تواشجات الإيديولوجيا والحداثة: أنطون سعادة وأدونيس



ما حقيقة التواشج بين الآداب والإيديولوجيا في عالم العربية؟ أهي علاقةُ لزومٍ لا تتوانى عن التأكد، «شاء المثقف أم أبى» (كما قال سارتر)، على الرغم من الخيبات والمراجعات؟ أم هي تنحو، في عهد «موت الإيديولوجيات»، كما يزعمون، إلى علاقات استبدال، ومنها حلمُ بعض الأدباء بجعل الآداب رافعةً إنسانية جديدة بدلاً عن الإيديولوجيات (1)؟
أياً كان الجواب، فإن دعوات الأدباء هذه لا تغيب، أو لا تردم الهوة التي تفصل بين حال العالم، اليوم، وحال الفكر فيه: ففي الوقت الذي تمضي فيه النزعة المضادة للإيديولوجيا في نقدها المنحى القمعي، والنهج المزور، و«الوعي الزائف»، التي تشتمل عليها الإيديولوجيات، فلا تعبأ بها في نهاية المطاف ولا تعيرها أي اهتمام إيجابي، نتحقق من أن العالم يرتد أو يتقوقع على أحواله وأوضاعه الاتنية، أي المتمركزة على ذاتها. وأبلغ تعبير عنها في البلاد العربية هو مصادرة التيارات «المتشددة» للمبادرة فيها. كما إن نقد الإيديولوجيا لا يخفي انهيار «الكليات المثالية» (من «مثال»، أي «اليوتوبيات»)، الكليات المستقبلية، التي كانت ترسم للإنسان معنى لحياته، واقعاً لا في منشئه أو أصله، وإنما في ما يعمل من أجله ويصبو إليه.
على أي حال تتلقى الماركسية، إحدى هذه الكليات المستقبلية، ما جنتْه على نفسها: فلقد قام نقد الماركسية لغيرها، ولا سيما للإيديولوجيات الرجعية واليمينية، على أنها منازع إيديولوجية (أي غير "علمية")، مهما خفي صنيعها، وما لبثت أن أعدمت - فعلاً، لا استعارة - أي إيديولوجية غيرها، على أنها الحقيقة النهائية التي ما بعدها حقيقة. وبلغت الإيديولوجيا مع التجربة الماركسية هذه حدوداً ما بلغتها أي ايديولوجية قبلها، إلا الفاشية مع اختلافات بينهما، وهي أنها عممت الجانب الجزئي والتجزيئي الذي تقوم عليه أي إيديولوجية، على ما سأرى أدناه، بوصفه الكلية المستقبلية، كما فرضت هذه الإيديولوجية فرضاً قمعياً لاغية لغيرها وعادمة لحركة الفكر وتناقضاته الحيوية.
واللحظة الراهنة تبقى في تردد مرتبك بين نقد الإيديولوجيا اللازم وبين ضمور أي تصور عقلاني وحديث لفكرة التقدم. وتدعونا هذه اللحظة بالتالي إلى تعرفٍ مزيد على العلاقات المتواشجة بين الإيديولوجية والحداثة، ذلك أنهما توأمان لا ينيان عن التنابذ، فيما هما وليدان متعالقان (أشبه بالتوائم السيامية). علاقات متواشجة، بما فيها من تداخل والتباس وتناقض، على أن فيهما ما يجدد وما يميت في آن. ففي الإيديولوجيات، ولا سيما التجديدية منها، سعيٌ لافت إلى تجديد الأدب وصيغه (وأبلغُ تعبير عنها ما عرفته روسيا، مع «الشكلانيين الروس» وغيرهم، أو مع التشكيليين، مثل ماليفيتش وغيره، إثر الثورة البلشفية)، وإن أدى إلى أدبيات حزبية ولدت ميتة. كما إن تجديدات الآداب والفنون نهلت، هي الأخرى، من تقديمات الإيديولوجيات، وإن اقتصرت هذه المواد الإيديولوجية أحياناً على «وجبات ميسرة» وضحلة وضعيفة الصلة بالتجديد الإنساني الذي تشتمل عليه هذه الإيديولوجيات مبدئياً.
إن طرح هذه الأسئلة وغيرها مفيد في وقت نتبين فيه ضيق الأجوبة المتاحة؛ ونتحقق من أن البعض لا يزال ينتظر «الخبر السعيد» الذي بشر به العديدون، من فوكوياما وأمثاله، بأننا مقبلون - أخيراً ! - على عهد الحرية «الأكيد». كيف لا نتساءل، ونحن لا نقع إلا على أجوبة كهذه: «دعونا نعمل الآن. على أي حال، ما جلبَ التفكير سابقاً غير المصائب والتعقيدات غير المجدية!». كيف لا نسعى إلى تبينِ أو مكاشفة أو مطارحة ما ينغص عتمة المعنى ويؤرقها، ونحن نخشى معالم «عبودية جديدة» خلف هذه الحرية الموعودة التي لا نرى فيها وجهاً لنا غير وجوهنا المتفرجة والمستهلكة؟
فما يجري فعلاً لا يهيء، ولا يبشر بـ«عشية الديمقراطية» الموعودة (مثلما جرى الكلام سابقاً عن «عشية الثورة»)، بل بـ«قسمة جديدة» للعالم، ستكون فيها للقوة والأقوياء - من جديد - القدرة على التعيين والتسمية، انطلاقاً من خطابات خصوصية، ومن محددات محلية، لا من تصور عالمي فعلاً، ولا مشترك حقاً. وما يبدو مثل خلخلة حالية، ويرى فيه البعض على عجل (وربما لنفاذ صبر) ترتيباً جديداً للعالم، لا يشير واقعاً إلى ترتيب جديد لـ«القرية الكونية»، وإنما إلى تنافس على الحيازة في هذه الفترة، المفتوحة على توزع جديد للأقوياء، ولكن من دون الإخلال أبداً بضعف الضعفاء.
فالمفارقة لافتة بين الحديث عن عالم واحد، له مرتجيات واحدة، وبين فكر وإيديولوجيات تسد فتوقها، أو تنشغل بأمور وصفية وتطبيقية وحسب، من دون الالتفات إلى شروط قيام «كونية الرجاء الإنساني». هذا في الوقت الذي لا نتعرف فيه، خلف «موت» الإيديولوجيات المزعوم، إلا على وجوه الاستغلال، ولكن المبررة هذه المرة («إعملوا أكثر وبأجور أضعف، فهذا أفضل من الموت»)؛ وغير تسعير حمى العصبيات في الأمم الضعيفة، بوصفها الملجأ المتبقي للحفاظ على الذات، وهو ما يعرضها لأبسط أنواع الشعوذة، ومنها الدينية. ألا نكون بذلك عرضة لهذه التلاعبات، التي لا تبقي في عالم العربية سوى ممر ضيق، سارعَ إلى احتلاله منذ وقت أصحاب الحلول العجائبية؟ هل دخلنا في عهد «الفتوة» و«الشاطر حسن» و«المحتال الظريف» على حساب الإيديولوجيات التي ترى إلى الإنسان في معنى يأتي، لا في محددات إتنية أو مذهبية أو عرقية؟ ألا تكون هشاشة الإيديولوجيات دلالة على نشأتها المتأخرة، وعلى أعراض مسارها؟ أهي «حديثة» فعلاً، بما تقوم عليه من علاقة متسقة وتدبيرية بين المعتقد والنظام؟ هل تكون الحداثة بديلاً عن الإيديولوجيات «المنخسفة»، أم العين المتنبهة الدائمة التي تبقى يقظة ولو بالتفاتات خافتة؟
الإيديولوجيات «تنخسف» في مدار الاضطرابات، ولكنها لا تنقرض، خاصة وأن مسببات التغيير لا تزال قائمة مع الظلم والاستبداد، مع ضيق السجون ووفرة المساجين، مع اتساع أفواه الجائعين وقلة الأرغفة. كيف لها أن تنقرض في عالم يتبختر، في ملتقيات الحوار، في ألبسته الفولكلورية، ويتقاذفها مثل علامات تمييزية، تقسم البشرية من دون أمل بوحدتها أو بتطلعها إلى مثال نبيل واحد!
هل يعقل أن تكون سيارات الإسعاف ومصل الإغاثة من جهة، والمتسللون أو «الإرهابيون» من الجهة الأخرى، المسافرين الوحيدين على الطريق بين الجنوب والشمال؟ ألا توجد فكرة جذابة عابرة للخرائط والأقوام والحضارات تستعيد حلم الإنسانية القديم في العدل؟ ذلك أن الديمقراطية - وقد جعلها البعض «منتهى» لتاريخ - لا تكفي لأن تكون مثالاً محفزاً للقوى والمخيلات، على نفعها الأكيد في تسيير أحوال المجتمعات. ففي حمى التصعيد التي تصيب الجماعات في فترات الهلع، والتي تكشف عن هلع في الهوية، لا عن ترسخ وتأكد فيها أبداً، لا تختفي وحسب الأفكار التي تجمع البشر في ما يوحدهم ويصعد تطلعاتهم في آن، وإنما تختفي أساساً الفكرة «العقلانية»، النواة الأكيدة والمتبقية في الحداثة، ونصبح أسرى أبسط الأفكار، من شعوذة وخلافها من المعتقدات التي تسحب المقادير من أيادي البشر.
ما كان لهذه المراجعات أن تجري لولا سقوط الأنظمة الاشتراكية، و«على رأسها» الاتحاد السوفياتي. وفعلُ السقوط فسرَه البعض على أنه النتيجة المتأخرة لسقوط حاصل أصلاً، فيما جنح آخرون إلى تفسير ذلك بسؤ تطبيقها وحسب، لا بعطبها العضوي. وأياً كان التفسير فإن اختلافاته تجدد النقاش حول التجاذبات والتلاقيات بين الإنسان وتصوره للعالم ولذاته. ذلك أننا ننسى، في حمى المناقشات هذه، ما شكلته الانضواءات والتكوكبات الإيديولوجية، فيما مضى، ولا سيما في عدة عقود من القرن المنصرم، من محفزات للإنسان والفكر. هل الإيديولوجيا قديمة فعلاً، وناشئة مع الإنسان، أم ترقى إلى ظروف بعينها؟ مما ينشأ عطب الإيديولوجيا: من مبناها الجزئي والتجزيئي الذي يسعى إلى اختصار العالم والإنسان، أم من مساعيها العملية لإلحاق ما عداها فيها، وفي كيفيات تعسفية غالباً؟ ولكن ألا تتصل الإيديولوجيا بطلبِ مثالٍ وحقيقةٍ؟ ألا تعمل وتنشط إحقاقاً لعدالة، أو لحلم إنساني أو جماعي أو قومي أو ذاتي وغيره؟ أليست الإيديولوجية منشِّطة، بل مولِّدة للأفكار والصور ومجددةً للسلوكات والطقوس والاعتقادات؟ ولكن لأبدأ بالسؤال عن قِدَم الإيديولوجيا: أهي قديمة قِدَم البشرية نفسها، أم هي ناشئة في ظروف بعينها؟

1 . الإيديولوجيا : مساعٍ تعريفية
يعمد فرانسوا شاتليه (François Chatelet )، في كتابه «تاريخ الإيديولوجيات»، إلى مسعى يرى فيه أنها متحققة في التاريخ منذ قيام «العوالم الإلهية»؛ أي يستبعد من تقويمه ما سبق أن أسماه بيار كلاستر (Pierre Clastres ) «المجتمعات التي لا دول له»، مميزاً بين الإيديولوجيات التي ترتبط بالدول، وبين الأساطير التي ترتبط بالجماعات الأولى غير المنظمة، بادئاً تاريخه بالتجربة الفرعونية. ذلك أن الإيديولوجيا، في حسابه، تشترط «وجود سلطة مركزية للقرار والمراقبة، ووجود نظام سياسي مدير ومشرِّع للجماعة، ما يعني وجود دولة بالتالي» (2). ترتبط الإيديولوجيا، إذن، بفكرة الدولة في اشتغالها، إلا أن هذا التعريف يعين الإيديولوجية بوصفها السلطة في عدد من ممارساتها وحسب، فيحق لنا التساؤل بالتالي: وماذا عن وظائف أخرى قد تطلبها الإيديولوجيات، وهي بثُّ الأفكار والترويج لها والتسلح بها لتسلم السلطة؟ هل عرفت المجتمعات تنظيمات إيديولوجية قديمة قِدم تجارب الدول نفسها؟
لو عدتُ إلى عدد من الأدبيات الإيديولوجية لما وجدتُ الكثير عن تاريخها، مثل مسعى شاتليه المذكور، ذلك أن الأدبيات هذه تقيدت بالتجربة الحديثة للدول والأحزاب و«التنظيمات الإيديولوجية»، ووجدتْ خصوصاً في الأدبيات الماركسية (وفي الأدبيات المناهضة والناقدة لها) مجالاً لتبلورها.
ج. غال (J. Gall )، كاتب مادة «إيديولوحيا» في «موسوعة إينيفرساليس»، وجد صعوبة في التوصل إلى تعريفٍ جامع للإيديولوجيا أو إلى وضعه، فعوض عن ذلك بعرض التعيينات المختلف عليها، التي تتجاذب هذا التعريف عند مؤلفيه، من ديستوت دو تراسي (Destutt de Tracy ) وكابانيس (Cabanis ) في نهايات القرن الثامن عشر، في أقدم تعييناتها، مروراً بماركس، أكثر الفلاسفة الذين محضوها تعيينات وحمولات محددة ووضعوا لها قابليات إجرائية، وصولاً إلى ناقديها المعاصرين، مثل ريمون آرون (Raymond Aron ) ولوي التوسير (Louis Althusser ) وغيرهما. وانتهى غال، بعد استعراضه هذا، إلى القول: «انتهى أ. ل. كروبير (A. L. Kroeber ) وكلايد كلوكهون (Clyde Kluckhohn ) إلى جمع مئات من التعريفات عينتْ الثقافة في صور مختلفة، وإن سعياً مماثلاً (للتعريف بالإيديولوجيا) يؤدي إلى النتيجة نفسها». فما التعريفات هذه؟
هناك تعريف «تحقيري» للإيديولوجيا، يجعلها مرادفة «للفكرة الخاطئة، ولتبرير المصالح والرغبات»، حسب ريمون آرون؛ وهناك تعريف «محايد»، بل «مدحي»، يرى إلى الإيديولوجيا مثل تنظيم، يكاد أن يكون دقيقاً، لموقف إزاء الواقع الاجتماعي أو السياسي، ومثل تفسير يكاد أن يكون نسقياً لما هو قائم ولما هو مرجو. وهو ما أتحقق منه في تباين آخر يميز فيه بعض الباحثين بين معنى كلي وآخر جزئي للإيديولوجيا، ونجده عند كارل مانهايم (Karl Mannheim )، على سبيل المثال، الذي يفرق بين الإيديولوجيا في طابعها الكلي والعام، أي البنيوي، وبينها في طابعها الجزئي والخصوصي، أي السجالي. ففي تعريفها الأول (الكلي والعام) تنشغل الإيديولوجيا بتحويل عدة الفكر وفق منظور خاص، وهو دور «النخب» التي لا عوالق لها بفئة أو بجماعة ما؛ وفي تعريفها الثاني (الجزئي والخصوصي) تشتمل الإيديولوجيا على الطابع الاتني «المتمركز على ذاته»، ما يجعلها عرضة للتزوير والتزييف المطلوب أو للوقوع في الخطأ وخلافها.
والإيديولوجيا في ذلك كله لفظ، بل مفهوم متنازعٌ عليه، يعني الشيء وعكسه: التزوير والحقيقة، الوعي الزائف والمثال، وغير ذلك من التناقضات المستعصية. فكيف إذا مالت الإيديولوجيا إلى تعميمِ وتأكيدِ مثالٍ؟ يرى مانهايم أن الوعي الزائف ملازم للمثال والإيديولوجيا في آن، على أن المثال يتجه صوب المستقبل، وهو في ذلك عامل ثوري، فيما تتجه الإيديولوجيا إلى المحافظة الاجتماعية، وهي في ذلك عامل جمود. إلا أن تمييزات مانهايم لا تقيم الفارق، حسب غال، بين مثال فردي فصامي أشبه بـ «هروب إلى تهويمات مجدبة»، وبين مثال دال على سلوك مجموعات تحلم بالمستحيل لكي تحصل على الممكن: المثال الأول يتجاهل التاريخ، فيما تستدعيه الثانية بقوة وزخم.
والتمييز هذا لا يبتعد كثيراً عما قال به أكثر من دارس، وهو التمييز بين رؤيا العالم والإيديولوجيا، حيث أن الأولى «كلية»، والثانية «جزئية»: تمتاز الأولى بجانبها الجدلي، أي بتوافر تناقضات فيها لحركة الفكر، فيما تمتاز الثانية بجانبها «المتمركز على ذاته»، والعادم للكليانية والجدل. ولقد وجد بعض الدارسين في فكر ستالين نموذجاً للإيديولوجية هذه، إذ قام على صورة مزورة عن التاريخ، قصرَتْه على نزاع بين قوتين متقابلتين ومتجانستين.
وخلص غال من عرضه إلى اقتراح التعريف التالي (على أنه خلاصة استنتاجات للتعريفات التي عرضَها ونقدها في آن): «الإيديولوجية نظام من الأفكار متصلٌ اجتماعياً بتجمع اقتصادي، سياسي، إتني أو غيره، ويعبر من دون معاملة بالمثل، وبوعي متفاوت، عن مصالح هذا التجمع، في شكل غير تاريخي (أي لا يعبأ بمعطيات التاريخ ومجرياته، ولا يدخلها في حسابه)، وفي شكل مقاوم للتغيير وفاصل للكليات. وتمثل الإيديولوجيا في ذلك الخلاصة النظرية المكثفة لشكل من أشكال الوعي الزائف» (3).
أما شاتليه فقدم أربعة تعيينات للإيديولوجيا، هي التالية:
- في معناها الأول، تعين الإيديولوجيا «نظاماً - على درجات متفاوتة من الترابط - من التصورات، والصور و«القيم» التي تُنظم بها جماعةٌ أو فرد، في مجموعة مقبولة، تفرُّقَ تجربتها». ويشير هذا المعنى إلى ما يقوله اللفظ الالماني (weltanschauung )، الذي يعني: «الرؤيا-التصور»؛
- أتحققُ، في معناها الثاني، من أن للإيديولوجيا «وظيفة»، و«توفرُ الأساسَ النفسي الذي يعوِّض عن الاختلال الحقيقي»، والإيديولوجي في ذلك هو بمثابة التخيلي: «ويحقِقُه وعيٌ لا يقوى على تحمل حاله الفعلية من المآسي والتناقضات، فيعكس في ماوراء محلومٍ به (ماوراء ديني، أو جمالي، أخلاقي وسياسي) صلحاً مثالياً»؛
- وتبدو الإيديولوجيا، في معناها الثالث، نقداً لما اشتمل عليه معناها الثاني، إذ تنحو إلى فرض نظامها، وهي في ذلك تقف إلى جانب الشرطة والجيش، وإن كانت خافية في المجتمع، يشير إليها البعض على أنها «طابع» العصر أو المرحلة، أو صمام الأمان للتجربة الجماعية؛
- أما معناها الرابع فيستقيه شاتليه من عمل لوي ألتوسير على فكر ماركس، وتمييزه بين نزعتين في هذا الفكر: نزعة «إيديولوجية»، وهي المعرضة للخطأ، وأخرى «علمية»، وهي الصائبة (4).
هناك، إذن، اختلاف في معالجة المسألة بين عرضَي غال وشاتليه، على حذرهما وإسهامهما اللافت في تناولها: يميل الأول إلى جعل الإيديولوجيا نوعاً من «الوعي الزائف»، ويجد الثاني في مقترح ألتوسير حلاً مُرضياً، يستعيض به عن معاني الإيديولوجيا الثلاثة الأولى، التي لا تعدو كونها، في أحسن الأحوال، من باب «التخيل» الجميل، ولكن غير العلمي طبعاً.
لن أعرض لعدد آخر من هذه الطروحات - على أهميتها -، ذلك أنها تتعين خصوصاً في سجالات متصلة بالتجربة الستالينية، كما ألمحتُ أعلاه، سواء في نقد الناقدين للماركسية على أنها إيديولوجية وحسب، أو في نقد الماركسيين أنفسهم (مثل ألتوسير خصوصاً) لها، الذين فصلوا فكر ماركس، تبعاً لـ«قطيعة ابيستيمولوجية»، بين مرحلة «إيديولوجية» (أي مضللة بالتالي) وأخرى «علمية»، أي يمكن الاحتفاظ بها والتعويل عليها. ويفيد مثل هذا التوضيح في الإشارة إلى أن غالب هذه الكتابات سعى إلى فهم الإيديولوجيات في فعلها «القمعي» والتنظيمي، أو فيما قاله فرانسوا شاتليه عن دور الإيديولوجية، وهو أنها «تؤمن (للنظام أو غيره استقراراً) وتطمئِن (المعتقدين بها) كذلك».
لست في مجال مناقشة تعريفات الإيديولوجيا عموماً، إلا أن عرضَها مفيد إذ أبان طبيعتَها المتناقضة، بين استعمالَيْها، المدحي والتحقيري. وأحتفظُ من هذا العرض بأفكار وتبينات عديدة أظهرتْ، على سبيل المثال، التباين بين «الرؤيا-التصور» المنفتحة وبين العقيدة الشديدة الترابط، وبين التصور العام على ما فيه من جدل وحيوية وإمكان تناقضات وبين نسق فكري متمركز على ذاته، أي مصاب بتناولات جزئية وتجزيئية، إلى غير ذلك من الأمور. كما أبانت الشروحات هذه التشابكَ الحاصل، بل «المتواشج»، بين التخيلي والوعي الزائف. ولكن ما لم تتوقف عنده هذه التعريفات، أو ما كان مضمراً فيها، فهو دراستها للإيديولوجيات في اشتغالها كنظام ضابط، وقمعي غالباً للمجتمع (التجربة الستالينية خصوصاً)، من دون الالتفات إلى الإيديولوجيات في عملها خارج دورة السلطة (أو قبل استلامها للحكم)، أي العمل الدعاوي، الإعدادي، التحفيزي، الترميزي، أي تأسس النظام الفكري وتحددُه في أفكار وسلوكات ومبادىء ورموز وصور وتمثيلات وقيم وخلافها، أو استثمارُه لـ«مثال» مفتوحٍ على المستقبل ومحفزٍ للطاقات.

