال «القرط الطويل» أو «خاتم الخطبة» أو «رافعة النهد» وغيرها؛ أو يقوم الخيار على التقاط الموضوع في لحظة «حية» (كما يقال في لغة السينما)، كالحديث عن الحب في لحظة التقاء شخصين في مقهى، أو عند مشي إحدى الجميلات في أحد الشوارع وغيرها.

هو «خيار أول»، وقد يكون الخيار الأخير الذي انتهت إليه القصيدة، لما نعلمه عن أحوال النص الشعري، ولا سيما الحديث منه، بين انطلاقته ووصوله الختامي، إذا جاز القول، ولما نعلمه عن العمليات التي تصيب النص الشعري في مراحل انتاجه المختلفة. لعله خيار أول، وربما حاصل نصي، وهو ما لا يمكنني التحقق منه. ما أقوى عليه هو التعرف على تحديدات النص، أي على مجموعة من التدبيرات والقواعد التي تجعل من كتابةٍ ما نصاً ذا علاقات وأسباب صلة تضم بعضه إلى بعض. كيف لنا أن نعرف العلاقات وأسباب الصلة هذه، طالما أن التناسج ناشط بين خيوط مختلفة، هي مجموع المواد والعلاقات التي تشتمل عليها مستويات النص المختلفة؟


2 . ب . 1 . السرد شكلاً للبناء

بدا مفيداً، في لحظة أولى، الوقوف عند شؤون مختلفة، في صور متفرقة، أشبه بمن يكر خيوط النسيج في ثوب ما. من هذه الشؤون ما لاحظته من أمر بعض الجمل اللافت في بعض قصائد المجموعة، وأورد أمثلة منه:

- قصيدة «مكابرة» تبدأ بالجملة التالية: «تُراني أحبك؟» ولا تلبث أن تستعيدها في مطلع البيت الأخير من المقطع الأول، وتوردها من جديد في المكان عينه، في مطلع البيت الأخير من المقطع الثاني، وفي مطلع البيت الأخير من المقطع الثالث، وتنتهي القصيدة ببيتين يأتيان مثل جواب على الجملة-السؤال التي تتردد أربع مرات في مقاطع القصيدة، وهما البيتان التاليان:

«إلى أن يضيق فؤادي بسري

ألح. وأرجو. وأستفهمُ

فيهمسُ لي: أنتَ تعبدها

لماذا تكابرُ.. أو تكتمُ ؟» (ص 44).

- قصيدة «اكتبي لي»، تبدأ بالجملة التالية: «إليَّ اكتبي»، وترد الجملة في صيغة رديفة لها («عليَّ اقصصي») في الموضع نفسه، في بداية البيت الثالث، وتستعيد القصيدة الجملة في صيغتها الأولى («إليَّ اكتبي») في مطلع البيت الحادي عشر.

- قصيدة «أمام قصرها» تبدأ بالجملة التالية: «متى تجيئين؟»، وتستعيد القصيدة الجملة نفسها في صورة مختصرة في مطلع البيت الأخير: «متى؟»، وهو البيت التالي:

«متى؟ ورُدَّتْ صلاتي

مع انهمار السدولِ» (ص 75).

أكتفي بهذه الأمثلة، وهي تفيد في ملاحظة غير أمر:

- أمر ايقاعي (تنبهت إليه أعلاه، وهو تعويل قباني على صيغ نحوية في صورة متكررة) يصل في الأمثلة هذه إلى تركيب يكاد يقترب من «اللازمة الموسيقية»، أي تكرار جملة في مواضع بعينها في القصيدة، في صورة لازمة؛

- أمر نحوي، وهو أن الجملة هذه هي أساساً جملة-عماد البناء، إذ تطلق القصيدة في مفتتحها، وفي انطلاقاتها اللاحقة، ما يجعل منها مرتكز القصيدة في «تطوراتها» البنائية؛

- أمر دلالي، وهو أن الجملة تحدد لمضامين القصيدة ودلالاتها وضعية ما تنطلق منها، أو تعين ميدان تكثرها وتفرعها، بل تعين - وهذا هو الأهم في عرضي - خاتمة، أو وصولاً، أو حلاً للموضوع المطروق: في نهاية المثل الأول (قصيدة «مكابرة») إجابة عن سؤال الحب المطروح؛ وفي نهاية المثل الثالث («أمام قصرها») إجابة كذلك عن السؤال المطروح في بدايته، وإن كان الجواب سلبياً. غير أنني لا أجد في المثل الثاني («اكتبي لي») خاتمة ما، بل تكراراً لما سبق التأكيد عليه في غير مقطع من مقاطع القصيدة، وهو ما يجعل القصيدة «مفتوحة»، أي قابلة لزيادات، ولا تملك بالتالي إطاراً ناظماً و«مغلقاً» لمبانيها وتطور مضامينها.

أتحقق في هذه المراجعة الأولية من وجود نقطة انطلاق محددة للقصيدة ونقطة وصول لها، على أن المسار بين النقطتين يتخذ شكلاً سردياً في عدد كبير من القصائد. هذا ما أشرت إليه في سجل العناوين، هذا ما ألحظه في عدد من قصائد المجموعة:

- في قصيدة «الموعد الأول» أتبين مساراً سردياً، يمكن أن أستدل إليه في الجمل التالية، كما ترد متتابعة في القصيدة: «ويمنحني ثغرها موعداً» (...)، «وأمضي إليها» (...)، «أخوِّض في الصبح.. ملء طريقي / أريجٌ.. وملء قميصي ندى»، «يدي في ذراعك» (...)، «جرَّحْتُ الأزاميل فيك»، «وشجعت نهديك.. فاستكبرا»: مسار سردي، يعرض لتوجه الحبيب إلى الحبيبة، وإن كان لا يبلغ في هذا المثل الأول خاتمة سردية بعينها، مثلما أتأكد من حصول الأمر في الأمثلة التالية.

- في قصيدة «أمام قصرها» أتبين مساراً سردياً، أستدل عليه في هذه الجمل المتتابعة: «متى تجيئين؟» (...)، «أنا على الباب.. أرجو/ انزياح ستر صقيل» (...)، «متى؟». وهي قصيدة تعرض لوقوف الحبيب أمام قصر الحبيبة، من دون أن يقوى على رؤيتها.

- في قصيدة «في المقهى» تتخذ القصيدة مساراً سردياً شديد التعيين في فقراته وأوصافه وأحواله: «في جواري اتخذت مقعدها» (...)، «وكتاب ضارع في يدها» (...)، «يثب الفنجان من لهفته» (...)، «آه من قبعة الشمس» (...)، «جولة الضوء على ركبتها» (...)، «هي من فنجانها شاربة» (...)، «من أنا .. خلي السؤالات» (...)، «موعداً سيدتي! واستضحكت / وأشارت لي إلى عنوانها ../ وتطلعت فلم ألمح سوى / طبعة الحمرة في فنجانها»: مسار سردي، بل حكاية، أو لقطة سردية، أو حادثة جرت في مقهى، وتتحدث عن مسعى تعارفي يصل إلى خاتمة «ظريفة».

كما أتحقق من وجود قصائد يمكن أن أطلق عليها تسمية «القصص الشعرية»، مثل قصيدة «مدنِّسة الحليب»، وخصوصاً «البغي» التي تتسم بسردية ووصفية عالية. تنقسم هذه القصيدة في مبناها وأبياتها إلى قسمين غير متعادلين: قسم أول، وهو الأطول، يعرض لحال بغي فيه، ولمناخات الحي وشخوصه ومجرياته، في لقطات وحوارات و«بورتريهات» شديدة التلاوين؛ وقسم ثان تنطلق فيه البغي في شكوى ذاتية تعرض فيه لحالها ولمظالم البشر عليها. تبدأ قصيدة «البغي»، كما في شريط سينمائي:

«علَّقتْ في بابها قنديلها

نازفَ الشريان، محمر الفتيلهْ

في زقاقٍ ضوأتْ أوكاره

كل بيتٍ فيه.. مأساة طويله

غرفٌ.. ضيقةٌ.. موبوءةٌ

وعناوين (لماري) و(جميله)

وبمقهى الحي.. حاكٍ هرمٌ

راح يجترُّ أغانيه الذليله

وعجوزٌ خلفَ نرجيلتها

عمرُها أقدمُ من عمرِ الرذيله

...» (ص 144-145).

هذا ما أتحقق منه في قصائد أخرى، تستند أو تحيل على تكوينات أو معطيات سردية، ما يشير إلى معطى تكويني، واختيار تأليفي في «اقتصاد» نزار قباني الشعري (15). إلا أن اتخاذ السرد شكلاً للبناء (ومادة من دون شكل في بعض القصائد) لا يغيب وجود أشكال أخرى، توفر بدورها لحمة البناء وتطوره، وتحكم العلاقات بالتالي بين أجزائه.

لو طلبت درس غيرها من القصائد لوجدت أنها تنطلق انطلاقات بينة، شديدة التحديد: فالقصيدة ليست تهويمات أو مقاربات من موضوعها، بل هي موضوع محدد، أو لحظة شعورية، أو وقفة نفسية، أو لقطة سردية، أو حكاية معينة، خلافاً لما كانه الموضوع الشعري فيما مضى: هناك «وضعية المنطلق»، إذا جاز القول. وهناك أيضاً الانتقال من الوضعية هذه إلى عرضها، أو تفريعها، أو حكايتها، أو استثمار ممكناتها الإبلاغية والتخاطبية، ولا سيما في مضامين الغزل، عبر أشكال مختلفة. يعتمد هذا الشعر كثيراً على السرد، لا في عدته الوصفية والحدثية الشديدة وحسب، وإنما أيضاً على طريقته في تدبير الانتقالات، وأهمها الوصول إلى خاتمة ما. فالقصيدة تبدو أحياناً مثل انطلاقات متعددة، تتكرر في غير مقطع، ثم تبلغ في المقطع (أو البيت الأخير) قرارها الحكائي أو الشعوري: ففي قصيدة «اندفاع»، على سبيل المثال، يتبين لنا أن القصيدة تنطلق في المقطع الأول من الجملة التالية:

«أريدك

أعرف أني أريد المحال» (ص 58).

