التناص سبيلاً إلى دراسة النص الشعري وغيره

 


يخصص عز الدين المناصرة كتابه «المثاقفة والنقد المقارن: منظور إشكالي»، (1) لقضايا وموضوعات «الأدب المقارن» بعامة، ولها في سياق البحوث العربية بخاصة. وهو أكثر من كتاب في مجاله، إذ أن الكاتب الفلسطيني أفرد صفحات مطولة منه لكي يضع في متناول القارىء وثائق عديدة متصلة بقضايا النقد المقارن، سواء النظرية أو العملية (مثل تأسيس رابطة عربية للنقد المقارن، في مؤتمراتها وبحوثها وأعلامها). ويتوقف خصوصاً في الكتاب أمام نشأة هذا السبيل النقدي في الدراسات الجامعية العربية، في العام 1938، بداية، في «كلية دار العلوم» (جامعة القاهرة) قبل أن يصبح مادة جامعية مستقلة في العام 1945. ثم يعرض الباحث، بالاستناد إلى معلومات وتحقيقات ميدانية، وإلى نتائج استمارات أعدها بنفسه في السنوات الأخيرة، أحوال تعليم هذه المادة في الجامعات العربية، في: جامعة أم درمان الاسلامية (منذ العام 1966)، وكلية التربية في الجامعة اللبنانية (منذ العام 1971)، وجامعة البصرة (منذ العام 1972)، وجامعة الكويت (منذ العام 1976)، وجامعة اليرموك (منذ العام 1977)، وجامعة الملك سعود (منذ العام 1978) وغيرها من الجامعات العربية.
إلا ان ما يعنينا من الكتاب يقع في مكان آخر، ماثل في صورة بينة منذ عنوانه، إذ يقترح المناصرة مقاربة جديدة لـ«الأدب المقارن». فهو لا يكتفي بدراسة تقليدية له، إذا جاز القول، وإنما يسعى إلى تناول نقدي للإشكالية التي ينهض عليها، عدا أنه يطلق تسمية «النقد المقارن» (السارية في الكتابات الأميركية) بدل التسمية التقليدية «الأدب المقارن». هل تقوى هذه التناولات الجديدة -فيما لو صحت - على إخراج «الأدب المقارن» من حدوده الأكاديمية والبحثية الضيقة، ومن المسائل التي اختص بها من دون غيرها؟ ونحن لا نثير هذه الأسئلة في صورة اعتباطية، وانما لاعتقادنا بأن هذا الأدب يعاني من مصاعب بينة تميزه أينما كان، في حاضر الدراسات العربية، والأوروبية والأميركية، بدليل قلة التجديد فيه، وتعثرِ سبل البحث فيه أيضاً.
ما يعنينا في المقام الأول، انطلاقاً من هذا الكتاب، هو مسألة العلاقة بين «الأدب المقارن» و«المثاقفة»، أي العلاقة التناظرية الماثلة منذ العنوان. يجد الباحث الفلسطيني ان «اتساع حقل الأدب المقارن ليشمل المثاقفة يخلق نوعاً من الفوضى» (2)، ولهذا يقترح لإيضاح هذه العلاقة الأفكار التالية:
«أولاً: ترتبط المثاقفة بالأدب المقارن مباشرة وهي حقل يقع في دائرة اختصاص «الناقد المقارن» على وجه التحديد.
ثانياً: تختص المثاقفة بمجال التفاعل الثقافي (...).
ثالثاً: تعتبر المثاقفة هي «المجال التمهيدي» للأدب المقارن.
رابعاً: يتخصص النقد المقارن بمجال التطبيقات النصية الأدبية» (3).
يستبقي المناصرة في هذه المعالجة وضع «الأدب المقارن» بوصفه «أصل» الدراسات الواقعة في مجال التفاعل الثقافي، ومنها النصوص الأدبية تحديداً، ملحقاً به، مثابة «تمهيد» له، إطار «المثاقفة». لا نريد أن نفهم الكيفية التي جعل فيها المناصرة من وضعية عامة، تاريخية وثقافية بحجم «المثاقفة»، فرعاً أو تمهيداً وحسب لشيء هو، في الواقع، ناتجٌ عنه، وهو التأثر والتوازي بين نصوص قابلة للنقد المقارن. ما يعنينا هو أنه تنبه إلى هذه المشكلة، وما عاد جائزا،ً في حسابه، طرحُ إشكالية التفاعل (أو الأخذ، أو الاقتباس وخلافها) بين النصوص الأدبية ضمن تحديداتها القديمة، وهي التثبت من حصول (أو عدم حصول) مثل هذا التفاعل.