 

2 . تواشجات الأسطورة والإيديولوجيا
ما يعنيني قوله هو أن التجاذب هو محل التعيين في حمولات الإيديولوجيا وتعييناتها؛ وما أقوى عليه هو استقصاء أسباب التجاذب، ليس إلا، ودرسُها على أن كل حالة إيديولوجية تفيد عن صيغ وتحققات مختلفة للتجاذب هذا. واستدراكاتي هذه تفيد في مقاربة موضوع هذا الفصل، ولهذا أطلقتُ على التجاذبات تسمية «التواشجات». فلو عدتُ إلى الجذور الدلالية للفظ «وشج» (في مادة «وشج» في «لسان العرب») لوجدتها تلتقي حول سمات دلالية متقاربة تعني «التداخل» و«التشابك» و«الالتفاف»، وتصيب في ذلك النبات (:«الوشيج: شجر الرماح (...) وسميت بذلك لأنه تنبت عروقها تحت الأرض»، و«الوشيجة: ليف يفتل ثم يشبك بين خشبتين ينقل بهما البر المحصود»)؛ وتصيب الإنسان أيضاً (:«الواشجة: الرحم المشتبكة المتصلة»)؛ وتصيب الأشياء (: «وشج محمله إذا شبكه بقد أو شريط لئلا يسقط منه شيء»، «وعليه أوشاج غزول، أي ألوان داخلة بعضها في بعض»). دلالات هذا اللفظ جامعة، إذا جاز القول، تصيب الإنسان والجماد، كما تصيب الإنسان في أموره الداخلية واعتقاداته وهمومه: «أمر موشج: مداخل بعضه في بعض مشتبك»، «ولقد وشجت في قلبه أمور وهموم». وهو ما حملني على طلب السؤال عن «التواشجات» بين الإيديولوجيا والحداثة، وأُجملُه في عدة أسئلة: هل استعانت الحداثة (أو التجديد) الأدبية، أو تجارب بعضهم فيها، بإيديولوجية بعينها؟ وهو ما يمكن طرحه في صيغة مقلوبة ومطلوبة: هل كانت الحداثة (أو التجديد) في أسباب دعاوى هذه الإيديولوجية الحزبية، أي المنظمة؟ كيف لي أن أرى صلات الشعراء بعقيدتهم إذا كانوا حزبيين، وصلات عقيدتهم بدعاويهم الشعرية؟
ولقد وجدتُ في تجربة «الحزب السوري القومي الاجتماعي» تجربة صالحة لتطارح هذه المشكلة وغيرها، خاصة وأن النقاد والمؤرخين الأدبيين لم يتوقفوا في كتاباتهم عند دوره في تجربة التجديد الأدبية. وطاولتْ هذا الحزب، مثل إسهامات بعض حزبييه، مواقف نبذية، اكتفت بالتنديد بعقيدته (القومية السورية بدل العربية)، من دون أن تتناول المسألة الثقافية التي نهضت عليها هذه العقيدة، ولا التجديد الذي طلبته هذه المسألة في تناولاتها. كما غفلت هذه الكتابات عن صلة هذا الحزب بالشعر تحديداً، بدليل أن أعضاءه كتبوا الشعر، لا غيره: ما يعني ذلك؟ أفي الإيديولوجية هذه ما يعزز مثل هذا السلوك لا غيره؟
ربيعة أبي فاضل تناول فكر أنطون سعادة، مؤسس الحزب (5)، ولكن على أنه «مهجري»، وقلة من النقاد تطرقت إلى إسهاماته في المسألة الأدبية، منهم الشاعر والدارس كمال خير بك، الذي توقف عند دور سعاده هذا في أطروحته عن «حركة الحداثة» من خلال مجلة «شعر». ذلك أن الكشف عن مواقف سعادة من هذه المسائل لا يوضح جانباً من التاريخ الأدبي وحسب، وإنما يخفف مقادير من الالتباس أيضاً، ولا سيما في تأريخ التناول الاسطوري في الشعر العربي، والعلاقات بين الإيديولوجيا والتجديد.
إن التعرف على هذه الجوانب المظلمة من التاريخ الأدبي والإيديولوجي ضروري ومفيد، خاصة وأن عدداً من الشعراء العرب ناضلوا في صفوف هذا الحزب، ونهلوا من منابعه، مثل: سعيد عقل، صلاح لبكي، يوسف الخال، خليل حاوي، أدونيس، كمال خير بك، نذير العظمة وغيرهم، ممن لعبوا - ولا يزالون - أدواراً مميزة في تجديد الشعر. فهل كانت هذه الإيديولوجية باعثاً للتجديد؟ أي تجديد؟ أية قيم ومثل؟
أنطون سعادة، مؤسس الحزب، خلَّف وراءه، بخلاف غيره من مؤسسي الأحزاب العربية، كتاباً في المسألة الثقافية، بل الإبداعية أيضاً، هو كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري» (6)، مما يسهل علينا الإجابة عن هذه الاسئلة. ولا يبالغ خير بك في كتابه المذكور حين يجعل من كتاب سعاده «أقوى بيان مضاد ضد التقليد الشعري العربي» (7). فماذا عن هذا الكتاب؟
يحكي سعادة في مقدمة كتابه وقائع الحادثة التي دعته إلى القيام بهذه المحاولة الكتابية: «في شهر مايو (أيار) من هذه السنة (1942) وقعتْ في يدي نسخة من العدد الثاني، السنة الأولى، من مجلة «العصبة» التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، وهو العدد المخصص لشهر فبراير (شباط) سنة 1935(...). رأيتُ أن أنظر في هذه الصفحات وأقف على ما فيها فوجدتُ نص مراسلة أدبية بين ثلاثة أدباء سوريين هم أمين الريحاني ويوسف نعمان معلوف وشفيق معلوف. والمراسلة المذكورة عبارة عن ثلاثة كتب مشتملة على آراء ونظريات في الشعر والشاعر (...). قرأتُ الكتب الثلاثة المشار إليها وقرأتُ التعليق الأخير الذي ألحقَه بها شفيق معلوف حين دفعها للنشر في المجلة المذكورة. فشعرتُ بالنقص الفكري الكبير الذي مثلته الكتب في هذا الموضوع والحاجة إلى درس يتناول موضوع الأدب في أساسه ويجلو الغوامض الكثيرة التي أشوت فيها سهام الرماة وضاعت مجهودات الكتاب» (8).
وجد سعادة في هذه الكتابات مادة وذريعة أيضاً لكتابه، منطلقاً من شعور مفاده «التألم» من «تفاهة الأدب»، و«بلبلة الأدباء»، و«فوضى الأدب» في سوريا «الطبيعية» (حسب لغة سعادة). ولا تلبث هذه المحاولة الأولى أن تمهد له الطريق لكي يطرح موضوع الشعر والشاعر. ويوفر الكتاب الفرصة للتعرف على آراء عدد من الأدباء العرب في مسائل التجديد الأدبي في صورة عامة، متوقفاً خصوصاً في معالجات نقدية، تنظيرية أو عينية، أمام تجارب شعرية مهجرية، لمقارنتها أو مواجهتها بما يقوله نفسه.
قراءة هذه المادة تُظهر وجود تباين يقيمه سعاده بين: «العود إلى الماضي» (أو التقليد) و«العصرية» (أو الابتكار)، أشبه بمحورين متناقضين ومتقابلين. ففي غير مرة يرد ذكر «التقليد» و«المقلد»، و«الابتكار» أو «المبتكر»، كمفردات بمثابة المصطلحات، أو ما يشابهها، خاصة في الرسائل. ولا يقتصر هذا النقاش، في واقع الحال، على وجوب (أو عدم وجوب) الابتكار- حيث أن أحداً لا يعترض على هذه الوجهة، على ما يبدو -، بل يتوقف حصراً حول طريقة الشاعر المعلوف في «الأحلام»، وهي الوقوف على الأطلال. فالريحاني مثل المعلوف العم يجمعان على نقد هذه الطريقة، وهو ما يسميه الريحاني بـ«العود»، ناصحاً الشعراء: «كفكفوا دموعكم سلَّمَكم الله» (9). وهي النصيحة عينها التي يدعو إليها المعلوف العم قريبَه: «أن لا تعود حياتك كلها في ما تكتب إلى البكاء والنواح على الطلول البالية والآثار الخربة، كما يفعل أكثر الكتبة الشرقيين، ولا سيما الشعراء منهم» (10).
لا يكتفي سعادة بهذه العينة المحدودة، بل يُلحق بها عينات أخرى منتقاة من مقالات للأدباء محمد حسين هيكل وخليل مطران وطه حسين، وتتوقف بدورها أمام قضية التجديد الأدبي وتعالجها. والتجديد، بل «العصرية»، هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب «بشعور العصر الذي هو فيه»، حسب هيكل. وهو ما يدعو إليه المعلوف، قريب الشاعر، إذ يطالبه بطرق «المواضيع الحيوية والعمرانية»، طالما أن «فضاء الشرق ممتاز عن كل فضاء (...)، يوحي إلى المرء ما لا يوحيه فضاء آخر في الوجود» (11). وهذا ما يؤكد عليه مطران بدوره، إذ يكتب في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) من مجلة «الهلال» في العام 1933، وينقله سعاده: «أريد أن يكون شعرُنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيه» (12).
لا يتوقف سعادة مطولاً أمام هذه الآراء وغيرها، بل يكتفي بالقول أحياناً أن هذا الرأي «شديد الإبهام وكثير التخبط»، أو أنها «محاولة غامضة، متخبطة، مطلقة مستبدة»، أو أنه رأي «يزيد التعميمات تعميماً». لا يفندها كفاية رغم أنه قارئ متفحص وغير متسرع في بعض الأحيان، ذلك أن هذه المادة ذريعةٌ للكتابة، لمواجهة حالة «التضارب والتخبط»، كما يسميها. نقاشات تتضح فيها آراء المجددين، وموقف سعادة من «العود» لاستلهام الكتابات أو الاشعار السابقة: ينصح الريحاني الشعراء بقراءة أشعيا بدل إرميا، وشكسبير وغوته بدل (ألفرد دو) ميساه و(اللورد) بيرن، أي بعدم «العود» إلى كُتاب المراثي والنواح. وسعادة لا يجد نفعاً، بدوره، لهذا السعي الشعري الرائج في عصره: «وماذا استفاد أدب العربية كله من عودة الشاعر المصري شوقي إلى شكسبير غير النسخ والمسخ والتقليد الذي لم يُضف إلى ثروة الأدب العالمي مقدار حبة خردل؟» (13).
سعادة يقارع الحجة بالحجة، والموقف بالموقف، مستعجلاً الحكم عليهم. إلا أن هذه العجلة مفادها أن سعادة يمتلك «ثقافة واعية فاهمة تتبعُ خططَ النفس السورية». وهو يلحظ «التضارب»، لأنه يُقَدِّم نظرة «متسقة»، ويتحقق من «الغوضى» إذ يطلب «النظام»، ويرى في كتابات غيره «المعميات» لأنه يدعو إلى عدد من الافكار المتبلورة، ولا يطيل التوقف، لأن غرضه يقوم على عرض نظرته الخاصة بـ «النهضة».
فنحن أمام داعية ومشتغل في الأفكار، لا أمام ناقد. وفي ذلك تتضح قيمته وحدودها.
ينتقد كتاباتهم ومواقفهم، محتفظاً بفكرة واحدة، لهيكل الذي يقول بوجود «مثل أعلى» للشعر. ولكن أين هو هذا المثل الأعلى؟ أهو في «العود» إلى تقليد المتنبي أو لافونتين؟
يجد سعادة أن آراء هؤلاء المجددين تلتقي حول فكرة رئيسية مفادها الدعوة إلى «ترك البكاء التقليدي»، إلا أنها، في نظره، «ليست بالفكرة الجديدة في أدب اللغة العربية». فأبو نواس تهكم على الوقوف على الأطلال والبكاء والعويل، لأنه «ابن بيئة تختلف عن بيئة شاعر الصحراء، ولأنه متحدر من شعب خبر من الحياة ألواناً غير ألوان حياة الصحراء» (14). أي أن سعادة ربط طرفي العلاقة بين الحياة والأدب: جمودها يعني جموده، وتجديدها تجديده. إلا أن هذا التأكيد - وهو رائج حتى في أيام سعادة، وهو القول بأن «الأدب ابن بيئته»، على ما قال الناقد الفرنسي تاين (Taine ) - يفتح مجالاً لطرح سؤال مربك على هذه العلاقة السببية: كيف حدث أن أبا نواس خرق التقليد بخلاف غيره من مجايليه؟ وكيف حدث له أن فتح المعابر بين الحياة والأدب؟ وهل يمكن بالتالي أن يحتفظ الشكل الأدبي، أو تقليد ما (أي حين يصبح الشكل تقليداً أسلوبياً) بديمومة فيما يتعدى حركة الحياة نفسها أو العصر؟
أسوق السؤال إذ يتضح أن سعادة توصل إلى كشف مفارقة هذا الأدب «النهضوي»، بعد أن لاحظ أنه يعني، ضمن العملية نفسها، التقليدَ وإن وفق مرجعيات مختلفة ظاهراً: التقليد الشرقي، أي محاكاة المتنبي أو البحتري والشعر العربي في العصور العباسية، والمسخ الغربي، أي محاكاة لامارتين ولافونتين وغيرهما. ويذهب سعادة أبعد من ذلك إذ يعيب على هؤلاء المجددين دعوتهم نفسها، وهي القول بأن الشاعر «مرآة الجماعات» حسب الريحاني، وأن عليه «أن يشعر (...) بشعور العصر الذي هو فيه»، حسب هيكل. وهو ما طلبه مطران بدوره من الشعر، أي أن يكون «مرآة صادقة لعصرنا». الدعاوى هذه لا تتطابق، حسب سعادة، مع ما دعا إليه هؤلاء الأدباء: كيف يمكن لهيكل أن يفهم «من خلال مطالعته في الأدب الفرنسي وليس من درسه وضع مصر»! وكيف يمكن لهم أن يعكسوا نفسيات جماعاتهم فيما هم غارقون في استلهام آداب أخرى! إنهم «يمسخون» نفسية شعوبهم، و«يعمون» عما تعرفه من أحوال! وما يسمونه «التجديد» لا يعدو كونه حالة «التخبط»، حسب سعادة. وهي المفارقة التي قام عليها «عصر النهضة»، أي تلك العملية التاريخية المركبة من العودة إلى النفس، إلى العصر، من خلال الاحتكاك بالآخر أو النهل من إبداعاته وأفكاره. وهي نهضة «مزعومة»، حسب سعادة، ذلك أن النهضة «الحقة» تعني «النهضة القومية الاجتماعية» وحسب. لكن ما هذه النهضة الأخرى؟
هي «نتيجة حصول التجديد في الفكر وفي الشعور- في الحياة وفي النظرة إلى الحياة»، وهي أيضاً «نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية، سياسية تُغيِّرُ حياة شعب بأسره وأوضاع حياته وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه» (15). هكذا يقطع سعادة مع طرق شعرية أو فكرية كانت تكتفي في أحسن الاحوال بموقف تقني أو توظيفي من التجديد.
لستُ في مجال التعرض لتجارب المجددين هذه؛ أكتفي بالقول - على عجل - إن هؤلاء الشعراء تعاملوا مع عصرهم، ولكن من خلال الشكل الادبي القديم. طرحوا شعر المناسبات جانباً، فلم نجد لهم في المدح أو الرثاء سوى قصائد معدودة، قصروها على رجالات الأمة؛ إلا أن تفتحهم على أغراض جديدة للشعر ما تحقق إلا في بنية قديمة. فها هو المعلوف يصف الطائرة:
هي طائر الجماد كأن الجن في صدرها تحث خيولا
حمحمت تضرب الرساح بنعليها فشقت إلى السماء سبيلا
ثم مدت إلى النجوم جناحين وجرت على السحاب ذيولا