ثم تنطلق من جديد وفق الاندفاعة نفسها (أي ما يصدر عن «وضعية المنطلق») في المقطع الثاني:

«أريدك

أعلم أن النجوم

أروم» (ص 59).

ويبدأ المقطع الثالث والأخير من القصيدة بالجملة التالية:

«ويوم تلوحين لي»، أي الجملة التي تغير «وضعية المنطلق»، وتصل القصيدة إلى خاتمتها السردية المرجوة، التي يوضحها البيت الأخير في القصيدة:

«سأعرف أنك أصبحتِ لي

وأني لمستُ حدودَ المحالْ» (ص 61).

يقوم هذا البناء على انتقالة واحدة، إذا جاز القول، فيما يقوم غيره على غير انتقالة (51).

 

2 . ج . «تحيين» المعنى

توصلت في مدى العرض أعلاه إلى ملاحظة شؤون وأمور متصلة بمستوى المضامين، مثل القول بأن القصائد تستند إلى تكوينات سردية وإبلاغات عاطفية، أو القول بأن هذه تقيم أشكالاً من التعالقات فيما بينها تؤدي غالباً إلى بناء «مغلق» ذي تحديدات دقيقة. والأقوال هذه تظهر أن دراسة هذا المستوى محكومة سلفاً، أو موجهة تبعاً للمحددات هذه. فالمعنى يحيل على بنية حكائية أو على أحوال عاطفية يستمد منها عناصره المضمونية، ولكن كيف تنبني هذه المضامين في النصوص؟


2 . ج . 1 . محاور المفردات والتراكيب

بدا لنا مفيداً، في محطة أولى، الوقوف عند ألفاظ القصائد وتراكيبها مثل جردة متناثرة، على أن نجمعها في محاور ترسم في كل واحد منها ميداناً مضمونياً بعينه. وخلصنا من اجراء الجردة إلى تعيين أربعة محاور (من دون أن تكون الجردة نهائية)، هي التالية: الجبلية، والجنسية، واللونية، و«الدخيلة» المأنوسة (من دون أن يعكس ترتيبها هذا نظاماً ما).


- أ : المحور الجبلي :

اخترت الوقوف، بداية، عند هذا المحور «المفاجىء»، إذ لا أتوقع وروده عند شاعر «مديني» مثل قباني، على ما نعرف من سيرته (16). وهو مفاجىء، بل طارىء في شعره (17). أعلي أن أفسر وجود هذا المحور تبعاً لحسابات أخرى تتحكم بانتاج القصائد، الأولى تحديداً، من دون أن تتصل بالتجربة الشخصية، بل بحسابات تأثر أدبي (كما سأتبين أدناه)؟

ربما، إلا أن اللافت هو أن قصائد المجموعة، في غير واحدة منها، تنصرف إلى إيراد ألفاظ وتراكيب عديدة، اخترت أن أطلق عليها تسمية «الجبلية» (أو «القروية»)، منها: «رحيل الشذا»، «حقول الشقيق»، «رف من سنونو»، «كلهاث الكروم»، «كقطيع المواويل»، «المزارع الخضر»، «الطير أتت للعشاش»، «عريشة كسلى على سفحنا»، «مراهقة الدوالي»، «هاجر كل عصفور صديق»، «الكرم الرضيع»، «القرية الساجدة» وغيرها. وهي تراكيب ترسم صورة زاهية عن القرى، عن مناظرها ومزارعها وبشرها ونسائها؛ بل أجد المتكلم في غير قصيدة يقيم التماهي بين الحبيبة والقرية (أو «الضيعة»):

«أشم بفيكِ رائحة المراعي

ويلهث في ضفائرك القطيعُ..

أُقَبِّلُ إذ أُقبله حقولاً

ويلثمني على شفتي الربيعُ

أنا كالحقلِ منكِ.. فكل عضوٍ

بجسمي، من هواكِ، شذا يضوعُ» (ص 87-88).

كما يقبل أحياناً على تصوير قرى، في عاداتها ومواسمها، جاعلاً منها مصدراً مولداً لـ«أصل» وطني، على ما أتحقق في غير قصيدة:

«نرَ الليل يرصف نجماته

على كتف القرية الراهبه

ويرسمُ فوق قراميدها

شريطاً من الصور الخالبه

قفي.. وانظري ما أحب ذرانا

وأسخى أناملها الواهبه

مواويلٌ تلمس سقف بلادي

وترسو على الأنجم الغاربه

(...)

بيادرٌ كانت مع الصيف ملأى

تنادي عصافيرها الهاربه» (ص 89-91).

أو في هذه الأبيات:

«أحبكِ.. في لهو بيض الخراف

وفي مرح العنزة الصاعده

وفي زُمرِ السرو والسنديان

وفي كل صفصافةٍ مارده

وفي مقطع من أغاني جبالي

تغنيه فلاحةٌ عائده..» (ص 106).


- ب : المحور اللوني :

لا يكاد يخلو بيت في القصائد من لون ما، حتى أن الصفات والنعوت المنسوبة إلى الأشياء والبشر صفات لونية، كما في هذه التراكيب: «معطفها الأسود»، «قوارير لوني»، «وطني الأخضر»، «أعراقي الحمر»، «فراشة بيضاء»، «مخضرة الخطوة»، «لون المدى»، «القمر الأسودا»، «رسائلك الخضراء»، «لون المحال»، «لوحة المغرب المخملي»، «النشوة الشقراء»، «الحجرة الزرقاء»، «ثديك الفلي»، «منديلك الخمري»، «لون الدنا»، «زيتية العينين»، «الشفق الفستقي»، «قميصك الأخضر»، «سلة بيضاء»، «بحيرة خضراء»، «الضحى الزنبقي»، «نوافير رمادية»، «تبكي بصوت أزرق»، «كستنائية الخصلات»، «لوحاته الشاحبة»، «أصبعك المخملي»، «سماوية العينين»، «البؤبؤ الأخضر» وغيرها. وهو ما يتضح في مواضع أخرى لا يتوانى فيها المتكلم عن تشبيه نفسه (وتشبيه علاقته بالحبيبة) بالمصور، صانع اللوحة، أو بالنحات، صانع التماثيل.

 

- ج : المحور الجنسي :

قلما وجدت في مجموعة شعرية قبل هذه، وربما بعدها كذلك، ألفاظاً وتراكيب تحيل في صورة صريحة إلى «الجنس» (وربما يرد لفظاً لأول مرة في بيت شعري عربي). واللافت في أمرها هو ذكرها في مواضع وصيغ تستحلي الملاعبات الجنسية، وإن كانت التناولات الجنسية تقتصر أو تحد بثلاثة عناصر، هي: الساق، النهد والفم. وكان في إمكاني كذلك تخصيص «النهد» (أو الثدي) بمحور خاص به، عدا تخصيص قصائد بكاملها له، مثل «نهداك» و«رافعة النهد». من هذه الألفاظ والتراكيب: «الجنس»، «اللذة»، «شجعت نهديك»، «وارتاع نهدٌ طفلٌ»، «النهد المهزهز»، «ثديك الفلي»، «في نخوة الحلمة الغاضبة»، «داعبتُ نهداً كألعوبة»، «أطعم حلمتك الناهدة»، «منضمة الشفاه»، «ونهدكِ في خير»، «صدرك مملوء بألف هدية»، «ثغرك دفاق الينابيع» ويشبه النهدين بـ«ربوتي لذة».


- د : محور الألفاظ «الدخيلة» أو العامية المأنوسة :

ينصرف الشاعر في غير موضع إلى استعمال ألفاظ «دخيلة» من اللغات الأجنبية أو من العاميات العربية، إلا أنها مأنوسة ومتداولة في زمن إنتاج القصيدة، مثل هذه: «تفتا القميص»، «شال» (5 مرات)، «الميجنا»، «كقطيع المواويل»، «تنورة»، «سمفونية»، «التوليب»، «الدنتيل»، «المنقل»، «طاش»، «الجوارير» وغيرها (18).


3 . البنية التخاطبية

هذا الفرز لا يكفي، وإن يدل على الميادين التي يستقي منها الشاعر مضامينه. كما أن إجراء قراءة دلالية نسقية، انطلاقاً من هذا الفرز، لهذا المحور أو ذاك، يبقى قراءة محدودة، حتى لا أقول جزئية، وإن تقرب في صورة مدققة من بعض دلالات هذا الشعر. لهذا اخترت سبيلاً مختلفاً، وهو التوقف عند «البنية التخاطبية» في هذه المجموعة، على أن فيها - كما تحققت من ذلك، وكما سيتضح أدناه - ما يفيد ويدل على دلالات واسعة وغنية في هذا الشعر. فما أقصد بـ«البنية التخاطبية»؟

لن أعود، هنا، إلى عرض ما قاله رومان ياكوبسون وغيره عن كون القصيدة «إرسال» ما بين «مرسل» و«مرسل إليه»، ولا إلى ما تناوله إميل بنفينيست في ثلاث دراسات عن «الضمائر»، وعن العلاقات التخاطبية التي تنتظم في الجمل تبعاً لأدوات بعينها، مثل الضمائر وظروف المكان والزمان وغيرها (19). ما يعنيني، في محطة أولى، هو تعيين علاقات التخاطب في الكلام الشعري، بعد تعيين «هويات» الذين يتبادلون الكلام: فمَن يتكلم إلى مَن؟

يستند بنفينيست في دراساته المذكورة إلى نظام «الضمائر» في العربية، واجداً في تسمياتها المختلفة (المتكلم، المخاطب، الغائب) «تصوراً صائباً للعلاقات بين الأشخاص» (20). ويقطع بنفينيست سلفاً، في مستهل إحدى الدراسات هذه، سبيل التوهم بين الشخص واضعِ النص وبين المتكلم فيه، وبين وقائع حياة واضع النص وبين ما يشير إليه النص من إحالات على الواقع خارجه، فيتحدث عن «واقع النص» على أنه واقع «مخصوص»، تحدده طريقة «التكلم» (locution) فيه. فكيف نحدد طريقة التكلم عموماً، قبل دراستها في مجموعة نزار قباني؟

