لـ « لبنان » صيغة «الفاعل» في غير جملة من جمل ميشال شيحا: يقوم بغير فعل مادي، ويبادر إلى تصور أو تخيل صور وأوضاع وحالات عدة، ذلك أن له «طلة» وحركات هي أقرب إلى عمل الإنسان الأسطوري، أو «العابر» للتاريخ. ولنا أن نتساءل - ونحن نطالع أعماله الكاملة الصادرة عن «مؤسسة شيحا» في الذكرى الأربعين لوفاته - عن السبب الداعي لمثل هذا «التفعيل»: أيعود الأمر إلى كونه كاتباً وصحافياً نافذاً، ونائباً مرة في الندوة البرلمانية، وإلى كونه الكاتب «الأول» لمسودة «دستور» الجمهورية اللبنانية ؟ وكيف لنا أن نتبين أصول هذا التماهي بينه كاتباً وبين «لبنان»، هو ذو الأصول الآشورية الذي تتحدر عائلته مباشرة من سوريا؟ وكيف لنا أن نفهم، والحالة هذه، هذه الصلة الملتبسة ولكن الغنية بين الكتابة والموقع، بين الهوية (والتاريخ في كيفية ما) والجغرافيا؟
إن مطالعة كتبه - بما فيها من افتتاحيات صحافية ومحاضرات وقصائد - تقودنا، بعيداً عن تفرقها وتباين قيمتها الأدبية أو التاريخية أو السياسية، إلى تبين حقيقة العمليات الجارية بين ظاهر النص، في ما يؤكد على أنه حقيقة ناجزة أو يتم التوصل إلى برهنته بعد العرض والتحليل، وبين ما يخفيه (وهو لا يخفيه في آن). وهي عمليات لا تطمر أبداً، خلف جمالها الأسلوبي، وتفنيدها الحجج ومقارعتها في بعض الأحيان، حدود صنعها: لغة تشي، وتبلغنا عن كيفيات رتقها ولفقها. ذلك أن النص يوظف التاريخ، ويستجلب الحجج، ليؤكد ما يعلنه على أنه الحقيقة، راسخة، قديمة، أكيدة، فيما هو يدافع عنها، أي يخرجها إلى الوجود، ويدرجها في السجال. هذا يعين تطلع الكتابة في سعيها إلى إحكام صلة بين المزاعم والاستثمارات الدلالية - الإيديولوجية والزمان الاجتماعي – السياسي؛ كما يعين حدود هذه الكتابة، أي حدود مراهناتها. وهو أمر يقودنا إلى الالتفات إلى علاقة الوثوق الظاهرة، التي تؤكدها الجمل في مبناها المنطقي والسوي، على أنها «غزوٌ» للألفاظ، واستثمارٌ جديد للمعنى فيها؛ كما يعني أيضاً الالتفات إلى القول وإلى ما يردمه في آن (أو يمتنع عن قوله). فللنص غواية وألاعيب وحيل ومواقعات وترتيبات وتغييبات، ونسيانات مدبرة أو عفوية، ولكن دالة في الحالتين، وتقع في أساس القول، في ما يعلنه ويؤكد عليه.
إلا أن علينا أن نميز، بداية، بين مقالات شيحا السياسية وبين محاضراته. فمتابعاته اليومية في جريدة «لوجور» الفرنسية في بيروت لا تخلو في عدد واسع من المواضع من وقفات ساهرة وحريصة على رعاية «الدولة اللبنانية» الناشئة، في مبادئها وحدودها الدستورية الطرية العود. كما نتبين في هذا المعرض، واقعية شيحا، أو تبصره في رؤية عدد من التحولات، ومنها خصوصاً مواقفه المتنبهة في وقت مبكر لحقيقة الخطر الداهم على لبنان والبلدان العربية من نشأة الدولة الإسرائيلية. وهو تباين يشير، من جهة، إلى نباهته السياسية، ومسلكيته الصارمة في الدفاع عن القيم الناشئة في الديمقراطية اللبنانية، وإلى ولوعه بالتخييلات والتدبيرات الإيديولوجية، من جهة ثانية، التي تنهل من حساسية شعرية أكيدة، ولو أنها ذات غنائية خافتة. تباينٌ بين اليومي والنفعي، بما يتطلبه من حس سليم وتوقٍ إلى بناء قواعد في السلوك والمحاسبة والمتابعة، وبين الإيديولوجي والتخييلي المحض، بما يطلقه ويستدعيه من صور وقيم، قد لا تكون سوى تشوُّف تمثيلي، أو تعويض أخلاقي عن وقائع مغرقة في ماديتها، أو شديدة اللفق.
