لا يسعني القول إنّ دراسة "الادب الشعبي" تطورت كثيراً في العقود الاخيرة، بل هي أقل المناحي الادبية استفادة من إنجازات اللسانية في إجرائياتها المتعددة على النصوص الادبية المختلفة. ويبقى هذا النطاق الدراسي، بعد " قفزة " فلاديمير بروب الهائلة في هذا المجال، مفتقراَ لنقلة أخرى تجعله في مصاف المجالات البحثية المتقدمة.
ولي مسعى أولي في هذا المجال، وهو أن أُخضع بعض عينات هذا الأدب على سبل وإجرائيات الطريقة اللسانية في دراسة النصوص أيّا كانت. إذ أن نقلة بروب أكيدة وثمينة ونافعة، لكنها تبقى محدودة بحدود الحكاية "الساحرة" (أو "العجيبة")، عدا أنها لا تولي "لفظ" الحكاية، أي الشكل الذي تمثل فيه الحكاية للقارئ (أو السامع) سوى اعتبار مضموني المنحى. فهل أستطيع فعلاَ ، أمام "تخالط" مواد هذا الأدب، وعدم التحقيق النقدي لها، كما وصلت إلينا، أن أجري عليها قراءة لسانية متسقة، وقابلة للمراجعة البرهانية، مما يدخل هذه المواد - أخيراً - في نطاق "النصوص"، كغيرها من نصوص "الثقافة العالِمة"، ومما ينقذها كذلك من التهميش والإبعاد اللاحقين بمواد غير معتبرة بعد في عداد أدب "مجتمع الأدباء الفصحاء"؟
لهذه الدراسة وقفتان :
- أولى عند "الحكاية الساحرة"، وتستند إلى قراءة أجريها على خمس حكايات مأخوذة من خمس بيئات عربية، مطبقاً مقترح فلاديمير بروب الخاص بهذا النوع من الحكايات، بعد أن أُخضعه لمراجعة نقدية؛
- ثانية عند مواد مختلفة من السير الشعبية العربية (سير البطولة، ألف ليلة وليلة ...)، عاملاً على امتحانها من ناحية "ثبوتها" النصي، أي كونها تمثل أمام القارئ أو السامع في هيئة لفظية، في مدونة متفاوتة ومتداخلة الاصول والازمنة والاعتقادات، ما يجعل من كل مدونة شبهاً لأصل مفقود أو متوافر في بيئة أخرى، على أن كل "نسخة" أو صيغة من هذا الأصل نصاًً قائماً بذاته، طالما أن مواد هذا الأدب تخضع للتناقل والتملك المستمرين.

حكايات ساحرة عربية
نعرض، بداية، خمس حكايات ساحرة مأخوذة من خمس بيئات عربية، على أن أجري عليها، في طور أول، قراءة مستوحاة من طريقة فلاديمير بروب في "تقطيع" الحكاية الساحرة، وفي تحليلها وفق مبدأ "الوظائف"؛ وأجري عليها في طور ثانٍ قراءة مقارنة بين الحكايات الخمس، وبين وظائفها، عارضاً في نهاية المطاف لبنيتها الفنية ذات الانساب المتعددة والمتفاوتة والمتداخلة.

حكاية من الصعيد المصري، الحكاية الاولى

يُحكى أن ملكاً بخيلاً ووزيره هاموا في أرجاء مملكتهم، وحطت بهم الرحال عند أحد الصيادين الفقراء وباتوا عنده.
وفي أثناء الليل سمع الوزير هرجاً وعلم أن زوجة الصيّاد تضع مولودها. وبعد مدة عرف الوزير أن المولود قد ولد، ثمّ رأى نوراً ساطعاً وسمع الملائكة تقول إن هذا المولود سيكون ملكاً على الارض، فأيقظ الوزير الملك، وقصّ عليه ما سمع، وقال له : لا بدّ أن نتخلص من هذا الطفل!
فعرض الوزير على الصيّاد أن يبيعه الولد نظير ألف جنيه فقبل. وأخذ الوزير الطفل، وألقاه في البحر، فابتلعته سمكة كبيرة اصطادها صياد فقير وعرضها للبيع فاشتراها أبو الطفل وفتح بطنها فوجد طفله!
وبعد مدة عاد الوزير والملك ليريا حال الصيّاد، ولكنهما فوجئا بوجود الولد في المنزل! فقررا أن يتخلصا منه بطريقة أخرى. فطلب من الصياد أن يرسل ابنه إلى القصر لكي يخبر من فيه أن الملك سيتأخر وأرسل معه رسالة طلب منه عدم فتحها. وكان بها أمر لكبير الأمناء بقتل الصبي عند وصوله.
فلما وصل الصبي إلى مشارف القصر غلبه النعاس فنام. وأثناء نومه رأته ابنة الملك ورأت الرسالة فأرسلت الخادمة لإحضارها بدون إيقاظه. فلما قرأتها جزعت ومزقتها ووضعت رسالة مكتوب فيها: "إذا حضر الرسول فنصبه ملكاً على البلاد وزوجه ابنتي".
فعل كبير الأمناء بذلك.
ثم حضر الملك ليرى ما تمَّ في أمر الرسول، فلما عرف ما حدث له تنازل عن الملك له ثمَّ قال إن هذه مشيئة الله. ثمَّ أمر بقتل وزيره الشرير(1).

حكاية من اللاذقية : "كل مقدر لا بد أن يأتي "، الحكاية الثانية

خرج الملك ووزيره في أرجاء المملكة يتجولان ويتعرفان على مشاكل الناس. وكان ممن زاره أمير قبيلته في أطراف المدينة، دعاهما إلى أن يقضيا عنده ليلتهما، وقدم لهما مأدبة فاخرة. وفي تلك الليلة جاء راعي الغنم إلى شيخ القبيلة يبشره بغلام رزقه الله به. فسر الشيخ لهذه البشرى، ووهب الراعي الغنم التي يرعاها لأنه بشّره بهذا الخبر السعيد.
وحينما خلا الملك بالوزير تحادث معه في كرم هذا الشيخ الذي يفوق الوصف.
وعند عودتهما إلى القصر سأل الملك المنجمين عن مستقبل الوليد الذي شهدا مولده في الليلة الماضية، فقالوا له: سيتزوج هذا الولد من ابنتك!
عاد الملك بوزيره إلى الشيخ وأخذ منه وليده، وألقى به في البحر! وحدث أن التقطه بعد مدة قصيرة أحد الصيادين ورباه عنده حتى كأنه ابن له وظل هذا الصبي يتربى عند الصياد حتى أصبح عمره عشرين عاماً.
وحينما انقطعت اخبار الشاب عن الملك قال لوزيره: أرأيت أنني قد استطعت منع أحداث القدر؟ ولم يقنع هذا الوزير فقال: لكن ذلك هو القدر وسينفذ! فاغتاظ الملك من إصرار الوزير على رأيه وأقسم أنه سيقتله إن لم يحضر الشاب! فسأل الوزير المنجمين عنه فقالوا له إنه عند صياد يقيم في كوخ متواضع على الشاطئ، حيث ذهب الوزير وطلب من الصياد أن يتنازل عن هذا الشاب مقابل مبلغ من المال. فقبل الصياد مرغماً. وحينما مثل الشاب بين يدي الملك كتب له ورقة وأقفلها وأرسل بها هذا الشاب إلى أحد ولاته في إحدى الولايات.
ذهب الشاب إلى تلك الولاية، ولم يستطع أن يدخل القصر لما لحقه من متاعب السفر، فقعد يرتاح في ظلال السور، ثم نام حيث هو.
رأته على هذا الشكل فتاة من القصر، فرق له قلبها، فأدخلته إلى القصر وسألته عن حاله، فقصّ عليها قصته، فطلبت منه أن تطلع على الورقة التي أرسل بها، فرفض إعطاءها، فاحتالت عليه بأن دسّت له في النوم مخدراً، استطاعت بعده أن تأخذ الرسالة، وحينما فضتها وقرأتها وجدت فيها أمراً بقتل الشاب الذي يحملها، فسارعت إلى تمزيقها ثم كتبت بدلاً منها أمراً باستقباله بكل احترام ومن ثم بتزويجه من ابنة الملك في الحال!
تسلّم الأمير الرسالة ولم يستطع مخالفة ما ورد فيها من أوامر، فأقام حفلات الزفاف لهذا الشاب على ابنة الملك وهي التي رقت له وأدخلته إلى القصر وكتبت له رسالة جديدة!
وحينما جاء الملك إلى قصره في هذه المنطقة وسأل عما فعله الشاب شرح له الوالي ما في الرسالة، فعجب الملك مما يسمع، وفي النهاية اعترف للوزير بنفاذ القدر!(2).

حكاية من لبنان: "ما قدر يكون"، الحكاية الثالثة

أراد ملك أن يعترف إلى رأي رعيته فيه، فيصلح من نفسه مما يأخذونه عليه، دون أن يعلموا، ليحبوه أكثر، فتخفّى في لباس درويش وجعل وزيره يفعل مثله، فخرجا يقعدان إلى التجار والفلاحين والعمال حتى انتهيا إلى بيت صغير لفلاح فجلسا يستريحان عنده، فقدّم لهما الفلاح طعاماً وشراباً فشكرا له هذه الضيافة.
ورأى الوزير على يد امرأة الفلاح طفلاً في عمر ابنة الملك، وكان ممن يقرأون المستقبل في تقاطيع الوجوه، نظر إلى الطفل فقال للملك سراً: إن هذا الطفل سيكون صهرك! فقال الملك لن يستطيع هذا الفقير ابن الفقير أن يتزوج من ابنة الملك، ثم إنني سأريك كيف أمنعه من هذا الزواج.
فسأل الفلاح إن كان الطفل ابنه فأجاب بالإيجاب، ثم سأله إن كان له من أولاد غيره فقال: ثلاثة فقال له الملك: ليس لي أولاد وأريد أن يكون لي ولد أتبناه، فهل تقبلون أن أشتري ابنكم هذا على أن أربّيه وأعلمه وأورثه ثروتي؟ ولم يقل لهم إنه الملك، فتردّد الرجل وزوجته ولكنهما أخيراً وافقا حينما تصورا أن ابنهما سيتربى وسيتعلم في بيت غني سوف يرثه.
أخذ الوزير الطفل، كما أمر الملك وخرجا به حتى حاذيا نهراً، وهناك أخذ الملك الطفل وألقى به في ماء النهر! قال للوزير: فليتزوج بعد الآن من ابنتي! فقال الوزير: لن تستطيع يا ملك الزمان أن تمنع القدر، لأن هذا الطفل سوف يسلم من الماء، ويتزوج من ابنتك. فسخر الملك من سخف وزيره وعادا إلى القصر.
حمل تيار الماء الطفل إلى مجرى ماء يدير حجر مطحنة، فسد فوهة المجرى، فنقص الماء عن المطحنة فوقفت عن الدوران، فصعد الطحّان إلى سطح المطحنة ليرى سبب وقوفها، فوجد طفلاً يتعرض على قضبان الفوهة، فانتشله فوجده حياً فرقّ قلبه وحمله إلى زوجته لتربيه كما تربي الأولاد، فاستقبلته استقبالاً حسناً.
أرسله الطحان مع أولاده إلى المدرسة، فبان عليه الذكاء والاجتهاد، وحينما تخرج أخذ الطحان يبحث له عن عمل.
وخرج الملك ووزيره ذات يوم إلى الصيد، حتى اقتربا من مكان المطحنة، فاستراحا تحت أشجار قريبة منها، وحينما عرف الطحان بأن الملك قريب منه دعاه إلى بيته ليقضي فترة الاستراحة عنده، فقبل الملك الدعوة.
وهناك شاهد الوزير الشاب فعرفه فقال للملك سراً: هذا هو الشاب الذي ألقيته في النهر نجا وكبر وسيتزوج من ابنتك! انشغل بال الملك فسأل الطحان: أهذا ولدك؟ فأجاب بالنفي وقصّ على الملك قصته وأنه الآن يبحث عن عمل. فقال الملك: لا تهتم لعمله، سآخذه إلى بلاطي وأعينه عندي.
شكر الطحان للملك صنيعه. أما الملك فكتب رسالة إلى الملكة وقال فيها: حينما يصل الشاب الحامل هذه الرسالة إليك مري بقتله حالاً. ووقّع الرسالة بإمضائه وختمها وسلمها إلى الشاب، وقال له أن يأخذها إلى الملكة، وهي تضعه في المنصب الذي يليق به.
ذهب إلى قصر الملك، فوصل إليه متعباً، فاضطجع بجانب أحد الجدران العالية مستظلاً بظلاله فشعر ببرودة لذيذة ثم نام.
أطلت ابنة الملك من النافذة فأبصرت شاباً مغفياً بجانب الجدار، فانحدرت إليه على السلالم، فرأت فيه شباباً وجمالاً، فتحرك نحوه قلبها، ثم أبصرت في يده رسالة، فالتقطتها، ثم قرأتها، فحملت على أبيها حملة غاضبة، وغيّرت ما فيها إلى: "حينما يصل هذا الشاب إليك زوجيه حالاً ابنتنا ولا تراجعيني". ثم قلدت إمضاء أبيها وختمت الرسالة، وأعادت الرسالة إلى الموضع الذي كانت فيه في يد الشاب.
استيقظ الشاب، فمضى برسالته إلى القصر ولم يقبل أن يسلمها إلا للملكة، فقرأتها وتعجّبت كيف تزوج ابنتها من شاب لا تعرفه، لكن جماله لفت انتباهها، فدعت إليه ابنتها واستشارتها في الأمر فقبلت، فأقامت لها أفراح الزواج.
عاد الملك بعد يومين فذهل حينما رأى الشاب يتنزه في الحديقة مع ابنته، فسأل عنه فقالوا هو صهرك الذي أمرت بتزويجه من ابنتك! فأسرع إلى الملكة يقول لها: كيف تزوجين ابنتي ممن آمرك بقتله؟! فأحضرت إليه الرسالة التي وصلتها، فوجد أن الخط قريب من خطه، والتوقيع يخيل إليه أنه توقيعه، فنظر إلى الوزير مذهولاً، فقال له الوزير: أما قلت لك يا ملك الزمان أن ما قدر لا بد وأن يكون؟!
أذعن الملك للأمر الواقع وجعل الشاب في منصب سام يليق بصهر الملك (3).