ينتظم التكلم بين ثلاثة ضمائر، هي «المتكلم» و«المخاطب» و«الغائب»، على أن الأولين منها يختلفان عن الثالث في أنهما يعينان في التكلم الشخص، فيما يعين الضمير الثالث غير الشخص. أما السمة الثانية، فهي أن العلاقة بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب علاقة «ذاتوية» (أو «فردية»)، تقيم التعارض بين شخصين، بين «أنا» و«أنت». إلا أن بنفينيست يذهب أبعد في تحديداته، إذ يعاين «هوية» أو سمات كل ضمير، فيتوصل إلى القول أن العلاقات بين الضمير الأول والثاني تشير في آن: إلى شخص «مُتَضَمَّن» في التكلم، وإلى خطاب عن الشخص هذا. فـ«أنا» النص تعين المتكلم فيه، وتفرض كذلك قولاً على "نفقته" (أو "ذمته"، إذا جاز القول). أما فيما يتعلق بالضمير المخاطب، فهو غير معين إلا بتسمية المتكلم له، ولا يمكن التفكير في حاله إلا انطلاقاً من وضعية يفرضها المتكلم نفسه. إلى هذا فان «الأنا» في النص ترسل قولاً صوب المخاطب هو مثابة «صفة» أو «نعت» له، أو ما يتم التأكيد عليه فيه: ففي جملة «أنتِ جميلة» يطلق المتكلم صفة على من يخاطبها، أو يؤكد على شيء فيها... على حسابه الخاص طبعاً. فما يمكن القول عن وضعية التكلم (أو التخاطب) في مجموعة قباني؟

يمكن القول، بداية، إن قصائد المجموعة تنتظم كلها في أشكال تخاطبية، بين متكلم ومخاطَب؛ وهذا يصح حتى في «القصص الشعرية»، التي تتسم بتناول سردي ووصفي لمضامينها: في قصيدة «البغي» ينتهي السرد بمقاطع يؤديها متكلم صريح، سواء الشاعر نفسه، أو البغي نفسها. ويتوجه الإرسال الشعري في المجموعة إلى مخاطَب انساني، أو إلى شيء حميمي يخصه، كما في قصيدة «رافعة النهد»، التي يتوجه فيها المتكلم إلى الرافعة نفسها، وعبرها إلى الحبيبة. ويمكن التعرف على «شخص» المتكلم في القصائد كلها، فيما خلا قصيدة «أنا محرومة» وجزء من قصيدة «البغي»، على أنه «الرجل»، وعلى أن المخاطَب (فيما خلا القارىء، في «ورقة إلى القارىء»، في مطلع الديوان، والحبيب في «أنا محرومة» وروَّاد المبغى في قصيدة «البغي») هو «المرأة».

لهذه الملاحظات قيمتها في وضع حدود الارسال، وفي تعيين طبيعته؛ كما توضح كذلك أن اقدام الشاعر في مجموعاته اللاحقة على «ايكال» صوت المتكلم للمرأة (21)، يرقى إلى مجموعته الأولى، وإلى قصيدة فيها، «أنا محرومة»، ما يمكن أن يشير كذلك إلى منزع نفسي ضارب في تكوين الشاعر: تكلمٌ شعري، إذاً، من متكلم رجل إلى مخاطب امرأة، وهو ما يميز طبيعة الارسال الشعري في مجموعة قباني الأولى. إلا أننا نرى حاجة للتعرف في صورة مقربة على كل من المتكلم والمخاطب، وعلى سماتهما في التكلم الشعري. فمن هو المتكلم؟

تبينَ من تحديدات بنفينيست أعلاه أن التكلم الشعري «يتضمن» حديث «أنا» المتكلم عن نفسها، على أنه حديث يخصها، ويعينها لا بما هي عليه بالضرورة، بل بما تقوله عن نفسها. وهي أقوال بالتالي قد تكون مطابقة لاحساسها بما تعايشه أو ما تطلبه، وقد لا تكون مطابقة، بل متخيلة أو مرغوبة، من دون أن يتضح دوماً في التكلم الموافق من المتخيل. كيف لا والمتكلم يقول في إحدى قصائد المجموعة:

«من فضلنا، من بعض أفضالنا

أنَّا اخترعنا عالمَ الحلم..» (ص 64).

وهو ما يقوله في صيغة أخرى:

«تخيلتُ حتى جعلتُ العطور ترى

ويشمُّ اهتزازُ الصدى..» (ص 30).

 

3 . أ . تكالم حبي

بدا مفيداً، قبل الحديث عن خطاب الأنا المتضمن في النصوص، والحديث عما يقوله عنها، هي المخاطبة، أن نتناول شيئاً من طبيعة النصوص كما تحققت منها في المجموعة. فهناك نصوص ونصوص في المجموعة، وتختلف سلفاً، في مبناها العام، في وضعية التكلم التي تنشئها وتحددها. وهناك نصوص أشبه بمتن مسرحي، ذي طابع حواري، يقوم على حوار واضح الطرفين بين رجل وامرأة، إلا أن المرأة فيه تتخذ صيغة المتكلم والرجل صيغة المخاطب، وبالعكس. هذا ما يمكن قوله في قصيدة «أمام قصرها»، على سبيل المثال: الأبيات التسعة الأولى مكرسة لمتكلم رجل يخاطب امرأة منتظرة (أو مرغوبة المجيء بالأحرى)، وهي أبيات تبدأ بالجملة: «متى تجيئين؟»، وتصل إلى جملة: «أنا على الباب»، وتنتهي في عجز البيت التاسع بالجملة التالية: «هيا افتحي لي..». وتبادر في مطلع البيت العاشر الجملة التالية: «من أنتَ؟»، من دون أن يُظهر التشكيل الطباعي انتقال الكلام من متكلم إلى آخر (وبالتالي من مخاطب إلى آخر)، أو بالأحرى تحَوُّلَ المخاطب في هذه الوضعية إلى متكلم وبالعكس. وتستمر الوضعية الجديدة في أبيات ثلاثة، ثم نستمع إلى صوت متكلم جديد يقلب الوضعية من جديد، ويعيدنا إلى وضعية المنطلق، أي يوجه المتكلمُ الرجلُ كلامَه إلى المخاطب المرأة في أبيات القصيدة المتبقية.

هذا المبنى المسرحي أتحقق منه في قصيدة ثانية، «مسافرة»، والتشكيل الطباعي يساعدني هذه المرة (لا تغيرات الضمائر، المتصلة والمنفصلة، المشيرة إلى تغير وضعيات التكلم، كما تأكدت من ذلك في القصيدة السابقة) في التعرف على أقسام الحوار: القسم الأول مخصص لإرسال متكلمةٍ إلى مخاطَب شاعر (من البيت الأول حتى البيت الخامس)، وينتهي باشارة طباعية تفصله عن المقطع الذي يليه؛ والقسم الثاني مخصص لجواب الشاعر (الذي يصبح متكلماً في الوضعية الجديدة) على إرسال المتكلمة السابقة (التي أصبحت مخاطبة)، من البيت السادس إلى البيت الثالث عشر، وينتهي باشارة طباعية فاصلة؛ ويستعيد المتكلم في الوضعية الأولى الإرسال، وتستعيد المخاطبة الأولى وضعيتها كذلك في مدى القسم الثالث والأخير.

يمكن أن أزيد على هذه الفئة قصائد أخرى، لا تشترك في وضعية التحاور (ولا في الانتقالات بين المتكلم والمخاطب) المذكورة، بل تقترب منها وحسب. فلقد وقعت على قصائد، مثل «مكابرة» و«غرفتها» و«زيتية العينين» و«مساء» وغيرها، يرسل فيها المتكلم الرجل كلامه إلى المخاطب المرأة، إلا أنه لا يلبث أن يلتقي بها، وأن يضم صوته إلى صوتها بواسطة نون الجماعة، فيصبح كلاماً من متكلم مشترك جامع بين المتكلم والمخاطب السابقين. وتتعين الحاجة إلى اجتماعهما في هذه القصائد عند اضطرار المتكلم إلى ذكر أحداث سابقة جرت لهما معاً.

 

3 . ب . صورة المتكلم التي تخصه

تفيد تحديدات بنفينيست في تمييزها بين ما يتضمنه كلام المتكلم عن نفسه، وهو ما أسميه بصورة المتكلم التي تخصه، وبين ما يطلقه المتكلم عن المخاطب، وهو ما أسميه صورة المخاطب التي تخص المتكلم. أتحدث عن «صورة» للاختصار، ذلك أنني قد أقع في القصائد على غير صورة، سواء للمتكلم أو للمخاطب. فما صورة المتكلم التي تخصه؟ يقول قباني:

«من أنا.. خلى السؤالات. أنا

لوحةٌ تبحث عن ألوانها» (ص 68).

وفي القول ما يشير إلى أن تعيين «أنا» المتكلم يحتاج أو يتطلب غيره. وهو ما أتأكد منه في عدد من القصائد، حيث أن المتكلم قلما ينصرف إلى رسم صورة تخصه وحده، هي دعواه لنفسه المزهوة أو الحزينة أو غيرها من التلاوين، بل يضمِّن حديثه عن نفسه في أقوال مرسلة إليها، وفي وضعيات إرسالية معقودة بينهما في الغالب.

للمتكلمون العديدون في القصائد صناعة واحدة، هي صناعة الشعر، ينصرفون إليها ويتباهون بها أحياناً، وهو «شاعر الحب والأناشيد» في إحدى القصائد. متكلم شاعر، حتى حين يطلق على بعض أعماله صفات التصوير والنحت: «لي رأي فنان، وعينا نبي». ذلك أن منح صورة المصور أو النحات لنفسه ترد في مواضع عديدة، ولكن على أساس مجازي، يقارن فيها المتكلم علاقته الحسية بجسد المرأة بعلاقة النحات بالكتلة، والمصور بأصباغ الألوان: «جرَّحْتُ الأزاميلَ فيكِ». وهو ما يقوله في صورة أخرى: «أُحبُّ بأعصابي، أحب بريشتي». كما يصف في قصيدة أخرى فعل الحب على أنه: «رسمُ زمانٍ.. مالهُ.. مالهُ شكلُ».