فالوقوف عند عدد من محاضرات شيحا (1891 - 1954)، ولو أنها لا تتخفف من مواقفه السياسية المعروفة والمشهودة، يبين لنا نزوعاً صريحاً إلى التخييل والتدبير، وإلى اللفق والرتق، يقع في خلفية هذه الكتابة التي تتوخى التأريخ والتحليل. هكذا نجد في إحدى المحاضرات، «لبنان اليوم» في العام 1942(التي اختتمت حينها سلسلة من محاضرات «الشبيبة الكاثوليكية» في بيروت عن «لبنان في مجرى التاريخ»)، معالجة لافتة في تاريخ لبنان، تقوم على استعراض عناصره، ولكن من دون أن يكون لها الوزن نفسه في المعالجة والتقويم. هذا ما نتبينه في عدم التناسب بين الشق الفينيقي والشق العربي من تاريخ لبنان، حيث أن الشق الأبعد والأقدم منه، أي الشق الفينيقي، يمتاز بوفرة شروحه وتعييناته (من مدن وأحداث ووقائع وخلافها)، فيما يبدو الشق الآخر، أي العربي، على الرغم من كونه الأقرب زمناً والأكثر توثيقاً، مغفلاً عن التعيين، لا نعرف فيه اسماً لحاكم، ولا تقريراً لأحد مؤرخيه.
ولعل منشأ عدم التناسب هذا لا يعود فقط إلى قلة اطلاع شيحا وتجاهله للثقافة العربية (إذ لا يذكر مرة واحدة اسماً لكتاب أو لكاتب عربي قديم، بخلاف المراجع الأجنبية العديدة، لا سيما الفرنسية منها)، بل يعود أيضاً، وخصوصاً، إلى أسباب واقعة في التاريخ نفسه، وفي ما يطلبه شيحا منه: وهو التفاوت بين فينيقيا «سيدة أمرها»، وبين «لبنان» المهمَّش والملحق في "الولايات" العربية، ثم العثمانية، في الماضي الإسلامي. وهو ما يفسر تعيين «الأبعد» في الزمن، ولو أن أصوله أعقد، ولو أن وثائقه أندر وأقل وثوقاً من غيرها! ذلك أن شيحا كان يطلب من التاريخ تعييناً لما هو حاصل، أي نشأة «الجمهورية اللبنانية»، أي سنداً لدعم «الاستقلال» الذي لم يجف بعد حبر التوقيع عليه.
هكذا نرى الكتابة تتسم بقوة اندفاعة، تعينُها وتنشطها وتحفزها في آن. قوة تعين مثلما تغيب، تنحي مثلما تنتقي، تمد ألفاظاً بحمولات جديدة فيما تستكره وترذل غيرها. الكتابة، إذن، بوصفها مجالاً وموضوعاً للاستثمار والتبديل. وهو استثمار ما أتيح له مثل هذه الانطلاقة إلا في تتابع عملية «عصر النهضة»، لا سيما في منبتها اللبناني، المكمِّل لتجربة «إدارة جبل لبنان» مع الأسرتين المعنية والشهابية، حيث تخلصت الكتابة من الرواية والإخبار، وباتت تطلب علاقة بين الفكر والدنيا، يقيمها البشر أنفسهم في معاشهم وأهوائهم ومنازعهم، ولا تصدر عن تسليم بمستتبعات حقيقة علوية.
لا يعنينا من كتابة شيحا أن نقوِّم صوابها وصلاحها - لاسيما وأننا معرَّضون غالباً لقرائتها وفقا لما انتهت إليه هذه المزاعم في ضوء مستجدات التاريخ ووقائعه اللاحقة - بل أن نتبين كونها مدونة دالة، ليس إلا: دالة على طبيعة الدينامية التي تنطلق منها وتؤكدها في آن، والتي تأتي في تتابع «النهضة»، وتستكمل «عدة» استقلال «دولة لبنان الكبير»، من قيم ومسوغات ودعائم إيديولوجية وتاريخية وأنتروبولوجية.
