نحتفل، اليوم، باليوم العالمي للغة العربية بناء لدعوة كريمة بل لقرار دولي من منظمة اليونسكو. وقد انتهت المنظمة إلى ذلك بعد انتباهها إلى أن العربية هي لغة ما يقرب من نصف مليار نسمة، عدا كونها لغة "عالمية" في أكثر من وجه من وجوه حياتها وأفعالها. فهي "عالمية" من جهة عدد الناطقين بها، إذ ينتشرون في أكثر من بلد ومنطقة، في البلدان العربية وخارجها (في تركيا والتشاد ومالي والسنغال وإريتريا والأحواز وغيرها). ويزيد من هذا الانتشار اتساع رقعة وجود المسلمين في غير قارة واحتياجهم الديني على الأقل للعربية (أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين). وهو انتشار عالمي لجهة حروفها وخطها أيضاً، إذ هي اللغة المعتمدة في كتابة أكثر من لغة غير العربية، عدا أنها داخلة تركيبياً ودلالياً في الكثير من اللغات، مثل: التركية والفارسية والكردية والأوردية والماليزية والأندونيسية والألبانية، وفي صورة أقل في اللغات: الإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية وغيرها. ما يمكن القول في أسباب هذا الانتشار؟ أهو انتشار تلقائي، تابع للنمو الديموغرافي وموروثات التاريخ والمجتمعات أم ينتمي إلى خطط نمو وسياسات؟ ألهذا الانتشار صلات بقدرة العربية على إنتاج المعارف والآداب بما زاد الحاجة إليها؟ وماذا عن العربية والعرب، وهم المعنيون في المقام الأول بتدبير أسباب نموها ومنعتها وذيوعها؟

طلبت، في هذه المحاضرة، الوقوف عند أحوال العربية، وفق منظور بل مفهوم أساس أسميه منذ عدة سنوات: "سلطان اللغة"، فما هو وما أقصد به؟إذا كان بعض الدارسين يميز بين جسد السلطان الطبيعي وجسد السلطان السياسي (الرمزي أو الحقوقي)، المتعايشَين في الإنسان عينه، فإنني طلبت، هنا، الحديث عن السلطة (وهي بعض مهمة السلطان) التي لها سلطة القرار والقانون في إقرار اللغة، في إملائها وقواعدها ومعانيها وأساليبها وغيرها؛ والسياسة في العربية، حسب معاجمها، هي "الرياسة" و"التكفل بالسياسة". فما المقصود من ذلك؟ بل السؤال الافتتاحي هو: لماذا اخترتُ هذا الموضوع؟يتوزع الخطاب عن العربية بين خطابين على الأقل: خطاب "التباهي" الصادر عن منظور تبجيلي للغة وغيرها، وخطاب "التشكي" الذي يصدر عن وعي نقدي بأحوال العربية المتراجعة في أكثر من وجه، في وجودها واستعمالها والاحتياج إليها. وهو ما أبتعد عنه طالباً مقاربة مسألة قلما يعيرها الدارسون الاهتمام، وهو ما أقترحه في صيغة سؤال افتراضي: لو تكفل سلطان اللغة، في سياساته وتدابيره وقراراته، بحل جميع معضلات العربية، أكان لهذه السياسات ومتعلقاتها أن تبلغ مبلغ التنفيذ؟ ما الجهة أو الجهات التي يمكن لها أن تقرر وتدير سياسات العربية؟إن فحص العربية، اليوم، يؤدي إلى وصف حال متعدد الأوجه، سأختصره في التالي: للعربية مشكلة تكوينية، إن جاز القول، تتمثل في أنها تتعين في لغتين واقعاً: الفصحى والعامية، وفق اختلافات واسعة بين هذه الجماعة العربية أو تلك. وإن طلبنا تعريف العربية وجب علينا السؤال: أي عربية نقصد؟ أهي عربية الجاهلية؟ أهي عربية القرآن؟ أهي العربية التي يتحدر منها الشعر النبطي الخليجي أو الزجل اللبناني والسوري والعراقي؟ عربيتان، إذاً، قديمتان ومستمرتان، ويزيد من مشاكلهما كونهما يتعايشَين وفق محددين: العصر والمجتمع. فالفصحى كما العامية تتبدلان تبعاً لهذا العصر أو ذاك، وفي هذا المجتمع أو ذاك، ما يجعلني أتحدث عن "حيوات" العربية.