أهي طائرة أم حيوان أسطوري أو صحرواي تجرُّه خيلُ الجن؟ هي تشابيه نجدها في غير قصيدة لشوقي ومطران، وقد تعرضا بدورهما لهذا «الجسم الغربي الجديد». هذا ما فعله الرصافي أيضاً في قصائد عن التوموبيل والتلفون والتلسكوب وغيرها. إلا أن هذه المحاولات كانت أشبه بالترجمة؛ وعرفناها أيضاً في الفكر، في ترجمة أفكار جديدة عن البرلمان والاشتراكية والترويج لها. محاولات وعمليات من الاقتباس: عرفناها أيضاً في المسرح وفي الشعر، حين تمت استعادة قصائد أجنبية، فرنسية خاصة، وجرى سكبها في القوالب «العباسية» تحديداً. وقامت محاولات أخرى على المحاكاة، أو على النسج على منوال السابقين، أكان ذلك البحتري أو لافونتين أو شكسبير، وفي نتاج الشاعر الواحد أحياناً.
يقطع سعادة، إذن، مع هذه التجارب «النهضوية» - لنقلْ «التناصية التشوفية ذات المنحى التقني» -، داعياً إلى «الثورة» أو إلى قيام «النظرة الجديدة». ويتوصل سعادة إلى ضبط «النقص الأساسي» في هذه التجارب، وهو خلوُّها أو عدم صدورها عن «فكر جديد»، وهو ما يصوغه في صورة ناجزة: «فحيث لا فكر ولا شعر جديدين في الحياة لا يمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية» (16). الفكر - الجديد طبعاً - هو مبعث التجدد، ويقوم عند سعادة في عقيدة حزبه وتعاليمه «التي تفتح عهداً وتاريخاً جديدين وتجلو نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة».
خلاف سعادة مع مجايليه، حسب صياغته له، يقوم في التباين بين الترجمة-الاقتباس-المحاكاة، من جهة، وبين نشأة فكر جديد، محلي، عصري ومتفتح على «الأدب الأنترسيوني» (أي العالمي)، من جهة ثانية. وهو الحد إذن بين التوليف والقطع، بين التلفيق والتجديد.
يشدُّ سعادة الصلة بين الشعر والفكر معطياً الأولوية له قبل أي عامل آخر أسلوبي؛ وهو قريب على ما أرى من الجرجاني الذي جعل «معاني النفس» أساساً في تأليف الكلام. قلما أخذَ الفكرُ، بمعناه الواسع والإيجابي، مثل هذا الموقع في النظر إلى الشعر، حيث كان النقد يكتفي بملاحقة الاغراض أو المعاني من دون أن يتبين أن الشاعر «ينظر» إلى موضوعه ومن زاوية ما. إلا أن تشديده هذا لا يخفي معالم الطبيعتين المختلفتين لكل من الشعر والفكر، فنجده يؤكد، في صورة لا تقبل التردد، بأن «الشعر ليس الفكر بعينه». إن ما يعيبه سعادة على المجددين هوأ صُناع مدبرون ليس إلا، يكتفون بالقراءة أو بالاطلاع على الشعر العربي أو الأجنبي، ولكن من دون «الحافز الروحي المستمد من فكرة أو عقيدة فلسفية جديدة في الحياة وقضاياها». ولقد وجد سعادة في الحافز الروحي صيغة للفكر والشعور في آن، وهو ما يتطلبه الشعر أو ما يصدر عنه. ويؤكد سعادة، للتشديد على ما وصل إليه، أن الحافز الروحي هذا هو «شيء حقيقي، لا وهمي»؛ وبدونه، «لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية أو استعارية باهتة لا نضارة لها ولا رونق ولا شخصية» (17).
أحاط سعادة، كما يتضح، بأكثر من معضلة متصلة بالشعر، وخصها بمعالجات يتضح منها تباينُه مع مجايليه من المجددين. فما يطلبه من الشعر هو أن يكون جديداً في النظرة، عاكساً من دون دجل أو رياء نفسية الجماعة، متصلاً بالواقع الفعلي لعصره، لا بما يقرأه من كتابات لعصور أخرى عربية أو أجنبية: «انظرْ إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلدين، لأن حدي العيس من شؤون شعبهم، ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كتابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية وسهلية خضراء، انه قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة» (18).
يقيم سعادة التمييز بين الشعر بوصفه شعوراً وبين «الشعر المثالي الأسمى»، وهو ما يقدمه في أجلى صورة في قصته «فاجعة حب»، بين طلبِ «الطرب والشجو» («وهما من ملازمات الحياة الفقيرة في الثقافة النفسية وفي الفن») وطلبِ «الموسيقى الراقية» (وهي «تحملُ النفس على تأملات فكرية وثورات روحية»). هذا ما تنجلي فيه غائية الشعر لدى سعادة إذ يطلب له «نظرة أعلى»، و«مطالب أسمى»، و«إحساس أدق بأغراض الوجود وجوهره المستقر في النفس ضمن الوجود وليس بعد الوجود ولا قبله» (19). أي أن سعادة يعلو بالشعر عن أداء أي دور تطريبي أو جمالي وحسب، طالباً له أهدافاً تقع بين الأخلاقي (التسامي) والإيديولوجي (ملاحظة أغراض الوجود «ضمن» الوجود نفسه). ألا يكون سعادة بذلك يطلب من الشاعر أداءً يسمو بالشعر فيحده أو يقصره على أنواع دون أخرى وعلى مناحٍ دون غيرها؟ أليست هذه هي قوة الإيديولوجيا ونقطة ضعفها، أي سبب تجاذبها: تفتح مجالاً وتضع سياجاً له!؟ سعادة لا يطلب الفكر وحسب بل السمو في المثل أيضاً، أي تضمُّنه «نظرة فلسفية» قادرة على التأسيس أو البناء لحياة «أسعد حالاً وأبقى آمالاً»، أي الوصول إلى «فهم جديد للحياة يرفع الأنفس إلى مستوى أعلى».
هناك التجديد الشكلي، القائم على «الصور الجزئية» أو على تحسينات أسلوبية، وهناك التجديد الحقيقي، ولا يقوم به إلا أدباء مبتكرون حقاً مثل أبي نواس (أو واغنر). ولكن كيف يكون الأديب «مرآة عصره» ومجدداً فيه؟ أي كيف يعكسه وينقطع عنه في آن معاً؟
سعادة يميز، ولكن في صورة غير بينة تماماً، بين من يكتفي من الأدباء بأن يكون متصلاً بعصره، وبين من ينفصل عنه، مقارناً «المبدع» بـ «الفيلسوف»، على أن «لهما القدرة على تصور لعلاقة الشعر بالفكر -وهو، هنا، فكر منظم، أي طامح لتنظيم ما لمواد متفرقة من التجربة الإنسانية-، لا تقصره على تناولات استعمالية (كما يمكن لنا أن نحدد الوجه التقني في التجديد النهضوي)، وإنما على تناولات توليدية وتجديدية له. والمقصود بالتجديد ليس «إحداثَ أنواعٍ من المجاز جديدة فقط»، بل قلبُ النظرة تماماً، وإطلاقُ «نَفَسٍ» جديد للكتابة والتجديد، لن يَسلَم في تحققاته الشعرية من تضييقات وتقييدات، ومن تناولات جزئية وتجزيئية، ومن ضبطٍ محافظ وجمودي له. فماذا عن تواشجات الإيديولوجيا والشعر في هذه الحالة؟

في هذا السياق لن أحاكم سعادة على محاولاته الأدبية، فقد حاول كتابة الأدب دون أن يفلح (كما يتبين ذلك في «فاجعة حب»)، إذ أتت كتابته وعظية وتبشيرية خالصة. إلا أنني أستطيع بالمقابل ان أجري مقارنة بين ما انتقده من معايب في تجارب مجايليه وما دعا إليه من طروحات: اتضح أعلاه أنه ضد «العود» ومحاكاة شعر السابقين، وإذا به لا ينفر من استلهام الأساطير القديمة. فكيف هذا؟ كأننا بسعادة يقول: هناك عَوْد وعَوْد. هناك عود إلى محاكاة البحتري ولافونتين، وهي طريقة مستقبحة عنده؛ وهناك عود إلى الأساطير القديمة، وهي طريقة محمودة. ذلك أن «على الأدباء الواعين أن يحجوا ويسيحوا (إلى الأساطير القديمة) فيعودوا من سياحاتهم، حاملين إلينا أدباً يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا» (21). فهل لبى الشعراء النداء؟ وكيف وجدت الايديولوجية إلى الشعر سبيلاً؟
يجيب عن هذا السؤال أإكثر من ناقد ومؤرخ، ويذهب بعضهم، مثل الشاعر سامي مهدي، إلى جعل الحزب المذكور خلف إطلاق مجلة «شعر» نفسها (22). إلا أن هذه المقاربات ظلت جزئية، لا تتعدى الإرشادات المقتضبة، عدا كون بعضها ينطلق من محاولة نبذية مسبقة لهذا الحزب وأفكاره. والحاصل أنه قلما توقف ناقد في صورة معمقة أمام أثر هذا الحزب في حركة التجديد، خاصة في لبنان وسوريا، حيث أن تغييب هذا الأثر -لجهل أو عن سابق تصميم وتصور - أفسح المجال لأغاليط وأحكام خاطئة.
فنحن نقرأ، على سبيل المثال، في كتاب أسعد رزوق عن «الأسطورة في الشعر المعاصر»، أن لجوء عدد من شعراء مجلة «شعر» إلى الأساطير القديمة نجمَ أو أعقبَ اطلاعهم على كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فرايزر، بعد أن قام جبرا ابراهيم جبرا بترجمة قسم «أدونيس» من هذا الكتاب في العام 1957، ونشرَه في بيروت في «دار الصراع الفكري»: «نسج الكثيرون من شعرائنا المعاصرين على منوال اليوت وتبنوا أسلوبه وتكنيكه وبعض رموزه» (23). إن نقاداً غيره، مثل جبرا نفسه في كتابه «الحرية والطوفان»، وخالدة سعيد في «البحث عن الجذور»، وجدوا في هذه المؤثرات الأجنبية (ومنها أيضاً تعرُّفُ الشعراء المنبهر على شعر اليوت، وخصوصاً في «الأرض الخراب») سبباً لنشأة هذه القصيدة الأسطورية، متجاهلين في ذلك الدعوة الصريحة التي وجهها سعادة للأدباء في كتابه المذكور.
أوردَ سعادة في كتابه مَثَلَ الشاعر سعيد عقل، المنخرط في الحزب آنذاك، وتعرض بالنقد لمجموعتَيه، «بنت يفتاح» و«قدموس». فإذا كان سعادة وجدَ في عقل «شاعرية ممتازة»، إلا أنها «خارجة عن المواضيع السورية وعن خطط النفس السورية» (24). فـ«بنت يفتاح»، في حسابه، تنتسب إلى الأدب اليهودي، لا إلى الأدب السوري. وفي غير موضع من كتابه يدعو سعادة الشعراء إلى تناول «الموضوعات السورية»، مثل بناء قرطاجة أو غيرها «من أدوار تاريخ سورية القديم».لم يستهوِ سعادة، إذن، موضوع «بنت يفتاح»، حتى أنه نصح الشاعر عقل، بعد أن التقى به في العام 1936، ولفت نظره «إلى مطاليب النهضة السورية في الأدب»، وهي استخراج الكنوز من «روائع المكنونات النفسية التاريخية» في سوريا. هذا ما حاوله سعيد عقل في «قدموس»، إلا أن سعادة لم يجد فيها عند قرائته لها «ما كنت أتوقه. فقد حاول المؤلف (أي سعيد عقل) أن يصبغ الحقائق التاريخية والأساطير التقليدية بصبغة محلية ضيقة فأساء إلى الأساطير وإلى الواقع التاريخي» (25).
هل يعني هذا أن سعادة خصَّ «أدب الحياة» بنوع معين من الشعر، بل من الموضوعات؟ يجيب سعادة عن هذا السؤال بالنفي: «فالقيمة الأدبية أو الفنية ليست في هوية أو جنسية الموضوع». الشاعر حرٌ في خياراته، إلا أن سعادة لا يحبذ تناول «المواضيع الغربية»؛ وهي موضوعات لا تمتلك أية «أصول حقيقية في نفوسنا وفي تاريخنا»، عدا أن التطرق لهذه الموضوعات لا ينشئ «أدباً شخصياً لمجتمع له خصائصه».
ينتقل سعادة، إذن، من معنى التجديد الكلي إلى معنى محصور، جزئي بالضرورة. فـ«النظرة» الجديدة باتت نظرة مخصوصة بموضوعات دون أخرى، وببلاد دون غيرها: فما قام به سعيد عقل، أي الجمع أو وصل التاريخ بين قدموس ونشأة الكيان اللبناني في نهاية الثلاثينات، هو ما دعا إليه سعادة نفسه، ولكن على أساس أن الوصل التاريخي هذا يندرج في متحد «سوريا الطبيعية»، لا في فينيقيا، كما فعل عقل. وهو تنافسٌ على تملك الحيز الأسطوري لا تبرره سوى الاختلافات والاجتهادات في الدعوة إلى قيام كيانات في العالم العربي، أو في تسويغها، ومنها الخلاف في ثلاثينيات القرن العشرين في لبنان على صيغ الاستقلال من الانتداب الفرنسي.
وما قاله سعادة عن «بنت يفتاح» يقوله أيضاً عن «عبقر» لشفيق معلوف، فهي ذات «موضوع غريب»: يتناول سعادة هذه المطولة الشعرية بشيء من التشريح لأنها متوافرة بين يديه، فيما لم يتوافر له شعر سعيد عقل، عدا أنها تقترب في بعض الأحيان مما يريده سعادة من الشعر. ففي غير موضع فيها يلحظ سعادة أبياتاً فيها «لمحات أو لمعات نفسية تكاد تصل إلى الثورة الروحية»، أي الثورة المطلوبة، أو «تأملات اجتماعية بعضها ذو صبغة مناقبية متفقة مع خطط التفكير السوري». إلا أن هذه القصيدة تفتقر، حسب سعادة، بل تخلو من «النظرة الفلسفية». سعادة لا يطلب «منفعة عليا» من الشعر وحسب، بل و«متسامية» أيضاً. وما ينتقده في «عبقر» هو لجوء الشاعر وتعميمه للمفهوم «الجاهلي أو البربري أو الفطري» للحب، وهو الغاية الأخيرة لهذه القصيدة. يخرج سعادة من قرائتها بصورة مفادها أن الحب الذي يطلبُه الشاعر قائمٌ في «صورة الضم والتقبيل وارتجاف الأضلع وطلب الأجساد للأجساد»، أي في «النزعة البيولوجية»، لا في «غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيولوجي سُلماً لبلوغ ذروة مثالها الأعلى»: مجددٌ فكري في نظرته إلى الشعر، إلا أنه محافظ في طلب التسامي! لهذا يتجنب الخوض في الخرافات، ناصحاً الشعراء «العناية بالأساطير الأصلية ذات المغزى الفلسفي»، ويورد لهذا الغرض عدداً من الأمثلة: قصة أدونيس، أو الأساطير اليونانية، وقصص اليهود المثبتة في التوراة، وهي «مأخوذة عن أصول سورية»، بالاستناد إلى تنقيبات رأس شمرا أو نينوى وأشور ونمرود وبابل وسواها (26).
يطيل سعادة التوقف عند بعض المكتشفات، شارحاً بعض هذه الأساطير (بعل، أناة، دانيال، أدونيس، جلقامش...)، مؤكداً أو مستعيداً لها بوصفها من «الأدب السوري»، لا من «الأساطير الاغريقية» أو غيرها. يطيل الوقفة ليتساءل بشيء من التحريض: «متى أخذ الأدباء السوريون، الموهوبون (...) يطلعون على هذه الكنوز الروحية الثمينة، ازدادوا بحقيقة نظرتهم وعظمة أسبابها وبقوة الموحيات الفلسفية والفنية الأصلية في طبيعة أمتهم، التي يؤهلهم فهمهم لإنشاء أدب فخم، جميل، خالد» (27). فهل لبى الشعراء نداء سعادة الصريح؟