لهذا يمكننا القول إنها كتابة تنشئ التاريخ (أي تجعله موضوعَ إنشاء)، وتكتبه و«تخيطه» و«تُفَصِّله» على مقاسات وهيئات، عدا أن «شاعريتها»، أو جماليتها في الإنشاء، لا تخفي معالم اللفق فيه: إنشاء وطن، بما يشير إليه من اهتزاز في بنائه، ومصاعب في ولادته، واقتطاعه من السياق العثماني. ذلك أن تكوُّن «إمارة جبل لبنان» انفصالٌ أو طلب استقلال عن "ولايات" السلطنة، وعن السلطنة نفسها، فيما جرى النقاش عن «اقتطاع» لبنان من سوريا لاحقاً، مع النزعة الاستقلالية السورية عن السلطنة وعن الانتداب الفرنسي.
هكذا نراه يغيِّب أحداث التاريخ، أو يفسرها تفسيرات استنسابية، كأن يقول إن هجرة اللبنانيين إلى مصر - وهي بسبب الحروب الطائفية وخنق الحريات في العهد العثماني - ليست سوى صورة جديدة، «عصرية» إذا جاز القول، لما كانت عليه نزوعات الفينيقيين القدامى إلى فتح «مكاتب تجارية» لهم أينما كان في الماضي السحيق. وإذا كان شيحا لا يعرف وقائع التاريخ كلها، ولاسيما الغارقة في القِدم، فإنه كان يعرف حق المعرفة أن عائلته هاجرت إلى لبنان من سوريا، مثل عائلات عديدة، ولاسيما المسيحية، منذ القرن السابع عشر، لأسباب غير التي ذكرها؛ كما يعرف حق المعرفة أيضاً أنه رحل بدوره في العام 1914 من بيروت إلى القاهرة هرباً من التعسف التركي، ليس إلا.
هكذا لا تقوى هذه الكتابة أحياناً على تغييب معالم قلقها، المستور خلف هذه اللغة الواثقة، وهذه التأكيدات الجازمة. يقول شيحا: «هذا البلد، بلدنا (وغيره في جوارنا يعرف الحياة نفسها)، عاش دوماً في خطر. يعيش، وهو مدعو، مع ذلك، للعيش». في غير مكان من كتاباته يلتفت شيحا إلى هشاشة هذا التكوين، وإلى الأعراض التي تهدده دوماً. وهي خشية تتمثل في عدم تلافي الأسباب التي قد تغيب هذا البلد، الذي نشأ «بعد طول كبت» (أي في الفترة العربية -الإسلامية)، حسب عبارته. كما لو أنه يدعو إلى حُسنِ عناية وتصرف بهذا «المولود»، الذي لا يتمتع بجميع مواصفات النشأة الطبيعية، على الرغم من قوة أجداده البعيدين! أي أن شيحا يتدبر ويخطط لوجود أسباب لاحقة تصون وتحصن ما أتى من دون تدبير كاف، آملا من الدستور، إذن، ومن الديمقراطية، والتعددية، والنظام البرلماني، أن تجنب هذا البلد من التفرق والتشتت، وأن تدبر له أسبابا كافية ومقنعة للعيش! وهي مخاطر يجدها في «الداخل»، فيتناولها أحياناً من باب أخلاقي كـ«نبذ الطائفية» وخلافها من الدعوات أو من باب تربوي، كأن يرى في عدم إقدام الدولة اللبنانية على «إنتاج مواطنين» بدل أنسابهم الطائفية، «عاملاً مهدداً لها، مع طول الوقت». وهو لذلك يعلق آمالاً في النظام اللبناني، وفي قيام المجلس النيابي على سبيل المثال، لصيانة الوطن الناشئ، ولإبقاء اللبنانيين «حيث نحن»، فلا ينتفي استقلالهم، ولا يتم إلحاقهم بغيره بالتالي، عدا أن النظام هذا يعيدهم إلى تراثهم، وإلى «روحهم» القديمة. يقول شيحا في «لبنان اليوم» (1942): «لا حياة للبنانيين من دون مجلس نواب يشجع على التشبث بالتراث، ورد الاعتبار إلى الأرض، وأن نحب الفلاح ليبقى في جباله حارساً لبساتينه، وينابيعه، وحقوله. هذا هو الثمن الذي علينا أداؤه لكي نبقى حيث نحن من غير أن نخسر نفوسنا».