اليتيم، من أرياف القدس، الحكاية الرابعة

يُحكى أن ملكاً عظيماً في قديم الزمان، كان في مدينة الكرك في شرقي الأردن وكان حكمه يضم الأردن وفلسطين. وقد كان جباراً من الجبابرة، لم يرزقه الله بغير ابنة واحدة، وكانت هذه الابنة رائعة الحسن.
وقد كان السحرة يقولون له إن أفقر الناس في رعيتك سيأخذون الملك منك. وهو يستغرب ذلك.
بعد مدة ذهب هذا الملك إلى الصيد، فرأى كهفاً فأحبّ أن يرى ما فيه فوجد امرأة تضع مولوداً، وكان ذكراً. وما لبثت هذه المرأة أن توفيت! وليس عند زوجها ولا طفلها ما يسد الرمق، فأخذ الملك الطفل إلى بيته ليربيه وحينما رآه أحد السحرة قال له: هذا الذي سيأخذ الملك منك! حينئذ أمر الملك الخدم أن يأخذوا الطفل بعيداً ويتخلصوا منه بقتله. فذهب الخدم وألقوه في ماء النهر. ولكن الموج حمل الطفل إلى الشاطئ الآخر، فالتقطه صياد وحمله إلى بيته لتربيه زوجته مع أولاده، وظلّ عندهم حتى كبر وترعرع.
وفي أحد الأيام يأتي الملك إلى الصياد، فيبصر عنده فتى جميل الصورة، فيسأله إن كان ابنه، فيحدثه الصياد بحكايته، فيطلبه الملك من الصياد لكن هذا يرفض، حيث يأخذه الملك عنوة، حيث أمر خدمه به أن يذبحوه في البرية ويأتوه بدمه. سحبه الخدم إلى البرية وكادوا يفعلون لولا أن رقت قلوبهم له، فأخلوا سبيله وقالوا له: إياك أن تبقى في حدود مملكة هذا الملك، وأخذوا للملك دم عنزة ذبحوها، على أنه دم الشاب.
ذهب الفتى إلى بلاد سوريا، وفي سوريا انخرط في الجيش، وجعل يبرز عنصره ويتقدم حتى أصبح ضابطاً مرموقاً.
وتمضي مدة ويزور ملك الكرك سوريا فيبصر بالضابط فيعرفه ويستأذن ملك سوريا أن يأخذه، فيوافقه هذا على أخذه.
فيعطي الملك الشاب رسالة ليوصلها إلى حرس القصر، وتنص على أن يقتل الحراس حامل الرسالة. وطلب إليه ألا يفتحها، وذكر له أن فيها تيسيراً لعمله. لم يجد الشاب حارس القصر، فانتظره في البستان. وفي البستان أكل من ثماره وشرب من مياهه وغلبه النعاس فنام!
خرجت ابنة الملك لتتنزه في البستان فأبصرت الفتى نائماً، فمال إليه قلبها، وقرأت الورقة في يده، فعرفت ما فيها، فاستبدلتها بورقة أخرى كتبت فيها أمراً للحارس أنه بمجرد وصول الفتى إليك زوجه من ابنتي.
وأقام لهما المأمور بأفراح الزواج.
وفي أيام الأفراح وصل الملك إلى المدينة، فسأل عن الفتى، فأروه أفراحه ثم أروه الرسالة التي وصلتهم، فقال: سبحان الله، لقد حاولت عدة مرات أن أتخلص منه، لكني لم أستطع أن أمنع الأقدار! لذلك فإنني أبراك لكما في هذا الزواج!
والسلام عليكم (4).

النصيب، من العراق، الحكاية الخامسة

خرج الملك ووزيره في نزهة خارج مبنى المدينة، فلفت انتباهما كوخ بسيط عرجا عليه، ليتعرفا على من فيه وعلى أحواله. فرأيا فيه رجلاً مطرقاً رأسه مفكراً، فجلسا إليه يسألونه عما يهمه، وبينما هو كذلك إذ سمعا صرخة مولود يخرج إلى الدنيا. فقال الوزير للملك بعد ذلك: إن هذا المولود سيتزوج من ابنتك التي ولدت لك بالأمس! فعجب الملك لما يسمع ولم يستطع أن يتقبله إذ كيف يتزوج ابن هذا الفقير المسكين من ابنة الملك؟!
فأظهر الملك رغبته لهذا الأب الفقير بتبني هذا الطفل الوليد، فلم يرفض الأب. حمل الملك الوليد إلى شاطئ البحر ثم طعنه بخنجر لم يقض عليه لما كان عليه من خروق القماش ثم ألقى به في البحر!
ويبدو أن الموج قد دفعه إلى شاطئ حيث حنت فيه عليه غزالة ورئمته بدل ابنها الذي مات وربته كأنه ابنها!
وبعد عدة سنوات جاء الملك والوزير إلى هذا المكان، فرأى الملك غزالة فرماها بسهم فجرحها فأسرع إليه الطفل يحتضنها ويتوعد مطلق السهم عليها. فأعجب الملك به ثم أخذه ورباه حتى أصبح جندياً، وما لبث أن أظهر شجاعة وقوة غير عادية، فأسند إليه بقيادة إحدى قواته العسكرية.
وحينما رأته ابنة الملك أعجبها شبابه وقوته، فأحبته وتعرضت له، فوقعت من قلبه موقع الحب أيضاً. واشتد حب الفتاة له حتى تدلهت به وأسقمها العشق وألزمها الفراش. وذات يوم يفاتح الوزير الملك بخبر عجيب! إذ قال له: إن هذا الشاب هو الذي طعنته بخنجر وألقيت به في البحر قبل نيف وعشرين سنة. لم يصدق الملك ما يسمع، فاستدعى الشاب وأمره أن يكشف عن صدره حيث أصيب بصدمة عنيفة حينما رأى أثر الطعنة في صدره واضحة! وأضاف الوزير أنه يتبادل مع ابنتك العشق، وعما قريب سيتزوجان!
فأمر الملك طبيبه أن يعلن أن ابنة الملك ينبغي لها أن تسافر إلى مكان آخر صحّي، لتسترد صحتها، وأرسل معها الشاب على رأس فرقة من الحرس، وأرسل معه رسالة للوالي الذي سيفدان إليه بقتلهما معاً، ثم أمر الملك أن يعلن بعد ذلك أن ابنته لم تستطع أن تتحمل آلام المرض ومتاعب السفر فماتت، وأن القائد قد انتحر لأنه لم يستطع أن يوفر لها الراحة وسلامة الوصول.
وفي طريقهما إلى المكان الذي أرسلا إليه سمع الشاب حمامتين تتحادثان على أطراف خيمته فتقول الأولى إن الرسالة فيها أمر بقتلهما، وتقترح الثانية أن يضع الشاب الرسالة على صخرة عند عين الماء التي سيستريحان عندها ويغسلان أيديهم، ثم تعودان للرسالة ليجدا أنها قد غيرت كلماتها لصالحهما!
فعل الشاب بكل ما سمع من الحمامتين.
وحينما وصلا إلى الوالي أقام لهما أفراح الزواج الرائعة.
وبعد شهر عادا إلى الملك، فعجب مما يرى، فأمر أن تحضر إليه رسالته من الوالي، فإذا به يجد أنها هي التي أرسلها فعلاً، ولكنه عجب أكثر حينما وجد أن كلماتها قد غيرت من الأمر بقتلهما إلى الأمر بتزويجهما في احتفالات رائعة.
وعندئذ فقط أسلم للأقدار(5).

الحكايات، حسب مثولها اللفظي
توصل العالم الروسي فلاديمير بروب (Vlademir Propp) في العقد الثاني من القرن العشرين إلى دراسة نقدية لافتة حول الحكاية الشعبية الساحرة الروسية، وانتهى في ختامها إلى تعيين إحدى وثلاثين وظيفة، ثابتة المضامين، ومتتابعة وفق التسلسل نفسه في جميع الحكايات الساحرة التي درسها(6).
والوظيفة، في تعريفه، تعني انتقالاً في الحدث وتغيراً في الأوضاع وأحوال الشخصيات، له مضمون ثابت في كل مرة وفي كل وظيفة في هذا النظام. أما هذه الوظائف فيمكن الإشارة إلى بعضها على الأقل:
- ابتعاد
- منع
- اعتداء
- استعلام (يتم البحث عن معلومات حتى يحصل التعرض)
- إعلام (التأكد من حصول الخبر والمعلومات)
- خديعة (المعتدي يسعى إلى خداع الضحية)
- تواطؤ (تقع الضحية في المكيدة وتساعد المعتدي من حيث لا تقصد)
- السوء (التعرض وإلحاق الضرر بأحد العناصر القريبة من البطل)
مع نهاية هذه الوظيفة يتم الطور الأول من هذا النظام، وهذه الوظيفة الأخيرة هي بمثابة وظيفة انتقالية بين وقوع الأذى على البطل وهجومه المضاد على هذه الاعتداءات:
- بداية الرد العكسي
- البطل يغادر بيته
- البطل يتعرض إلى مواجهة ...
سنجد في تتالي هذه الوظائف معارك مختلفة، وامتحانات قاسية، يتعرض إليها البطل؛ وقد تكون هذه الأحوال الصدامية معارك قتالية، أو تتدخل فيها قوى السحر والجن أو الحيلة والمكيدة، أو في هيئة أناس. وترتيب الوظائف الأخيرة هو:
- نزع الصورة المزوّرة عن البطل المزوّر
- ظهور البطل في حلّة جديدة
- معاقبة البطل المزور أو المعتدي
- البطل يتزوج أو يرتقي العرش، وقد يتحققان معاً.
نتبيّن من خلال هذه الوظائف أن لكل وظيفة مضموناً خاصاً، وأن الوظائف قد لا تكون موجودة كلها في الحكاية الواحدة، إلا أن عددها ثابت ومتفرق في عدد من الحكايات وفق هذا التسلسل المذكور، ووفق مضمون مخصوص بكل وظيفة منها. إلى ذلك، يمكننا القول إن هذا النظام المتتابع من الوظائف يخضع لمسار عام يبدأ بحالة معيّنة وينتقل إلى طور ثان يتم فيه التحضير لاعتداء ما على البطل، وقد يحصل هذا الأذى عليه. ثم ننتقل إلى طور ثالث يمكننا أن نقول عنه إنه طور البطل، ويقوم على عدد من العمليات القتالية أو الرمزية، بالقوة الجسدية أو بقوة الجن، وبالحيلة أو بالذكاء، بين البطل وبين عدوّه الذي قد يكون بطلاً مزوّراً. وهي عمليات كرّ وفرّ يتعرض فيها البطل لمساوئ، إلا أنه ينجح في الطور الرابع والأخير في إبعاد نهائي للمكروه، وفي انتصار تام قد تكون علامته في آن الزواج والصعود إلى العرش:
- البطل يردّ على أفعال الواهب
- الغرض السحري بتصرف البطل
- انتقال البطل إلى مكان وجود الغرض
- مواجهة بين البطل والمعتدي
- علامة دالة على البطل
- هزيمة المعتدي
- إصلاح السوء وردّه
- عودة البطل
- البطل ملاحقاً
- يتلقى البطل نجدة
- يصل البطل متخفياً إلى بيته
- شخص مزيّف يدّعي أنه البطل
- امتحان قاس للبطل
- نهاية المواجهة أو الامتحان
- البطل مؤكّداً في دوره.
هذا ما يقوله بروب باختصار وابتسار طبعاً، فهل يمكننا توظيفه في تحليل الحكاية الأولى؟