شاعر، إذأً، وله قوة الخلق والتسمية والمقدرة على الحلم والتخيل؛ وهي صورة متداولة تقوم كذلك على مقارنة تفاضلية بين «فقر» الشاعر المادي و«غناه» الروحي:

«تجارتي الفكرُ.. ولا مال لي

(...)

جواهرٌ تكمنُ في جبهتي» (ص 98 و99).

إلا أن للمتكلمين صوراً أخرى، متعددة، معلنة في صيغة «أنا» مزهوة بنفسها أو بفعلها. من هذه الصور صورة المقتدر: «أعبىء جيبي نجوماً»، و«أنا الحرف» وغيرها. إلا أن هذه الأقوال مأخوذة من القصيدة عينها، ولا ألقى في القصائد الأخرى ما يشير الي زهو المتكلم ودعواه لنفسه (22)، بل أقع في أقوال أخرى على متكلم متعب، يشقى في الوصول إلى الحبيبة، ويسعى في طلبها.

إلى جانب صورتَي الشاعر والمقتدر، أقع على صورة جديدة، هي صورة «الشبقي»، وهو ما ألقاه في عدد من القصائد، لعل أقواها قوله في القصيدة-مطلع المجموعة:

«هو الجنس أحمل في جوهري

هيولاه من شاطىء المبتدا

بتركيب جسمي.. جوع يحنُّ

لآخرَ.. جوعٌ يمدُّّ اليدا» (ص 31).

أو ما يقوله في قصيدة أخرى: «أنا لشهوتي صوت»؛ أو في ثالثة:

«لولاي ما انفتحت وردة

ولا فقع الثدي أو عربدا» (ص 32).

غير أن اللافت في هذه الصورة هو اجتماعها - في القصيدة نفسها أحياناً - مع صورة خفية، هي صورة «الطفل»: في غير قصيدة تسمي الحبيبةُ (حين تصبح متكلمة) المتكلمَ (حين يصبح مخاطباً) في القصائد التكالمية، التي أشرت إليها أعلاه، بـ«صغيري» أو «الطفل»، أو «الصبي»، ما يعزز التحليل الذي ساقه الدكتور نجم عن تكوين قباني الجنسي (23). وهو ما يوضحه هذا البيت:

«حملتِ اندفاعةَ هذا الصبي

كما احتملت طفلَها الوالدَه» (ص 107).

 

3 . ج . صورة المخاطب التي تخص المتكلم

إذا كانت صورة المخاطَب، كما يرسمها المتكلم، لا تعرف اسماً غير الحبيبة والصديقة، فإنها تعرف، بالمقابل، سمات عديدة شديدة التنويع والتفصيل والغنى. وهي أكثر من امرأة: هي صبية في قصيدة، وفي أخرى ابنة خمس عشرة، وفي ثالثة عشرينية، وفي رابعة أربعينية... وهي شقراء مرةً، وسمراء مرة أخرى، وكستنائية الخصلات في ثالثة؛ وتكاد تكون من دون عمل يذكر، إلا «البغي» منهن. وهي في بعض القصائد «مدينية» الإقامة والعادات، إذ تشرب القهوة في مقهى، وتضع الحمرة على شفتيها، وتتبادل الرسائل مع حبيبها. كما يتوقف عند أغراضها وأشيائها، مثل القبعة والمنديل وقميص التفتا وقميص الحرير والفستان والتنورة والقرط الطويل وخاتم الخطبة وخصوصاً الشال (أكثر من 5 مرات). إلى هذه الصورة الاجتماعية والمظهرية، يرسم المتكلم عنها صورة جسمية، فيتوقف عند عينيها، ونهدها، وحلمتها، وصدرها، وجيدها، وركبتها وساقها...

كما يرسم المتكلم صورة مجازية لها، تجمع بين عناصرها الطبيعية والحواس، من صوت ومنظر وعطر وطعم وملمس (شذا، كروم، عطر، نبيذ، فيروز، موسيقى، الحرير، مواويل...)، وهو ما يشير إليه هذا البيت:

«إسمك الحلوُ.. أي دنيا تناغيني».

هي صورة الحبيبة، إذاً، على أنها حبيبة بعيدة، وممتنعة، ومشتهاة، أو يطلب المتكلم استدامة فعلها المؤثر فيه (مثل مشيها اللافت، كالرقص، فوق الرصيف). وهي صورة تلتقي في قصائد أخرى بصورة أخرى، هي صورة المرأة «البغي»، و«بائعة نفسها»، و«الزائرة الليلية»، وخصوصاً «الجهنمية». وفي هذه الصورة أتحقق من آثار صورة موروثة، صورة المرأة-الأفعى، سواء في التوراة أو في بعض الشعر العربي (مثل «أفاعي الفردوس» عند الياس أبي شبكة، وهو ما سأتناوله أدناه). ففي غير بيت يقول عنها أنها مثل الأفعى أو الثعبان:

«امرأة تسير معي (...) تفحُّ (...) تجعل رئتي موقدا».

«حسبي بهذا النفخ والهَمْهَمَهْ

يا جولةَ الثعبانِ.. يا مجرمَهْ» (ص 136).

 

4 . تعالقات نصية

استوقفني في فرز المحاور أعلاه وجود محور «جبلي» (أو «قروي») في مضامين مجموعة نزار قباني، لما أعرفه عن نشأة الشاعر في مدينة، دمشق، وعن تناسب مضامينه، أو بعضها على الأقل، وكما تتضح في هذه المجموعة، مع عادات مدينية، مثل الجلوس والمحادثة في المقاهي، أو الاقبال على شراء مستحضرات ومنتجات أوروبية، رائجة في أربعينيات القرن العشرين، خصوصاً في المدن. وكان مبعث استغرابي يعود، من دون شك، لما أعرفه من تأكد النزعة المدينية في شعر قباني اللاحق، ولما تبدو عليه «حبيبته» من سمات «متأوربة» في زيها وعاداتها، على ما نعرفه عن حال الاجتماع العربي في ذلك العهد.

 


4 . أ . غنائية الضيعة

إن طرح هذا السؤال وغيره يقودني، واقعاً، إلى الوقوف على المصادر التي أقام قباني معها صلات «تناصية» منذ مجموعته الأولى. وظهر لي أن هذه المصادر تنقسم إلى نوعين: لبناني مع شعر الياس أبو شبكة وصلاح لبكي وسعيد عقل وغيرهم، وفرنسي مع شعر بول جيرلدي و«الرمزيين» عموماً وبودلير.

هذا ما أتبينه، بداية، في بروز النزعة الغنائية بالضيعة: التي يتغنى بها قباني تزدان، هي الأخرى، بزخارف المنظر الطبيعي، فيتوقف عند قرميدها الأحمر وتنورها ومنقلها وجرس ديرها وأنواع الأشجار والمزروعات فيها وعاداتها. وهي نزعة تأكدت، بالإضافة إلى نزعة «الحنين إلى الطبيعة» المتمثلة في الشعر المهجري، في شعر عدد من اللبنانيين، بالفرنسية مع شارل القرم في «الجبل الملهم» (1921)، وبالعربية مع صلاح لبكي («أرجوحة القمر»، 1938)، والياس أبو شبكة («الألحان»، 1941) وسعيد عقل وغيرهم. وهي النزعة عينها التي ترسخت في فن «المشهد الطبيعي» في أعمال عدد من المصورين اللبنانيين الرواد، من أمثال: صليبا الدويهي، وقيصر الجميل، وعمر الأنسي وغيرهم.

وفي شعر قباني أتحقق من وجود علاقات «ألفة»، بعد طول معاشرة بالضرورة، بين القرية التي يتغنى بها وينسب إليها أصله، وبين النجوم في أبعادها المتعالية: هذه الصورة أجدها في شعر سعيد عقل طبعاً، التي تتحدث عن «حوار» دائم بين لبنان والسماء، وتسمو في حسابه لجعل «أصل» لبنان سماوياً، أي ديني الأصل، بمعنى ما. وهي ليست قرية بالتالي، بل قطعة من المتعاليات متحققة أرضاً.

فقدموس «يركز» بلاده «على حدود السماء»؛ وأبو شبكة يجعل، في قصيدة «يا بلادي»، من بلده «نظرةَ الله». ونرى هذه العلاقة في قصائد مجموعة صلاح لبكي الأولى، التي تومىء بوضوح إلى هذه الدلالة، منذ عنوان المجموعة: «أرجوحة القمر». وهو ما يتضح في عدد من مضامين القصائد فيها، مثل قصيدة «النجوم» التي يقول فيها:

«وفي غد متى التحفت الثرى

وانحل فيه الجسد البالي

تظل بعدي فوق متن الذرى

سابحة في جوها العالي

تربط أجيالاً بأجيال» (24).

هذه «الألفة» بين الأرضي والسماوي ألقاها في شعر قباني:

«أعبىء جيبي نجوماً... وأبني

على مقعد الشمس لي مقعدا» (ص 28).

وتتمثل هذه العلاقة بالنجوم خصوصاً، كما في هذا البيت:

«نصبتُ فوق النجم أرجوحتي».

أو في هذا البيت الآخر في قصيدة من مجموعته الثانية:

«قالت : حرام أن يكون لنا

على أراجيح الضيا.. بيتُ» (قصيدة «بيت»، «طفولة نهد»، ص 103).

كما أتحقق في غير قصيدة في المجموعة الأولى من بروز نزعة «وطنية»، تتسم بالغنائية (لا بنقد قباني السياسي، كما ألقاه في شعره لاحقاً)، وتجعل المتكلم فيها منشداً في جوق:

أنا لبلادي.. لنجماتها

لغيماتها.. للشذا.. للندى

سفحتُ قوارير لوني نهوراً

على وطني الأخضر المفتدى» (ص 29).