إلا أنه يرى هذه المخاطر في «الخارج» غالباً؛ وهو خارج «يَسكت» عن تعيينه (سوريا، العروبة...)، وعن تسميته، فيما يصرح عن خارج آخر، مهدِّد، هو دولة اسرائيل. يقول شيحا في السابع من حزيران (يونيو) من السنة 1948: «ذلك أننا لن نسمع من إسرائيل الموسيقى العذبة فقط، بل سنشهد منها مسعى في الهيمنة، يؤديه عدد من المثقفين الشديدي الذكاء، بواسطة الممارسات الأشد قوة، وبوسائل نفاذ شديدة التنوع والقوة». ثم يتابع: «إن جوارنا المباشر لدولة اسرائيل يمثل خطراً كبيراً لنا، سيما وأن الشأن الاقتصادي يؤدي حكما إلى الشأن السياسي. إن قوة كهذه لن تقوَ على النمو على جانبنا من دون أن تضغط أعضاءنا الأساسية، ومن دون أن تخفف من وسائل وجودنا». وهو خطر يتوقف أمامه في غير مجال من كتاباته، ويصفه بأقصى الأوصاف والتعيينات: «إذا كان للإمبريالية من معنى، وللعنصرية من معنى كذلك، فإن اسرائيل هي، في تعريفها، القوة الأكثر عنصرية والأكثر إمبريالية على الأرض» (1948).
ولا يكتفي بالإشارة إلى المخاطر هذه، بل يتبين أحوالها، وذلك عبر التاريخ: «عشنا، مثلما نحن مهددون بالعيش، في صورة خطرة. وعلينا دوماً أن نوجه أو أن نغير مسار السيل، من أينما أتى، خشية أن يطمرنا». وفي غير موضع من كتبه نقع على مواقف، نتبين فيها خشية شيحا الدائمة من مناعة هذا البلد، من بنائه الصعب، من «جيرانه». وهي وضعية غير مريحة طبعاً، بل محيرة أيضاً: فلبنان مهدَّد بأن يجرفه السيل إذا ما ترك الغير - عدوه خصوصاً - من العبور، ومهدد أيضاً، إذا ما اعترض هذه الحركة، باجتياح الغير له (خصوصاً إذا لم يكن محمياً من قوة أخرى غير القوة اللبنانية). وطن مهدد، حتى في أيام الفينيقيين «الزاهية»! وإذا كنا نجد في تنبهه هذا شيئاً من التحسب والحيطة التاريخيين، فإنه ينطلق أحياناً من هذه الواقعية، أو من هذا التبصر، لتفسير ما لا يقوى على تقبله من وقائع التاريخ: كأن يجعل للفينيقيين، نقلاً عن الأب اليسوعي لامنس، طابعاً «ليناً»، أو طواعية على «التواطؤ» مع خصم الأمس. وهو ما يراه شيحا في طباع «أهل البحر»، بخلاف «أهل الصحراء». وطن هش وصعب، أي يتطلب، مثل سويسرا - المرجع الأساسي للبنان في كتابات شيحا - مقادير دائمة من «حلول التروي والحكمة»، والابتعاد عن الاستبداد، والغلبة، وعن «التمخضات» الثورية.