الحكايات، حسب وظائفها
يمكننا القول، بالاستناد إلى هذه الحكايات وغيرها أيضاً، إن تحليل بروب، وإن بدا شكلاني النزعة، ونسقياً، يقوم على تحليل مضموني للحكايات الساحرة. ذلك أن مقترحه لا ينطلق من تتبع الحكاية في لفظها، في ثبوتها، في هيئة ماثلة للعيان (في القراءة)، أو للسماع (في حال سماعها وحسب)، إلا بالقدر الذي يفيد به هذا التتبع مسار حكاية، في وقفات وأفعال وأشخاص، هي التي ترسم منطق الحكاية ومجراها ومنتهاها.
والتقطيع حسب الوظائف، الذي يقترحه بروب، لا ينتسب بأي حال إلى المقاربات اللسانية، وإن بدا في عهده، وحتى أيامنا هذه، نقلة متطورة في دراسات "الأدب الشعبي"، عما كانته دراسات الفولكلوريين له. ولا نجد صعوبة، بطبيعة الحال، في "تقطيع" الحكاية الأولى، ولا الحكايات الأخرى، وفق مقترح بروب، بل ينطبق هذا المقترح عليها تماماً، ويؤكد لنا "صلاحيته" التامة في غير حكاية ساحرة، ومنها الحكايات الساحرة العربية.
وتواجهنا في تقطيع الحكاية الأولى مشاكل مخصوصة بها تحديداً، ونحتاج إلى قرءة استرجاعية (rétro-lecture) لكي نعرف أن الجنين هو البطل. ومع تذليل هذه الصعوبة، ننجح في تطبيق مقترح بروب في صورة تامة، وإن تنقصه بعض الوظائف في هذه الحكاية، وهو أمر معروف في حكايات بروب نفسها. هكذا نستطيع عرض الوظائف في الحكاية الأولى:
لا نجد صعوبة، في البداية، في تعيين الوظيفة الأولى، وظيفة الابتعاد، وهي تنتهي بعد عبارة: "وباتوا عنده". أما الوظيفة الثانية فتنتهي بعد: "تضع مولودها"، والتي تناسب وظيفة الاستعلام، حيث أن الوزير يتبلّغ عن ضحيته المقبلة أخباراً، كما سنعرف ذلك بعد وقت. أما الوحدة الثالثة في التقطيع فتبدأ: "وبعد مدة ..."، وتنتهي بعد: "من هو الطفل"، وهي تناسب الوظيفة الخامسة (الإعلام)، حيث أن المعتدي يحصل على معلومات عن الضحية. أما الوحدة الرابعة فتبدأ بعد: "فعرض الوزير..."، وتنتهي بعد: "جينيه"، وهي تناسب الوظيفة السادسة، "الخديعة"، ويسعى فيها المعتدي إلى خداع الضحية والإيقاع بها. أما الوحدة الرابعة فتبدأ بعد: "فعرض الوزير..."، وتنتهي بعد: "جينيه"، وهي تناسب الوظيفة السادسة، "الخديعة"، ويسعى فيها المعتدي إلى خداع الضحية والإيقاع بها. أما الوحدة الخامسة فتقتصر على الفعل: "فقبل"، وتناسب الوظيفة السابعة، "التواطؤ"، حيث أن الضحية تساعد المعتدي من حيث لا تقصد. أما الوحدة السادسة فتبدأ بعد: "وأخذ الوزير"، وتنتهي بعد: "سمكة كبيرة"، وتناسب الوظيفة التاسعة، وتشير إلى حصول الاعتداء. أما الوحدة السابعة فتبدأ بعد: "اصطادها"، وتنتهي بعد: "أبو الطفل"، وهي تناسب الوظيفة العاشرة، وتعين بداية الردّ العكسي. أما الوحدة الثامنة فتقتصر على الجملتين: "فتح بطنها فوجد طفله"، وتشير إلى الوظيفة الحادية عشرة التي تعني في هذه الحكاية مغادرة البطل لبيته، أي السمكة. في هذه الحالة تبدأ الوحدة التاسعة بعد: "مدّة"، وتنتهي بعد: "بطريقة أخرى"، وهي تناسب الوظيفة الثانية عشرة التي تتحدث عن تعرض البطل لمواجهة ما. أما الوحدة العاشرة فتبدأ بعد: "فطلب منه"، وتنتهي عند: "وصوله"، وتناسب الوظيفة الرابعة عشرة، وتشير إلى أن الغرض السحري بات بتصرف البطل. أما الوحدة الحادية عشرة فتبدأ بعد: "فلما وصل"، وتنتهي عند: "فنام"، وتناسب الوظيفة الخامسة عشرة، وتشير إلى انتقال البطل إلى مكان وجود الغرض السحري. والوحدة الثانية عشرة، تبدأ بعد: "وأثناء نومه"، وتنتهي عند: "زوجه ابني"، وهي تعين الوظيفة السابعة عشرة إذ يتمّ إلحاق علامة بأحد الأشخاص على أنه البطل. والوحدة الثالثة عشرة تقتصر على الجملة: "فعل كبير الأمناء بذلك"، وتشير إلى الوظيفة الثامنة عشرة، أي هزيمة المعتدي. وتبدأ الوحدة الرابعة عشرة بعد: "ثم حضر"، وتنتهي عند: "مشيئة الله"، وتناسب الوظيفة الأخيرة الحادية والثلاثين، أي زواج البطل واعتلاءه للعرش، إلا أنها أتت في هذه الحكاية بالذات قبل الوظيفة الثلاثين التي ترد في نهاية هذه الحكاية، والتي تناسب الوحدة الخامسة عشرة: "ثم أمر بقتل وزيره الشرير"، وهي معاقبة المعتدي.
يمكننا بعد إجراء هذا التقطيع إبداء الملاحظات التالية:
- لا نتبيّن حقيقة كون الجنين بطلاً منذ مطلع الحكاية بل بعد عدة فقرات ووظائف، وهو ما جعلنا نعتمد، على ما أسميناه: القراءة الاسترجاعية؛
- لا يقوى البطل، طالما أنه جنين، على القيام بعدد من الوظائف، التي تنسب إلى البطل عادة في تحليل بروب، ويقوم بهذا الدور بدلاً عنه أحد أقربائه، أي والده؛
- لا نجد في هذه الحكاية غرضاً سحرياً بالمعنى الدقيق للكلمة، غير أن الرسالة وتحويلها من دور إلى آخر أشبه بالعمل السحري: كيف لا والرسالة تنقلب بقدرة قادر، أو ساحر، من إبلاغ بالقتل إلى إبلاغ بالمجد والغنى والسعادة.

الحكايات الخمس، حسب مقارنتها
تواجهنا عند مقارنة هذه الحكايات الخمس عدة مشاكل، ونتوصل عند حلها إلى ملاحظة وجود تقاربات شديدة في ما بينها واختلافات قليلة، ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنها صيغ مختلفة لحكاية واحدة. فلو أجرينا تحليلاً فنيّاً لكل حكاية منها لوجدنا أنها تشترك في الكثير بينها. ولو توقفنا أمام وظيفة الابتعاد، الأولى في تحليل بروب، لوجدنا الملك يتجوّل في أرجاء مملكته في القصة المصرية، ويخرج إلى النزهة في الحكاية العراقية، وإلى الصيد في حكاية القدس، ويتفقد أحوال الناس في الحكايتين اللبنانية واللاذقانية.
وما ننتبه إليه في هذا الأمر هو أن السرد مقتضب للغاية، يكاد يقوم على الجملة نفسها مع تغيير بسيط، هو تعيين الانتقال. وما يستوقفنا أيضاً هو أن مكان وصول الملك مختلف في كل حكاية: فهل يحلّ عند صياد فقير في الحكاية المصرية، وعند أمير قبيلة في حكاية اللاذقية، وعند فلاح في الحكاية اللبنانية، وفي كهف في حكاية القدس، وفي كوخ في الحكاية العراقية. إلا أن الحكاية اللبنانية هي التي تشير وحدها من دون غيرها إلى أن الملك يتخفى في لباس درويش.
وهذا ما نقع عليه أيضاً في وظيفة الاعتداء، أي الوظيفة التاسعة في تحليل بروب، إذ يتضح لنا أنها شديدة التقارب، وتكاد تكون واحدة في أربع من هذه الحكايات الخمس: يتم إلقاء المولود في البحر (في الحكايات المصرية والعراقية واللاذقانية)، وفي النهر (في الحكايتين اللبنانية والفلسطينية). وتختلف الحكاية العراقية عن غيرها في أنها تشير إلى طعن الوليد بخنجر، وهو ما لا نلقاه في الحكايات الأخرى. وما يجوز ملاحظته في وظيفة الاعتداء هو أن إلحاق السوء بالوليد متعدد الأوجه: فهو مطعون بخنجر، أو تأكله السمكة، أو مرميّ في الماء من دون عون، وهو أقصى ما يمكن أن يتعرض له مولود، عدا القتل طبعاً. غير أنه اعتداء قابل لإمكان التخلص منه، حتى لو أكلته السمكة.
يمكننا أن نستمر في مقارنة الوظائف، وهي لا تقوم لنا جديداً في هذا الأمر، إلا في بعض الحكايات، مثل حكاية اللاذقية على سبيل المثال، التي تبدو أشد تركيباً من غيرها، أو مثل الحكاية اللبنانية التي تبدو "مكتوبة" أكثر من غيرها. ففي الحكاية المصرية نتحقق من أنها تكتفي بالجدّ الأدنى من الوظائف من دون سردٍ تفصيلي لكلّ وظيفة منها، وهو ما انتبهنا إليه عند تحليلها حيث أن وظيفة التواطؤ تقوم على لفظ واحد: وهو "قَبِل". أما الحكاية اللبنانية فيبدو أن كاتباً أعمل يده في تدوينها، إذ ننتبه، على سبيل المثال، إلى وجود فقرات سرديّة مستفيضة في الشرح، مثل التفاصيل عند عرض وظيفة الاعتداء.
ونتحقق في هذا المجال من أن الحكاية الساحرة، بخلاف غيرها من مواد "الأدب الشعبي"، تتسم بالقصر - بل بالقصر الشديد - إذا قورنت بالحكايات الساحرة الروسية التي درسها بروب. وهذا يعود إلى خصوصية واقعة في الحكايات التي أدرسها: لا تحتمل المواجهات المتكررة، أو مشاركة قوى الجن والسحر، أو تدخلََّ شخصيات أخرى، مثل الواهب أو عدد من أفراد عائلة الضحية. ذلك أنها تدور حول مولود، لا يقوى على مواجهة أعدائه على الأقل في الطور الأول من مسار الحكايات، حين يقع الاعتداء عليه. إلا أن السبب الأساسي يعود إلى خصيصة وهي أن الحكايات الخمس تدور حول تحقق رسالة الغيب.

الحكايات بين أص(و)لها ونسخها
أخضعتُ الحكايات الخمس لقراءة وفق طريقة بروب المعروفة، غافلاً عن كون هذه الحكايات قد مثلت أمام أنظارنا وفق هيئة لفظية معنية، هي ما أسميه: "المثول النصّي". كما أغفلت كذلك عن كون هذا المثول قد عرض لأنظاري بعد أن عمل أحد جامعي الحكايات، أو الدارسين، على جمعها وتدوينها، وربما كتابتها بعد تدوينها وتسجيلها. لكنني انتبهت، في الوقت عينه، إلى أن الحكايات، بعيداً عن اختلافات بيئة في هيئاتها اللفظية، تشترك فيما بينها بمعطيات حكائية، ما يجعلني أتساءل عن أسبابها: أهي حكايات ذات أصل واحد وصيغٍ لفظية مختلفة أم هي حكايات متقاربة أو متشابهة وحسب؟
كنت قد توقفت، في دراسة سابقة، عند هذه الظواهر، وخلصت، عند دراستها، إلى أن "الأصل" واحد، وإن كانت تجد هذه الحكايات، أو "أصلها"، شبهاً لها في ثقافات وبيئات أخرى، غير عربية(7).
إن ما ألاحظه، عند مقارنتي لهذه الحكايات الخمس، هو قرابتها الشديدة بعضها من بعض. هذا ما أنتبه إليه في الوظائف التي تكاد تكون هي نفسها بين حكايات وأخرى: عدد من الوظائف لا يرد أبداً في هذه الحكايات الخمس، مثل الاستعلام، ومعارك البطل المزور، فيما يرد عدد آخر من الوظائف في صورة واحدة في الحكايات الخمس، مثل الاستعلام والإعلام والخديعة والتواطؤ... كما ألاحظ من جهة ثانية – وهذا هو الأمر الأهم في حسابي النقدي – أن الوظائف تمتاز في غالب الأحيان بـ"الحشو" الحكائي نفسه. فشكل التعرض أو الإساءة إلى الضحية هو عينه، أي رميه في النهر أو في البحر. والغرض السحري، أي الرسالة، هو نفسه أيضاً بين حكاية وأخرى. كما أن الردّ أو مواجهة المعتدي تتمّ في هذه الحكايات وفق الطريقة نفسها، وهي تبديل محتوى الرسالة. إن هذه الملاحظات وغيرها تدل على أن هذه الحكايات الخمس ليست سوى نسخ متقاربة، وقد تكون كل واحدة منها نسخة محوّرة عن الأخرى، ما يشير إلى انتقالها الشفوي وتحولها بالتالي من بيئة إلى أخرى.
إن انتباهي لهذه الأمور، التي تدخل في تركيب مواد هذا الأدب، والتي تعيّن طبيعته وشكلها، يساعد على دراسة كل حكاية وفق سبيلين:
- السبيل الأول هو دراسة الصيغة النصية، من خلال ألفاظها وعباراتها كما هي مدوّنة ومحفوظة، وهو ما أسميه: دراسة "الصيغة" النصيّة؛
- السبيل الثاني هو قراءة الصيغة النصيّة لاستكشاف شيء من أصلها، من نصّها المفقود، بالانتباه إلى مناخها الاعتقادي بشكل خاص، وإلى ما يدل على تكوّنها وصدورها في بلدٍ أو آخر، في فترة أو أخرى، وهو ما أسميه: دراسة "الأصل" النصي.