وقد يكون من المفيد، بل من اللازم، عند الحديث عن هؤلاء الشعراء اللبنانيين، وعن تأثر نزار قباني بهم، التوقف عند أخذه المباشر من المصادر الفرنسية، على الرغم من كوننا لا نستطيع الفصل أحياناً بين المصدرين، اللبناني والفرنسي، طالما أن قباني كان عارفاً بالفرنسية، من جهة، ومتصلاً بالشعر اللبناني في نسقه الرمزي وغيره، من جهة ثانية. استطعت التمييز أعلاه، حين تحدثت عن تأثره بـ«غنائية الضيعة»، اللبنانية المنشأ، فهل أستطيع اجراء تمييزات مزيدة في هذا الشأن؟

بإمكاني الحديث عن تأثر جلي في التأكيد على محسوسية الإيقاع، وهو ما افتتحه في الشعر العربي واللبناني، على ما هو معروف، الشاعر أديب مظهر في قصيدة «نشيد السكون»، ثم يوسف غصوب في مجموعته «القفص المهجور» (1928)، فسعيد عقل وغيره (25). هذا ما أتحقق منه في نص نقدي معروف للشاعر لبكي يعين فيه ميزات المدرسة الرمزية في زمنه: يجعل لبكي من «تمازج الحواس» المزية الأولى، «حتى يلاحظ أن حاسة الشم قد نبهت صورة الطيب، وأن الطيب في الحديقة سار، ثم الموسيقى اللفظية التي تهيء نفس القارىء وتجعله في الحالة الشعرية الخاصة، ثم هذا الاقتصاد في الكلام يومىء إيماء لطيفاً ويوحي وحياً خفيفاً» (26). وهو ما يقوله لبكي شعراً عن أثر الخمرة على الشاعر:

«آمنتُ بالخمر بما توحي وما تبتكر

ان طلعت مجلوة يحلو عليها السمر» (27).

ولقد وجدت في شعر قباني ما يشير إلى «تمازج الحواس» في صورة بينة (28)، كما في هذا القول:

«تخيلت حتى جعلت العطور تُرى

ويشم اهتزازُ الصدى..» (ص 30).

 

4 . ب . المرأة الجهنمية

كما أتحقق خصوصاً من تأثره بالياس أبي شبكة (1903-1947)، في نفسه الجحيمي، التوراتي، وفي تشبيهه الثابت للمرأة بالحية، وفي غير وجه كتابي. فبعد أن وجد شاعر «غلواء» في المرأة نسل حية حواء («فهن من حية الفردوس أمزجة/يثور فيهن من أعقابها عصب»)، أقرأ لقباني:

«أفيقي من الليلة الشاعلهْ

وردي عبائتك المائله

أفيقي فان الصبح المطل

سيفضح شهوتك السافله

(...)

كفاكِ فحيحاً بصدر السرير

كما تفح الحية الصائله» (ص 130-131).

وألقى التأثر عينه في غير قصيدة لقباني: «أفيقي»، و«إلى عجوز»، و«إلى زائرة»، و«مدنسة الحليب» و«البغي»، ولعل الشاعر كتبها في السنة (أو السنوات نفسها)، وفي المناخات نفسها، وهو جمعَها متتابعة في المجموعة على أي حال. وهي مناخات توحي بالتأثر الأدبي، وتوحي بصور ارتعابية يتحقق منها المراهق في معاشرات الجنس الأولى: ألا نلقى شبهاً بين قصيدة قباني «إلى زائرة» (تتحدث عن اندساس زائرة ليلية في مخدع أحدهم ليلاً) وقصيدة أبي شبكة في الموضوع عينه، في «غلواء»؟

وهذا ما أتحقق منه في غير وجه من وجوه الكتابة الشعرية فيها: مثل اختيار «المرأة» الجهنمية (بائعة الهوى، «الخائنة»...) موضوعاً لها، أو الطريقة «النبذية» التي يتم بها التعامل مع المرأة، والمتمثلة في صيغة الأمر المنادية لها، أو صيغة التخاطب السلبي معها: «أفيقي من الليلة الشاعلة» (في قصيدة «أفيقي»)، «عبثاً جهودك.. بي الغريزة مطفأة» («إلى عجوز»)، و«أطعميه.. من ناهديك اطعميه» («مدنسة الحليب»)؛ وهو ما عرفناه في بعض شعر أبي شبكة: «ملقيهِ بحسنك المأجور» (في قصيدة «شمشون»)، و«قومي ادخلي، يا بنت لوط، على الخنى» (في قصيدة «سدوم») وغيرها. كما أتأكد من اعتماد قباني في غير قصيدة على قافية ساكنة (وهي اللام المفتوحة المتبوعة بهاء ساكنة في قصيدة «أفيقي»، وهي الهمزة المفتوحة المتبوعة بتاء ساكنة في قصيدة «إلى عجوز»)، وهو ما سبق أن وجدته في مجموعة القصائد نفسها عند أبي شبكة، في قصيدة «سدوم» (العين المفتوحة المتبوعة بهاء ساكنة) وغيرها.

وبدا لي أن تعالقات قباني مع الشاعر اللبناني تبلغ غير موضوع: انصرف أبو شبكة منذ العشرينيات إلى اختيار موضوعات سردية مبتكرة، وفق «زوايا» جديدة، مثل تخصيصه الهاتف بقصيدة: «ألو! ألو!»، أو قصيدته «في صائدة سمك حسناء»:

«أترى جاءت لكي تصطاد في البحر السمك

أم أتت تصطاد قلبي بلحاظ كالشبك» (28).

أو في قصيدته، «نرجيلتي»، اللافتة في واقعيتها وسرديتها الجميلة، والتي تعود إلى 5 شباط 1923:

«أجابت أنا الآن في نعمة لأن حبيبي في نعمةِ

ولكنني بعد وقت قصير أغادر وحدي في خلوتي

فيبعد عني ثغر محبي ويسلو الذي كان من لوعتي

لذلك تراني أبكي زماناً سأصبح فيه بلا زهوة» (29).

 

4 . ج . بول جيرالدي : كلام الحب

لا نستطيع تماماً، كما سبق أن قلت، التمييز بين تأثرات قباني بالشعراء اللبنانيين الرمزيين وغيرهم، وبين تأثراته مباشرة ببعض الشعراء الفرنسيين، الرمزيين وغيرهم: ما قلته عن «الأفعى» أعلاه لم يرد في شعر أبي شبكة فقط، بل قبله في شعر بودلير (في «أزهار الشر») وبول فاليري (في «البارك الشابة») وغيرهما في الشعر الفرنسي. وهو ما يجمعه الدكتور العجلاني (في تقديمه لمجموعة قباني) في حديثه عن تأثر قباني بشعر بودلير وفيرلين والبير سامان، وغيرهم من جماعة الشعر الرمزي والشعر النقي، وبشعر اللبنانيين المحدثين: «فما أريد أن أبرئك من التأثر بأدبهم (للشعراء اللبنانيين المحدثين)، ولا ضير عليك منه». وكان بمقدور العجلاني أن يزيد عليها اسم الشاعر الفرنسي بول جيرالدي كذلك.

لن أطيل التوقف عند هذه التعالقات النصية (30)، إذ أن التعالقات هذه معروفة في غالبها، وإن كانت تحتاج إلى تبين مزيد (وهو ما حاولته في حدود قليلة، غير كافية، بعد، في هذه الدراسة). بل طلبت التوقف عند تعالق نصي آخر، تحققت منه في شعر بول جيرالدي (31)، ولا سيما في مجموعته «أنت وأنا»، مع شعر نزار قباني ابتداء من هذه المجموعة.

درجت تسمية الشاعر جيرالدي في الأدبيات الفرنسية، ومنها تسمية ناشره - «ستوك» - له في طبعة 1960 التي عدت إليها كذلك، بـ«شاعر المرأة وأشياء القلب»، عدا أنه يطلق عليه مجموعة من الصفات الأسلوبية والتركيبية، مثل الحديث عن «رقة» صوته الذي «يقول ويعيد قول الأشياء البسيطة»، وعن «خفة» قوافيه التي تخفي خلف مرونتها «الفكر العميق والرقيق». إلا أن الشاعر جيرالدي تبدى لنا «شاعر الكلام الحبي» في المقام الأول: تنطلق قصيدته وتتطور وتنغلق، على وضعية حبية تجمع بين رجل وامرأة، مستقاة من الحياة اليومية، ولا تبتعد عنها في أي تصعيد أو ترميز، بل تتبعها في تفاصيلها وحواراتها، في لغة تقرب، بل تستحضر، في العديد من موادها اللفظية ومن حواراتها الداخلية العديدة، فن المحادثة.

لن أحاول ترجمة شعر جيرالدي، لأنه لن يحتفظ في عملية نقله بالأساسي في تشكله الشعري، وهو موسيقيته، فيبدو كلاماً شديد النثرية بالضرورة. لهذا سأنقل بعض أبيات من القصيدة الأولى (Expansions) في المجموعة، على أن مجرد الاطلاع الطباعي والشكلي عليها قد يكفي القارىء غير العارف بالفرنسية للتعرف الأولي على بعض أوجه التلاعبات الموسيقية بالجمل والألفاظ في تكراراتها اللافتة:

Ah! Je vous aime! Je vous aime !

Vous entendez? Je suis fou de vous. Je suis fou …

Je dis des mots, toujours les mêmes…

Mais je vous aime! Je vous aime!…

Je vous aime, Comprenez-vous?

(32).

تبلغ «الموسقة» حداً عالياً في هذه الأبيات، لم يبلغها قباني في شعره الأول وإن عرف بعض وجوهها، بل في شعره اللاحق حيث علت وتأكدت النبرة التي ترسل الكلام الشعري إرسالاً مباشراً، بدل أن تصوغه وتداوره وتستكشفه. توقفت في معالجاتي أعلاه عند التكرارات والاستعادات والزيادات التي تنطلق من جملة هي عماد البناء الميسر، كما في الجملة البادئة في غير قصيدة بـ«أحبك في..»، أو في الجملة المتعالقة: «أريدك/ أعرف أنني..»؛ وهي تدبيرات أسلوبية لا تلبث أن تتأكد في مجموعات لاحقة، وتقوى، خاصة بعد تحرر الشاعر من لزوم التركيب العروضي، وتتبلور في تلاعبات قريبة مما فعله جيرالدي، كما في قصيدة «يدي»:

«أصبحتِ جزءاً من يدي...