في هذا تبدو العربية تاريخية، من جهة، وعابرة للتاريخ (أو: ما فوق تاريخية)، من جهة ثانية، ما له أهمية لافتة، وهي أن العربية هي من أكثر اللغات قدماً وراهنية في الوقت عينه، إذ يقوى الطالب في القرن الحادي والعشرين على قراءة وفهم نص يعود إلى القرن الميلادي السادس، ما يغطي مساحة تزيد على خمسة عشر قرناً من التواصل والاستمرارية والديمومة. لهذا لا يتم التمييز – لأسباب عديدة – بين العربية القديمة والعربية المتأخرة أو الحديثة، وهو ما يمكن أن يلاحظه أي دارس بمجرد المقارنة بين كتابات ترقى إلى هذا العصر أو ذاك من عصور العربية المختلفة. إلا أن لهذه الوضعية مشكلة (بين عدة مشاكل أخرى)، وهي أن اللغة تراكم فلا تفرز، وتستجمع في متنها – باختصار – "حيوات" مختلفة ومشتركة للعربية. هذا فيما باتت لغات عديدة، مثل الفرنسية والإنكليزية وغيرهما، تميز بين لغتها "القديمة" ولغتها "الحديثة"... للعربية مشاكل في كتابتها، في إملائها، إذ احتفظت بأعراض متأتية من "حيواتها" التاريخية المتعددة. أحد هذه الأعراض هو بقاء أثر شفوي، إرسالي، في أبنيتها الإملائية وتتقيد به: تشترط قواعد العربية المعمول بها كتابة: "إن"، لا "أن" بعد فعل القول (وفي استعمالات لغوية أخرى)؛ وهي قاعدة يراد منها الاحتفاظ بالمبنى الشفوي للقول وإظهاره، فيما كان يتوجب الاهتمام بما آلت إليه العربية في صيغها الكتابية. مثال آخر: يتم التمييز بين كتابة: "إذن"، و"إذاً"، في أحوال وأحوال، ما لا قاعدة منطقية له... هذا الأثر الشفوي، والإرسالي في العربية يترافق مع مشكلات ناتجة عن اجتهادات-مقترحات للغويين، وتتمثل في ما يصح – على سبيل المثال - في كتابة الهمزة، في أول الألفاظ أو في وسطها أو في نهاياتها... وهو ما يوقع كاتب النص العربي في مشاكل لا تنتهي، ولا يقوى المعلم على تعليمها بصورة مبسطة ومنسقة ومنطقية، وإنما يتوجب عليه شرحها والتسليم بها كما وردت من دون قدرة تعليلية أكيدة. للعربية مشاكل في قواعدها، وهو ما لم يُعرض ويُدرس كفاية، إذ إن ما نسميه كتب "القواعد" لا يعدو كونه عملَ اللغويين المتأخرين الذين وضعوا هذه الكتب التعليمية (مثل كتب الشرتوني والغلاييني في لبنان)، تأثراً بكتب (grammaire) عند الفرنسيين، و(grammar) عند الإنكليز، فاستنسبوا واختاروا من المتون القديمة صياغات وقواعد، بل صاغوها بأنفسهم من دون إحالتها على، أو إقرارها الإلزامي من جهة مولجة بسياسات العربية، أي بسلطانها. لهذا نجد المقالات والكتب والمعاجم أحياناً تصدر تباعاً تحت عناوين مشابهة لهذا العنوان الشهير: "لا تقلْ:... بل: قلْ". للعربية مشاكل في معاجمها، إذ أن معاجمها المعاصرة – لو اكتفيتُ بها، من دون القديمة التي لها مشاكل أخرى – وُضعت من قبل أفراد، إن وضعنا جانباً "المعجم الوسيط" الذي وضعه "مجمع اللغة العربية" في القاهرة. وهي معاجم منتقاة من متون ومعاجم قديمة ومن جداول مفردات ودلالات متاخرة جرى أخذها من مدونات الأدب والصحافة، من دون أن يكون لهذه التدابير سياسات معلنة ومقررة ومتفق عليها. هذا ما يجعل المعجم – وهو مخزون اللغة وحياتها ومرجعها – عرضة للعمل الفردي والانتقائي، حتى وإن تحكمت به الأمانة والاستقامة. للعربية مشاكل في أساليبها، حيث تتعايش فيها أساليب وأساليب، ما يعود إلى العصور، من جهة، وإلى كاتبي العربية، ولا سيما المبرزين والمجددين فيها، من جهة ثانية. وما يزيد من هذه المشاكل – التي كان لها أن تجلب تجديدات للغة وتوسعة لها - هو امتثال العربية