سبيل دراسة الحكاية كصيغة نصية
قد لا نتوفّق دائماً بمواد تساعد على دراسة الصيغة النصية، فنحن نقع على حكايات شعبية في بعض الكتب العربية من دون أن نتبيّن شيئاً عن عملية جمعها: من قام بالجمع؟ عمّا أخذها؟ في أي ظروف؟ إلا أنني أقع في كتب أخرى على مثل هذه المعلومات: الحكاية المصرية جمعها أحمد أبو زيد في إحدى قرى مصر، وحكاية القدس دونها عمر عبد الرحمن الساريسي عن الحج أحمد حسن ابراهيم، وهو من إحدى القرى في قضاء القدس، وقد دوّنها عن لسانه في عمان في 15/11/1971، فيما لا أمتلك معلومات عن الحكايات الأخرى.
والجمع في هذه الحالات يعني اللفظ، سواء أكان ذلك في صيغة تدوينية أي كتابية، أو في صيغة تسجيلية، أي سماعية (مرفقة بالصورة في بعض الأحيان). إن هذه المعلومات تساعد طبعاً في التعرّف على النسخة كما وصلت، أي كما صاغها هذا الحكواتي أو ذاك، في هذه الجماعة أو تلك. واللافت في أمر الجمع هو أن الجامعين العرب اتخذوا في هذا الشأن سبيلين مختلفين:
- سبيل الحفظ، كما وردت الحكاية على لسان الحكواتي؛
- سبيل التدوين، وهو إعادة صياغة لهذه الحكاية، بالعربية وليس بالعاميّة، كما هو عليه الحال في عملية التسجيل.
إن السبيل الثاني يثير عدداً من المشاكل المنهجية في القراءة النقدية، حيث علينا أن ننتبه إلى واضعٍ جديد للحكاية غير الحكواتي، هو الجامع المؤلف لها. فنحن نعلم أن ما يقوله عدد من الباحثين في شكل ملاحظات حول نقلهم لهذه الحكايات من العامية إلى العربية الميسّرة، كما يقول بعضهم، يعني في واقع الأمر إعادة كتابة الحكاية، طالما أن لغتها العامية استبدلت بألفاظ وتراكيب أخرى.
فلو عدت إلى الحكايات الخمس لوجدت عدداً واسعاً من الألفاظ يدل على أنها تنتسب إلى القرنين الماضيين: في الحكاية المصرية نتحدث عن عملة، هي الجنيه، لم تُعرف في مصر قبل الاحتلال الانكليزي. وفي حكاية القدس نتحدث عن مدينة واقعة شرقيّ الأردن، وهو أمر لم يُعرف قبل التسميات الجغرافية في العقود الأخيرة. كما تتحدث الحكاية اللبنانية عن "عُمّال"، وفق معنى مُستحدث في العربية لا يشير إلى ممثل الخليفة أو الملك بل إلى فئة اجتماعية "تبيع" قوة عملها، وهي فئة معروفة في تاريخ البشرية مع الثورة الصناعية. يمكنني أن أذهب أبعد من ذلك في تاريخ النسخة فأميّز بين الملك والوالي، أو أن أشير في إحدى القصص في كونه ضابطاً في الجيش، أو إلى الحديث عن "البشارة" على أنها دالة على ميلاد ولدٍ بعينه كما هو معروف في الكتابات الدينية المسيحية.
ونحن ننتبه في الحكاية الأولى إلى أن اللفظ "مدة" يعني فترتين زمنيتين غير متساويتين: في السطر الثالث من هذه النسخة المطبوعة يشير اللفظ "مدّة" إلى فترة قصيرة زمنياً تنقضي في الليلة الواحدة، أما في السطر العاشر فنجد أن اللفظ عينه يشير إلى فترة زمنية أكبر تتعدّى اليوم الواحد، في أقل تقدير. فكيف لي أن أجعل من هذا اللفظ مؤشراً مساعداً في النظر إلى المقومات الزمنية للحكاية؟ يمكنني أيضاً أن أنتبه إلى أن هذه النسخة تشير إلى الطفل على أنه "ولد" في جملة، و"صبي" في جملة أخرى، من دون أن أتعرف تماماً على عمره، ثم تفيدني الحكاية في ختامها إلى أنه تزوّج إبنة الملك.
يمكنني أن أعدّد الأمثلة التي تُظهر الطبيعة المتفاوتة للبنية اللفظية في كل حكاية: الحكاية كما هي مدوّنة تشتمل على ألفاظ جديدة استُعملت للحديث عن معانٍ وحكايات مأخوذة، على الأرجح، من متون قديمة. فالحكاية بانتقالها بين الألسن والجماعات تتبدّل في ألفاظها، بل تتخذ بانتقالاتها هذه لُبوسات لفظية تناسبها في بيئتها الجديدة التي حلّت فيها. فنحن أمام نموذج أصلي يتمّ تملّكه في كل مرّة ضمن الجماعة، فتصبح الحكاية دائرة على سبيل المثال في مدينة الكرك، كما يصبح والد البطل شيخ قبيلة، أي عربي المنشأ. إلى هذا فإن الحكاية تتحوّل وتتغيّر ضمن البيئة الواحدة والجماعة الواحدة لا بل العائلة وأخرى. فكيف إذا انتقلت عبر القرون!؟
يذهب الباحثون مذاهب شتّى في تفسير ظواهر التقارب والتخالف بين الحكايات الساحرة: البعض منهم يقرّ بوجود أصل واحد لهذه الحكايات المتقاربة، إذ يلاحظ ديرلاين، على سبيل المثال، وجود تقارب شديد بين حكايات الشعوب البلقانية والرومانية والمجرية وبين ملحمة "جلجامش"، بل بينها وبين حكاية الأخوين المصرية (8). بل يعتقد هذا الباحث أن حكاية "الصدق والكذب" المصرية "تسرَّبت" إلى الحكايات الهندية وحكايات "ألف ليلة وليلة"، كما أنها رويت في جنوب أوروبا وجنوب شرقها عدة روايات شديدة الشبه بهذه الحكاية المصرية (9).
ويعتقد عدد آخر من الباحثين بأن الحكايات تتمثل مقاصد مختلفة تتطلبها النفس الإنسانية مثل السلطة والمال والسعادة والخلود وغيرها، وهو ما يفسر تقاربها: الباحث فراس حواس يرى بأن التقارب بين شخصيتي جلجامش وهرقل، يعود إلى كونهما يسعيان، هما المتقاربان في صفاتهما الجسدية والنفسية وفي مكانتهما الملكية، إلى الخلود (10).
والحديث عن "جذور" هذه الحكايات أو أصولها يبقى في حدود الافتراضات والتقديرات ليس إلا، لغياب معطيات دالّة أو مرجحة في التثبت من الأصول الحكائية المختلفة. غير أن حيطتنا هذه تقل بل تنعدم حين نقع على حكايات مماثلة للتي ندرسها، ونستطيع الحديث بيسر عن عمليات "التملك" التي تصيب الحكايات المتقاربة ، بل الحكاية الواحدة ذات الضيغ أو النسخ المتعددة .
إن تملك الحكاية في صورة دائمة، أي صياغتها بطرق مختلفة، يقدم صيغاً متفاوتة الأصول والمصادر؛ فقد تحتفظ نسخة بألفظٍ سابقة دون أخرى، وقد تزيد عليها، إلى غير ذلك من عمليات التملك وظواهره وأحواله.
لهذا نرى أن معرفتنا بتاريخ الصيغة تبقى معرفة محدودة، لا كاملة في جميع الأحوال. فنحن نقع في الحكايات الخمس على ألفاظ تعود إلى ما قبل هذه المرحلة. ولهذا أتحدث عن التملك، وعن الصياغة المستمرة لهذه الحكايات، على أن عناصر الثبات والاستمرار والديمومة هي الأبقى فيها. لهذا يستحسن الحديث عن التملك، ويعني في هذه الحالة إنزال الحكاية، التي يتم نقلها، في لُبوسات محلية مناسبة، تطاول أسماء الأشخاص وصفاتهم وأمكنة حدوث الحكاية.
ونحن إذ نتحدث عن الألفاظ في هذه الحكايات فإننا لا نشير فقط إلى الكلمات، وإنما أيضاً إلى العبارات والجمل، وإلى الحشو السردي كذلك. ولا يبدو صعباً في هذه الحالة الانتباه إلى كون النسختين اللبنانية والقدسية هما اللتان تتسمان بقدر أوسع في الصياغة الأدبية، ما يشير إلى تدخل بيّن لجامع هاتين الحكايتين في تراكيبهما. ففي غير مكان من هاتين الحكايتين ننتبه إلى أن الكلام يتسم بدقة في الوصف: ففي الحكاية اللبنانية يتضح الغرض من الحكايتين ننتبه إلى أن الكلام يتسم بدقة في الوصف: ففي الحكاية اللبنانية يتضح الغرض من تخفي الملك، أو نجد الكلام يشير إلى أن بيت الفلاح صغير، وإلى أن يد المرأة هي التي تحمل الطفل؛ وهذا ما نراه في صورة خاصة في السرد القصصي الذي يشير إلى حال الطفل بعد وقوعه في النهر.
يمكنني أن أعدد الأمثلة، وهي تشير على أي حال إلى صياغات أدبية بعينها لا نلقاها عادة في هذه الحكايات فيما لو استمعنا إليها في المقاهي والسهرات، من قبل "حكواتية" لا يتقنون فنون الصياغة هذه، بل يعملون على تراكيب أخرى متكررة مثل: "فالتقى البطلان كأنهما جبلان" وغيرها من العبارات المكرورة. إن هذا الأمر يدعو إلى التحقق من النسخة، وهو سبيل نقدي صعب إذ أننا لا نستطيع الجزم دائماً، ولا التمييز الحاسم في كل مرة، بين ما يعود إلى الجامع الحكائي وإلى تدخلاته الصياغية، وبين ما يعود إلى الحكواتي أو الشخص الذي جرى نقل الحكابة عنه. إن التنبّه إلى هذه المميزات الصياغية في الحكاية يمكننا من التعرف على عملية التملك التي تصيب كل حكاية وتجددها في آن.

سبيل دراسة الحكاية كأصل نصّي
قلت إنه من المستحيل التوصل إلى أصل الحكايات هذه، أي إلى نصوصها الأولى، غير أنني أستطيع بالمقابل الانتباه إلى عدد من الأمور الداخلة في موادها، والدالة بالتالي على شيء منها. فنحن حين ندرس هذه الحكايات الخمس نجد أنها واحدة في نهاية المطاف، ولو أنها تندرج في ظروف وملابسات وشخوص وأوضاع وبلدان مختلفة. غير أنني أنتيه، عند استعراض وظائف هذه الحكايات وعناصرها، إلى أنها تشتمل على وضعية اعتقادية متداخلة، إذا جاز التعبير. فالحكايات تعكس - مثل مرآة - معتقدات ناطقيها ومستمعيها، وإلا لانعدمت وظيفة التواصل بين الحكواتي وجمهوره، وهي وظيفة تسلية وإفادة في آن. ونحن نلاحظ، إذا تتبعنا هذه الحكايات، أنها تشتمل على نسقين اعاتقاديين:
- نسق اعتقادي سحري ونراه متحققاً في الحكايتين المصرية والعراقية، إذ أن الطفل يبقى على قيد الحياة على الرغم من ابتلاع السمكة له، والغزالة تنقذ الطفل من النهر وترضعه، وهما أمران لا يقبلان للتصديق؛
- نسق اعتقادي قدري متمثل في الحكايات الثلاث المتبقية، وهو نسق يتحدث عن نبؤة أو عن رسالة من الغيب، أو عن تفسير المنجمين والسحرة وتوقعاتهم لها، إلا أن مجموع هذه الأحداث يبقى معقولاً وقابلاً للتصديق، ولا يختلف في بعضه عمّا نجده في الكتب القديمة أو قصص السالفين.
إن هذين النسقين يشيران إلى زمنين اعتقاديين مختلفين: زمن الخوارق والأحداث العجيبة، وزمن الاعتقاد بوجود معانٍ مديرة لحياة البشر، أي زمن الأسطورة وزمن الدين.
إن هذا الكلام لا يعني أن الحكايتين المصرية والعراقية أقدم من الثلاث الأخرى، بل يعني أنهما تشتملان على عناصر أقدم من عناصر الحكايات الأخرى، أو على احتفاظ هاتين الحكايتين بمبنى فني هو أقرب إلى المبنى الفني الخاص بالأصل. إن هذا يدعو إلى الحيطة دائماً في تأريخ الحكاية، وفي التعرّف على أصلها أو على نصّها. فمثل هذه الملاحظات والتدقيقات والترجيحات، التي أتوصل إليها وأسندها بعدد من الدعائم والتقديرات، لا تعدو كونها حالة وحسب، أو نسخة، من تاريخ، ومن حكاية، فقدنا أصلها أو ضاع في غياهب الزمن، أو تحوّل في صورة متمادية مع عمليات التملك التي أصابته.
إن هذه الحكايات الخمس تتحدث عن معتقدات قديمة في تاريخ الشعوب، كما تشير إلى حكايات وأساطير ورموز عرفتها في تواريخ قديمة مختلفة، وهي القول برسالة الغيب أو بالنبؤة أو بمشيئة القدر أو بما قالت به الكتب الدينية: مجيء صبي من الشعب لإنقاذ أمّته. وفي هذه الحكايات نتبين أن البطل يتوصل في حركة واحدة إلى الفوز بمقاصد ثلاثة نجدها في قيم "الأدب الشعبي"، وهي: السلطة، السعادة والمال.
واللافت في أمر الفوز أن البطل يكاد لا يفعل شيئاً من أجل الحصول عليها: هو مرشح الملك قبل أن يلد، ويفوز به من دون أن تصدر عنه أي حركة مساعدة، وهو في بعض الحكايات يكون نائماً حين يفوز بالمُلك. إننا نستطيع أن نرى في هذا المضمار، من الفقر إلى الثروة، ومن التعاسة إلى السعادة، ومن القهر إلى القوة، مساراً نفسياً تتوصل الشخصيات (البطل وعائلته تحديداً) من خلاله إلى تغيير مصيرها، إلى كسر القاعدة وإلى خرق التقاليد من دون أن ترفع شيئاً أو تبدّل قوة أو تحتال. مسار هو أشبه بالأمنية الصادرة عن مكبوتات فئات شعبية وعن تطلعاتها. وفي ذلك تبدو لنا الحكاية الشعبية أشبه بالمرآة التي تعكس وجدانهم من دون أن تعرّضهم لأي خطر، ومن دون أن تدعوهم إلى القيام بأي حركة.