إلا أن هذا التلفت إلى تاريخ لبناني منقطع عن جاره الإسرائيلي، أو محتاط دائماً من جيرانه العرب، لا يعني عند شيحا توهماً كبيراً حول «نبل» الجهات المتوسطية الأخرى غير العربية. فهو يتنبه إلى حاجات «العالم الأجنبي» إلى لبنان، على أنه «ضرورة» نافعة لهذا العالم، لاسيما وأن لبنان أصبح في نظر هؤلاء الأجانب، وفي صورة متزايدة، «محطة أولى على طريق دولية»، أي أن شيحا يتنبه أو يجد في التفاتات العالم الأجنبي «الحنونة» على لبنان أسباباً استراتيجية ونفعية، تقع قبل دعاوى العالم الأجنبي في تجديد صلته الدينية بمسيحيي لبنان والشرق، وقبل «تنوير» أبنائه (الحملات الصليبية، البعثات التبشيرية...). وطن صعب، بل يجده شيحا - فيما لو قيس في حسابات المنطق - مثل «حالة مستحيلة»، إذ يقول: «كان عليهم أن يعتبرونا، على ما أعتقد، تبعاً لما نحن عليه اليوم، وفي حسابات المنطق، مثل حالة مستحيلة، لو لم نكن موجودين، موسومين بهذه الثقة الهانئة التي نواجه الفلاسفة بها».
وطن مهدَّد، إذن، ويخشى شيحا عليه من غير طرف وجهة، وهو ما يفسر نزوعه إلى الاستقواء بالسند التاريخي الفينيقي، من جهة، وإلى تأكيد نزعة لبنان «الطبيعية» إلى المتوسط، من جهة ثانية. يتحدث شيحا في كتاباته عن «العالم العربي»، وعن «جامعة الدول العربية»، إلا أن هذه التعيينات ليست شديدة البروز، أو لا تزال «خفيفة الحمولة»، إذا جاز القول. وهو قلما يجد في غير اللغة العربية ما يجمع بين هذه الدول، لا بل نراه في غير موضع من مقالاته وافتتاحياته ومحاضراته يسعى إلى تبين أسباب لتجمعات ممكنة، وهي ما يراه في «الدعوة المتوسطية» خصوصاً. إلا أن دعوته في هذا السياق - وهي دعوة نجد أصداء لها في فرنسا، كما في غير بلد عربي غير لبنان - لا تنطلق من تحالف سياسي أو اقتصادي أو مصلحي، أو وفقا لصيغة تاريخية قديمة تجد فيها الدعوة أساساً ولو قديماً لها، بل تنطلق من «توافقات أنتروبولوجية»، إذا جاز القول. فما المتوسط؟
لم يجد ناشر مؤلفات شيحا حرجاً في جمع عدد من مقالاته تحت عنوان: «تنويعات على المتوسط»، ذلك أننا نجد في مقالاته هذه - وهي تعليقات صحافية، على ما نتبين - تفرقاً ولكن في صيغة دفاع موحَّد عن الدعوة نفسها، التي تجد في الطبيعة الجغرافية، كما في بعض العادات والتقاليد والأشكال البشرية (السحنة وخلافها) ما يبررها: طبعاً كان المتوسط واحداً لقرون عديدة في الماضي، ولكن في النزاع خصوصاً، أي أنه لم يكن موحداً حضارياً، بل سياسياً فحسب، وعلى أساس «الغلبة»، لا على أساس العيش المشترك الطوعي. إلى هذا فإن الأمور اختلفت منذ ذلك العهد البعيد، ولم يبق، عند إقدام شيحا وغيره على إطلاق هذه الدعوة، سوى التعويل والتذكير بالمتبقيات الأنتروبولوجية: «المتوسطيون الحقيقيون هم الذين يحبون البحر فعلاً، وهو ما نراه ماثلاً في النسائم البحرية ورياح الشواطىء، وألوان المياه والسماء، وسحر الجزر وماضيها، والصيد صباحاً أو ليلاً، وطحالبه، والغروب الساحر». كيف لا وهو يجد في «الربيع» السمة المشتركة لشعوب المتوسط، لا في النظام السياسي، على سبيل المثال، ولا في التوق إلى مثال حضاري واحد: «الربيع، المشترك بين شعوب المتوسط، هو الزمن الذي يقرب بينهم: هذا الفصل هو عينه للمناخات (المتوسطية) كلها. نريده ربيع الصداقات المتجددة ولانبعاث جديد للإنسانية وللإنساني».