أحياناً، في بعض جملها وتراكيبها، لضغوط ملحة من لغات أخرى، نافذة عليها. هذا يتعين - لو طلبت مثالاً واحداً - في ما لا يتوانى الزميل الدكتور حسن الأبيض عن ذكره، وهو أن العربية افتقدت في أساليبها استعمال: المفعول المطلق، على سبيل المثال. هذه المشاكل – وهناك غيرها – لا تواجه قارىء الفرنسية والإنكليزية وغيرها، إذ يتوجه إلى كتب جرى العمل على كتابتها، وعلى وضع قواعدها، وأقرت من جهات موكل إليها "سلطان اللغة" (كما في حال الفرنسية)، فتستقيم العلاقة بالتالي بين المتعلم ولغته، فضلاً عن أن الشقة، او التباعد بين العامية (بل المحكية) في هاتين اللغتين واللغة الكتابية محدودة وطفيفة. فما العمل؟هذا ما يتكفل به عادة "سلطان اللغة"، الذي يتعين خصوصاً في "المجمع اللغوي"، وفي السياسات التي يتكفل بها الحكم والحكومات. فماذا يجري في بلادنا؟إن جزءاً من مهام هذا "السلطان" موكول في بلادنا إلى الحكومات، إلى وزارات التربية، وإلى لجانها المختصة، بما يشير إلى سلطتها في "إجازة" هذا الكتاب أو ذاك في كتب القراءة والقواعد وغيرها على المدارس والطلاب والمعلمين. وهو ما يجري في كل بلد عربي على حدة بما لا يضمن سوية واحدة لتعلم العربية، خارج السليقة والاكتساب التلقائي...وهو ما يمكن تتبعه في وجه آخر من اشتغال هذا السلطان اللغوي، وهو عمل المجامع اللغوية. فماذا عنها؟ هناك أكثر من مجمع في البلدان العربية: بعضها توقف، فيما يكتفي غيرها بأعمال تتعين في تحقيق المخطوطات القديمة، على سبيل المثال، وينفرد "مجمع اللغة العربية" في القاهرة – وهو من أقدمها – بالعمل على إصدار القرارات، أي الرقابة والإجازة في أعمال اللغة. فهل يقوم هذا المجمع بما أوكل إليه؟ العائد مثلي، في دروسي الجامعية، إلى "قرارات" هذا المجمع، وإلى تعليلات قراراته، وبعض إصداراته، يجد أنه يتابع، بتفاوت بين فترة وأخرى، مهامه المذكورة، ولكن من دون أن يصيبه فيها – على ما أرى – التوفق والصحة. فالكل يتندر حتى اليوم في ما أطلقه من بديل عن لفظ: "الساندويش" (أي: "الشاطر والمشطور وما بينهما الكامخ")، فيما ينسى مقترحاته في تعيين عدد كبير من "ألفاظ الحضارة"، كما يسميها. كما يمكن لأي دارس أن يتابع "إجازاته" في استعمال هذا التركيب أو ذاك في العربية، فيراه يبيح استعمال التركيب: "لعب دوراً" (بتأثر واضح من الفرنسية)، على سبيل المثال، من دون حاجة أسلوبية وتركيبية لازمة له، بوجود التركيب: "قام بدور"، أو "أدى دوراً" وغيرها الكثير في العربية.إلا أن مشاكل المجمع – هذا أو غيره – لا تتوقف عند قصوره، أو عدم توفقه، في سياساته، وإنما تتعداها لتشمل وصول قراراته إلى أصحابها، أي إلى أهل العربية. فالصلة بين المجمع والحكومة ليست قائمة في صورة محكمة من ناحية القوانين، بما يلزم الحكومة بقرارات المجمع (كما هي الحال في فرنسا، على سبيل المثال)، وبنشرها وبلوغِها نطاق العمل بها. فالقانون الفرنسي "يلزم" (بالمعنى الدستوري والقانوني)، على سبيل المثال، الحكومة الفرنسية بوجوب التقيد بقرارات "الأكاديمية الفرنسية"، وإدخالها حيز العمل، وبما يعاقب عليه القانون في حال عدم التقيد بها. قد تكون الحالة الفرنسية استثنائية، بل نادرة في تواريخ العلاقات بين سلطان اللغة وسلطان السياسة في المجتمعات الحديثة، إلا أنها تشير إلى "وكالة" مطلوبة في سياسات أي لغة لم تنصرف لمعالجتها الحكومات العربية، فكيف إذا كان لبلدان العالم العربي أكثر من حكومة، وهي لا تنجح بعد – لا هي ولا منظمة "الألكسو"، على سبيل المثال – في توحيد أسماء الشهور، وفي اعتماد لغة الأرقام نفسها بين المجتمعات العربية المختلفة!