جزءاً من انسيابها

من جوها الماطر

من سحابها

كأنما..

في لحمها، حُفِرْتِ

في أعصابها..» (في مجموعة «الرسم بالكلمات»، ص 483).

هذا ما أتحقق منه في عدد كبير من قصائد قباني، وإن بدت مغايرة في لغتها لما هي عليه لغة جيرالدي نفسه: في ظاهر التجربة الشعرية يتبدى أن لغة جيرالدي مستلة من الكلام اليومي، من كلام المحادثة، فيما تستقي لغة قباني مادتها وعلاقاتها من لغة ذات منشأ كتابي. وهو توصيف لا يخلو من الدقة، وإن كان يغيب الأمر التالي: ستغتذي لغة قباني في مادتها اللفظية من العامي والدخيل، من جهة، ومن المحاورات الداخلية والإرسالات المباشرة، من جهة ثانية، في صورة خفيفة في المجموعة الأولى، وفي صورة أقوى وأصرح في المجموعات التالية، ما يعد نقلة قوية في تجارب الشعر العربي، لا تقل عما بلغه في الشعر الفرنسي مع تجربة جيرالدي. أقدم الشاعر الفرنسي على التلاعب الموسيقي بجمل الكلام اليومي، في إمكانات تولدها وتفرعها وتنوعها وتزيدها، وهو ما فعله نزار قباني، في لغة «كتابية» ولكن مطبوعة كذلك بالكلام اليومي.

إلا أن أسباب التعالق النصي بين الشاعرين لا تنحصر في شأن «الموسقة» فقط (والذي يقرب القصيدة من الأغنية، بل يجعلها أغنية جاهزة للغناء أحياناً)، ولا في جعل الحب وحده موضوع الشعر، وإنما أيضاً في أوجه أخرى، أتحقق منها في العنوان، أو في معالجة الموضوع الشعري. فعناوين قباني اللافتة أجدها سلفاً عند جيرالدي: «أباجور» (Abat-jour)، «بيانو» وغيرها.

كما ألقى خصوصاً المقاربات الحسية والحميمة بين الحبيبين: في قصائد جيرالدي، كما في قصائد قباني بعدها، تنطلق القصيدة من مكالمة هاتفية، أو من رسالة وصلت، أو من عتاب بعد خصام، أو من ابتعاد الحبيبة القسري (المفروض من العائلة)، أو غيرها من الأحداث والوقائع التي تسم تقلبات الغرام وأحواله، ولا سيما بين المراهقين.

 

5 . «اقتصاد» قباني

يمكن أن أتحدث عن تأثرات أو تعالقات نصية أخرى في مجموعة نزار قباني - وهي ظاهرة قوية في شعر هذا العهد «الانتقالي» في الحداثة -، إلا أنها لا تغيب الأهم، وهو أن «طلة» نزار قباني منذ ضربته الأولى هذه لافتة، مفاجئة، تقيم انفصالاً مع غيرها، وتفتتح كتابة أخرى. أجريت، على سبيل المثال، تعالقات نصية بين قصائد لأبي شبكة وقصائد لقباني، إلا أن التأثر هذا لا يغيب حقيقة الانتقالة المختلفة: ما كان يبدو تردداً عند أبي شبكة أمام مخادع الشهوة ونزاعاً أخلاقياً، يبدو خياراً... هيناً، بل مرغوباً عند قباني. هذا ما يمكن قوله أيضاً عن التعالقات بين عقل وقباني: ما بدا جنوحاً عند عقل، في توليفاته وتوزيعاته العروضية وعنايته اللطيفة بأجراس الألفاظ والقوافي، صوب «تعمير» العبارة الشعرية تعميراً جديداً مبتكراً (يقوم على تبديلات و«اجتراحات» أحياناً في مواضع التقديم والتأخير في الجملة الواحدة)، ينتهي عند قباني بعملية «إنزال» العبارة الشعرية العربية (الفصيحة والعباسية) صوب تراكيب الكلام اليومي والعامي المأنوس.

هذا ما يمكن أن أقوله عن تأثر قباني بما سبقه إليه شعراء، فرنسيون أو لبنانيون، في «تأطير» الموضوع الشعري، أي في وضع حدود له: مع قباني ما عاد الموضوع الشعري محدداً في لحظة انطلاقه ووصوله وحسب، بل بات مأخوذاً، بل «ملتقطاً»، إذا جاز القول، في لحظة حيوية من مسار وقائعي، بل حركية كذلك. حتى أن بعض قصائده، كما في «البغي»، تبدو مصورة في مشاهد انطباعية ملونة، أو في مشاهد سينمائية، إذ تنتقل الأبيات من حال إلى حال، مثل انتقال الكاميرا في التصوير المتصل. وهو ما ألقى مثلاً لافتاً عليه في قصيدة بدر شاكر السياب: «المعبد الغريق»، التي تبدأ بلقطة مشهدية عامة، لا تلبث أن تقترب من مكان جريان الحدث، في المقهى، مع الحاكي الهرم:

«خيول الريح تصهلُ، والمرافئ يلمسه الغربُ

صواريها بشمسٍ من دمٍ، ونوافذُ الحانه

تراقص من وراء خِصاصها سُرُجٌ، وجمَّعَ نفسَ الشَّرْبُ

بخيطٍ من خيوطِ الخوف مشدوداً إلى قنينةٍ، ويمدُّ آذانه

إلى المتلاطم الهدّار عند نوافذ الحانه.


وحدَّثَ - وهو يهمس جاحظَ العينين، مرتعدا،

يصبُّ الخمر - شيخٌ عن دجى ضافٍ وأدغال

تلامحَ وسطَها قمرُ البحيرة يلثمُ العَمَدا...» (33).

فنحن نتبين في مطلع القصيدة، بعد تصوير «المناخ العام» (الريح الشديدة)، في مكان بعينه، هو المرفئ، بل في ناحية منه، هي الحانة، شاربين تحلقوا حول قنينة. ثم تتم انتقالة جديدة يشير إليها الشاعر طباعياً باحداث مقطع جديد للقصيدة، نتبين فيها حدوث فعل، بل وجود شخص بعينه، هو الشيخ المحدث عما جرى في مكان بعيد عن الحانة، بل في زمن مضى...

توليف مختلف للعالم، ومختلف للقصيدة كذلك. وهو ما أتبينه لو أجريت وقفة سريعة على شعر عمر أبي ريشه: في غير قصيدة في ديوانه، وتعود لسنوات سابقة على مجموعة قباني المدروسة، وجدت الشاعر يتطرق إلى موضوعات مستقاة من المعاينة (كما هي عليه في بعض شعر قباني)، مثل قصيدة «الروضة الجائعة» (34)، إذ «زار (الشاعر) اللونا بارك في حلب في إحدى ليالي الخريف» (كما يذكر في تقديم القصيدة)، إلا أن معالجته لها تبقى تقليدية، ولا نرى فيها أثراً، ولا لغة تدل على أن هذا «الشيء» (أي «اللونا بارك») مختلف عما هي عليه أشياء أخرى سبق للقصيدة العربية القديمة أن تناولتها. ففي هذه القصيدة يتحدث أبو ريشة عن «بساط الندامى»، و«رقص القيان» و«خفق الصنوج» من دون أن نتحقق فعلاً من عيشه وتدليله على عالمه هو، ومن زمانه بالتالي (تعود القصيدة إلى العام 1938).

هذا ما قاله أبو ريشة في «اللونا بارك»، وهذا ما قاله كذلك «في البار» (وهو عنوان إحدى القصائد، وتعود إلى العام 1936): لا شيء يفيد عن المكان الجديد، حتى أن ما يقوله الشاعر فيه ممكن القول في أي مكان آخر، وقبل هذا العصر خصوصاً:

«عرفتُ شذاكِ.. فالتفتْ

تسائل عنك أشواقي!

فلحتِ على خطى مني

فغابتْ فيك أحداقي

وعاث بنشوتي همسٌ

النديم وبسمة الساقي» (35).

سبق أن توقفت في مجموعة قباني عند قصيدة تتحدث عن مجاورة ومحاورة طريفة بين «جارين» في المقهى: هذا ما يقوم به أبو ريشة في قصيدة «مظاهر»، إلا أن جارته من... بلاغة، لا من لحم ودم ولون، كما تعرفنا عليها في قصيدة قباني. يقول أبو ريشة:

هي جارتي، لم أدرِ ما تُسمَّى!

هي للجمالِ الفتنة العظمى!

يبدو على إشراقِ بسمتها

ترفُ الصبا، وملاوةُ النعمى!

تتحول الأبصار خاشعة

عنها، وتشبع طيفها لثما» (36).

نتأكد تماماً، مع شعر قباني، من أننا فارقنا عالماً فصيحاً وتقليدياً في آن، عالماً لا نرى فيه وجهاً، أو علامات، أو أحاسيس، تناسب ما كان عليه العالم في تغيراته وأحواله الجديدة. وهو ما يتجلى - لو شئت التمثيل - في اللونية الشديدة التي تظهر في شعر قباني، وهي لونية زخرفية أحياناً قوامها تجميل الكلام بإغداق صفات عليه، إلا أنها كذلك صورة العالم، وقد بات مرئياً بعد طول اخفاء وإهمال (37). فعالم قباني مشرق وملون، بخلاف عتمة بل قتامة عالم أبي شبكة، والتجريدية المثالية عند سعيد عقل. ومعه نزل الشعر من متعالياته ومواضعاته الاصطلاحية والبلاغية صوب الشارع والمقهى - وما أكثر القصائد التي تدور في عالمهما في شعر قباني، منذ مجموعته الأولى -، بعد طول أسر في البلاطات والفيافي وأنماط الشعر وأغراضه المتوارثة.