المرونة البنائية في الحكايات وغيرها
أقمتُ التمييز بين "الصيغة" و"النصّ"، لكنني أعتبر كل صيغة نصاً، طالما أنها تمثل كذلك في هيئات طباعية، وإن لم تكن محققة أبداً، أو خاضعة لمقارنة بين نسخها المختلفة (في حال توافرها). ولا يتيح هذا التقاربَ المتخالف فقدانُ "أصول" هذه الحكايات، إذ أن الأصل الواحد قد يكون متعدداً، عدا أن وجود "أصل" ما، أو العثور عليه، لا يلغي أساس هذا التداخل في مباني الحكايات الساحرة وغيرها، وهو ما أطلق عليه تسمية: المرونة البنائية.
هذا ما تحققت منه عند دراسة الحكايات الخمس، إذ بدا أن إمكان التوالد أو التعدد (انطلاقاً من أصل أو أكثر)، ضمن الحكاية الواحدة، ناشئ من مبنى الحكاية نفسه، أو عن لبوس "الوظيفة" الواحدة هيئات مختلفة ومتعددة. وهو ما أتأكد منه – طلباً للدرس والتوسع في العرض والبرهنة – في ميدان آخر من ميادين "الأدب الشعبي"، هو سير البطولة العربية، وفي تغريبة بني هلال تحديداً، التي توقفت فيها عند الفصل السادس، وفي مقطع "الأمير دياب في الأسر" (11).
لا يسعني أمام هذه المدونة، وفي محاولة تقطيعها، أن أقيم الاعتبار للتوزيع الطباعي، ذلك أنه غير مناسب على ما سأتحقق. كما لا أستطيع أن أعتمد في صورة كليّة على نظام بروب، فهو لا يفي بالغرض تماماً: قد أجد بعض الوظائف متكرراً في هذا الفصل، كما في نظام بروب، وأحياناً في أمكنتها ذاتها في ترتيب الوظائف العامة، إلا أن هذه القربى تبقى محدودة. ووجب الانتباه بالأساس إلى أننا لسنا أمام حكاية قصيرة بل أمام سيرة طويلة، أي أن لهذه السيرة ترتيباً خصوصياً، وعلينا أن نتبيّنه بالتالي. عمَّ تحكي تغريبة بني هلال؟
تتحدث هذه التغريبة عن انتقال قبيلة عربية من اليمن، واتجاهها غرباً صوب تونس الحالية، وتواجه في انتقالها قبائل وممالك، وتخوض حروباً ومعارك متتالية، قبل أن تصل إلى خاتمة وصولها السعيدة. إن هذه السيرة تقوم، إذن، على مبنى حكائي عام يمكن أن أرمز إليه بالشكل التالي:
1: وصف الحال، وهو يعيّن في السيرة حال هذه القبيلة وحاجتها إلى الانتقال، وهو بمثابة الطور الأول من هذه السيرة؛
2: يعيّن مجمل السيرة بفصولها كلّها ما عدا خاتمتها، ويمكن أن نشير إليه بالانتقال–المواجهة؛ ونستطيع طبعاً أن نفصل هذا الطور الثاني وفق الشكل التالي:
2- أ: وصف الحال، ويشير هذا المقطع دائماً إلى تواجد هذه القبيلة في منطقة جديدة في تنقلّها، كانتقالهم من حماه إلى حلب؛
2- ب: سبب المواجهة، وقد يرد في كل محطات الانتقال وقد لا يرد؛ ويشير إلى رفض قبيلة بني هلال دفع الضريبة إلى حاكم المدينة أو إلى أمير القبيلة حيث أقاموا مضاربهم؛
2- ج: الحرب، وتشتمل على مواجهة واحدة أو أكثر تبعاً لضخامة الحرب، وقد يشترك فيها فارسان أو أكثر، أو جيشان؛ وقد تصل هذه المواجهات والمعارك إلى إيقاع الأذى في الخصم أو قتله، على ما أرى في الفصل الذي أدرسه؛ وأدوات المواجهة عديدة تتنوع من الأسلحة إلى الذكاء والحيلة وصولاً إلى قوى السحر والغيب وشفاعة الله أحياناً؛
2- د: الفوز، ويتم إثر كل معركة، وقد لا يفوز به دائماً أبطال بني هلال بدليل أن أخصامها ينجحون في إلقاء القبض على الأمير دياب؛ غير أن النصر النهائي في كل الحروب أو في خاتمتها يتحقق لبني هلال، ولفارسها الأول بالخصوص، أي أبي زيد؛
3: الطور الثالث هو نهاية السيرة، أي وصول بني هلال إلى مقصد رحلتهم، وإلى نهاية بطل هذه السيرة وموته؛ وعلينا أن ننتبه إلى هذه الخاتمة الغنية بمعناها: ينجحون في نهاية السيرة بقتل أبي زيد، إلا أنه يتوصّل إلى إبلاغ عائلته عن قتله، ما يشكل ولو مع موته إنتصاراً له.
إننا نستخلص من هذه البنية الحكائية الثلاثية نظاماً فنياً عاماً سنجده في مجمل السيرة كما ذكرته عند الحديث عن الطور الثاني: فقد ترد الذريعة وقد لا ترد، وقد يفوز أبو زيد أحياناً في واحدة من المعارك وقد لا يفوز فيها...
لهذا يمكن أن أقسم هذه السيرة في مبناها العام إلى ثلاثة أطوار أو أقسام، وأن أقسّم طورها الثاني إلى عدة أجزاء، على أن لا يكون الجزء فيها معيّناً بالفصول أو بالتوقعات الطبيعية وإنما بانتقال القبيلة من محطة إلى أخرى، أي من موضع إلى آخر في تغريبتهم. ولهذا نقول إنه كان بمقدورنا أن نقسّم الفصل المدروس قسمة أخرى.
وإذا كان لي أن أرى تقطيعاً فنيّاً للفصل الثالث في التغريبة فإنني أنتبه إلى كونه يشترك – فيما لو أردنا – بعدد من الوظائف كما حددها بروب: هذا يصحّ في الوظيفة الأولى، وصف الحال، أو في الوظيفة الثانية، وظيفة المنع، حيث يتم غالباً إبلاغ بني هلال منعاً ما، وهو منع دخولهم إلى أرض ما، ومن دفع الضريبة، كما أرى ذلك في مطلع هذا الفصل: يمكن أن أعدد هذه الوظائف في الفصل المدروس، إلا أنني في ذلك قريب فعلاً من تقطيعات هذا الفصل ومن وحداته وتفاصيله.
إذن، لو توقفت أمام هذا الفصل كنصّ تام خاضع للتقطيع، لوجدت أنه ينقسم إلى سبعة مقاطع هي التالية:
- وصف الحال، وينتهي هذا المقطع بعد: "ما يملكون"؛
- مواجهة أولى، وينتهي هذا المقطع بعد: "جناحها"؛
- مواجهة ختامية، مؤدية إلى انتصار بني هلال، وينتهي المقطع بعد: "المسارات"؛
- وصف حال، وينتهي بعد: "الخلان"، ويعين لنا انتقال بني هلال إلى مدينة حماه،
- المكيدة، ووقوع الأمير دياب في الأسر، وينتهي المقطع بعد: "بتعذيبه"،
- إنقاذ أبي زيد للأمير دياب، وينتهي المقطع بعد: "ونجاحه"، وفيه مواجهات متعددة،
- مواجهة ختامية، وينتهي هذا المقطع في نهاية الفصل، ويكون لنا أن نقسمه أيضاً إلى عدة فقرات كما في المقطع السابق.
إن درس هذه المادة وغيرها يُظهر كون هذا الأدب يتسم بمرونة بنائية. هذا يصح في الحكاية الساحرة كما في سير البطولة. فنحن أمام هذه المواد نتحقق من أنها تقوم غالباً، كما في تغريبة بني هلال، على أصل بنائي أو تكويني، وتتفرع منه وحدات متشابهة البنية، ومتمتعة بمرونة داخلية في كل وحدة منها.