تحتاج العربية إلى رسم سياسات، في إملائها وقواعدها وألفاظها الاصطلاحية وغيرها، فلا تبقى رهينة الاجتهادات وحدها – وإن كانت تصدر عن مجتهدين وعلماء أكفاء، خصوصاً وأن حسن اشتغال لغة من اللغات لا يقوم بالضرورة على حسن الاجتهاد وحده، وإنما خصوصاً على سريان هذا الاجتهاد في الجماعة اللسانية، أي على اتباعه والتقيد به. وهو ما يقودني إلى الحديث عما وضعته أساساً فرعياً لهذه المحاضرة، وهو الحديث عن متعهدي حياة اللغة: أهم مستعملوها أم مقعدوها؟ هذا النقاش تحول إلى جدل واسع في أكثر من لغة، وهو ما ينصرف دارسو اللسانيات إلى مناقشته وفق هذه الوجهة أو تلك، ملاحظين بأن الميل الراجح في هذا النقاش المتأخر يميل إلى جانب المدافعين عن نظرية أن اللغة تقوم وفق إرادات مستعمليها والناطقين والكاتبين بها. وهو يعني الوقوف عملياً إلى جانب الزمن، والتاريخ، والبشر، والتواصل... غير أن اللغة – على ما أرى – لا تتعين فقط في جريانها، وإنما في متابعته أيضاً. ذلك أن عمل اللغة قد يُحسِّن – إن كان موفقاً – أداء اللغة عند مستعمليها، وقد يجد لها حلولاً لا توافق اللغة في تاريخها وحسب، وإنما يوافقها مع غيرها من الألفاظ أو القواعد وغيرها. يشدد البعض على أن الحياة تقع بين الإرث والاعتياد في اللغة، ولكنهم لا ينتبهون إلى أن واضع اللغة، أي الموكول إليه سلطان اللغة، يقوى على إدخال اللغة في تاريخها أيضاً. وهو ما يقودني إلى تناول الوجه الأخير من هذه المسألة، وهو: دور المعجم. من يتابع مجريات النشر الدورية في فرنسا وإنكلترا وعدد كبير من الدول يتحقق من صدور أكثر من معجم في السنة الواحدة، على أن يتضمن الألفاظ والتراكيب والاستعمالات "المقرة" أو الواجب نزولها إلى نطاق الاستعمال سنة بعد سنة، وهو ما سبق لـ"الأكاديمية الفرنسية"، على سبيل المثال، أن أجازته في السنة المنقضية. إن إصدار المعاجم على هذه الصورة ينظم دوران اللغة، ويحقق التواصل بين واضع اللغة ومستعملها، من دون أن يبطل عمل المبدعين، ولا سيما الشعراء، في تجديد استعمالات اللغة، وإزاحة تراكيبها وتعديلها. أكتفي بهذه الملاحظات، خالصاً إلى القول: تحتاج العربية إلى "سلطان لغة" يتوكل بها، وتعهد له الحكومات أمرَ إدارة هذه اللغة وإصدار تشريعاتها وقواعدها، في تناغم حي وخلاق مع "حيوات" العربية في مجتمعاتها وأساليب كاتبيها، على أن ينتظم هذا العمل، أو هذه الدورة بالأحرى، بين الواضع والمستعمل وأدوات الذيوع من معاجم ومدارس وكتب ومعلمين. وإلا فإننا سنفاقم تراكم المشاكل من دون حل، فيما يتحول انتشار العربية المتعاظم إلى انتشار تلقائي، ديموغرافي السبب، في غالب الأحوال. تتنبه أكثر من جهة عربية ولبنانية إلى مصاعب العربية المتفاقمة في العقود الأخيرة، وإلى تراجع استعمالها في المحادثة وأنظمة التعليم، وفي البيت قبل الجامعة، وإلى خفوت بريقها في عيون ناطقيها، بل إلى تراجع الإقبال عليها درساً، حتى إنها باتت أحياناً كناية عن "الإرهابيين"! هذا يحتاج إلى مجهودات عديدة، وقبل أي شيء آخر إلى ما يجعل من "سلطان اللغة" واقعاً في حياة العرب والعربية. حتى لا نقول في كل سنة عنها ما قاله المتنبي: "عيد، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟".


(في اليوم العالمي للاحتفال بالعربية، جامعة البلمند، 18-12-2012).