ولا يعود هذا الأمر لشاعرية ما، هي في أساس هذا النزوع المتوسطي، ولا للتماهي مع دعوات، هي لتلك السنوات (التي كانت تَخرج منها شعوب وجماعات من الانتداب الفرنسي المباشر)، ما هي الفرانكوفونية لهذه البلدان في خشيتها الحالية من الغلبة الأميركية الساحقة، بل يعود أيضاً إلى شأن اعتقادي، في التفكر ولاسيما في الكتابة، كان يرى إلى التاريخ وفق مقتضيات النظرية «الطبيعية»: يتدبر أسبابَ عيشٍ واستمرار، إذن، لهذا الوطن الصعب، فيجدها في طوبوغرافيا جغرافية، إذ يقع لبنان في تعريف شيحا على تقاطع ثلاثة محيطات، ما يجعل منه «رأس جسر مثالياً»، ولكن أيضاً «إحدى نقاط مراقبة العالم». وهو تعيين قد يصح في غير بلد متوسطي، إذا جاز القول، إلا إذا جرى توظيف هذه المعطيات الجغرافية لأداء دور الوساطة (الخدمات، الفنادق، المصارف، ترجمة، صحف ...)، الذي كان يؤديه النظام الناشئ، ويتشوف إلى إدائه أكثر فأكثر.
وقد يتدبر هذه الأسباب في «تمايزه» الجغرافي عن «جيرانه»، ذلك أن لبـنان «يتناقض أحيانا في صورة صارخة مع المَشــاهد، على قربها منه، وهي الواحة والفيافي والصحراء. ولهذا يمكن القول إن لبلادنا طابعاً أو دعوة «جزيرية لا تسمح بها طبيعة أرضه الجيولوجية ليس إلا». وهو ما يجده ماثلاً في صورة «الجـبل» خصوصاً.
الجغرافيا أساس التمايز ومبرره، إذن! وهو ما نتبينه في أدبيات «رعوية» ستزدهر في الكتابة اللبنانية، سواء بالفرنسية أو بالعربية في العقود الأولى من هذا القرن (العشرين)، ونلقاها في أدب شارل القرم وسعيد عقل وأمين نخلة وصلاح لبكي وإدوار حنين وغيرهم الكثير، ممن جعلوا «القرية» (أو «الضيعة»)، أو «الجبل»، أو «الريف»، مجالاً لاستثــمارات إيديولوجية ووجدانية جديدة، ولتــعيين هوية محلية متمايزة، وممن أطلقوا حناجر الإنشاد الغنائي. واللافت في هذا المجال اجتماع السياسة والكــتابة في صورة عضوية في ممارسة هؤلاء الكتاب، ما يدعونا إلى تبين الصلات المعقدة والملتبسة بين النفعي والتخييلي.
يقول شيحا: «علينا أن نتبين محاسن الجبل لنا. هذا الجبل أصبح ضاحية نتحدر منها، فيما يجب علينا أن نعود إليها لأسباب مختلفة. وعلينا أن نتمسك بالأرض، في صورة عامة، وأن نعيد الاعتبار للأرض الزراعية، وأن نحب الفلاح، والأشجار الكبيرة معه، وماء الينابيع، والحقل والكرمة وأن ننجبل من جديد في عظمة هذه الطبيعة التي تجنبنا الصغائر». وهي دعوة نتبينها في قصائده المجموعة في ديوانه، «بيت الحقول»، أو في غيره من الكتابات، حيث يرى بدهشة إلى مواضع القرية، إلى «يقظة الإيقاعات والأشكال» فيها، من هلالها فوق السقوف، إلى أذرعة زيتونها، وسعفها الراقصة، وأحجار قرميدها، وأشجار رمانها وتينها، وإلى البحر والجبل في الأفق، وإلى الثلج «مداعباً اللازوردي».