3 . أدونيس : «قيِّمٌ باسم أمتي»
يطاول كلامي في الإيديولوجيا – كما سبق القول أعلاه - شقَّها «المعارض»، إذا جاز القول، أي طلبَها السلطة في عالي التقديرات، والتأثيرَ والنفوذ على فئات متزايدة في المجتمع في أدنى التقديرات. ولكن كيف لي أن أتحقق من الشبكات التي تقوم في النص الشعري بين حمولات اللغة وبين «الوجبات» الإيديولوجية؟ يمكنني أن أشير إلى الإيديولوجيا، هنا، على أنها شأن جزئي بالضرورة يشد النص إلى أمور بعينها ودون غيرها، ويقوم على اختصار العالم أو تضييق الرؤيا، أو على تعيين العالم بها، وبالتالي على تمجيد هذه العناصر تمجيداً يُطمئِن الجماعة، أو يُكسبها منضوين جدداً تحت يافطاتها. ولكن كيف أدرس ذلك؟ وكيف تتحول الرؤيا-التصور، التي تقوم على مبادرة في استثمار الدلالات والمعاني، إلى تصور ضيق وتجزيئي، أي جامد بالضرورة ومعطل لغيره أيضاً؟ وكيف أباشر دراسة المبثوث الإيديولوجي في صياغات الشعر؟
يتوصل فرانسوا شاتليه إلى تعيين المواد التي تشتمل عليها الإيديولوجيا، وهي التالية: «الصور، والأفكار، والمبادىء الأخلاقية، والتمثيلات الكلية، والسلوكات الجماعية، والطقوس الدينية، وبنى القرابة، وتقنيات البقاء على قيد الحياة (والتنمية)، والتعبيرات التي نسميها، اليوم، «الفنية»، والنصوص الأسطورية والفلسفية، ومنظمات السلطات، والمؤسسات ومقولات وقوى تجعلها هذه الأخيرة قيد التداول، ونظام يهدف ضمن جماعة، أو في شعب، أو أمة، أو دولة، إلى حل العلاقات التي يقيمها الأفراد مع أقرانهم، والأجانب، والطبيعة، والمتخيل، والرمزيات، والآلهة، والآمال، والحياة والموت» (28). لا يمكنني طبعاً دراسة هذه المواد كلها، بل جزء منها، مما يؤلف المدونة الاعتقادية لهذه «الذات» (الإيديولوجية). لكنني أستدرك قبل مباشرة التحليل وأقول: يصعب على أي ناقد أو مؤرخ جاد أن لا يقيم أسباب الاتصال بين ما دعا إليه سعادة في كتابه (كما في مبادئ الحزب، إذ جعل بعض الرموز الأسطورية قدوة للأعضاء) وبين ما قام به عدد من الشعراء، وهم إلى ذلك أعضاء في الحزب المذكور. فقبل ترجمة جبرا المذكورة (1957) نقرأ في شعر أدونيس عن «عشتار الحزينة»، وأن «نوح في سفينتي غريق»، وأن «فجر أساطيرنا مغلق/ يخيط أجفانه الغبار»، عدا كونه يجعل من قدموس أحد الرموز المؤسسة لقصيدته «قالت الارض»:
«من هنا، من بلادنا، نحن أقلعنا
شراعاً ، وموجة ، وليالي
ومشينا حرفاً على صفحة القلب
وحرفاً على شفاه السؤال» (29).
في غير موضع من هذه القصيدة يتحدث أدونيس عن «الزورق المدل المغامر»، أو عن الوطن «كأن عليه/ من جفون التاريخ آلاف ساهر»، أو عن «ماضٍ يلف بالمجد حاضر»، أو «سهرت بعدنا النجوم وصارت/ لأساطير مجدنا سماراً». ويقول أدونيس في قصيدة أخرى: «أَمسيَ غَدٌ»؛ وهي جملة تختصر ما ذهب إليه سعادة، أي استلهام الماضي الأسطوري برسم الجديد. وهو ما وجده أدونيس ماثلاً بصورة خاصة في شخص «الزعيم»، سعادة نفسه، إذ يقول في «قالت الأرض»:
«يطلق العقل في سراه إلى الغرب
ويروي في دربه الإغريقا
عاد قدموس، فالعتيق غدا
آناً جديداً، والآن صار عتيقا
(...)
قيل : كون يُبنى. فقيل: بلادٌ
جُمِعَتْ كلها، فكانت سعاده» (30).

 

3 . أ : «دليلة» بطلة قومية
لعلي أجد في مطولة أدونيس الشعرية، «دليلة» (31)، مثالاً عما انتهى إلى التمثل به، أي استلهام الأساطير، وفقاً لمقترحات سعادة. ففي مطولة «قالت الأرض» سعى إلى «أسطرة» حياة أنطون سعادة، وإلى جعلها ملحمة نابضة بالمثل الاقتدائية (كما سبق الدرس)، فيما سعى في «دليلة» إلى إعادة صياغة أسطورة، لكي يعيد «نفخ الروح السورية» فيها. وهو ما ورد جلياً على صفحة غلاف ديوان «دليلة» - وهو مطولة صغيرة من 29 صفحة فقط -، الذي يحمل العنوان التالي تحت عنوان القصيدة: «ملحمة قومية».
يذكر الشاعر في الصفحة الأخيرة من الكتاب عناوين كتبه التالية: «معزوفة الدماء - ملحمة شعرية - تصدر قريباً»، «هانيبال - ملحمة شعرية»، «ديدون - مسرحية شعرية»، «قلقامش - مسرحية شعرية». وتفيد هذه المعلومات، وعناوين المجموعات، أن الشاعر تناول في غير مرة سابقة مثل هذه الموضوعات الأسطورية في صيغ ملحمية أو مسرحية، ما يمثل خياراً شعرياً وإيديولوجياً واضحاً، إلا أنني لم أعثر على هذه المجموعات في أعمال الشاعر، لا المطبوعة ثانية ولا المعروفة عنه. ويمكنني أن أثير العديد من الأسئلة حولها: أهي من نتاج الشاعر غير المطبوع مرة ثانية، وغير المعروف أيضاً، مثل قصيدة «قافلة المجد» وغيرها (32)؟
يقوم أدونيس في مطلع المطولة بعرض مختصر لحكاية دليلة، يرى فيه إليها «بطلة قومية سورية» إزاء شمشون اليهودي، بل يجعل الحكاية صراعاً بين الإلهين، السوري «بعل»، والإله إليهودي، «يهوه». السوريون، حسب أدونيس في العرض التمهيدي، شعب مسالم، ويعاملون «الغرباء عن قوميتهم، اللاجئين إلى فلسطين كاليهود، معاملة حسنة». إلا أن اليهود لم يرضوا بنفوذ السوريين، ولا بعظمتهم، «فأخذوا يكيدون لهم المكائد»، إلى أن نجح إله اليهود، بإرسال شمشون إليهم، فراح ينكل بالسوريين ويقتلهم. فلجأ هؤلاء عندها إلى الاستنجاد بإلاههم، فدعاهم إلى طلب العون من مواطنتهم، دليلة، التي توصلت إلى الكشف عن سر قوة شمشون، وهي في شَعره، وإلى قصه بالتالي، وسجنه إلى أن يموت.
صاغ الحكاية، إذن، في كيفية رأى فيها اليهود «لاجئين إلى فلسطين»، كما خلص من عرضها من دون ذكر الحادثة الأساسية التي انتهت إليها الحكاية، كما وردت في «الكتاب المقدس»، أي انتقام شمشوم المدمر، مكتفياً بالقول: «وحينئذ أنامته (أي دليلة لشمشوم)، وأخذت سكينها، واجتزت جدائل شعره، ونادت قومها السوريين فأخذوه وكبلوه، وفقأوا عينيه، وتركوه يطحن في السجن حتى مات» (33).
قام أدونيس بإعادة كتابة الحكاية، جاعلاً منها أسطورة صراع بين قوميتين، وديانتين، وما فعلَه لا يعدو كونه تأويلاً يناسب الصراع الدائر في أرض فلسطين بعد «النكبة» (1948)، إذ تعود كتابة المطولة إلى العام 1950 . ويتدبر أدونيس قراءة خاصة لهذه الحكاية تحيد بها عن مضمونها الأصلي، بل عن مجرياتها، إذ تختفي فقرات أساسية من الحكاية حسبما وردت في «الكتاب المقدس». ويفيد العرض في مقدمة المطولة أن السوريين توصلوا إلى إلحاق الأذى النهائي بشمشوم، وحتى موته، بخلاف المذكور في النص القديم عن هذه الحكاية. ففي الفصل الثالث عشر من «سفر القضاة»، من «العهد العتيق»، نتعرف على قصة شمشوم ودليلة، وهي مخالفة في عدد من فقراتها لما أورده أدونيس، وجعلَه عنصراً توجيهياً لمعاني القصيدة. نتبين في الكتاب الديني شيئاً من الخلاف بين الفلسطينيين وبني اسرائيل، ويأتي تفسيره ضمن عقوبات الله المتتالية لشعب اسرائيل: «وعاد بنو اسرائيل فعملوا الشر في عيني الرب فدفعهم الرب إلى أيدي الفلسطينيين أربعين سنة» (34)؛ ولا يلبث أن يتحول الفلسطينيون إلى «متسلطين على اسرائيل» (35). والخلافات بينهم لن تنعدم، بل ستحتدم مع ميلاد طفل يهودي، هو شمشوم، من يهودية عاقر، ومع تهديد شمشوم ذي القوة الجسدية الفائقة لسلطتهم. يتزوج شمشوم من ابنة فلسطينية، هي دليلة، ويسارع قومها إلى إقناعها بضرورة الكشف عن مصدر قوة زوجها، وهي في شعره. وتنتهي الحكاية، بعد قص شعر شمشوم ووقوعه في الأسر، لا كما أوردها أدونيس (أي موت شمشوم في السجن)، كما يلي: «ثم قبض شمشوم على العمودين اللذين في الوسط القائم عليهما البيت واتكأ عليهما آخذاً أحدهما بيمينه والآخر بشماله * وقال شمشوم لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بشدة فسقط البيت على الأقطاب وعلى جميع الشعب الذين في البيت. فكان الموتى الذين قتلهم في موته أكثر من الذين قتلهم في حياته» (36). أي أن أدونيس «تلاعب» بالحكاية، ولا سيما بنهايتها، التي تبدو في «السفر» الديني معاكسةً في معناها لما انتهى إليه الشاعر: فالفلسطينيون لم يربحوا الحرب هذه، بل توصل شمشوم إلى قتل أعداد تزيد عما قتل منهم قبل أسره. أما إشارة أدونيس إلى أن اليهود «غرباء» في فلسطين، فلا تعود إلى ما ورد في السفر الديني، ذلك أنه مكتوب بما يشير إلى أن العلاقة القائمة بين الله والتاريخ ناشئة تبعاً لعلاقات اليهود به، بين اتِّباع وصاياه وارتكاب المعاصي. أما ما جعل أدونيس يتحدث عن اليهود كـ«غرباء» فيعود، من دون شك، إلى ما بلغه من أخبار عن وقائع «النكبة» في فلسطين في العام 1948، وما سبقها خصوصاً من هجرة يهودية منظمة إليها.
وما يعنيني من مطولته لا يقوم على التحقق من الالتواءات التاريخية، أو من التعامل الكيفي مع مواد التاريخ، ذلك أن القصيدة ليست مدونة تاريخية، وإنما هي مدونة تبلغنا عن اعتقادات، أي عن تأويلات، مبثوثة فيها، وتتصل هذه الاعتقادات بما أقامه أدونيس مع «الظروف الحوارية» المحيطة بلحظة إنتاج المطولة. وهي ظروف تعينها المبثوثات الإخبارية السارية، مثلما تعينها أيضاً دعاوى الجماعة الحزبية التي كان أدونيس عضواً فيها في تلك المرحلة. والغريب في أمر هذه الدعاوى هو عملية الإبدال الايديولوجي التي تصيبها، إذ أن شمشوم يتحول في المطولة إلى «فتاك» قاهر، بخلاف ما هو عليه في السفر الديني، ويتحول الفلسطينيون، قوم دليلة، من «متسلطين»، كما وردت صفتهم في السفر الديني، إلى شعب مقهور!