فمن المعروف ان «الأدب المقارن» حافظَ منذ القرن التاسع عشر على قواعد وضَعَها الدارسون الفرنسيون (فيلمان وسانت بوف وغيرهما)، وخصوها بهذا النقد الناشىء، ويمكن تلخيصها بالقول التالي: جعل الدارسون الفرنسيون من مقولة «التأثر والتأثير»، بل من وجودها، بين نصين أو عملين أدبيين من لغتين (وثقافتين) مختلفتين، شرطاً لازماً لحصول المقارنة، ولكن بشرط حصول تفاعلات تاريخية محققة تؤكد حصول التأثر والتأثير بينهما؛ فإذا توافرت أسباب المقارنة (أو التشابه) بينهما من دون أن تكون لهذين العملين تبادلات تاريخية مؤكدة سقطت المقارنة حكماً. هذا ما قالته المدرسة الكلاسيكية - المستمرة، فقيدتْ حركتها سلفاً، في الوقت الذي نتبين فيه أن أشكال التأثر لم تعد بادية للعيان، أو يحتاج التأكدُ منها إلى مساع حاذقة ودقيقة.
هذه المدرسة التقليدية لا تزال ناشطة في البحوث أو في التدريس الجامعي، إلا أنها ليست الوحيدة، ولم تعد بمنأى عن التأثرات التي أحدثتها «المدرسة الأميركية» (حسبما جرت تسميتها)، وعن نفوذها المتمادي خارج دائرتها. ويمكن تلخيص نظرة هذه المدرسة إلى «الأدب المقارن» بأنها أكثر اتساعاً أو أقل ضيقاً وتحدداً مما هي عليه «المدرسة الفرنسية»، إذ أنها تميل إلى «المقارنة» حتى في حال عدم توافر «أدلة» على حصول عمليات التأثير. ومثلُ هذا الاختلاف لا يتصل باجتهادات علمية وحسب، وإنما يعبر عن حاجات مختلفة ومتباينة في الآداب الأوروبية (ومنها الفرنسي تحديداً)، من جهة، وفي الأدب الأميركي، من جهة ثانية: فمن المعروف أن المدارس الأوروبية في النقد المقارن تميل أو تعتمد طريقة النظر الفرنسية، ويعود ذلك إلى أن آداب هذه الشعوب قديمة، ويمكن النظر إليها على أنها، في وقائعها وتطلعاتها، فاعلة ومؤثرة خارج دائرتها الثقافية والحضارية، مستندة في ذلك إلى تراكم أدبي داخلي، بل «وطني» تلازمَ مع بناء الدول - القوميات فيها، وما تلاه من توسعٍ استعماري، ومن نفوذ لهذه الآداب خارج دوائرها. أما في الولايات المتحدة الأميركية فالحاجات مختلفة، واستجابت البحوث فيها لأحوال أدب ناشىء، من جهة، ومتفاعل أو متأثر بمصادر أدبية مختلفة ومتعددة، من جهة ثانية.
مجال الاجتهاد والدرس مفتوح، وما عاد يكفيه الفهم المقارن التقليدي، ولا الأميركي المجدد، على ما أعتقد، إذ أن الأمر لا يستقيم بمجرد المقارنة، بأدلة أو من دونها، وإنما يتطلب النظر إلى النصوص، وربما إلى غيرها من النتاجات الثقافية، وفق منظور التفاعل الثقافي، بل ضمن «المثاقفة» أيضاً. لهذا بدا لي أن العملية التي قام بها المناصرة، وهي فتح حدود «النقد المقارن» على «المثاقفة» جديرة بالبحث، عدا أنها تكسر الحدود الأكاديمية المنغلقة على نفسها.
أعود، إذن، إلى طرح السؤال الذي انطلقتُ منه: هل تقنع محاولة فتح الحدود هذه؟ ألا يرتب المناصرة في ذلك علاقة مفتعلة بين ميدان علمي ناشىء، هو المثاقفة، وبين علم قديم، هو الأدب المقارن؟
فنحن نعرف ان المثاقفة (acculturation ) لفظ اصطلاحي جديد نشأ في الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يتأكد مضمونه في غيره من البلدان، ويشير إلى مسارات التفاعل التي تنشأ بين جماعات وأفراد، في صورة متكافئة أو مختلة (كما في حالات فرض الثقافة الاستعمارية)، وفي أجواء ودية أو قهرية، طلباً للتأثر أو المحاكاة أو التشوف، وإلى غير ذلك من الأحوال والأطوار التي تعين هذه العلاقات المركبة التي عرفتها الشعوب والثقافات، والنصوص فيما بينها بالتالي.
ما كان للمناصرة أن يغفل، إذن، عن الإرباك المعرفي والمنهجي الذي يحققه مفهوم «المثاقفة» في الميدان المنغلق والهانىء الذي يسم حال «الأدب المقارن». ولكن كيف رتب الكاتب، والحالة هذه، أمر العلاقة بينهما؟ إذا كان المناصرة يجعل من «المثاقفة» تمهيداً لازماً لأية دراسة «مقارنة»، فإنه لا ينهي المشكلة بذلك، طالما انه «يلصق» هذا بذاك، كما لو أن مفهوم «المثاقفة» تاريخي الطابع وحسب، صالحٌ للمقدمات والتمهيدات ليس إلا، من دون أن تكون له أية قابلية إجرائية! ذلك أن التحقق من العلاقة بين العلمين، الناشىء والقديم، لا يؤدي إلى تلازم بينهما، ولا إلى جعل الأول «تمهيداً» للآخر، وإلى حصر الثاني في المجال التطبيقي.