التحقق النقدي من الأصول
يصرف طلال حرب، في كتابة "بنية السيرة الشعبية وخطابها الملحمي في عصر الماليك"، الفقرة الأخيرة من الفصل الأخير في كتابه لدراسة ما يسميه "هوية اللغة في السير الشعبية"، وذلك في 26 صفحة. ويتوقف في هذه الفقرة أمام ظواهر مختلفة في السير، منها اقتران الشعر بالنثر في السيرة، أو اشتمال المتون النثرية والشعرية على مواد مستقاة من النصوص القديمة (مثل شعر عنترة وغيره)، وإن بتحريف؛ أو على مواد مزيدة، أي منسوبة إلى كتاب ومدونات قديمة، فيما هي موضوعة من قبل الرواة الشعبيين.
لكن حرب لا يجد ضرورة في دراسته للوقوف على حقيقة السير التي عمل عليها، ولا للتحقق النقدي منها، أي من كيفيات "وصولــ"ها إلينا، وثبوتها فوق طاولة الدرس والتحليل مثل نصوص "أكيدة" و"نهائية" في صورة ما، مثل نصوص الجاحظ أو المتنبي أو نجيب محفوظ. ولو عدت إلى قائمة المصادر والمراجع التي عاد إليها الدارس في كتابه، لوجدت أنه يذكر عدداً من السير الشعبية العربية، مثل "ألف ليلة وليلة" و"تغريبة بني هلال" و"الزير سالم أبو ليلى المهلهل" و""سيرة الأميرة ذات الهمة" و"سيرة بني هلال" وغيرها الكثير، من دون أن يرد في المعلومات عنها ما يفيد عن سنوات طبعها، أو عن جامعيها أو محققيها أو معديها. فنجد إلى جانب الصفة "مجهول" (أي أنها سير مجهولة المؤلف) صفة أخرى، هي: ل. ت.، أي لا تاريخ لها، ولا لطبعها. فكيف يعمل الدراس على مدونات، ويطلب منها تأريخاً أو يسعى إلى تأويلها، من دون التثبيت من أوصولها؟
ينطلق حرب في "مدخل" كتابه من مسلمة لا يرقى إليها الشك (في حسابه): "لا شك في أن السير الشعبية عُرفت قبل العصر الملوكي، لكنها اكتملت فيه" (12)، ثم يتوسع بعد هذا في عرض قيام دولة الماليك، على أن الصلة لازمة بين السيرة و العصر. وهو ما يفعله في الفصل الأول كذلك إذ ينطلق مباشرة في تحليل "بنية" السيرة، من دون التوقف عند طبيعة المدونة نفسها، أي من دون التثبت منها، فلا يجد ضرورة لإثبات ما يؤكده منذ الجملة الأولى في هذا الفصل: "تبدأ السيرة الشعبية عادة بمقدمة تمهيدية تختزل رسالة السيرة وتوضح أبعادها وتحدد المسار الذي ستسلكه" (13).
وهو ما يجريه على "شخصيات" السيرة كذلك، إذ ينسبها إلى صفات (الأشرار، البطل...)، أو إلى أنماط (المرأة الزوجة، الإبنة، والفارسة، والساحرة وغيرها)، من دون أن يمتحن هذه الصفات والأنماط، إذ يقرر منذ الجملة الأولى في الفصل الثاني: "البطل محور السيرة وركنها الأساسي، أسمه عنوانها، وحياته مجالها، وموته نهايتها ومحط رحالها" (14).
وهي أعراض مختلفة في دروس السيرة الشعبية لا تختص بعمل حرب نفسه، بل بغيره من الدارسين كذلك، وتقوم على ربط غير جليّ الأسباب بين التاريخ والمعتقد من خلال السير الشعبية. وهو ربطٌ لا يعبأ بالمدونة التي يعمل عليها، ولا بنصوصها الماثلة أمام أعين الدارس، كما لو أن هذا الأخير يرى إلى السير الشعبية بعينين "غواصتين" (لو شئت التصوير والتمثيل)، أي ينظرات تخترق ركامية النص الماثل للدرس (تعاقب العصور والرواة والنساخين والطباعين عليه)، وتصل إلى ما هو قديم وثابت وغير متغير فيه. كما نجد بعض الدارسين يميزون أحياناً في السير بين "الروح" و"الشكل"، أو بين "محتواها" القابل للتغير وبين "شكلها" الفني الثابت عبر العصور... وهي تمييزات صحيحة في بعضها أو كلها، إلا أنها تفتقر إلى ما يثبتها، سواء من ناحية المعلومات الموثقة عن أصول السير، أو من ناحية المدونات المتوافرة والمتعاقبة عن بعض هذه السير (بحيث تسهل عمليات المقارنة بينها).
فلم أقع – في حدود ما أعرفه ووصلتُ إليه في هذا النطاق من الدراسات – على تحقيقات نقدية لواحدة أو أكثر من هذه السير الشعبية، فيما خلا عمل الدارس محسن مهدي المتميز عن أصول "ألف ليلة وليلة"، أو دراسة محمد حسن الزيات عنها في ثلاثينيات هذا القرن (القرن العشرين). ولا أقول إن إجراء مثل هذه التحقيقات أمر ميسر، ويتنكب عنه الدارسون، ذلك أن المخطوطات قليلة للغاية في هذا المجال، إلا أنها ليست معدومة بالمقابل: قد لا يتوفق الدارس بمخطوطات عديدة عن هذه السيرة أو تلك، أو قد لا يجد عنها سوى النسخة المطبوعة في بيروت أو القاهرة، إلا أن هذه المدونات – على قلتها – تبقى مفيدة لتوفير تاريخية ما، وإن محدودة، للسير الشعبية العربية، عدا أنها – وهذا هو الأهم – تُدخلها في نطاق الدراسة النصيّة، مثلها مثل غيرها من النصوص.
السيرة الشعبية تمثل أمام أعين دارسين عديدين، اليوم، من دون لغة، من دون جمل، ومن دون بناء، كما لو أن الدراسة اللسانية، في إجرائياتها المختلفة، تتوقف أمام عتبة السيرة الشعبية، وتتخلى عن توصلاتها المنهجية والتطبيقية، وتعود بدراسة النصوص، أياً كانت، إلى ما كانت عليه التأويلات التبسيطية في القرون الماضية!
هكذا يتوقف الدارس حرب في كتابه عند ظواهر لغوية وأدبية في السيرة، إلا أنها وقفة أخيرة ومحدودة في آن، لما يمكن أن تستدعيه قراءة لغوية أو نصيّة، للسيرة الشعبية. وطلال حرب في مسعاه لا يختلف عما سعى إليه دارسون غربيون وعرب قبله، أي إخضاع السير الشعبية إلى معالجات تستند إلى تأويلات ذات أساسين، منفصلين أو متكافلين، نفسي وتاريخي.
ففي المسعى النفسي يسعى الدارس، مثلما جرى الأمر على قصص "ألف ليلة وليلة"، هنا وهناك، إلى تدبير تفسير سردي يستقي أسانيده من "صفات" الشخصيات على أنها صفات ثابتة؛ أو يعمل على نسب الأقوال والأفعال في القصص الشعبي إلى معتقدات أو سلوكات أو مضمرات، وإلى تعيينات رمزية وأسطورية وخلافها. وهو ما يُبقي دراسة القصص الشعبي متصلة، وإن يتخفف، مع ما كانت بدأت به في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي القراءة ذات النسق "الفولكوري".
في المسعى التاريخي يسعى الدارس إلى إقامة توافقات أو معالم ارتباط بين بعض القصص الشعبي وبين عهود تاريخية مناسبة لها، وهو ما أجراه البعض، هنا وهناك، على "ألف ليلة وليلة"، أو على "الظاهر بيبرس" (مثلما فعل الفرنسيون جان – باتريك غيوم وجورج بوهاس في ترجمتهما الفرنسية المتتابعة لها)، أو على سير العهد المملوكي (مثلما يفعل حرب في كتابه هذا).
وتبقى قليلةً في هذه المساعي محاولات مثل التي أجراها الدارس المغربي سعيد يقطين في كتابين لافتين أخيرين (15)، سعى فيهما إلى تجريب بعض المساعي اللسانية في قراءة السرد الشعبي. مثلما تبقى قليلة كذلك المساعي العربية لتطبيق التوصلات التي نجح في "تنميطها" في مطالع القرن العشرين الدارس الروسي فلاديمير بروب على "الحكاية الساحرة" (أو العجيبة).
لهذا أقول إن دراسات "الأدب الشعبي" خرجت مما كانت عليه، أي التفسير "الفولكلوري" أو الأسطوري أو الرمزي لها، بالإضافة إلى توفقات بعض الدارسين العرب في تجميع مواد عديدة منه على ألسنة الرواة. إلا أن هذه الدراسات لم تتخلص تماماً من أسباب هذا العهد القديم، ولم تتوصل إلى تدبير قراءة نصية ولغوية لمواد هذا الأدب، أو لعلاقاته المركبة بين السرد المحكي والتدوين "التملكي" والمتتابع له، وما يجعله بالتالي فرعاً من فروع الأدب، ونصوصاً مثل غيرها في دراسات اللغات الأدبية.