 

3 . ب : «أسطرة» سورية
دراسة مجموعة أخرى من أعمال أدونيس، «إذا قلتُ يا سوريا»، تعوض عن «إعدام» الشاعر القسم الأغلب من شعره الحزبي (37)، وتساعد في الوقوف على شبكة أحذق بين أسباب الشعر وصريحِ الايديولوجية ومبثوثِها. والمجموعة تمثِّل - على ما أرى وأدافع أدناه - صيغةً متطورة وأنضج عما كانه التشبيك الإيديولوجي، المبسَّط والشديد الاستهداف، في «دليلة» و«قالت الأرض». وما يعنيني من هذه المجموعة أيضاً هو الوقوف على الشبكات الدلالية التي تضبط وتربط أسباب القول الشعري، أي الوقوف على «التواشجات» بين الإيديولوجية وتجديد القول الشعري. ولأنني لست في وارد القيام بتحليل نصي متسق يطاول المجموعة كلها - فهذا يتعدى مرادي -، اخترتُ الاكتفاء بتعيين بعض المواد فيها (وفي غيرها أحياناً). وهي مواد أتحققُ فيها من موضوعات جديدة يتطرق اليها الشعر، ويستقيها من الدعاوى الحزبية والإيديولوجية تحديداً. وهي مواد تتصل أو تعين العلاقات التي تنشئها هذه «الذات» (الإيديولوجية) مع أقرانها، حزبيين أم لا، ومع محيطها الطبيعي والتاريخي، ومع متخيلها الشخصي والجماعي. وتتحقق هذه المواد في صور ومجازات، وفي تقديمات شعرية، وفي صيغ نحوية تقوم على التحقق العياني، أو على التغني، أو على الإنشاد، أو على المناجاة والمخاطبة، إلى غير ذلك من العمليات.
إن تتبعَ أسماء العلم في هذه المجموعة، من آدمية وجغرافية، يكاد يرسم خريطة لـ«سوريا الطبيعية» كما عيَّنها سعادة، مرموزاً اليها بأبطالها، مثل قدموس وهانيبال وغيرهما، وبمدن عريقة فيها مثل صور وصيدا وأرواد والشام وتدمر ودمشق وبابل وبغداد وغيرها. فلا نقع أبداً على أي مدينة أو موقع يشير إلى غير هذه الأمكنة القديمة. كيف لا، وسعادة يقول: «الأمة تجد أساسها، قبل كل شيء آخر في وحدة أرضية معينة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها» (38). ذلك أنه جعل من «الوحدة الأرضية» قوامَ الأمة؛ وهذه الوحدة هي التي جعلت، في «المبدأ الخامس» في إحدى «المحاضرات العشر»، «سورية وحدة سياسية، حتى في الأزمنة الغابرة» (39).
إلا أن المجموعة لا ترسم تقاطيع جغرافيةً بقدر ما تحكي «غربـة» هذه الأرض عن ماضيها، عما كانت عليه في زمن سحيق، على أن فيها ما يؤلف برنامجها في النهضة، وهو ما يلخصه أدونيس في هذا القول: «أمسي غد» (40). لكن الأمس لا يصبح برسم الغد إلا بعد الوقوف على حاضر، هو مصدر عدم الرضا. يقول أدونيس:
«ما لدمشق انفرطتْ، وارتمت صفراء، حمراء
صارتْ أباطيل وغوغاء.
غِبْ يا زمان الغير عن وجهها
عن أفقها الرحب،
غبْ، يا زماناً، عبره، تمحي
أصالة الشعب،
وتصبح الحياة سوداء،
وتصبح العقول أشياء» (41).
مثل هذه التحققات عن الحاضر قليلة في شعر أدونيس في تلك المرحلة الحزبية، إذ أنه قلما يصف، أو يشير في صورة عيانية إلى أحوال بعينها عرفَها أو خبرها أو سمع بها. وإذا ما وصف، كما هو عليه الحال في هذا الشاهد، فإن وصفه يبقى مبهم التعيينات: أتشير الصفة «صفراء» إلى ضمور الصحة، و«حمراء» إلى الفوضى التي يتبعها بتعيين آخر، هو «الغوغاء»؟ وإذا ما عمد إلى الوصف فإنه يتناول ابتعاد بلاده عما يأمل لها، وهو ما يرد في صور «النفي» و«الغربة» و«الدوران» التي تلحق بالأرض:
«بلادي منفية، يُستباح غناها، ويُخنق أبطالها
يتخ شذاها وسلسالها العريق، وتأصل أوحالها
بلادي، بلادي ضجيج،
وقهقهة، ونشيج.
مشنجة الوجه... يجفل منها
ربيع الحياة وميعادها
يكاد يثور عليها ثراها
وتأبى الولادة أحفادها» (42).
التأزم شديد، تكاد أن تتوقف معه الحياة، وتكاد تبطل ما يحدث لها من أفعال، ولا تعود بالتالي ذات معنى أو جدوى. فالبلاد منفية، وحالها تتدهور وتستباح. و«النفي» يتصل بالأرض، إلا أنه يعني نفي الجماعة التي يتحدث باسمها المتكلمُ الشعري، طالما أنها (أي هذه الجماعة) تتحقق من ابتعاد الأرض عن معناها المودع في ماضيها التليد. وهو ما يشعر المتكلمُ به شعوراً شديد المأسوية:
«ماذا؟ أفي أرضي وفي وطني،
نحيا بلا وطن، نحيا بلا زمن.
ماذا... كأن الخلق لم يكنِ» (43).
وهذه الغربة تعكس كذلك تبرمَ المتكلم وطولَ انتظاره «على رصيف التاريخ» (حسب العبارة المعروفة)، وهو ما يصفه أدونيس في هيئة إنسان يقوم بحركاته الاعتيادية، من دون أن يكون مالكاً فعلاً لها، أو موجهاً لها، كما لو أن جسده تحركه قوى أخرى غير قواه، المحتجزة أو المغيبة:
«يسير، وليست له قدماهُ
ويصغي، وليست له أذناهُ.
تغرَّب عن حاله... فالزمان سديمٌ على وجهه، واشتباهُ.
لِمَن، يا خليقةُ، تلك الجباهُ،
وتلك الشفاهُ؟
أليس لها صورةٌ وشكلٌ... أليس لها طينةٌ وإلهُ؟
تحجَّرَ إنساننا، وتشيا... فيا خالق الخلق، أبدعْ سواهُ» (44).
و«الغربة» هذه قد تعني أيضاً تبرمَ المتكلم من المجاورين له، ممن تمتعوا بطاقات الإنسان كلها من دون أن يقووا على استعمالها، وعلى توظيفها في الوجهة الصحيحة. «الغربة»، إذن، إعلان يأس: «فيا خالق الخلق، أبدعْ سواهُ»؛ أي انه دعوة إلى التحريض والحث على «تغيير» الإنسان وتوجيهه صوب توظيف طاقاته كما يجب، وحيث يجب. هي «غربة» الأرض، إلا أنها تعني غربة المتكلم أساساً: غربته التي تعني شوقه إلى تحقيق عالمه الأثيري، وتعني استعجاله «الثوري» كذلك، إذ يبدو كلُّ تأخرٍ عن إنجاز الحلم تجميداً للزمن، ويبدو تنكبُ كل إنسان عن المشاركة في الحلم تعطيلاً لقواه الإنسانية. فـ«الغربة» تعني «وحدة» المتكلم ووحشته بعيداً عن «البيت» الذي يبحث عنه:
«في أمتي، في أرضي الحيرى،
في هذه العوالم المطفأه،
كأنني من ألف عام أدور،
أحيا وحيداً تحت سقف العصور،
أستنطق الغيرا،
أبحث عن بيت، وعن مدفأه» (45).
إلا أن المتكلم لا يعبر عن وحشته في كل القصائد، وليس كسيراً دوماً، بعيداً عن فردوسه المفقود، بل نجده في عدد من القصائد ينصرف إلى «شد عزيمته»، وإلى تمكينها من أسباب الثقة بنفسها، وبأحقية تطلعها إلى «الغد» و«الثورة». وهو ما يوفره الغناء، الذي يناجي النفس كما يحاكي المستمع. ويتخذ الغناء شكلاً تقابلياً بين ما كان عليه الزمن «الأول»، الزمن الجميل، وبين ما هو عليه الحاضر من مهانة، على أن «المستقبل» (أو «الغد» و«الأفق» وغيرها) يكون في العودة إلى ما كان. هكذا يصبح «الزمان» القديم كائناً حيوياً له عروق وجذور، ومودعةٌ فيه منابعُ خير وأساطير:
«في عروق الزمان منبع خير
عبَّ ألوان كبره من علاها
وعلى جبهة الأساطير غار
لَمْلمتْه أكفُّه من رباها» (46).
الماضي «العتيق» عابق بالأخبار الخارقة والأساطير المجيدة، ما شكَّل قوةَ هذه الأرض المستمرة، وإن كانت قوة خافية أو مغيبة. والمتكلم لا يتوانى عن قول الفخار تطميناً للذات، مؤكداً أن «الجديد» و«المبتكر»، و«الغد» ليست ممكنة من دون «الأصل» العريق:
«وفي غد، إن يسأل البعض
من عمَّر الدنيا؟
فَقُلْ: بنا تستيقظ الأرض،
وقل: بنا تحيا» (47).
هكذا تبدو دعوات المتكلم في بعض النصوص دعوات أو نداءاتُ حنين إلى ما كانت عليه الأرض قبل نفيها:
«سِرْ معي يُحفر على الأرض اليقين
والحنين» (48).
وكيف لا يحن المتكلم، وبلاده منجمٌ، «كنزٌ مخبأ»، لكل ما عرفتْه الأرضُ من ابتكارات (في القول والخط والصورة)، وبطولات (مع هانيبال وقدموس)، وإنشاءات وفتوحات (قرطاجة إليسار):
«بلادي، بلاد النداء البعيد
لما قيل أو خُط أو صُورا.
مواكب للفتح، أنى سَرَتْ
سرت، وهي تحمل عبء الورى.
تركز، أنى تشا، بعلبك
وترفع، أنى تشا، تدمرا» (49).
هكذا يختلط التغني بالماضي ومآثره بالتوق إلى تجديد الحال، على أن في فعل الغناء ما يؤدي إلى تجميع أسماء أعلام دون غيرها، ومواقع وأحداث وأحوال تاريخية، مثل مواد «مُستملَكة»، أو مثل «أدلة ثبوتية». والتوق إلى تجديد الحال يتخذ سبيل الحض والتحريض، على أن في قيام الشعب بثورته المرجوة ما يعيد تلك «السهولة» القديمة التي كانت عليها إبداعات القدماء في الماضي. وأشكال التغني والفخار هذه ليست بعيدة أبداً، بل تتشابه في عدد واسع من المواضع، مع ما سبق أن قاله سعيد عقل في «قدموس» خصوصاً. هكذا نجد في عدد من القصائد صورة بينة لـ«المسافر الباني»، التي ألقاها في «قدموس»، وفي سيرة أخته أليسار. فالمتكلم، في الشاهد أعلاه، يتحدث عن «مواكب الفتح»، وعن هذه «القدرة الهينة» على «تركيز» المدن أينما كان؛ ويتحدث أيضاً عن هذه القوة الخاصة التي تؤدي إلى «اللعب» بالأرض (وهي صورة معروفة في شعر سعيد عقل)، وإلى «اختطاطها» المدن، على ما فعلتْ أليسار، كما هو معروف عن أسطورتها في بناء قرطاجة:
«متى، متى يُخلق شعبي كما
كان... متى يعبر جسر الظلام؟
يلعب بالأرض ويختطها
صُوراً على الدنيا وقدساً وشام» (50).
ويقول أيضاً:
«في أرضنا للأرض حب عتيق
كان من الأول
وعلم الانسان أن يستفيق
على الغد الأجمل» (51).
الأرض تشتاق إلى الأرض، إلى ما كانت عليه، ما يجعلها الأساس المولد للمعاني، وبالتالي للتاريخ. وتبدو الأرض في ذلك مثل كائن قديم عامر بالحياة، حافظ للمعاني والقيم على الرغم من الراهن البائس. وهو ما أسميه بـ«الثورة المقلوبة» - أي الثورة التي لا تتحقق إلا بمقدار ما تنقلب على حاضرها قلباً يحيلها إلى ماضيها. وهي ثورة قائمة على خطاب التغني بالماضي، بمتروكاته، مثل الأساطير والآثار. والأساطير، أو ما بقي من أخبار السالفين، دليلٌ على هذا الماضي، وأمثولة إعدادية لأحفادها التائهين والمضيَّعين. والأسطورة، بالتالي، هي منبع الحق والخير والجمال، ومصدر «القوة» أيضاً. كيف لا، والشاعر لا يبحث عنها إلا في موطنه:
«أبحثُ عن نفسي، في قوة
من موطني تنبع» (52).
ولهذه الأرض رموز، هي عناوين قوتها المتأكدة في التاريخ. هذا يصح في قدموس، وهانيبال، ودليلة أيضاً:
«من بلادي «دليلة» وغداً تشرق
منها للكون ألف «دليله...!»
هَمُّنا ثورة، تعيد إلى الدنيا
تراث العلى وروح البطولة... ! » (53).
غير أن مديح الماضي لا فائدة منه إن لم يتحول إلى إنشاد، إلى غناء، يصل «الرفيق» بما انقطع عنه. والغناء قد يكون ذاتياً، يقوي من عزيمة الحزبيين فيما بينهم، ويمدح دعوى الجماعة الحزبية لنفسها:
«يا رفيقي،
سِرْ معي، زَيِّنْ طريقي
قَوِّني، أَلهبْ حريقي» (54).
وهو ما أتحققُ منه في النزعة «المشيئية» (وهو ما يناسب اللفظ الاصطلاحي الفرنسي المعروف (volontarisme )، والدال على نزعة «إرادوية»، طالبة للفعالية، بل للافتعال الثوري)، وأردتُ منه الإشارة إلى الدلالات هذه وإلى غيرها مما وجدته متحققاً في جمل وأقوال عديدة في القصائد: «أنى نشأ»، «إن نشأ» وغيرها. والنزعة هذه تُعوِّض عن فقدان الأدلة المادية (أو عن قلتها، بعد الكشوفات الأثرية)، وابتعاد الوطن السوري في القدم، بدعاوى أخلاقية وترشيدية وتنبيهية وتحميسية، هي المقوي المعنوي للجماعة الحزبية:
«جبل من قدر أنت وشلال إرادة» (55).
وتبلغ النزعة حداً عالياً، إذ يكفي فعل التسمية نفسه لكي تنوجد الأشياء، وتتحقق... النشوة:
«إذا قلتُ: يا سوريا، لَفَّني
الجمال، وَلَفَّ معي الأعصرا،
وأفرغت هذا الوجود، مطلاً
لجفني، وهذا المدى، منظرا» (56).
كان يمكن لهذه المواد كلها أن تكون مماثلة لغيرها مما هو معروف في الشعر الوطني أو الحماسي أو في الفخار، لو لم يرفقها أدونيس بمواد أخرى، بل بمؤدى لها، هو «الثورة»، على أنها مبتغى الجماعة الحزبية. والثورة ترد في صور وصيغ مباشرة جلية:
«إن لم يعصفْ لهبُ الثوره،
نبقى أبداً في دوره.
بالثورة، نحيي ماضينا،
وأراضينا.
بالثورة، نعرف مستقبلنا،
ونحس بأن الكون لنا،
وبأن الدنيا، تحيا فينا» (57).
ووجدتْ «الثورة» في إعدام «زعيم» الحزب مثالاً محفزاً لها، وهو مثال الشهادة والفداء وتمجيد الدم بالتالي:
«وحده يبني الدم
ويهدم.
وحده يبدأ كل عالم ويختم» (58).

3 . ج : تناول تناصي لغنائية الأرض
لا يسعني، في حدود هذا الفصل، الوقوف على جدة الصور أو المعاني التي يتناولها أدونيس في هذه القصائد، وهي تِرد في غير قصيدة لاحقة من شعره، إلا أنني أنتبه إلى اتصالها بما قاله سعادة. وهو اتصال يوظف الأدبيات توظيفاً إرشادياً، أي يستعمل المواد فيؤكد عليها ويعرضها ويشرحها، خصوصاً وأنه يتقيد أحياناً بمواعيد وطقوس وتقاليد ورموز حزبية تتباهى بها الجماعة الحزبية في دعواها لنفسها. كما يوظفها توظيفاً تخييلياً، إذ أن الشاعر يتفنن في صوغ وابتكار حالات يظهر فيها «التبرم» أو «التوق» الثوري إلى الفعل، على سبيل المثال، أو في محضه الأرض كياناً إنسانياً، أي بناء مجازياً يعطيها القدرة علي الشوق، هي بدورها، إلى أبنائها التائهين عن حقيقتها.
وما أتحقق منه كذلك هو تأثر أدونيس اللافت بما سبقه إليه، موضوعاً ومعالجة، الشاعر سعيد عقل. فغير صورة وفكرة مما عرضته (أو لم أعرضه) من نتاج أدونيس الحزبي أتأكد من وجودها في مطولات سعيد عقل التي سبقت زمناً وذيوعاً كتابات أدونيس، وهي التالية: «بنت يفتاح» (1935)، «قدموس» (1937) و«المجدلية» (1944). سنأكتفي بشواهد معدودة من مسرحية «قدموس»، تؤكد، قبل قصائد أدونيس، على بعض هذه المواد:

- موضوعة «المركب الحضاري»، في إشارة رمزية إلى الفينيقيين الرحالة في البحار، مثل قدموس وأخته أوروبا وأليسار. يقول عقل:
«مركب مفلت من البحر، تياه» (59).
ويقول أيضاً:
«وغداً يعرفون أنا على السفن،
حملنا الهدى إلى المعمور» (59).
ويقول أدونيس:
«والزورق المدل المغامر» (60).
ويقول أيضاًً:
«من هنا، من بلادنا، نحن أقلعنا
شراعاً، وموجة، وليالي» (60).
وتلتقي مع موضوعة أخرى، هي «المسافر الباني». يقول سعيد عقل:
«نحن غير الغزاة، ننزل قفراً
فنخليه أنهراً وجنائن
نزرع المدن، نزرع الفكر في الأرض
ونمضي في الفاتحين مثالا» (61).
ويقول أدونيس:
«لي، وراء الآفاق، ركبٌ وفتحٌ
ودروب، غبارها في النجوم» (62).
ويقول أيضاً:
«فإذا الكون كوننا، وإذا الدنيا
شمال لحبنا، ويمينُ» (62).