في مستهل قصيدته «ورقة إلى القارىء»، الأولى في المجموعة المدروسة، يعمد قباني إلى تعيين «الشرقية» التي يتوجه إليها، فيطلق عليها أوصافاً جاهلية، صحراوية، ويشبهها بـ«ميس الهوادج» و«دندنة البدو» وغيرها، أو يمحضها أوصافاً اسلامية، مثل «بكاء المآذن» وغيرها، إلا أن هذه الأمثلة القليلة وحيدة في شعره، وهي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. لهذا يمكن القول إن قصيدته فتحت، بل عَرَّضت مستوياتها لرياح التأثر والرغبة والمعاينة، فما تحصنت خلف قيود اصطلاحية، أو ممنوعات موروثة؛ وهي في ذلك قدمت صورة عن عالمنا أقرب إلى حقيقته، سواء المادية أو الانسانية.

إلا أن ما سعى إليه نزار قباني يتعدى هذه العلاقة (التي طلبها على شيء من الطبيعية مع مناخه اليومي والاجتماعي والمديني) التي أنشأ عليها شعره، ويتعين في مقاصد، بل في «اقتصاد» راح يتدبره ويصنعه منذ مجموعته الأولى، وهو اقتصاد الصنع الشعري في فعاليته القصوى. وهو اقتصاد يتألف من اجتماع عناصر مختلفة، ومن توظيف شديد لها. من هذه العناصر ما يصل الشعر بفطرته، بموضوعاته الأولى والبسيطة، خاصة وأن قباني يقبل عليه، لا من جهة «ذهنية»، كما عند شعراء حديثين، بل من هذا الوله الطفولي والفطري في التلاعب بالكلام، وفي تحميله المخاطبات الوجدانية.

ومن هذه العناصر أيضاً ما يصل الشعر بصنعة المواد والتعابير الحساسة والممنوعة، أي في إقامة صلات مستديمة بين المكبوت الفردي والجماعي وبين إمكانات التعبير، وهو ما يتحقق في الصيغ الحكائية، وفي الإبلاغات العاطفية أو النقدية، على أنها الاطار الذي يجعل المتلقي متابعاً للقصيدة من دون جهد. لهذا أقول: متلقي الشعر القباني «مستمع» في المقام الأول، لا «قارىء»، وإن أقبلت الملايين على شرائه، وحفظه، وتبادله، ونقله (في مراسلات المحبين)، ذلك أن عمليات الامتلاك هذه لا تعدو كونها استعادة (مثل شريط تسجيل حفلة «حية» لأم كلثوم) لوضعيات في التلقي، تؤمنها وتحفظها القصيدة في شكلها التكراري والحكائي والموسيقي والمضموني.

يقول قباني في المجموعة الأولى، في تقديم نفسه إلى القارىء:

«إذا قيل عني «أُحسُّ» كفاني

ولا أطلب «الشاعر الجيدا»

شعرتُ «بشيء» فكونتُ «شيئاً»

بعفوية، دون أن أقصدا» (ص 33).

ويقول في قصيدة ثانية:

«شعري أنا قلبي... ويظلمني

من لا يرى قلبي على الورق» (ص 11).

أتحقق في هذه الأبيات من صلة طلبها قباني منذ مجموعته الأولى بين الشعر والعفوية، بين الشعر والقلب، رافضاً أو غير مبالٍ بصورة «الشاعر الجيد»، أي صورة الشاعر العربي المكرس والموروثة. ولو شئت التسليم بما قاله «لسان العرب» في باب «ف ط ر»، لقلت مثله بوجود «فطرتين»: واحدة، وفق التكوين والنشأة، أي الخلقة الوراثية، إذا جاز القول؛ وأخرى، وفق الاكتساب والتحصيل (كأن يغير المفطور دينه الذي خُلق عليه). وهذا ما أراه في صنيع قباني الشعري: لقد أقام من دون شك (من دون الدخول في جدال غير نافع عن مدى «صدق» الشاعر في شعره، وعن مدى تعبير شعره عن حياته) صلات بين الحياة والشعر، بين الفطرة والتعبير، بين الحس والصورة، إلا أنه أقام كذلك علاقات بين الصنعة والشعر، بين التلقائية والتدبيرية، بين صدق الشاعر في تجربته وبين تجريبه وإعداده لفنون الظهور والشهرة. طلب قباني في كيفية قلما وجدناها عند شاعر عربي توظيفاً شديداً لاسم الشاعر، لصورته، قبل خطابه أحياناً، وأبعد منه. وهو ما يتمثل في عنايته الفائقة بـ«صورته» أينما كان: من صوره الفوتوغرافية، إلى «طلاته المهرجانية» (ومنها طرائفه مع المعجبات في غير أمسية شعرية شهيرة)، مروراً بأحاديثه الصحفية (التي يراجعها بنفسه ويقترح عناوينها قبل نشرها أحياناً). وهي دلائل «النجم» طبعاً، بمعناه الهوليودي، الذي صنع «اسماً علماً» يفوق ويتعدى شخصه ونتاجه: الطريف في هذه المعادلة هو أن الذي أنزل الشعر إلى أرضنا ارتفع عنا، ولكن بعد أن ترك لنا شعره!

 


الهوامش

1 : تستند هذه الدراسة إلى الطبعة الرابعة، 1962، من ديوان «قالت لي السمراء»، الصادرة عن المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، في بيروت. أشير إلى ذلك، طلباً للتدقيق اللازم في الهوامش، من جهة، ولأن الطبعة هذه تختلف، من جهة أخرى، في بعض سمات هيئتها الطباعية عن المجموعة عينها، كما صدرت في «الأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني»، الجزء الأول، الطبعة الثانية عشرة، 1983، منشورات نزار قباني، بيروت: تحققت من ذلك في أمور التنقيط، فضلاً عن أن طبعة 1962 نشرت «المقدمة» التي قدم بها منير العجلاني الديوان في صدوره الأول، في أيلول من السنة 1944.

2 : أستقي دلالات اللفظ من مصادر مختلفة: «الاقتصاد» يعني، في ما يعنيه في الأدبيات الفرنسية، «تنظيم عناصر مختلفة من مجموع ما»؛ ويعني في اللسانيات (حسب مارتينيه) «مبدأ تنظيم الطاقة المطلوبة لتلبية حاجات الاتصال». كما قال ابن جني: «أصل «ق ص د» ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله في الحقيقة، وإن كان قد يُخَصُّ في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة، كما تقصد العدل أخرى؟». كما قال ابن جني: «سُمِّيَ قصيداً لأنه قُصِدَ واعتمد، وإن كان ما قَصُرَ منه واضطرب بناؤه نحو الرمل والرجز شعراً مُراداً مقصوداً».

3 : هذا ما جربته في كتابي: «الشعرية العربية الحديثة: تحليل نصي»، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988.

4 : وهو ما تناولته في دراسة بعنوان: «الشكل الخطي للقصيدة العربية الحديثة»، مجلة «دراسات عربية»، بيروت، العدد 9، 1978، صص 99-111.

5 : أقر مجمع اللغة العربية استعمال أدوات التنقيط، أو علامات الترقيم، على النحو الذي أقرته وزارة التربية والتعليم (المعارف) في مصر، في سنة 1932، وعددها عشرة: الفصلة، والفصلة المنقوطة، والوقفة، والاستفهام، والتأثر، والنقطتين الفوقيتين، والنقط الثلاث المتجاورة علامة على الحذف، والشرطة أو الوصلة، وعلامة التنصيص والقوسين؛ كما لاحظ في علامة الاستفهام أن يكون وجهها للكتابة: راجع كتاب «تيسير الكتابة العربية»، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1961.

وسبق لي أن لاحظت، في كتابي المذكور أعلاه (ص 24)، أن القصيدة العربية الحديثة عرفت في صورة تدريجية ومترددة وغير دقيقة هذه الأدوات «الوافدة»، فأمعنت في استعمالها وسلَّحت يها هيئتها المظهرية، في الوقت الذي كانت فيه تتخلص من قيود أخرى، وتجد مجالات مغايرة للتحرر.

6 : Lexique des règles typographiques en usage à l'imprimerie nationale, 2 édition, 1975.

7 : يتابع الشاعر اللجوء إلى أداة التنقيط هذه في المجموعات كلها التي يضمها الجزء الأول من «الأعمال الشعرية الكاملة»: «طفولة نهد»، و«سامبا»، و«أنت لي»، و«قصائد»، و«حبيبتي»، و«الرسم بالكلمات»، و«يوميات امرأة لامبالية»، و«قصائد متوحشة» و«كتاب الحب».

8 : أتحدث عن تشكيلات ايقاعية «داخل» الأبيات، وتُظهرها بعض أدوات التنقيط أحياناً؛ كما أقترح توزيعات مختلفة للأبيات نفسها، «الأسيرة» شكلياً في النسق العروضي. إلا أنني لاحظت أن الشاعر قباني لم يحسم في سرعة ما بدا ممكناً في المجموعة الأولى، وما جرَّبه في قصيدة واحدة فيها، قصيدة «اندفاع». وهو في ذلك أقل تجريباً مما كانت عليه تجديدات الياس أبي شبكة وسعيد عقل وغيرهما.

9 : يختار قباني هذا الشكل الجديد في قصيدة «لولاك» في مجموعة «طفولة نهد» (1948). وتقوم القصيدة الطويلة «سامبا» (1949) على توزيعات عروضية قريبة مما فعله سعيد عقل في «المجدلية» (1937)، وتحافظ على لزوم القافية في كل شطر. ولا يحضر الشكل "الحر" في صورة قوية، وأكيدة، إلا في مجموعة «قصائد» (1956)، في القصائد التالية: «مع جريدة»، و«عيد ميلادها»، و«ساعي البريد»، و«إلى ساذجة»، و«إلى ميتة»، و«نفاق»، و«رسائل لم تكتب بعد»، و«طوق الياسمين»، و«وجودية»، و«رسالة من سيدة حاقدة»، و«حبلى»، و«أوعية الصديد»، و«إلى أجيرة»، و«قصة راشيل شوارزنبرغ» و«خبز وحشيش وقمر».

10 : تقود هذه النتائج التحليلية إلى القول: إن تغيرات القصيدة العربية، ومنها إسهامات نزار قباني منذ هذه المجموعة، سبقت الموعد المكرس لها في العام 1947، مع ولادة «الشعر الحر». كما يقتضي التحقق من هذه التغيرات، على ما لاحظت، عدم الاكتفاء بالشكل القالبي فقط للعروض والتفعيلات، بل النظر إلى تبديلات جارية في تضاعيف الأبيات، والتي لا يُظهرها الشكل العروضي بالضرورة.