التأكد من المخطوطات
ما عرفت العربية كتاباً شغل النقاد والدارسين مثل "ألف ليلة وليلة"، ولا ينقضي عام من دون أن نعرف جديداً عنه، دراسة أو ترجمة. هذا يصحّ في فرنسا خصوصاً، إذ عرفت في السنوات الأخيرة ترجمات عديدة لهذا الكتاب (اندريه خوام، اندريه ميكيل وجمال الدين ينشيخ...)، ودراسات لافتة عنه، بالإضافة إلى حلقة دراسية نظمتها مجموعة البحث "أمام" (AMAM)، في جامعة تولوز-لاميراي، وجمعت دراساتها في كتاب صدر قبل سنوات قليلة (16). أما ما يصح في القاهرة فمختلف، وحمل جديداً عن طبيعة هذا الكتاب التكوينية: أعادت "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، في سلسلة "الذخائر"، نشر الطبعة المعروفة بطبعة كلكوتا، وفق طبعتها القديمة في العام 1838 (17)، كما نشرت "دار الخيال" كتاباً حمل الجديد عن تكوين النص، وهو كتاب "ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية" (18). فماذا عن هذين الإصدارين؟
إن إعادة نشر طبعة كلكوتا مفيدة طبعاً، لأن هذه الطبعة ما عادت متوافرة في الأسواق، إلا أن تقديمها إلى القارئ لم يسلم من التباسات طاولت مدى صحة هذه الطبعة، ومدى قربها من أصول النص القديمة. فهذه الطبعة هي "الأتم" و"الأكمل" من طبعات "ألف ليلة وليلة" إلا أنها ليست الأكثر قرباً من أصول النص القديمة. فقد أبانت دراسات عديدة، ومنها خصوصاً الدراسة اللافتة التي قام بها محسن مهدي في تقديم كتابه "ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى"، أن هذه الطبعة "ملفقة" في عدد من موادها، وهو ما يشير إليه القول في عنوانها، وهو أن النص هذا ليس "كاملاً" وحسب وإنما "مكملاً" أيضاً. كما يفيد عنوان الكتاب الفرعي أن لغة المخطوط، بل المخطوطات، التي أخذت منها. ولهذا فقد بدا مفيداً، قبل عرض جديد "ألف ليلة وليلة" بالعامية المصرية، أن أتوقف عند طبعات الكتاب المختلفة.
لا يساور محسن مهدي الشك في أن كتاباً مثل "ألف ليلة وليلة" قابلٌ للتحقيق، ويجد أن المشكلة تكمن في أن متن الكتاب "لم يضبط"، وأصوله "لم تحقق"، وأن النساخ والمصححين عاثوا فساداً فيه، فأخرجوا الطبعات المختلفة عن أصول غير معروفة وأخرى ملفقة أو موضوعة. أي أن مهدي لم يساوره شك بأن مشكلة الكتاب هي عدم عمل المحققين الرصينين عليه، وأن له (أي للكتاب) بالتالي، مثل غيره من الكتب العربية القديمة، "أصلاً" و"ثابتاُ" بالضرورة: "فحكم (أي العاملون على الكتاب قبله) أن الكتاب لا أصل له إلا ما حكته القصاص وما نقلته شفاهاً الرواة، وأنه أبداً كالماء الجاري يتلون بألوان مجاريه، فظنّ أنه ليس هناك متن ولا كتاب" (19).
وهو ما سعى إليه مهدي في نقده، بعد غيره من المستشرقين، للطبعات الصادرة قبل تحقيقه في العام 1984. ويميّز مهدي، عن حق، بين نسخ الكتاب الخطية، التي جرى تناقلها بين أوروبا والشام ومصر طوال عدة قرون، وبين طبعة الكتاب الأولى، التي صدرت في كلكوتا في الهند، في جزئين (الجزء الأول في العام 1814، بعنوان: "حكايات مائة ليلة وليلة يشتمل على حكايات مائة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد").
فمنذ صدور الطبعة الأولى، هذه، بدأ التحريف يطاول "ألف ليلة وليلة": الشيخ أحمد بن محمود شيرواني اليماني، المدرس في قسم اللغة العربية في "كلية فورت وليم"، لم يحافظ على الأصل الذي نقل منه، بل صححه في عدد من المواضع وفق طبعه اللغوي، كما أقحم في المخطوط، الذي استقى منها الحكايات، حكايات مستقاة من أصول أخرى. بل أكثر من ذلك، وهو أن النسخة التي عمل عليها شيرواني، و"نقحها"، منقحة هي الأخرى عن نسخة خطية أخرى، ومنقولة في حلب بين العام 1750 والعام 1771، للطبيب الإنكليزي باترك رسل، نزيل حلب آنذاك. ويخلص مهدي إلى القول بأن طبعة "ألف ليلة" الأقدم "نص ملفق ابتُدع تركيبه والكثير من لغته" (20).
كما أصابت الطبعة الثانية، طبعة برسلاو، مشاكل جديدة زادت من وصول "ألف ليلة وليلة" المختلف طبعة تلو طبعة: الطبعة الأولى، السابقة، لم تكن كاملة، وهو ما تلافاه العاملون على طبعة برسلاو، التي صدرت في أوقات مختلفة، بين 1824 و1843، وأتى عنوانها: "هذا كتاب ألف ليلة وليلة من المبتدأ/ المبتدا إلى المنتهاء/ المنتهى". وقام المستشرق دانكان ماكدونالد بنقد هذه الطبعة، وأظهر أنها بخلاف ما تدعيه، غير مأخوذة عن نسخة خطية تونسية، بل عن غيرها مما جرى نقله في باريس، ومن نسخ خطية عديدة، بعضها شديد التأخر، عدا أنها نسخ جرى التلاعب في مادتها، مثل تقسيم "الليالي" وغيرها.
أما الطبعة الكاملة والمستندة إلى نسخة (أو أصل) خطية واحدة فهي طبعة بولاق، الصادرة في العام 1835، ويرجع تاريخ هذه النسخة (وغيرها المشابه لها) إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، وجرى جمعها في القاهرة من أصول متفرقة لم يكن أكثرها جزءاً من الكتاب كما حفظته النسخ القديمة. محسن مهدي نقد هذه الطبعة نقداً مبنياً على حجج وأدلة،غير أنه لم يتورع – وإن في مرة واحدة ويتيمة في دراسته النقدية – عن اجتراح رواية لتفسير ما أصاب هذه الطبعة من تلاعبات: "يظهر أن السواح الأوروبيين ممن زار القاهرة خلال القرن الثاني عشر من الهجرة (القرن الثامن عشر من الميلاد) – وكانوا قد عرفوا الكتاب مترجماً إلى لغاتهم من نسخ خطية اعتقدوا هو أيضاً أنها ناقصة – جاؤوا يبحثون عن نسخة "كاملة"، فقام شيخ من نساخ القاهرة "بجمع" نسخة جديدة من الكتاب لهم. جمع فيه إلى ما وجده آنذاك في النسخ "الناقصة" (وكان بينها نسخ "أكملت" النسخ القديمة بعض الشيء دون أن تأتي بألف ليلة وليلة) ما قدر على استحصاله من كتب القصص والحكايات والسير من دور الكتب وباعتها، فألف متناً جديداً قسمه إلى ألف ليلة وليلة ووضع في آخره الخاتمة المعروفة" (21). هي "رواية" مهدي، إلا أنها تستند إلى بعض الأدلة، بعد أن قارن بين نسخ مختلفة سابقة على نسخة الطبعة هذه وبين نسخة الطبعة، فظهرت له الزيادات فيها. لهذا يخلص مهدي إلى القول إن نسخة بولاق "الكاملة" ملفقة، عدا أن ناشرها أعمل يد التصحيح فيها، وهي لا تعدو كونها رواية جديدة للكتاب تنقصها خصائص عصر وفنّ الرواية القديمة.
أما طبعة كلكتا الثانية (1839 – 1842)، والتي أعيد نشرها في القاهرة مؤخراً، فمأخوذة عن أصل مصري جلبه إلى الهند طرنر مكان، إلا أن يد التصحيح أصابت النسخة هذه في عدد من المواضع، وزيدت عليها زيادات من طبعة كلكتا الأولى، فأتى الكتاب الجديد مثل ما يفيد عنوانه "كاملاً مكملاً".
ويخلص مهدي من مراجعاته هذه إلى القول: "شاءت الأقدار أن يبقى كتاب هذا شأنه في ثلاث طبعات مزيفة وطبعة بولاق التي تزخر بالتحريف والنقص، يقرأها الناس دون علم بما تقدم من نسخ الكتاب الخطية وما تأخر أو معرفة بصلة هذه الطبعات بالأصول التي اعتمدتها أو إدراك لطبيعة أصول الكتاب ما هي ومتى نشأت وما جرى للغتها وتركيبها عبر القرون التي نسخت فيها" (22).
اجتهد مهدي كثيراً، وعمل طويلاً على طبعات ومخطوطات "ألف ليلة وليلة" المختلفة، واتسم عمله بمسعى "تثبيتي"، إذا جاز القول، لهذا الكتاب الثمين، ما يدعوه إلى القول: "النسخ الخطية المعروفة، اليوم، ليست نسخاً لكتاب بالمعنى المتعارف عليه لهذا الاسم، بل يجب فحصها وتصنيفها إلى روايات، وتحقيق كل منها على حدة"؛ و"إعادة تركيب أصل، من نسخ متعددة لكتاب مثل هذا الكتاب، هو أمر مشكل أيضاً" (23).
هذا ما بدأ به مهدي، فجمعَ النسخ الخطبة المتوافرة (لا الطبعات)، وقارنََ موادها، وتحققََ من وجود "عائلتين" من النسخ، هي: العائلة المصرية والعائلة الشامية، جازماً: "لا نكاد نعرف اليوم شيئاً عن متن الأمهات القديمة التي سبقت النسخة الأم، وهي نسخة لا يعود تاريخها إلى ما قبل القرن السابع من الهجرة (القرن الثالث عشر من الميلاد)" (24).
يفيد مهدي عن وجود ورقة من نسخة سابقة على هذه النسخة، تعود إلى بدايات القرن الهجري الثالث، غير أنها تشير إلي عنوان الكتاب وحسب ("كتاب فيه حديث ألف ليلة")، لا إلى متنه، بالإضافة إلى ذكر ابن النديم والمسعودي للكتاب. هناك أصل، إذن، إلا أننا لا نملك شيئاً من متنه، وأول ما يبلغنا منه هو النسخة الأم التي لا نملكها، بل هي أصل أول للكتاب الذي ننظر في نسخه الخطية. لهذا فإن تحقيق مهدي يتناول النسخة الدستور، أي ما بلغ من النسخة الأم، وهي أصل النسخة الخطية المتفرعة، كما قلت، في عائلتين. ولو عدت إلى النسخ المتوافرة لوجدت أن أقدمها، في الفرع الشامي، يرقى إلى القرن الرابع عشر من الميلاد، وأن نسخ الفرع المصري لم تمتزج أبداً بنسخ الفرع الشامي، وليس ما يعود إلى ما قبل القرن السابع عشر الميلادي.
ونحن إن وجدنا في تحقيق مهدي أموراً نافعة في التحقيق – وفيه الكثير منها، من دون شك -، فإن هذا النفع لا يغيب كونه يبحث عن "أقدم" الأصول، ولكن المتوافرة. ولكن هل يصح في الكتاب ما يصح في غيره، وهو وجود أصل أول فعلاً تفرعت منه الأصول، بل النسخ اللاحقة؟ هل سيغير وجود أصول سابقة من الأصول المغيبة شيئاً من حقيقة هذا الكتاب؟
بدا لي مفيداً، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، أن أعرض ما يقدمه كتاب "ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية"، ذلك أن العرض يفيد أننا قد نجانب الصواب إذا جعلنا من الجهد "التثبيتي" لألف ليلة وليلة في نص "ثابت" غرضاً لعملية نقد هذه المخطوطات والطبعات. فهذا الكتاب الجديد يشتمل على خمس حكايات فقط، ومنها حكاية واحدة موجودة في النص المتداول لألف ليلة وليلة، عدا أنه مكتوب بالعامية المصرية. كما أتحقق في هذه الحكايات من كونها تنقسم إلى حكايات وحسب، أي لا تنزل في قسمة "الليالي" أبداً، مثلما ألقى ذلك في طبعات الكتاب المتوافرة. ماذا أقول عن الخصائص التكوينية للحكايات هذه؟ أهي نسخ محرفة عن غيرها؟ أعلينا أن ننسب اختلافها عن غيرها إلى أخطاء في النقل (وهو ما يجيب عنه عمل المحققين، مثل مهدي وأقرانه)، أم إلى عمليات "تملك" طاولت النسخ، فجعلت ناقلي الحكايات يعيدون إنتاجها من جديد (وهو ما يتطلب نظرة نقدية مختلفة، غير النظرة "التثبيتية")؟
أثير هذه الأسئلة، ذلك أنني أعتقد، مع تسلسل صدور طبعات مختلفة من "ألف ليلة وليلة"، ومع تقدم المجهودات النقدية في فحص مخطوطاتها (ومنها ما يظهر من مخطوطات جديدة، مثل الحكايات الخمسة المصرية، وغيرها ربما في السنوات القادمة)، أن علينا أن نحاول مقاربة أخرى ترى إلى هذا الكتاب المخطوط، لا الطباعي، بوصفه مدونة، لا نسخة عن أصول ضائعة أو محرفة.
لا يعني هذا أن مجهودات مهدي – الأثمن في هذا النطاق – عديمة النفع، بل ساهمت أكثر من غيرها في إجراء مقارنات نافعة بين المخطوطات المختلفة، عدا أنها أظهرت معالم الاختلاق والتزوير والإقحام والتنقيح والزيادات التي طاولت طبعات الكتاب المختلفة، كما عرّفتنا كذلك على بعض الأحوال التي أصابت هذا الأثر، في تاريخه المعروف على الأقل.
إلا أن مسعى مهدي في وضع صيغة جديدة لألف ليلة وليلة، بوصفها الأقرب من الأصول العربية الأولى، غير مقنع في حاصله: طبعاً، نحن أمام نصّ متصل، مثل النصوص التراثية المتصلة التي يعمل عليها المحققون عادة، غير أن الحالة مختلفة مع مخطوطات "ألف ليلة وليلة"، ذلك أن اتصال هذا النص يبقى دون الاتصال المتحقق بين مخطوطات مختلفة عن كتاب واحد: الفروقات بين المخطوطات هذه تبقى طفيفة لا تتعدى تحريفاً في كتابة لفظ أو عبارة، فيما الفروقات في مخطوطات "ألف ليلة وليلة" تتعدى ذلك، وتصل إلى عدم إيراد حكايات أو مقاطع وغيرها. ملاحظة أخرى: طبعاً، توصل مهدي إلى الكشف عن فروقات بين المخطوطات، ما أتاح له القول والفصل في أسبقية وأقدمية هذا المخطوط أو ذاك، إلا أن الفروقات هذه لا تعني أن ما وضعها في صيغة كتابية، هي المطبوعة، توافق، في صورتها الإجمالية، مخطوطة وجدت في زمن ما، لكنها ضاعت مع توالي الأيام.
مخطوطات "ألف ليلة وليلة" مدونات مختلفة، وليست فروعاً أو نسخاً محرفة عن أصول يمكن الوصول إليها أو إلى بعض أحوالها. وهي مدونات لها ما يؤلفها، في متنها الحكائي، وفي ما دعت إليه حاجةُ جمعها (وروايتها في عهد ما) في مخطوط، وإن صدرت عن حكايات سابقة ومعروفة (لنا ربما، اليوم، لا لغيرنا في عهد جمعها)، أو عن أصل ضاع في الزمن، أو وصلت منه نسخ ومخطوطات أو مدونات أو نقولات شفوية. فالحكايات الخمس، التي نشرها المحققان المصريان، على سبيل المثال، ليست مقطوعات من نص مفقود، بل هي مدونات مكتملة في ذاتها، في سردها، وفي البواعث التي أدت إلى حصولها واجتماعها حكاية حكاية في عهد ما. وعلينا بالتالي أن ننظر إلى المدونات المختلفة، بوصفها تنتسب إلى الثقافة المتناقلة، لا إلى الثقافة الثابتة والمثبتة.