- موضوعات عن النزعة «المشيئية»، يقول عقل:
«شَأْ تزلزل دنيا، وشَأْ تبنِ دنيا» (63).
ويقول أيضاً:
«ومن الموطن الصغير، نرود الأرض،
نذري، في كل شط، قرانا،
نتحدى الدنيا: شعوباً وأمصاراً،
ونبني - أنَّى نشأ - لبنان» (63).
ويقول أدونيس في أبيات تكاد تكون منقولة حرفياً عن عقل:
«بلادي، بلاد النداء البعيد
لما قيل أو خُط أو صورا.
مواكب للفتح، أنَّى سرت
سرت، وهي تحمل عبء الورى.
تركز، أنى تشا، بعلبك
وترفع، أنى تشا، تدمرا» (64).
ويقول:
«إن أشأْ أفرغ الوجود لهم، لهواً
وإن شئت، شئته عرزالا» (65).
ويقول أيضاً:
«ما علينا قهر الصعاب، ولكن
علينا أن نقهر المستحيلا» (66).

- موضوعة «الغد مستمداً من الماضي»، ويقول سعيد عقل:
«(...) ما أمسِ إلا
ومضُ برق من ضجة الغد نزر» (67).
يقول أدونيس:
«عاد قدموس، فالعتيق غدا
آناً جديداً، والآن صار عتيقا» (68).

أكتفي بهذا القدر من المواد التناصية بين سعيد عقل وأدونيس، من دون أن أستقصي العلاقات بينهما، ولا بين أدونيس نفسه وسعادة بالمقابل (69): فشخصية سعادة، «الزعيم»، أسرت محازبيه، ومنهم أدونيس الذي قال عنه في قصيدة «قافلة المجد» إنه «أطروحة الدنيا»، وفي «قالت الأرض» إنه خلاصة الكون («قيل: كون يبنى، فقلت سعاده»)، إلا أن هذا الأسر يتحلل في مجموعات الشاعر اللاحقة، بعد مرحلته الحزبية؛ أو يحد صيغة جديدة ومتحولة منه باتت عماد المعنى في شعر أدونيس، وهي وقوفه في مواجهة التاريخ (بل الإرث العربي وحمولاته)، مثل سعادة أمام تاريخ سورية، علي أنه «لغم الحضارة». وما تجدر الإشارة إليه هو أننا نشهد في مدى التلاقيات هذه، بين مواد الإيديولوجية وتطلعاتها ومأمولاتها وبين الشعر، اتكالات متبادلة، فتعول هذه على تلك، من دون أن نتبين أحياناً، أو أن نجيب: من يمد من؟
يؤكد أدونيس في «قالت الأرض»: «آن لي أن أكون نفسي» (70). وهذا الإعلان التوكيدي للنفس قد يصح إيديولوجياً: فالمتكلم الشعري يشجع نفسه، أو يقوي العزم على أن يصبح «الحزبي المثالي»، الذي يجب أن يكون عليه، أو «الإنسان الجديد»، كما يقول سعادة. إلا أن الإعلان المذكور تأكدَ شعرياً، حيث أن الشاعر بات «مُسَمِّياً» للأشياء، محدداً للحق، وهو ما يعلنه أدونيس في بيت آخر: «قَيِّم باسم أمتي» (71).
وما أخلص منه، بعد هذه المراجعة، هو التأكيد على أن الدعوة إلى الثورة لا تخص الفكر القومي أو اليساري في الشعر الحديث، بل دعا إليها أيضاً محازبو سعادة. كما ان الشاعر- الداعية، «القيم باسم أمته»، الذي يروج للأفكار الثورية الجديدة لا نجده ماثلاً في شعر شعراء يساريين أو قوميين وحسب، وإنما عند شعراء الحزب القومي السوري أيضاً. ولا أقف عند هذا الحد، بل أشير إلى عدد من التقاطعات والتلاقيات: فتعبير «النهضة»، التي روج سعادة لها، ألا نجده ماثلاً أيضاً في تعبيري «البعث» و«الثورة»، كما يردان في شعر التموزيين؟ ألا يمكننا أيضاً أن نجد في قول سعادة أو تشبيهه المبدع بالفيلسوف أصلاً وإن غير وحيد لما سيقوله الشعراء لاحقاً عن الشاعر «الرائي»؟ ألا تكون «النظرة» التي قال بها سعادة هي المؤدية أيضاً إلى مصطلح «الرؤيا»؟
إننا نتبين في واقع الحال صلات بين عدد من أفكار سعادة وبين ما ذهب إليه هؤلاء الشعراء لاحقاً: فلو سلمنا جدلاً بان أفكارهم هذه (الداعية، الرائي ...) تجد مراجعها في النسق الغربي، الفرنسي تحديداً، فإننا لا نقوى على إنكار صلات الشبه والتقارب.
هي أكثر من عملية شبه، فالشعراء هؤلاء أخذوا من غيرهم ما كان يجيب على حاجات في نفوسهم، أو ما كان يعتمل فيها منذ وقت. والحداثة في ذلك - كما كانت طريقة تلك السنوات وبعدها أيضاً - تلفيق وتحوير، من دون أن يحتفظ المصطلح المستجلَب بمعناه الأصلي، بل يتم تحويره ويجيب على حاجات محلية لا تفصح عن مكنوناتها في أغلب الأحيان.
هي سلطة الكلام، إذن، وغوايته. هي إنشاؤه الأرفع وسجله الأسطوري الخالد. ذاتٌ تحكي حرمانها من السياسة ولكن في شكل تنزيهي، إذ لا تعود السياسة مصلحة وطلباً لنفوذ بل دفاعاً عن أغراض الجماعة السامية (الوحدة، التحرر...). شاعر ينفث الحياة في رماد التاريخ المختصر في حكايا وأساطير، والتاريخ ليس شاغلاً راهناً مكتفياً بذاته، بل راهن مغترب عن ماضيه، عن حقيقته، وهي كامنة مثل جوهر، مثل لقيا أثرية. «الأمة السورية» مفارقة لـ«روحها»: كيف لا، وسعادة يريد أن «نبعث حقيقتنا الجميلة العظيمة من مرقدها»! كما لو انها تنتظرنا على حالها، أو تنتظر الشاعر، نافخَ الروح فيها، مثل طائر الفينيق أو أدونيس.
عودة من خلال الشعر، إذن، إلى منابع التفكير بعد الافتراق عن الأصول. وقفزة فوق التاريخ تصوغها صرخة أدونيس في النشيد الأول، «أول آذار» (في مطولته «قالت الارض»):
«أنا كنز مخبأ. أين أبنائي؟
فكلي صوتٌ، وكلي حناجر!
(...)
ليقوموا من غفوهم: فتواريخي
عطاش صفر الوجوه، كوامد
أنت علمته الحياة قديماً
وستبقى له دليلاً ورائد!» (72).
إيديولوجية تجد مراجعها في نسق ثقافي-أسطوري، في المعاني «الأولى»، في أصول مفترضة على انها تأسيسية، وهي قومية ثقافية بهذا المعنى. إيديولوجية الحنين والعودة إلى المعاني الأصلية، فيما لا تتخذ سوى شكل كلامي بالضرورة: أسطورة مثل إيديولوجية أو إيديولوجية مثل أسطورة؛ متعالية - ولو لأغراض سامية - عن التاريخ، وعما جرى وعن الراهن نفسه. هل يعني هذا قوَّتَها في الشعر، في الأسطرة، وتعثرَها في السياسة؟

3 . إيديولوجية الحداثة، حداثة الإيديولوجيا
خلصتُ من هذه المراجعة إلى تبين المغازي المختلفة لدعوة سعادة الشعراء لـ«نفخ الروح» مجدداً في الأساطير السورية، وأدت هذه المغازي، على اختلافاتها، بسعادة إلى طرح إيديولوجيته، أو ما كان يسميه في لغته بـ«النظرة الجديدة إلى الكون»، كفكر محدد، وإلى التعامل مع التجديد على أن أسبابه مربوطة بالفكر، وبابتداع فكر خصوصي، لا باستجلابات أو تحويرات أو تأثرات تقنية الطابع، كما كان عليه التجديد الشعري وقتها. وأنتهي بالتالي إلى تبين أن الحداثة - وفي هذا تكمن قطيعتها مع الشعر «النهضوي» - استمداد للمعاني من منابع جديدة، إيديولوجية تحديداً. هذا يصح في الفكر القومي السوري، كما يمكن التحقق منه مع الفكر الشيوعي والقومي العربي وغيره.
إلا أنني أتبين أيضاً، عدا الأثر هذا، بروز صيغة جديدة للشاعر بعد صيغ: شاعر البلاط، والشاعر الشاكي، هي الشاعر-الداعية. وهذا الأخير لا يعيِّن المناضلَ الذي يضع شعره في خدمة الحزب والعقيدة (خلاف السياب والبياتي الشهير)، بل داعية جديداً يتخذ من تدبيج قضايا الجماعة الاعتبارية موضوعاً للشعر وذريعة رمزية للتصدر: موضوع للترويج مما يمكنه من ابتكار صيغة جديدة لـ«شاعر القبيلة»، أي صيغة تؤكد على وجه من اجتماعية الشعر، وتسمح للشاعر، بحكم استحصاله على جواز القبول هذا، بأن يقول قوله في صيغة المتكلم المفرد. وهو ذريعة أيضاً لتخليص الشعر من تحكمه الاجتماعي ومحدداته الجمعية، تمكيناً لقول الأنا المتكلمة دعواها لنفسها. ومعها أطرح السؤال: ألا أجد في عدد من الدعوات الإيديولوجية والحزبية العربية أسباباً مجددة للقول الشعري؟ أليست الحداثة إيديولوجية بعينها؟ وماذا عن الجانب الحداثي في هذه الإيديولوجيات؟
قد لا تكون الإيديولوجيا حديثة فعلاً إذا توقفنا أمام عدد واسع من «الحركات السرية» في الإسلام، مما قام نشاطها على تدبيج الدعاوى والاجتهادات وبثها، وعلى العمل لاستلام السلطة أو التأثير الناشط عليها، من «أخوان الصفا» حتى فرقة «الحشاشين». وقد تكون الإيديولوجيا «حديثة» فعلاً إذا تنبهت إلى ما صارت إليه في نزعاتها وتياراتها، مع انطلاقة الدعوات العربية التحررية من النير العثماني والسيطرة الاستعمارية في آن، من قوى منظمة، وكتابات ترويجية (على أوسع نطاق مع الكتب والصحافة)، وأعلام «ملهمين» (أنطون سعادة، زكي الأرسوزي، حسن البنا، ميشيل عفلق وغيرهم)، و«كوادر» وأطر وخلايا حزبية.
فنحن نشهد، منذ نهايات القرن التاسع عشر، دينامية تاريخية قلما عرفتْها النخب العربية سابقاً، وتتدبر فيها، هي نفسها، وتلفق وتحور وتصوغ خطابات ساعية إلى التحكم بالتاريخ وبمعانيه، في صورة أقوى مما كان عليه دور النخب في العهود الإسلامية. فقد نجح الأعلام المؤسسون، في فترة ما بين الحربين، في تجييش وتأطير مثقفين وضباط ومدرسين وغيرهم، في خلايا ومجلات وسلوكات، تشحذها قيم ومساع في إطلاق «الثورة»، وهي استلام السلطة واقعاً.
ما يبدو جديداً ولافتاً في هذه العملية التاريخية هو التعويل البين على مشروعات إيديولوجية لاستلام السلطة من جهة، والتنافس الصراعي والمكشوف، من جهة أخرى، بين مشروعات عديدة، لا تتنافس وحسب في عدد المنضويين في أجهزتها، أو المتظاهرين تحت يافطاتها الاستقلالية، بل في تبادل الحجج أيضاً وصوغها وفق فنون من المداورة والإقناع والغلبة. كيف لنا، والحال هذه، أن نتبين هذه «الوشائج» الصريحة، بل المعلنة، بين طلب السلطة والاستمداد من منابع فكرية ناشئة، تجمع بين «أصالة» (أو خصوصية) مفترضة وتحديث عادل لقوى المجتمع وخيراته؟
قد يكون من المفيد إقامة التمييز بين الإيديولوجيا كمشروع منفتح على اقتراح الصور والأفكار التجديدية، وبينها كذريعة ومشروع تجزيئي وقامع، ذلك أن المشروع قد «يصعِّد» النوازع وأسباب الاحتقان والكبت في مشروع نبيل وسام وذات نفع عام من دون أن يتطابق معها واقعاً. أي التمييز بين الإيديولوجيا، في ما تقوله وتدعيه وتروجه، وبين التطلب السياسي ومحفزاته، أي ما يشحذ همة الحزبيين لطلب شيء يتماهى مع هذه الدعاوى المعلنة، من دون أن يذوب فيها.
أؤكد على إقامة التمييز هذا فلا أقع في تمويهات الإيديولوجيات نفسها، أي إخفاء ما تقوم عليه من «ألعاب» سلطوية، ومن مؤديات لا تتطابق أبداً مع المقاصد. كما أشدد على التمييز هذا لاعتبار آخر، هو أنني وجدت في البلدان العربية، كما في بلدان أخرى نازعة حينها إلى الاستقلال، طلباً إلى التحديث أو إلى الاشتراكية أو إلى الخصوصية القومية بوصفها أدوات نفوذ وسيطرة وتحكم، قبل أن تعني خططاً برنامجية ومشروعات إصلاحية، ولكن بعد أن تبينتْ «صلاحية» هذه الإيديولوجيات و«أهليتـَ»ـها في مجتمعات المستعمِر.
لم تكن الإيديولوجيا عموماً شأناً حديثاً في حد ذاته، بل أدت في ما سرَّعته، في إطار هذه الدينامية التاريخية، إلى تململات وتكسرات وتبلورات، لم يكن الشعر خصوصاً، والأدب والفنون عموماً، بعيدة عنها، بل ناشطة فيها: أُتيح لقوى المجتمع، ولا سيما لفئات المثقفين منها، أن تحيا في صورة جديدة أحوالَها وتطلباتها، أن تعلو بصوتها وتصوغ أفكارها، ما يمكننا من فهم «قابليات الحدوث» في إطار هذه الدينامية. فمن دون هذه القابليات لا نقوى على فهم العملية التي أدت إلى «كسر» عمود الشعر العربي (أي أوزانه الشعرية في هذا الطور)، بعد ما ينيف على أربعة عشر قرناً من السيادة لبحور وأغراض ما عرفتْ في سابق عهدها أي تبلبل، فيما عدا بديعيات أبي تمام والتنويعات العروضية الأندلسية.
توليفات جديدة من الأفكار والمشاعر ومن المكبوتات والتطلبات، وصيغة مفتوحة عامرة بالإمكانات، يتملك فيها «المبدع» (وهي تسميته الجديدة) حق التعبير، حق التسمية، حق التأليف، بعد أن كان فيما مضى أشبه بـ«المؤدي» لنمط سابق عليه. لهذا لا نجد أية صعوبة في تتبع المسارات الإيديولوجية، بل الحزبية، لعدد من رواد التحديث في عالم العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ولا في التعرف على أسباب عملية «التواشج» الناشطة والحيوية بين الإيديولوجيا والأدب.
فنحن نجد في انطلاقة "الشعر الحر"، على سبيل المثال، منشطات ومحفزات إيديولوجية صريحة. كما نتبين في هذه الحركة، منذ انطلاقتها، شعراء حزبيين، يتوزعون بين إيديولوجيات ثلاث، هي التالية:

- القومية السورية الاجتماعية، مع سعيد عقل، ويوسف الخال، وأدونيس ونذير العظمه وخليل حاوي (قبل عروبيته اللاحقة) وغيرهم. كان لهذه الإيديولوجية دور تأسيسي ونافذ في الحركة الشعرية، خاصة وأن المفكر أنطون سعاده أولى، بخلاف غيره، كما قلت أعلاه، الشأن الفكري، ولا سيما «نفخ الروح في الأساطير السورية» حسب تعبيره، دوراً بارزاً في عقيدته، خاصة وأن الأساطير باتت الشاهد «المتبقي» عن حقيقة «سوريا الطبيعية» - القديمة - التي يدعو إليها، وهو ما ألقاه بيناً في الشأن الأسطوري الطاغي على نتاج هذه المجموعة من «قدموس» سعيد عقل، مروراً بـ«هيروديا» يوسف الخال، وصولاً إلى «دليلة» أدونيس وغيرها.