وهو ما نلقاه في كتابات العديدين، كما في هذه المحاضرة التي ألقاها السياسي والأديب الراحل إدوار حنين في «الندوة اللبنانية» في 31 ايار (مايو) من السنة 1948، بعنوان «وجه لبنان المجهول»: «إن ما يميز الشعوب إنما هي الطبيعة وعناصر الطبيعة، أكثر مما تميزها الوراثة والعنصرية، والعرق (...). أن تكون لبلادنا شطآنها، وخلجانها، وجسورها إلى قلب البحر وأنهرها، وسواقيها، وكهوفها، ومغاورها، وقممها، وبطاحها، ووهادها. أن تكون لبلادنا سماؤها الزرقاء الضاوية، وهواؤها ذو الأنغام، وماؤها الرقراق. أن يكون لبلادنا طيرها، وأسماكها، وحيوانها، ونباتها. أن يكون لبلادنا كل ذلك، على أحسن ما يمكن أن يكون في بقاع الأرض، أعرقها وأجودها». أو ما نلقاه في كتابات صلاح لبكي، ولا سيما في «من أعماق الجبل» (في الأربعينيات)، حيث يبدو لبنان مثل طاقة «كمونية»، أو «حلول» أسطوري وديني، لمثال «تائه» يجد في طبيعته مستقراً أكيداً له: «قد تعتصمون في الجبال، وتنفخون الحـياة في الصخور، ولكنكم تتطلعون إليه (إلى البحر)، وتنزلونه وترفعون فوقه الأشرعة وتباركونه، فكأنكم منه، من قـطراته، وكأن نفوسكم مكونة من زرقته. إن بينكم وبينه لنسباً (...). ومرت على ذلك عصور طوال، وأنا أنظر إلى جهد الإنسان وعنائه، والى محاولاته الفاشلة في قطع الهـوة العـميقة التي تفصل لبنان عن البلدان الغربية النائية. فأشـفقت عليه، على ضعفه، إلى جانب ما ساورني من إعجاب بعناده وصبره وجلده. وقلت في نفسي: سأبسط هذه الهوة وأسلمه الشراع».
الوطن الصعب، إذن، ولكن الجميل!
الوطن القلق، ولكن المرشح لأدوار جوهرية، أشبه برسالة «سماوية»!
يتحسر كثير من اللبنانيين لغياب شيحا، لا بل يجد فيه بعضهم نوعاً من «الحكيم» الذي رأى كل شيء، وقبل حدوثه، مثل حديثه الدائم عن «هشاشة» لبنان بغياب «مناعات داخلية» قوية تصونه من نفسه، ومن عواقب التقلبات الإقليمية عليه. وهو تحسرٌ قد يعني فعل الندامة عند بعضهم، بعد أن تيقنوا من حقيقة «انتصاراتهم» الفعلية في الحرب، التي لا تعني شيئاً أكبر من حقيقة أن العديدين باتوا حملة ملايين من الليرات، ولكن بعد أن فقدت الليرة اللبنانية قيمتها الشرائية!
كثير من أفكار شــيحا لا يزال راهناً، ولا سيـما في تعويله على صـيانة كل ما يحـفظ التـعددية في لبـنان، ووفق السبل الديمقراطية، إلا أن بعضها الآخر يبدو ساقطاً، بل مجلبة لاهتزازات مزيدة في «الهوية» المحلية، بين نفعيتها التجارية الخالصة وغنائيتها المثالية ذات الأساس الديني أحياناً، وبين فينيقيتها المتحفية وعروبتها القهرية.
ما يثير الانتباه في كتابة شيحا وممارسته، بعيداً عن نجاحاتها وإخفاقاتها، هو «الاجتراح» في تدبير الأوطان، وإدارة الأدب على دورات الصراع السياسي المفتوح. وهو تدبير للأوطان بانت هشاشته مع الحرب الأخيرة، وهي حرب هددت - ولا تزال - إمكان استمرار هذا «التميز» اللبناني، الذي تمخض في اندفاعات «عصر النهضة»، وقبل أن يجد في ترتيبات القوى الكبرى وخططها «دوراً» معداً له. وهو تميزٌ لا ينطلق من مقتضيات «التعايش التعددي» ولوازمه وحسب (لزومُ تبينِ موقعٍ ودورٍ للآخر، الطائفي وخلافه، المختلف، غير الإلحاق والتهميش والتبعية)، بل يفتح علاقات الكتابة بالإيديولوجيات (وما أكثرها وأنشطها في عهد شيحا!) على الصراعات المكشوفة والمفتوحة في المجتمع، فلا يمنعها أو يكبتها، أو يسكت عنها، بل ينشطها ويطلقها ويجددها، ولو كانت ذات غنائية «رعوية» باهتة.