11 : مثل فنون ومهارات عديدة مزامنة لها، يمكن أن أتحقق منها في صنوف الزخرفة وأنماط التصوير وأشكال العمائر وغيرها.

12 : وهي نقلة مشابهة لانتقالة أخرى عرفناها في التصوير، منذ «عصر النهضة» الأوروبي، بين «الجدرانية» و«اللوحة» تحديداً.

13 : بخلاف ما انتهت إليه عناوين الشعر العربي الحديث، كما تحققت من ذلك في كتابي المذكور أعلاه.

14 : وضعت خارج التصنيف قصيدة واحدة، «ورقة إلى القارىء»، ص 27-34، لأنها تفيد، كما يدل على ذلك عنوانها، نصاً تقديمياً للمجموعة كلها وللشاعر.

15 : أتحدث عن منزع سردي، عن اتخاذ القصيدة «زوايا للنظر» إلى موضوعها، وهو ما أتحقق منه في قصائد لاحقة للشاعر، ويرمز إليها هذا العنوان: «من كوة المقهى» («طفولة نهد»، 1948)؛ كما يتحقق ذلك في عدد من قصائد المجموعة هذه: «إلى ساق»، و«إلى رداء أصفر»، و«الشفة»، و«إلى مضطجعة»، و«غرفة»، و«إلى وشاح أحمر»، و«القبلة الأولى»، و«طائشة الضفائر»، و«المستحمة» وغيرها.

16 : نزار قباني مديني الولادة (دمشق، 1923)، والعمل والعيش: في العمل الدبلوماسي، في القاهرة من العام 1945 إلى 1948، وفي لندن من العام 1952 إلى 1959، وفي الصين من العام 1958 إلى 1960، وفي مدريد من العام 1962 إلى 1966، ثم انصرف إلى الكتابة وحدها في بيروت، وبعدها جنيف ولندن...

17 : يمكن أن أضيف أبياتآً أخرى مثل هذه، وغيرها أيضاً:

- «في عبق الخبزِ في ضيعتي

وطفرات تنورةٍ آيبه

وفي جرس الديرِ يبكي.. ويبكي

وفي الشوح، في ناره اللاهبه»؛

- «أرقب أن تأتي كما يرقبُ

الراعي طلوعَ الأخضر المقبلِ..»؛

- «مشاوير تموز.. عادت وعدنا

لننهبَ داليةً راقده..

لنسرقَ تيناً من الحقل فجاً

لننقفَ عصفورة شارده

لأفرط توت حبات السياج

وأطعم حلمتك الناهده

لأغزل غيم بلادي شريطاً

يلف جدائلك الراعده» وغيرها.

وأتحقق من استمرار هذا المحور في قصائد لاحقة: «بلادي»، و«بيت»، و«على البيادر» («طفولة نهد»، 1948).

18 : يقوى حضور هذه الألفاظ أكثر في مجموعات قباني اللاحقة، كما يمكن لنا أن نتحقق منذ عناوين القصائد التالية: «سامبا»، و«تلفون»، و«مانيكور»، و«المايوه الأزرق»، و«كريستيان ديور»، و«كم الدانتيل»، و«فستان التفتا»، و«سوناتا»، ويصل الأمر إلى وضع عنوان باللغة الفرنسية (A la garçonne) وغيرها.

19 : Emile Benveniste : Problèmes de linguistique générale, 1, Gallimard, Paris, 1966, p 225-266.

20 : إميل بنفينيست : م. ن.، ص 228.

21 : كما أتحقق من ذلك في قصائد «معجبة»، و«الشقيقتان»، و«أوعية الصديد»، و«نار»، و«رسالة من سيدة حاقدة» و«حبلى» وغيرها اللاحقة، أو في مجموعة «يوميات امرأة لامبالية» كلها.

22 : وهو ما ألقاه في دعاوى بعض الشعر الحديث لنفسه، ومنها جملة الشاعر أدونيس: «قادرٌ أن أغيرَ لغمُ الحضارة هذا هو اسمي» (في "هذا هو اسمي").

23 : يقول خريستو نجم: «كل من قرأ هذا الشاعر، أو درس آثاره، لا بد أن يتوقف ملياً عند إلحاح الرجل على نهدي المرأة والتركيز عليهما بشكل يكاد يكون مرضياً»، بل «يصبح عنده فكرة متسلطة أو هاجساً يلازمه في كل تصوراته»؛ ويصل نجم إلى خاتمة تفسيره لهذا الإلحاح: «لا نظن مطلقاً أن التوقف على النهدين في غزل نزار هو من قبيل المصادفات، بل نحسبه، على العكس من ذلك، أمراً عميق الجذور في غرائزه الجنسية، لأنه ذو دلالة تعود بنا إلى سنوات الطفولة الأولى، وما عرفه الطفل من متع الرضاع على صدر أمه. فالثدي في ذهن نزار مرتبط بلذة المص والرضاع، ولا يمكن تفسير هذا الارتباط إلا برده إلى المرحلة الفمية، وهي أولى مراحل الاستمتاع الجنسي»: خريستو نجم: «النرجسية في أدب نزار قباني»، دار الرائد العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص 62-63.

24 : كتبت قصائد المجموعة بين العام 1928 والعام 1938، وعدت إليها منشورة في «الأعمال الكاملة - المجموعة الشعرية»، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1981، ص 58.

25 : يُجمع النقاد على ريادة الشاعر اللبناني أديب مظهر لهذا المنزع الأدبي، منذ العام 1928؛ ويجد محمد فتوح أحمد في قصيدة منسوبة إلى بشر فارس، نشرها في العام نفسه، في مجلة «المقتطف» (ديسمبر، 1928)، بعنوان «الخريف في باريس»، «مسحة رمزية» (محمد فتوح أحمد: «الرمز والرمزية في الشعر المعاصر»، دار المعارف، القاهرة، 1977، ص 174). فيما خلا هذه القصيدة، فإن عدداً من الشعراء اللبنانيين بعد مظهر، وعلى رأسهم سعيد عقل، سيتابعون شعرياً هذا المنزع الفني فوق صفحات المجلات الأدبية: «المكشوف»، و«المشرق» و«الجمهور»، بالاضافة إلى الشاعر بشر فارس في مصر، ابتداء من العام 1934، علي صفحات «المقتطف» وغيرها.

وقد كان للمجلتين المصريتين، «المقتطف» و«الرسالة»، دور لافت في التعريف النقدي بهذه المدرسة الشعرية: أقدم بعض كتاب المجلة الأولى، منذ العام 1934، مثل علي محمود طه وخليل هنداوي وبشر فارس، على ترجمة بعض الشعر الرمزي، ونشرت مجلة «الرسالة» في العام 1933، لطه حسين، مقالة عن هذا المذهب، وثانية في العام 1938 لزكي طليمات عن أصوله وبعض أعلامه، بما فيهم بشر فارس وتوفيق الحكيم.

26 : صلاح لبكي، «الأعمال الكاملة - المجموعة النثرية»، م. ن.، ص 172.

27 : صلاح لبكي : م. ن.، المجموعة الشعرية، ص 17.

يعمد أديب مظهر في قصيدته «نشيد السكون» (1928) إلى «تمازج الحواس»: يجعل «النشيد» في قصيدته «حلواً»، ويطلق على النسيم غير المرئى صفة «السواد» المرئية، ويجعل للنغم المسموع نعتاً بصرياً هو القتامة.

28 : الياس أبو شبكة : المجموعة الكاملة - في الشعر، المجلد الأول، جمعه وقدم له: وليد نديم عبود، دار رواد النهضة ودار الأوديسه، جونيه، طبعة أولى، 1985، ص 17.

29 : الياس أبو شبكة : م. ن.، ص 127.

30 : يمكن أن أزيد عليها قصيدة قباني المشهورة «مع جريدة»، وتعالقها مع قصيدة سابقة لها ومشهورة، هي الأخرى، لجاك بريفير (Déjeuner du matin).

31 : ولد الشاعر بول جيرالدي في باريس، في العام 1885، وأنهى دراساته فيها، ونشر في العام 1908 قصائده الأولى، «الأرواح الصغيرة». في العام 1912 أحرز ديوانه الثاني، «أنت وأنا»، نجاحاً جماهيرياً، حجب عن الأنظار مسرحياته المتألقة فوق المسارح الباريسية. ثم أتبعها بعد سنوات بقصائد، «أنتم وأنا»، أكملت نجاحه الشعري السابق: عدت إلى ديوانه الشهير الثاني، موضوع دراستي، في طبعة 1946، الصادرة عن دار «ستوك»:

PauL Géraldy : Toi et moi, éd. Stock, Paris, 1946.

23 : بول جيرالدي : م. ن.، ص 8 .

23 : بدر شاكر السياب : الديوان، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، 1989، ص 176.

24 : عمر أبو ريشة : الديوان، دار العودة، بيروت، 1988، ص 174-178.

25 : عمر أبو ريشة : م. ن.، ص 367.

26 : عمر أبو ريشة : م. ن.، ص 369.

27 : قلما وجدنا شاعراً «ملوِّناً» في الشعر العربي، في قديمه وحديثه، مثل نزار قباني، حتى أنه يجعل الصفة اللاحقة بأي اسم لوناً في غالب الأحيان، على حساب الصفات الشكلية وغيرها؛ ولا يكفي الحديث في هذا النطاق عن تأثر قباني بما بدأ به الشاعر رامبو حين جعل لـ«حروف العلة» (voyelles) في الفرنسية، وهو عنوان القصيدة، ألواناً بعينها:

(A) أسود، (E) أبيض، (I) أحمر، (U) أخضر، (O) أزرق.

 

(نُشرت هذه الدراسة في: "نزار قباني شاعر لكل الأجيال"، إشراف: سعاد محمد الصباح، الجزء الأول، دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع، 1998، ص ص 163-211، مع تعديلات صياغية طفيفة).