- الماركسية في صيغها العربية، مع بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ومعين بسيسو (وغيرهم مثل محمود درويش وسميح القاسم لاحقاً)، عرفت انتشاراً سريعاً في غالب البلدان العربية، وتمتعت بمواهب شعرية لامعة، عدا أنها حظيت في ذلك الوقت بعدة نظرية قوية، ما كانت لمنافساتها، الإيديولوجيات ذات المنشأ المحلي، إذا جاز القول: كيف لا والناقد المصري محمود أمين العالم «يُقَرِّع»» الشاعر محمد الفيتوري، لأنه نشر في مجلة «الآداب» البيروتية قصيدة يدعو فيها إلى «أفريقيا»، فيسارع الشاعر الشاب إلى الاعتذار في العدد اللاحق من المجلة عن دعوته «الغريبة» هذه! انشغل هؤلاء الشعراء بقضايا اجتماعية ومحلية، متفتحين في آن على شواغل وأحداث عالمية، من كاسترو حتى الفيتنام، حتى أن بعضهم كان في بعض قصائده أشبه بالداعية لقضايا «السلام» («الأسلحة والعصافير»، «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»...) في إطار «الحرب الباردة».

- القومية العربية، في صيغتيها الناصرية والبعثية، كانت أضعف الثلاث شعراً، على الرغم من نجاحاتها في تسلم مقاليد السلطة، فما عرفت في الشاعر العراقي شاذل طاقة، على الرغم من دوره الطليعي، ولا في بدايات أحمد عبد المعطي حجازي وغيرهما، ما يعوض عن انطلاقتها الضعيفة.

يمكنني أن أستكمل هذه الصورة في أكثر من حقبة تاريخية لاحقة، وفقاً لتبدلات غير مجتمع عربي، ما يعزز هذه الوشائج القوية بين الحداثة والإيديولوجيات. وإذا كانت التيارات الثلاثة المذكورة تراجعت بعض الشيء في نهاية الستينيات، فإن غيرها ما لبث أن تعزز مع ظهور «المقاومة الفلسطينية»، ومع التنامي السريع لأفكار اليسار في مجتمعات المغرب العربي، ثم في الخليج العربي، في السبعينات، في الوقت الذي تنامت فيه بين لبنان والعراق وسوريا أفكار «اليسار الجديد» وغيرها من الهامشية و«الجذرية» وخلافها.
لعلي أجد، منذ هذه السنوات المبكرة، في نمط «الضابط الحر» (النموذج الانقلابي) أو «الرفيق» (النموذج الثوري) الصورة الأولى، بل التأسيسية لدور الشاعر الحديث وممارسته. أما في الكتابة فقد تدبرت هذه الممارسات صوراً وذرائع ثقافية استقت مصادرها من منابع متباينة: من «انحياز» المثقف البورجوازي الصغير لقضايا البروليتاريا والفلاحين، و«عضوية» المثقف عند غرامشي، أو من «لزوم الالتزام» عند المثقف حسب سارتر، أو من المثقف «الرؤيوي» مع بودلير، أو «التقدمي» و«الطليعي»، المثقف المجند في أدبيات «الحرب الباردة». كيف لا ونحن نجد في أسباب جدالات المجلات، مثل «الآداب» و«شعر» و«الطريق» وغيرها، حججاً مستقاة بل منتزعة من سياقاتها الأوروبية لتوظيفها في صراعات وجدالات طلباً للغلبة الفكرية المحلية وحسب! كيف لنا أن نفهم خارج هذا السياق عملية الجمع الطريف والغريب بين الدعوى القومية العربية من جهة، وألبير كامو وجان-بول سارتر من جهة ثانية، على صفحات مجلة «الآداب»: تم «استعمال» أدب الكاتبين الفرنسيين المناهضَيْن للماركسية ودعاويهما ترجمة وذيوعاً، بمنأى عن موقفهما من القضايا «القومية» (في الجزائر مع كامو، وفي فلسطين مع سارتر)!

التجييش بدل التفكر، الترويج بدل الجدل، فيما يتم استعارة أفكار أوروبا - «الخصم والحكم» في آن - والتدبر بها، وتلفيقها بما يفيد المناورات والمماحكات، في مسعى عام لا تحيد عنه أية إيديولوجية، وهو أن تجند كل ما تجد إليه سبيلاً، من دون تأسيس أو تبصر أو نقد. وماذا عن الحداثة كإيديولوجية؟ وماذ عن الإيديولوجيا كحداثة؟
قد يكون مفاجئاً للبعض القول إن الحداثة خطاب عنفي، بل انقلابي في ثقافتنا المعاصرة. ذلك أن وعينا لما حدث لا يتعدى، بعدُ، الوصف أو التفسير العياني، من دون أن نتبين تماماً مؤديات الحداثة، ولا عمليات تحققها. وقد يكون الكلام مفاجئاً أكثر إذا جرى القول عن وجود تلازم بين عنف المكبوتات السياسية وتبدل العبارة الشعرية في مدى الخمسينيات خصوصاً. كلام مفاجئ، لأننا قصرنا تاريخ الشعر الحديث، ولا سيما في انطلاقته، على ظاهرة عروضية في المقام الأول: التخلي الجزئي او التام عن البحور الخليلية. أو فسرناه بتسابق يكاد ينحصر في شهور معدودة بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب على قطع شريط السباق المشحون. وإذا ما وجدنا له أسباباً اجتماعية، مثل نازك الملائكة، فان هذه الأسباب تبقى محصورة في «اندفاعة اجتماعية» غير بينة، إذ هي تلبية «لحاجة روحية تبهظ كيانهم (للشعراء) وتناديهم إلى سد الفراغ الذي يحسونه. ولا ينشأ هذا الفراغ إلا من وقوع تصدع خطير في بعض جهات المجال الذي تعيش فيه الأمة» (73). ولكن كيف يحدث التصدع هذا؟
لم تكن وجهة الحركة التجديدية أكيدة، بدليل ان نازك الملائكة سارعتْ بعد سنوات معدودة إلى استنكار ما جرى، والوجهة التي اتخذها خصوصاً. ولم تكن الحركة اعتباطية، بالمقابل، لأنها ما لبثت ان انتظمت في جوق، في غير بلد عربي، كما لو أن يداً خفية تسيرها وتوقع خطواتها. يمكننا أن نتحدث طويلاً، وأن نسوق الأسباب الموضوعية والذاتية، التي أدت إلى انطلاق هذه الحركة الشعرية (بل الثقافية) الواسعة، ولكن كمن يرتب التفسير بعد أن حصل ما حصل. ذلك ان ما جرى، من دون أي ميل إلى المبالغة والتضخيم، ليس بالهين في ثقافة ما، وهو القطيعة مع «تقليد شعري» يرقى إلى قرون وقرون. ولا أقصد بالقطيعة تلك القصائد الأولى التي «نوَّعت» في تشطير الأسطر أو انساقت إلى زخرفة هندسية مشابهة لما جرى في قصائد عصر الانحطاط أو في الموشحات وخلافها، ذلك أن هذه «التململات» (كما سماها أحد النقاد) ما كان لها أن تسمى على هذه الصورة لولا حدوث «الثورة» نفسها.
ولقد كان من اللافت أن شعراء ونقاداً سارعوا إلى تسمية حركتهم بـ«الثورة»، على الرغم من كونه لفظاً دلالياً ناشئاً ومستحدثاً في العربية، أخْذاً من دون شك بما سبق إليه «الضباط الأحرار» حين جعلوا من «انقلاب» 23 يوليو في العام 1952، في مصر، «ثورة». ذلك أننا لا نقوى - حتى لو كنا بعيدين كل البعد عن أية نظرة تعسفية أو اختصارية في تفسير الظواهر الاجتماعية، ومنها الظاهرة الشعرية - لا نقوى على تبين نشأة هذه الحركة «الحديثة» خارج هذا المد العنفي الذي سعى إلى الإمساك بمقاليد السلطة فيما كان يدعو إلى الحرية، ما يعكس الطبيعة التجاذبية والمتناقضة لحركته هذه. ونجد أيضاً أن هذه «الثورة» ما كان لها أن تتحقق إلا حين بادرت فئات أو جماعات إلى تسيير عجلة التاريخ بنفسها وتبعاً لمصالحها، لا بمقتضى ما ورثته. يمكننا أن نطيل الكلام على ممهدات هذه «الثورة»، إلا أنها «انقلاب» ينطلق من تبرم وضيق وتطلع ويقوم أيضاً على درجات من الافتعال والإقحام والتدبير والتلفيق، ومن المناورات الموفقة.
قد يجد البعض في إقدام هؤلاء الشعراء على استلام زمام المبادرة الشعرية تناسباً مع ما كانت تقوم به جماعات عربية في تعيين وطنياتها الخصوصية في العربية الجديدة، حيث أتى الشعر الحديث (مع غيره) وسيلة وغرضاً لهذا الوعي الناشئ. كتابةٌ تجد أنها في مجال مفتوح، يتعدى بلاط الأمير (حتى أحمد شوقي) إلى القارئ في المجتمع؛ وهو عمل كتابي ينازع سلطة الفقيه أو الأمير، أشبه بـ...«الضابط الحر» في مجاله. وقد يجد البعض أسباباً أخرى لهذا التفجر العنفي، ماثلة في محاكاة تجارب أجنبية، ناظراً إلى الحداثة على أنها أثر مثاقفة، أي الناتج المحلي عن المواجهة والتفاعل مع الثقافة الأوروبية، أي عن الفعل التبديلي الأوروبي المتمادي في أنماط التصور والتمثل والتذوق والتعيين والتسمية. وهي كلها أسباب لها ما يفسرها في المكبوتات كما في المحرمات العربية، ووجدتْ في الحداثة قابلية لتأليف نص يستقي مصادره من «سلطة الأنا»، من رغباتها واستيهاماتها وهوسها وتعويضاتها الرمزية، لا من التنافس في إطار جمعي مفروض متحقق ومطلوب في الشعر التقليدي.
الحداثة في ذلك فعل عنفي، فعل مصادرة واستلام واستحواذ وتعيين وتسمية، وهي التمكن أيضاً من أسباب النفوذ المتمادي. فعل ٌ محرِّر ما كان له أن يتحقق من دون شك من دون الفعل «الخياني»، أو «التآمري»، أي الأخذ بمقتضيات خطاب الحداثة الأوروبي، الخطاب الدخيل غير الأصيل. ومن اللافت في هذا السياق هو تخير عدد من الشعارات والعلامات في هذا الخطاب، وتحويرها وفق مقتضيات السجال المحلي وقيمه، من مفهوم «الطليعة»... العسكري حتى عمليات «التفجير» المطلوبة في اللغة الشعرية.
الا أن هذا العنف في الخطاب عَيَّنَ بقدر ما نفى، أكد بقدر ما نحّى. نبش عن نصوص «ميتة» فأحياها، وصرف النظر بل ردم ما كان يتلعثم أو يتردد على مقربة منه. عنفٌ في ما يعينه الخطاب على أنه «الحديث وحده» (فيما غيره «تقليدي» و«محافظ»)، أو «الثوري وحده» (فيما غيره «عميل» أو «رجعي»). عنفُ التعيينات: هذه هي الحداثة لا غيرها أبداً، وهذه هي قيم الابداع لا غيرها، وهذا هو «النص» لا غيره، فيما لا تستقي التعيينات هذه قوتها في غالب الأحيان من سجال محلي، بل من أدوات النفوذ الاعتباري التي سبقنا إليها هذا الشاعر أو ذاك، أو هذا الكتاب أو ذاك، في الغرب.
عنفُ اكتسابِ قيمة اعتبارية، واكتسابِ مواقع سلطوية فعلية مباشرة في المؤسسات أو في استحداثها: هذا ما يفسر نشأة العديد من المجلات الشعرية والأدبية العربية الحديثة، وما يفسر دورها والسجال فيما بينها. وهذا ما تديره وترعاه أيضاً شبكات الصداقات والشلل، طالما أننا لم نعرف «جماعات شعرية» بالمعنى الحصري للكلمة، فيما خلا «جماعة أبوللو» وعدد متفاوت من كتاب مجلة «شعر» في بعض الأحوال.
عنفُ رفعِ الصوت أعلى، وجعلِ حدِ الحداثة أعلى وأعلى، كما لو أنها سباق حواجز. عنفُ تعيينات، عنفُ مواقع مكتسبة وعلاقات سلطوية، بما فيها من عمليات ترغيب وترهيب. ذلك أننا ننسى أنها حداثة تعيد إنتاج علاقات السلطة التي تتبرم منها، وإن في حلقات أضيق، وبأدوات العنف اللفظي والاعتباري. كما لا ننتبه غالباً إلى أن اصطلاحات الحداثة... «عسكرية»، حيث «الرائد» يتقدمنا دائماً ويصادر السلطة الرمزية باسمنا، من دوننا طبعاً، وفق لفظانية خلاصية، مؤداها يقع خارجنا، في «البطل»، في «الزعيم المحبوب»، في «اسمنا العلم».
عنفُ النص في ما يشدد عليه من دون تمييز أو معالجة. نصٌ يتحدث عن الشك والتردد والسؤال فيما عباراته مبرمة، لا إمكان لسجال معها ولا لتاريخية ما. نصٌ متألق في عبارته المشحوذة، أشبه بسياف ولو أن الرؤوس من ورق. وهو نص يشي بملابسات استلامه للسلطة الرمزية وسعيه للاحتفاظ بها، فينعدم التاريخ ويبقى الاسم العلم. نصٌ يهدد ويخيف بقدر ما هو مهدَّد وخائف، لا يني يتأكد من صلابة الكرسي وأدوات السلطة.
فإذا كنا نتبين في نصوص الحداثة شيئاً من وجع العنف المكبوت، ومقادير من التعنيف للعبارة الشعرية، الا أنه عنف سياسي بل انقلابي في المقام الأول، نازعٌ إلى السيطرة وحسب، لا إلى جعل الإنسان، الشاعر بداية، موضوع نقد وتبين و... عنف. ذلك أننا، فيما خلا بعض نصوص أنسي الحاج «العنيفة» فعلاً، نقع على قصائد «الدندنة» (أي التنويع والتطريب على لغة معينة سلفاً في دلالاتها وكناياتها، بل حتى في استعاراتها)؛ أو على قصائد «الدور» التي لا تني عن كتابة القصيدة نفسها مرة بعد مرة، قصائد التأكيد الخائف. قصائد محكمة مرتبة من دون زلة لسان أو لعثمة أو ضغط، ذلك أنها لا تعرِّض قول «القائل» في القصيدة لأي نقد أو معالجة. قصائد مبرمة، فيها حتم تنبؤي، لا أطياف الإنسان وأشباحه، أي أصواته الأخرى، أي شبكته العنفية بالتالي. لغة فخمة، عالية تصلنا حيثما كنا، من دون أن نصيخ السمع إليها، ذلك أنها من دون وشوشة أو همس أو تقطع. كما لو أننا في حشد جماهيري، أو في جمعية عمومية، لا في الوحشة، بيت الشعر الدافئ والتعاقدي.

ختاماً، لا يمكنني، اليوم، القول إن الإيديولوجيا بمعناها الحزبي لا تزال تمد الشعر - كما كانت - بمواد ورموز وشعارات واستهدافات وقيم، بعد ضمور هذه الإيديولوجيات وانتهاء عهدها التبشيري وتبخر دعاوى بعضها في ممارسات السلطة. إلا أن هذا التراجع لا يصيب متبقيات أو موروثات هذا العهد في تكوينات القصيدة الحالية، وإن يتحلل في تناول سياسي للمواد، أو للمبثوث الإيديولوجي بالأحرى. وإذا خفَّت حمولات الإيديولوجيات الحزبية في الشعر، فإن حمولات أخرى لا تزال ناشطة، ومنها دعاوى الحداثة لنفسها كإيديولوجية، ثورية بالمعنى العام، أو شعرية بالمعنى الحصري (كما ألقاها في شعر أدونيس تخصيصاً منذ نهاية الستينيات، من «تفجير» الحضارة إلى إنشاء «الكتاب»). ونحن لا نتوانى عن لحظ شقوق وفروق وخصومات في متون القصائد، تجد أصولها في السجالات حول تعريفات الحداثة وحمولاتها واستهدافاتها: فبعض الشعر يروج لنفسه، أو يقيم دعواه لنفسه، في نبذه لقضايا أو في ترويجه لقضايا، مثل الهدم أو الغرابة أو الجنون... وهو ما ألقاه كذلك في شعر من طلبوا الهامشية أو اللغة «التالفة» أو اليومية أو شعرية التفاصيل أو السرد. وهذه المواد الإيديولوجية كلها تمد الشعر بما يجدد موضوعاته، ويوسع مجازاته، ويعدد دلالاته، في تشبيكات متواشجة، متداخلة، ويصعب فيها التمييز أحياناً بين كون هذه المواد ترشيدية، أي محكمة التدبير في صياغاتها أو ضمنية، أي «محلولة» في تضاعيف الكلام. وهو تمييز بين إيديولوجية تقع في تدبير الشعر وبين أخرى مبثوثة في الكلام، وبين إيديولوجية توجه الكلام الشعري وتسوقه سوقاً توظيفياً وبين أخرى تغذي قوة التخييل فيه.