يقول شيحا في إحدى قصائده:
«ساهماً في حبة الرمل، يحلو لي أن أكون وحيداً
في صخب الجموع الشاسع والفارغ
أنا كاتم أسرار السلف البعيد
وأتبين ضجة الساعة التي تمضي».

قصائد غير منشورة
يقول شيحا في الشعر: «هو الذي يُمكِّن الإنسان من الوسائل الحدسية التي تقوده إلى مدارات غير مرئية (...). والحكومات التي لا آفاق لها، ولا نشوة لها، لا تعرف محاسنه (للشعر). ولو أحسنت التعاطي معه، لكانت أقل هموماً وشكاوٍ، ولما كان الأحياء فيها شبيهين بالموتى في غالب الأحيان». غير أن شعر شيحا يبقى دون هذا التعريف، إذ إن قصائده لا تذهب بعيداً بنا، بل تبقى لصيقة موضوعها المعين سلفاً، ولا نكتشف فيها «مدارات غير مرئية»، بل عوالمه الغنائية الخافتة، الدائرة حول موضوعات نلقاها في نثره: الأسلاف، الإبحار، طلب الاكتشاف وغيرها.
كتب شيحا الشعر بالفرنسية، وصدرت قصائده مجموعة في كتاب: «بيت الحقول». ونقع في هذا الديوان، في طبعته الجــديدة، على قصائد غير منــشورة له، قمنا بترجمة بعضها إلى العربية:

الممر القديم

سلكتُ ممر الطفولة القديم الذي أبصرت فيه
أبي وجدي يمشيان جنبا إلى جنب.
مضى معهما عالم مؤثر
غير أن ظلهما ظل عالياً بطول الجدران.
متشحان بألبستهما القاتمة فوق ثيابهما البيضاء القاسية،
وقلباهما العامران دافئان تحت الجوخ الإنكليزي،
يحثان الخطى هانئين وواثقين
ويتاجران مع العالم كله،
كانا يبيعان الحرير ويبادلانه بالفحم الحجري،
ويتلقيان الذهب والرسائل التجارية
فقالوا عن الواحد منهما إنه كان عادلاً وطيباً،
وعن الآخر، إن له غضبات الملاك.
هذان الرجلان تاجرا وهما يحدقان في الموت،
في عزة لا يبلبلها شيء،
غير أنهما أحبا الحياة المتوقدة، وشمّا بتلذذ
الطعم الأول للشراب الفاخر، ورائحة «السيجار».
كان الجمال يصيبهما مثل انعكاس إلهي
من دون أن يختلط بالقطنيات السميكة،
وحبُّ السفر ظل فيهما مثل خميرة.
كم شاهدا منارات ومراس!
(...).
من دون عنوان
سنمضي سراً
صوب حبنا للجزر البعيدة.
سنسافر مع وجهة الرياح
من دون أن نقلق الرخام الساكن.
سنمضي قلقين من دون أمل كبير
وحاملين أحلامنا،
وسنبصر بعيداً كل مساء
الأنوار المتغيرة للإضرابات الجديدة.
ستمضي الأيام سكارى مثلنا
تحملنا كما لو أننا على سعف.
سنثق بهم طالما أنهم ناعمون
مثل الرموز الأبدية الهادئة.
(...).
ألف لطخة نار فوق الجبال الجرداء
طردت الرعاة وقطعانهم الحامية،
في البعيد تتلاشى أصـوات القوى المجهولة،
ها هو ميعاد الظل، ها هو ميعاد الراحة.
وها هو الذكاء الصافي والنقي
ناسياً اللامتناهي تحت وقع الشمس
وغرضاً مهاناً لانتقام مبهم
يصبح عبداً للنوم مثل قطة جميلة.
من دون عنوان
سأمضي بخطى ثقيلة صوب هذا
المصير المظلم،
بخطى الإنسان المتعب
الذي مشى منذ الصباح
والذي يرى مجيء الليل المبني بالظلمات.
سأمضي مثل الطفل الموجوع
الذي لا يعرف مواضع جراحه
ولكن بخطى الواثق أيضاً الذي لا ينحني أبداً.
(جريدة "الحياة"، لندن، 12 و19 شباط-فبراير 1995).