"أصول" ألف ليلة وليلة
تعود الطبعة الجديدة من "ألف ليلة وليلة"، المنشورة في سلسلة "الذخائر"، إلى مخطوطة ما سبق أن عملَ عليها المحققون، أو استندوا إليها في الإصدارات السابقة، أي طبعة بولاق، التي أعادت "دار صادر" في بيروت إصدارها. والمخطوطة هي طبعة في أربعة مجلدات ترقى إلى سنة 1839، تفيد في صفحتها الأولى ما يلي: "كتاب ألف ليلة يدعى عموم الأسمار سكرتير الدولة الإنجليزية في الممالك الهندية في أربعة مجلدات في لسانه الأصلي العربي منقولاً من نسخة كتبت بالديار المصرية وأوراها بالهند المرحوم برنار ترنر ماكان". وتسبق هذه الطبعة القديمة بالتالي طبعة بولاق بست سنوات، وتمتلك عدداً من المميزات كذلك. من بينها أنها تتضمن حكايات "علاء الدين والمصباح السحري"، و"علي بابا والأربعين حرامي"، كما تقترب لغتها من العامية المصرية، فيما صدرت الطبعة السابقة (طبعة بولاق) بلغة "مفصحة". ما يمكن القول عن الطبعة الجديدة؟ أهي النسخة الأتم والأكمل من "ألف ليلة وليلة" أم هي صيغة أخرى تضاف إلى غيرها، وتنيرنا عما هو عليه حال هذا الأدب المتناقل من بيئة إلى أخرى عبر عمليات "تملك" تصيبه، فتبدل شيئاً من مادته، من لغته، بين عملية وأخرى، فينتج عن ذلك صيغ ونسخ متعددة للأثر–الأساس؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها تثيرها طبعات "ألف ليلة وليلة" المختلفة، لأنها متوافرة في عدد من موادها، فيما نفتقد إلى مواد تظهر أحوالاً أخرى في هذا الأدب. فنحن ما عتمنا منذ القرن الهجري الرابع نتبادل أخباراً وتصويبات واختلافات عن أثر جرى الخلاف حتى حول إسمه، بين قائل، كما في طبعة كلكوتا هذه، إنه كتاب "ألف ليلة"، وقائل إنه كتاب "ألف ليلة وليلة"، مثلما جرت تسميته. أهو أثر واحد فعلاً؟
يقول حسن أحمد الزيات، في محاضرتين منشورتين في العام 1932، أنه ليس من اليسير على الباحث الكشف عن حقيقة كتاب كألف ليلة وليلة "أصله مفقود"، ومؤلفه "مجهول"، وزمان وضعه "مبهم"، ومكان حوادثه "مشتبه". بطبيعة الحال، إلا أننا نمتلك في المظان أخباراً عن هذا الأثر الواحد – المختلف – المتعدد في آن: المؤرخ المسعودي (-346 هـ.) هو أول من ذكره، في "مروج الذهب"؛ وهو ما عاد وقاله المؤرخ الآخر ابن النديم ( -385هـ.) في "الفهرست"؛ كما يفيد المقريزي في "الخطط"، والمقري في "نفح الطيب"، عن مؤرخ مصري ذكر في إحدى كتبه وجود كتاب "ألف ليلة وليلة" وقاس فيه بين قصص الكتاب هذا وبين ما يتداوله الناس في عصره من حكايات مشهورة.
يتأكد، من النقول هذه، أن التقارب، حتى لا أقول التطابق، متوافر بينها، ما يدعو إلى القول بأن "ألف ليلة وليلة" (مع زيادة ليلة أو من دونها) أثر معروف منذ القرن الرابع الهجري على الأقل. كما أتأكد أيضاً من أن المبنى الفني العام (وعدداً من الشخصيات) هو نفسه بين ما قالته النقول القديمة وبين ما هو متوافر حالياً في نسخ هذا الكتاب.
يتحدث الزيات، في المحاضرتين المذكورتين أعلاه، عن "طبقات" مختلفة في هذا الأثر، أي عن مصادر دخلت في متنه، وهي ثلاثة في حسابه: أصل الكتاب "نواة" من الأقاصيص الهندية والفارسية، تسمى "هزار أفسانه"، وجرت ترجمتها إلى العربية من الفهلوية في القرن الهجري الثالث، ثم تجمع حول النواة بين القرن الرابع والقرن العاشر من الهجرة طبقتان: بغدادية صغيرة وطبقة مصرية كبيرة.
وحديث الزيات مفيد، ويقترب مما يقع في مادة الكتاب كما بلغنا، ذلك أننا لا نعثر على أدلة تفيد عن كون الحكايات هي هي، في ما عرفه المسعودي وابن النديم، وفي ما عرفه المؤرخ المصري في العهد الفاطمي، أو في ما بلغنا من طبعتي كلكوتا اللتين تعودان إلى مطالع القرن التاسع عشر: لاحظت في الحديث المنقول عن المؤرخ المصري (الذي يرقى إلى العهد الفاطمي) أنه قايس بين حكايات الكتاب وبين ما هو متداول من حكايات في عصره، ما يشير إلى تقارب محتمل، بل أكيد، بين المادتين. كما ألاحظ في الطبعة الجديدة التي صدرت في مصر، على ما يقول الكاتب جمال الغيطاني، المشرف على سلسلة "الذخائر"، أنها تشتمل على حكايات غير موجودة في الطبعة السابقة، مثل حكاية "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعين حرامي". ما يعني هذا؟ هل يمكن الجزم أن ما هو ماثل في الطبعة الجديدة هو من أصل السيرة – الأساس، أم هو من إقحاماتها وزياداتها؟ وأين الأصل من الزيادات أو التغييبات؟
يمكن أن نعود إلى أنماط السرد، وهي مختلفة بين حكاية وأخرى: فهناك نمط دمج حكاية في حكاية أخرى، أي نمط "التوليد"؛ ويرجع، على ما يقول بعض الدارسين، إلى طريقة هندية في سرد الحكايات، معروفة في الأدب القصصي الهندي، في "مهابهاراته" و"وبنجه تنتري"، وهو ما أراه متحققاً، على سبيل المثال، في حكايات البنات الثلاث والصعاليك الثلاثة، وحكاية الخياط والأحدب والطبيب، وحكاية شان شاه، وحكاية وردخان وغيرها. ويمكن أن تتخذ الحكايات المتوالدة شكلاً مختلفاً في التعالق، وهو أن تكون في أي باب مقدمة لحكاية الباب الذي يليه.
وهناك نمط ثان يمكن تسميته بالنمط الفارسي، ويقوم على الحكايات المفردة المجردة كحكايات العشاق أو ما يُلقى في مجلس وغيرها. وهناك نمط سردي ثالث يمكن تسميته بالعربي (من دون أن يكون مخصوصاً بهم وحدهم، أو قبل غيرهم من الشعوب)، حيث أنه عرف عنهم رواية أسمار وأحاديث قائمة بذاتها ولا تتعالق أبداً مع غيرها، وهو ما نراه بيناً في الأقاصيص الصغيرة المقتبسة من كتب الأدب كحكايات حاتم الطائي وحكاية معن بن زائدة وحكاية إبراهيم بن المهدي وغيرها.
هناك أنماط سردية ثلاثة في الأثر الواحد، وهناك أيضاً تقاربات حكائية لافتة بين عدد من حكايات "ألف ليلة وليلة" وبين حكايات مذكورة في مصادر أخرى: هناك قصص عربية معروفة في القرن الهجري الثاني تجاور ألفاظاً وعادات غير معروفة قبل القرن السابع عشر الميلادي. ما يعني هذا؟ كيف لنا أن نقر بأصلها القديم إذا وقعنا، كما في حكاية عمر النعمان، على أمور وأخبار وعادات غير معروفة إلا في سياق الحملات الصليبية، التي حصلت بين 1097 و1291م.؟
قام الكاتب عبد الغني الملاح بذكر توافقات لافتة بين عدد من حكايات "ألف ليلة وليلة" وحكايات واردة في كتب عربية قديمة، مثل التوافق بين حكاية على بن بكار مع شمس النهار، وما حكاه ابن الجوزي في "المنتظم" عن قصة حقيقية مشابهة جرت لجارية السيد شغب، أم المقتدر وعشقها لأحد أولاد التجار. كما يذكر غيرها في كتابه "رحلة في ألف ليلة وليلة" (25).
أنماط سردية مختلفة، وحكايات متفاوتة القدم، بينها القديم للغاية والمستجد في القرن السابع عشر أو قبله بقليل، بالإضافة إلى اختلافات في عدد من الحكايات، وفي ترتيبها، وفي ألفاظها وتراكيبها، ما يجعلنا نتساءل: أهو أثر واحد أم أثر متناقل، ومختلف بالتالي بين نسخة وأخرى؟ إن هذا السؤال وغيره دعانا إلى الامتناع، في صورة عمدية، عن تسمية هذا الكتاب بـ"النص"، وآثرنا الحديث عنه على أنه "أثر"، فما دعانا إلى ذلك؟
ما أذهب إليه هو أن هذا الكتاب قد يكون في حاصله، أي المتوافر من نسخة (وهي طبعتا كلكوتا، واقعاً، السابقة التي استندت إليها طبعة "بولاق"، والحالية التي تصدر في القاهرة)، صيغة وحسب من نص مفقود، على أن النسخة هذه جرى "تملكها"، أي إنزالها في بيئة ثقافية، هي البيئة المصرية في هذه الحالة، على أنها مختلفة عن نسخ أخرى غير متوافرة حتى يومنا هذا، أو قد لا تتوافر أبداً.
هذا الأمر لا يعين واقعاً "ألف ليلة وليلة" بل أي أثر متناقل، إذ نلاحظ أن المبنى الفني في مواد هذا الأدب المخصوص يقوم على بناء أو مكون سردي قابل لتلاعبات يطلبها التنقل بين البيئات ويتيحها كذلك. هذا ما تحققت منه، على سبيل المثال، في "الحكايات الساحرة" حيث أن الصياد في حكاية ساحرة مصرية، على سبيل المثال، يصبح راعياً في حكاية فلسطينية، أو مزارعاً في حكاية لبنانية، إلى غير ذلك من الحالات.
وهو ما انتبهت إليه في "تغريبة بني هلال" كذلك، التي تتيح في مبناها عمليات التنقل هذه: فنحن، أو أي حكواتي في واقع الأمر والحال، قادر على أن يزيد إلى متن النسخة فصلاً جديداً، أو انتقالاً جديداً لقبيلة بني هلال في ترحالها إلى "أفريقيا" (الإسم الإسلامي لتونس الحالية)، ويؤدي بدوره – أي الانتقال هذا – إلى رفض القبيلة دفع الضريبة، وإلى مواجهات تقوم بها مع طالب الضريبة، وتنتهي كما في خاتمة كل انتقالات القبيلة، إلى انتصار القبيلة اليمنية، وإلى تنصيبها حاكماً جديداً بدل الذي هزمته وخلعته.
يمكن تسمية جانب كبير من المبنى الفني لـ"ألف ليلة وليلة" بـ"لعبة الدمى الروسية" (دمية صغرى تحل في قالب دمية أكبر حجماً منها، وهكذا دواليك): ما يتيحه مبناها، في بعض الأبواب من دون غيرها، هو إمكان دخول حكاية مكان حكاية أخرى، أي استبدال واحدة بأخرى، تبعاً لانتقال هذا الأثر في البيئات التي تناقلته. أما المبنى الفني في "الحكاية الساحرة" فيشبه عمليات الاقتباس، إذ يقوم الحكواتي بـ"تبيئة" الحكاية التي سمعها من بيئة غير بيئته، ويحملها من "الحشو" السردي ما يتيح لسامعها من بيئة الحكواتي نفسه التعرف عليها والتماهي معها على أنها من خصوصياته. أما مبنى "تغريبة بني هلال" الفني (وغيرها كذلك من سير البطولة العربية) فيشبه آلة "الأكورديون"، حيث أن ناقل السيرة، أي الحكواتي، قادر على مطها أو شدها، على اختصارها أو الزيادة عليها، ما شاء، بشرط ألا تختلف مع مكون السرد (انتقال – مواجهات – انتصار)، ولا مع غرض السيرة، وهو التوجه غرباً، وإن تعددت السبل.
إن دراسة مواد هذا الأدب المتناقل تتيح، في واقع الأمر، تبين أحوال "التنصيص"، سواء في الأدب المتناقل أو المثبت في نسخة هي "النص" طالما أن أحداً يتبنى هذه الصيغة و"يوقعها" (إذ أن الاسم الذي يرد في الكتاب على أنه "المؤلف" قد لا يكون اسماً عائلياً أو "أصلياً"، بل اسماً فنياً وحسب)، ولا يبدلها. ومن فوائد "ألف ليلة وليلة" أنها تتيح لنا، بعد توافر مواد مختلفة ومتباينة عنها، ومنها طبعة القاهرة الجديدة، الوقوف على أحوال التنصيص هذه، وكشف أمور واقعة في الأدب المتناق، وتتيح دراستها في صورة أفضل لو جرى إخضاع مواد هذا الأدب للقراءة اللسانية، لا القراءة "الفولكلورية" أو "الشعبية"، التي تقصرها على قراءة معانيها وحسب، من دون ألفاظها أو تراكيبها وأحوالها التنصيصية التي خضعت لها في عمليات التنقل والتملك.

شربل داغر: "من "الأدب الشعبي" إلى الأدب المتناقل"، مجلة "حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية"، جامعة البلمند، الكورة (لبنان)، العدد 9، 1999، صص 57-90.

الهوامش

(1) وردت في كتاب عمر عبد الرحمن الساريسي: الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت، 1980، ص 309-310، منقولة عن : أحمد أو زيد : الثأر، دراسة أنتروبولوجية في احدى قرى الصعيد، دار المعارف، القاهرة 1964، ص 108.
(2) وردت في كتاب عمر عبد الرحمن الساريسي: الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص310–311، منقولة عن: أحمد بسام ساعي: الحكاية الشعبية في اللاذقية، مخطوطة دراسة جامعية قدمت لكلية الآداب، في جامعة القاهرة، بتاريخ 15/7/1971، لنيل درجة الماجستير.
(3) كرم البستاني: حكايات لبنانية، دار صادر، بيروت، لا تاريخ، ص291، وردت في كتاب عمر عبد الرحمن الساريسي: الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص 311 – 313.
(4) دوّن الساريسي الحكاية في عَمان، في 15/11/1971، عن الحاج أحمد حسن إبراهيم، من قرية ساريس في منطقة القدس، على ما يورد في كتابه المذكور أعلاه، ص 313 – 314.
(5) يوسف أمين قصير: الحكاية والإنسان، سلسلة الكتب الحديثة، رقم 3، وزارة الإعلام، بغداد 1970، ص160، وردت في: عبد الرحمن الساريسي: الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص 315– 316.
(6) Vladimir Propp, Morphologie du conte, Seuil, Paris
(7) Charbel Dagher, "la structure et la place du conte populaire dans le monde arabe", in Oralités arabes, Unesco, Paris, 1984.
(8) فريدريش فون ديرلاين: الحكاية الخرافية، ترجمة: نبيلة إبراهيم، دار النهضة مصر، الطبعة الأولى، القاهرة 1965، ص 156.
(9) فريدريش فون ديرلاين، م. ن. ، ص154.
(10) فراس حواس: "ملحمة جلجامش وأثرها في الثقافة القديمة"، مجلة المعرفة، العدد 197، يوليو/تموز 1978، دمشق، وزارة الثقافة، ص124.
(11) عمر أبو النصر: تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزيناتي خليفة، دار عمر أبو النصر وشركاه، بيروت 1971، ص 70 – 82.
(12) طلال حرب: بنية السيرة الشعبية وخطابها الملحمي في عصر المماليك، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1998، ص17.
(13) طلال حرب، م. ن.، ص 61.
(14) طلال حرب، م. ن.، ص 116.
(15) سعيد يقطين: الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي، وقال الراوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 1997: يتوصل الباحث في كتابه الأول إلى التمييز بين "النص" و"اللانص"، ناسباً الأول إلى الثقافة العالمة، والثاني إلى "أدب العوام"، إلا أن تمييزه هذا يبقى "مضموني" المنحى، لا يطاول "لفظ" الأدب "الشعبي" ، أو "مثوله النصي" كما أطلقت عليه التسمية.
(16)Les mille et une nuits: contes sans frontière, AMAM, Toulouse 1994
(17) ألف ليلة وليلة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة "الذخائر"، طبقاً لطبعة كلكوتا في العام 1838.
(18) هشام عبد العزيز وعادل عبد الحميد: ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية، دار الخيال، القاهرة 1997.
(19) محسن مهدي: ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى، شركة ا. ي. بريل للنشر، ليدن 1984، ص13.
(20) محسن مهدي: م. ن. ، ص 15.
(21) محسن مهدي: م. ن. ، ص18 – 19.
(22) محسن مهدي: م. ن. ، ص22.
(23) محسن مهدي: م. ن.، ص23 و24.
(24) محسن مهدي: م. ن.، ص26.
(25) عبد الغني الملامح: رحلة في ألف ليلة وليلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981.