(تعود هذه الدراسة إلى ربيع 1987، وأعيد تنقيحها في صيف 1996، قبل أن تنشر في صيغتها الحالية في: مجلة "فصول"، القاهرة، "الأفق الأدونيسي"، عدد خاص، المجلد 16، العدد 2، خريف 1997، صص 145-172).

الهوامش
1 : هل تكون الآداب رافعة إنسانية مكان الإيديولوجيا؟ هل ينشأ «برلمان عالمي للكُتاب»؟
هذا هو مقتضى «النداء» الذي أطلقه عدد من الكتاب في اللقاء الخامس الذي نظمته مدينة ستراسبور (فرنسا) بعنوان «ملتقى الأدباء الأوروبيين»، وجمع بين الرابع والثامن من تشرين الثاني من سنة 1993، ما يزيد على خمسين كاتباً من أنحاء العالم، ومنهم عدد من الكتاب العرب. ويؤكد «النداء» (بعد أن ترجمته عن الفرنسية): «لا يمكننا فهم التعديات المميتة التي تصيب، اليوم، كتاباً ومثقفين، على أنها اعتداءات على حقوق الفكر والتعبير وحسب. إنها تستهدف أيضاً كل ما يمكن أن يرسم الصورة الأولية لعالم جديد، في منحه شكلاً وصوتاً لعملية ابتكار ديمقراطية أخرى. تعديات ساعية لملاحقة الإشارات المبكرة للتمرد، وربما للعصيان. إنها تمثل أيضاً، رغماً عن إرادتها، ما عجزت العقائد والأجهزة السياسية عن الإشارة إليه: كيف للسياسة أن تنخرط في فعل القول، في أخذ الكلام.
أخذُ الكلام مفاجئ، لا ينتظم وفق تبادل منسق، ولا في «مداخلات»، ولا يخص الكاتبين وحدهم. يقوم أساساً في الكلام العمومي غير المسموع أو المذهل للذين يسحقهم النظام. ويتحقق في كل ما لا حق له، ولا أساس له، أي في ما تشكل الكتابة منه صورته الظاهرة.
ما عاد يقوم الأمر على رسم المقبل، بل على تأكيد ما لا يُحتمل في الحاضر، وعلى الاشتراط الجازم بلزوم تحرير الابتكار الديمقراطي في جمله وصوره ورموزه.
في هذا المعنى، يجد كُتاب العالم أنفسهم مخولين لتأليف برلمان - مكان للكلام - يؤكدون فيه الحق في وجود هذه الأشكال وهذه الدفاعات».
2 : François Chatelet: HIstoire des idéologies - 1, col., Hachette, Paris, 1978, p 16 .
3 : الشواهد والمعلومات المذكورة مستقاة من مادة «إيديولوجيا» في «موسوعة إينيفرساليس».
4 : François Chatelet: Questions, objections, denoel /Gonthier , Paris, 1979, P 89-92 .
5 : ربيعة أبي فاضل : «أنطون سعادة الناقد والأديب المهجري»، مزرعة يشوع (لبنان)، مكتب الدراسات العلمية، 1992. ويمكننا أن نضيف إليه كتاباً آخر يتناول فيه المؤلف سيرة سعادة، وعلاقته بالشاعر خليل حاوي، ويعقد مقارنة بينهما: محمود شريح : «خليل حاوي وأنطون سعادة، روابط الفكر والروح والشاعر في الحزب»، دار نلسن، السويد، الطبعة الأولى، 1995 .
وأنطون سعاده (1904 - 1949) سياسي ومفكر لبناني، ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. كان والده الدكتور خليل سعادة طبيباً ومثقفاً مناضلاً ضد التعسف العثماني، فاضطر كغيره من مثقفي جيله إلى مغادرة لبنان، بينما بقي ابنه أنطون في لبنان طيلة سنوات الحرب، قبل أن يلتحق بوالده في البرازيل عام 1920. درس في مدرسة الشوير، ثم في ثانوية برمانا (جبل لبنان). شارك والده في تحرير مجلة «المجلة» في ساو باولو وأتقن سبع لغات أجنبية، ثم عاد إلى لبنان عام 1932، وعمل مدرساً للغة الإلمانية في جامعة بيروت الأميركية حيث بدأ نشاطه الفكري والسياسي. أسس عام 1932 الحزب السوري القومي، وناضل ضد الوجود الفرنسي في لبنان، مما كلفه دخول السجن ثلاث مرات، ثم سافر مرة أخرى إلى البرازيل والأرجنتين (1938) للاتصال بالجاليات العربية المشرقية في الخارج، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية منعه من العودة إلى لبنان قبل عام 1947. اتهم بتدبير عصيان مسلح في حزيران/يونيو 1949، فلجأ إلى سورية، إلا أن حسني الزعيم سلمه للسلطات اللبنانية التي نفذت فيه حكم الاعدام بعد محاكمة صورية سريعة.
تأثر بالفكر الاجتماعي الإلماني، خاصة ما كان سائداً منه في الثلاثينات. من أعماله: «نشوء الأمم» (1934)، و«الصراع الفكري في الأدب السوري»، و«المحاضرات العشر». أصدر عدة صحف في بيروت والمهجر أهمها: صحيفة «النهضة البيروتية» (37-38)، و«سورية الجديدة» (البرازيل 39-40)، و«الزوبعة» (الأرجنتين 40-47)، و«الجيل الجديد» (بيروت، 48-49).
عن «الموسوعة السياسية»: رئيس التحرير: عبد الوهاب الكيالي، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1979، ص 364-365.
6 : أنطون سعاده : «الصراع الفكري في الأدب السوري»، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، بيروت، 1978.
ولسعادة كتابات أخرى في النقد الأدبي، تحدث فيها عن الشاعر «الفلسفي» أبي العلاء المعري، أو عن الشاعر القروي في كتاب «جنون الخلد» على سبيل المثال؛ وله سجالات مع الصحفي غسان تويني وغيره حول أمور أدبية وثقافية مختلفة، إلا أنني أكتفي بكتابه المذكور لصلاته البينة بموضوعي.
7 : Kamal Kheir Beik: Le mouvement moderniste dans la poésie arabe contemporaine, Publications orientalistes de france, 1978, pp 134 .
8 : أنطون سعاده : «الصراع الفكري في الادب السوري»، ص 1.
9 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 8.
10 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 9.
11 : أنطون سعاده : م. ن.، الصفحة نفسها.
12 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 17.
13 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 12.
14 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 25 - 26.
15 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 27.
16 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 27.
17 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 47.
18 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 35.
19 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 39.
20 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 28.
21 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 65.
22 : يؤكد سامي مهدي وجود اتجاه سياسي قومي سوري في مجلة «شعر»، وأنه «غلب» على المجلة «منذ بداية صدورها حتى مرحلة متقدمة من عمرها»: «أفق الحداثة وحداثة النمط: دراسة في حداثة مجلة «شعر» بيئة ومشروعاً ونموذجاً»، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، ص 20.
23 : أسعد رزوق : «الشعراء التموزيون: الأسطورة في الشعر المعاصر»، دار الحمراء، بيروت، الطبعة الثانية، 1990، ص 16.
ويذهب كمال خير بك إلى القول إن ترجمة القسم المتعلق بـ«أدونيس» الأسطورة، من كتاب فرايزر «الغصن الذهبي» (the golden bough )، «يعكس الاهتمام الذي تبديه الحركة الحداثية بالمصادر الأسطورية»، ص 142 من النسخة الفرنسية.
24 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 44.
25 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 46 - 47.
لم أتوفق بمعلومات تفيد عن انتقال سعيد عقل من التيار القومي السوري الاجتماعي إلى التيار القومي اللبناني ذي الاستلهامات الفينيقية. ما تعنيني الإشارة اليه هو أن هذين التيارين عملا على المواد الأسطورية ذاتها، ولكن من أجل توجهات وصياغات «كيانية» مختلفة، لا يفيد فيها قول سعادة نفسه، إن التيار الثاني «محلي ضيق»، طالما أن هذه التيارات، على اختلافاتها، كانت تجتهد وتناضل من أجل توليد صيغة حكم محلية مستقلة عن الانتداب الفرنسي، ومتولدة في تدافعات «عصر النهضة»، من توفيقياته الإيديولوجية وتلفيقاته المدبرة. وما تعنيني الإشارة إليه في المجال الشعري الصرف هو تعويل التيار، سواء «السوري» أو «اللبناني»، على موضوعات وقضايا وأساليب إنشاد، مشابهة ومتلاقية. وسيكون لسعيد عقل دور أول في صياغة أو في اقتراح هذه المواد على غيره من الشعراء، ومنهم أدونيس، كما سنرى أدناه - إذا وضعتُ جانباً دور الشاعر اللبناني بالفرنسية شارل القرم، في كتابه الشعري «الجبل الملهم» (La montagne inspirée )، الموضوع بين 1920 و1934، الذي ترجم عقل بعضاً من أشعاره إلى العربية.
26 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 61-65.
27 : أنطون سعاده : م. ن.، ص 64.
28 : François Chatelet: Histoire des idéologies - 1, col., Hachette, Paris, 1978, p. 10-11 .
29 : أدونيس : «قالت الأرض»، الطبعة الأولى، 1954، المطبعة الهاشمية، دمشق، ص 96.
أقدمت «دار الجديد» (بيروت)، في العام 1996، على إعادة طبع «قالت الأرض» في طبعة «مقرصنة»، بعد أن امتنع الشاعر عن طبع المطولة في أعماله الكاملة، فيما خلا «مقاطع» منها أبدلت تماماً غرضها الأساسي، وهو كونها تمجد سيرة سعادة في نسق ملحمي.
30 : أدونيس : م. ن.، ص 103.
31 : أدونيس : «دليلة»، الطبعة الأولى، مطبعة ابن زيدون، دمشق، 1950. ولا أجد أثراً لهذه المطولة في الطبعات المختلفة لدواوين الشاعر وأعماله «الكاملة» (عن «دار العودة») وصياغاته «النهائية» (عن «دار الآداب»).
32 : نُشرت في مجلة الحزب القومي السوري الاجتماعي، «النظام الجديد»، حزيران / يونيو 1948، وهي مهداة «إلى زعيمي، الذي منذ أن عرفته عرفت قيم الحياة: الحق والخير والجمال»، وتتألف من 84 بيتاً.
ويمكنن القول إن الشاعر «أعدم» كل شعره الحزبي، فيما خلا «مقاطع» مبتورة من مطولة «قالت الأرض»، ذلك أن القصائد والملحمات والمسرحيات الشعرية التي ذكرتها لن ترد في عداد كتب المؤلف في مجموعة «إذا قلت يا سوريا»، المطبوع في العام 1958، في بيروت. ولا يلبث أن يسقط هذه المجموعة، «إذا قلت يا سوريا»، من قائمة مؤلفاته اللاحقة، مستعيداً بعض قصائدها في مجموعاته التالية، على أنها خاصة بالمجموعات الجديدة، وإن أوردها مصحوبة بتواريخ وضعها الأصلية أحياناً.
33 : أدونيس : «دليلة»، ص 5.
34 : «العهد العتيق»، «سفر القضاة»، فصل 13، 1.
35 : م . ن.، فصل 14/4.
36 : م . ن.، فصل 16/20-21.
37 : أدونيس : «إذا قلت يا سوريا»، بيروت، 1958.
38 : أنطون سعادة : «نشوء الأمم»، الطبعة الخامسة، بيروت، 1971، ص 155.
39 : أنطون سعادة: «المحاضرات العشر»، الطبعة الخامسة، بيروت، 1955، ص 81.
40 : أدونيس : مجموعة «قصائد أولى،» في «الأعمال الشعرية الكاملة»، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1985، ص 100.
41 : أدونيس : «إذا قلت يا سوريا»، ص 112-113.
42 : أدونيس : م. ن.، ص 115.
43 : أدونيس : م. ن.، ص 59-60.
44 : أدونيس : م. ن.، ص 123-124.
45 : أدونيس : م. ن.، ص 117.
- 46 : أدونيس : «دليلة»، ص 6.
47 : أدونيس : «إذا قلت يا سوريا»، ص 25 .
48 : أدونيس : م . ن.، ص 12.
49 : أدونيس : م . ن.، ص 26.
يمكن ملاحظة المشابهة البنائية، فضلاً عن طلب المعنى نفسه، مع بيت سعيد عقل في "قدموس":
"نبني أنى نشأ لبنان".
50 : أدونيس : م . ن.، ص 88.
51 : أدونيس : م . ن.، ص 24.
52 : أدونيس : م . ن.، ص 82.
53 : أدونيس : «دليلة»، ص 29.
54 : أدونيس : «إذا قلت يا سوريا»، م . ن.، ص 9.
55 : أدونيس : م . ن.، ص 17.
56 : أدونيس : م . ن.، ص 27.
كما أجدُ في القصائد ما يفيد أو ما يؤكد على شعارات الحزب، مثل «الزوبعة»:
«في سواد الأفق
تتعالى زوبعة
حُمِّلت بالشفق
بالفصول الأربعه» (م . ن.، ص 19).
أو ما يشير إلى أعلام في الحزب، مثل «الأمينة الأولى»، أو إلى أعياده الخصوصية ومناسباته الوطنية، مثل ميلاد «الزعيم» المؤسس وتاريخ تأسيس الحزب وغيرها.
57 : أدونيس : م . ن.، ص 106-107.
«كل ثوره
تجعل الأرض، تدور الحق دوره» (م . ن.، ص 70).
«قلبي للثورة مستنفر
دقاته صارت زمان الزمان» (م. ن.، ص 88).
58 : ويمكننا أن نقرأ كذلك في تمجيد الشهادة:
«يا دماً شرَّع قبره
قمة عبر الطريق» (م. ن.، ص 11).
«قال الدم،
كل الحياة فكرة
بحمرتي، تُترجم» (م. ن.، ص 102-103).
«وجهه يكشف سره:
مات كي تحيا بلاده
مات كي تخلد حرة.
فهو للشعب تربى وهو للشعب معاده» (م. ن.، ص 65).
«ويل ليتني، لو أموت، فداء
له، ويظل منيعاً، قويا» (م. ن.، ص 119).

59 : سعيد عقل: «قدموس»، طبعة نوبليس، المجلد الأول، بيروت، 1991، ص 144، وص 146.
60 : أدونيس : «قالت الأرض»، ص 37، وص 96.
61 : سعيد عقل : م. ن.، ص 164 - 165.
62 : أدونيس : م. ن.، ص 14، وص 63.
63 : سعيد عقل : م. ن.، ص 122، وص 172.
64 : أدونيس : «إذا قلت يا سوريا، ص 26.
65 : أدونيس : «قالت الأرض»، ص 19.
66 : أدونيس : م. ن.، ص 48.
67 : سعيد عقل : م. ن.، ص 168.
68 : أدونيس : م. ن.، ص 102.
69 : يرد اسم علي أحمد سعيد، متبوعاً باسم أدونيس، منذ قصيدة «قافلة المجد» المذكورة أعلاه، أي منذ العام 1948، وهو ما نلقاه على الصورة نفسها على غلاف مجموعة «قالت الأرض» (المطبعة الهاشمية، دمشق، 1954). ويختفي الاسم العائلي تماماً، ويبقى مكانه اسم أدونيس في مجموعة «إذا قلتُ يا سوريا»، المطبوع في بيروت، في العام 1958. ولقد دارت سجالات حول أصل الاسم الفني، أدونيس، للشاعر الذي أضاف إلى اسمه العائلي اسم عائلة إسبر، بعد حصوله على الجنسية اللبنانية، في الستينيات؛ ونفى أدونيس في حديث خاص معي أن يكون أنطون سعادة هو الذي أطلق عليه اسمه الفني، ولكن تجدر الإشارة إلى أن سعادة عمد، قبل أدونيس، إلى توقيع بعض مقالاته الصحفية باسم أسطوري، هو«هاني بعل» كما دونه، وذلك في جريدته «الزوبعة».
70 : أدونيس : «قالت الأرض»، ص 95.
71 : أدونيس : م. ن.، ص 88.
72 : أدونيس : م. ن.، ص 17.
73 : نازك الملائكة : «قضايا الشعر المعاصر»، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، الطبعة الثالثة، 1967، ص 42-43.