أُشدد على هذه المفارقات، بما أن مفهوم «المثاقفة» يصلح أكثر من غيره للإجابة عن وضعيات في التفاعل الثقافي وخلافه، بين الجماعات والنصوص؛ وتحتاج هذه الوضعيات وتتطلب سبيلاً في درسها يتعدى الإطار المقارن نفسه: فهناك وضعيات يعايشها العالم، كما عاشها ويعيشها عالم العربية، تتسم بالتفاعل البين مع ثقافات وسلوكات أجنبية. وهذا يصح في العلاقات مع الغير، كما بعلاقات غيرنا بثقافتنا، أي ما يحتاج إلى سبيل منهجي في المقاربة يضع حداً لـ«المقارنة»، التي تفترض وجود نص «أول» على أنه المؤثر على غيره، وهو النص الغربي غالباً، ووجود نص «ثان» على أنه الخاضع للتأثير، وهو النص غير الغربي غالباً. إلى هذا، فإن شروط التفاعل باتت صعبة الوصف، نظراً لوفرتها، ولحذاقة الأدباء والفنانين في إخفاء معالم التأثر، ما يدعو إلى اعتماد مفهوم آخر قابل لتفكيك وضعيات التفاعل الناشئة، وهو ما يوفره مفهوم «التناص».
ويتنبه المناصرة إلى الأهلية النظرية لمفهوم «التناص» الناشىء في الدراسات اللسانية، فيقول في كتابه المذكور: «إن مقولة «التناص» أكثر موضوعية في تناول المقارنة بين آداب الشعوب» (4)، غير أنني لا أجد في كتابه مسعى موافقاً لذلك، ما يشير إلى أنه يتطرق، في خاتمة المطاف، إلى العديد من المسائل المستجدة التي تطرح نفسها على حاضر الدراسات «المقارنة»، فيتلمسها في صورة نظرية وسريعة، من دون أن تطرح تلمساته هذه على البحث وضعية هذا العلم (أي «النقد المقارن»، كما يسميه)، ومن دون أن يجعل لهذه المفاهيم الداخلة على الأدب المقارن (أي «المثاقفة» و«التناص») أية قابلية إجرائية.
سبيل «التناص» يتعدى، على أي حال، هذا الإطار القديم للمشكلة، لأنه يتحقق أساساً من أحوال التفاعل فوق مساحة النصوص. إلى هذا، فان إدراج مسألة «المثاقفة» تحت باب «النقد المقارن» لا يفي بالمراد أبداً، وهو الانتباه إلى واقع التفاعل النصي الذي يقوم بين نصوص واقعة ضمن اللغة الواحدة، لا بين لغتين مختلفتين، كما هو عليه الحال في الأدب المقارن في صيغته التقليدية. كما نستطيع ان نزيد على هذين الاعتراضين اعتراضاً ثالثاً، وهو أن المنزع «المقارن» يقوم على موازاة أو تقابل أو مقارنة بين نصين، فيما يسعى الفهم «التناصي» إلى تبين حقيقة التفاعل النصي، أو «التنصيص»، في النص نفسه، على أنه يشير إلى نصوص أخرى واقعة ضمن نصوص ثقافته أو خارجها، وفق علاقات من التفاعل، قد تكون استعادة، أو محاكاة، أو تحويراً، أو محاكاة ساخرة لهذه النصوص الأخرى التي يتم «تملكها». فما التناص؟

 

1 . التناص : مساعٍ تعريفية
لا يحتل مفهوم «التناص» بنداً أو فصلاً مستقلاً في «القاموس المعرفي الجديد لعلوم اللغة» الذي أعاد صياغة مواده، وتبويب فصوله من جديد، أوزوالد ديكرو وجان-ماري شافر بالتعاون مع عدد كبير من اللسانيين (5). ولو استعدتُ فهرس المصطلحات، لوجدتُ «التناص» وارداً في مادة واحدة؛ ولو عدتُ إلى الصفحة المناسبة للاحظتُ أن وروده مصحوبٌ بكلام مقتضب لا يزيل شيئاً من اللبس المحيط به، ولا يوفر له بالتالي قدراً من التعيين الدقيق.
يرد الحديث عن «التناص» (intertextualité ) في المعجم الجديد في معرض الحديث الشامل عن «ميادين» الدراسات اللسانية، وعن إسهام «الشكلانيين الروس» فيها تحديداً. ويعني هذا أن واضعي القاموس لم يجدوا ضرورة، رغم تبويبهم المنهجي الجديد للمواد، واضطرارهم الى إجراء تعديلات وإضافات جوهرية على مواده، إلى إفراد فصل، أو فقرة في فصل، لهذا المفهوم، ما يفيد أنه لم يبلغ، بعد، في حسابهم مرتبة العلم، أو المسعى المنهجي، أو القضية اللسانية الجدالية أو اللافتة. والغريب في هذه العملية هو أن واضعي القاموس الجديد استعادوا المفهوم ولكن من دون تعييناته السابقة، أي الواردة في القاموس القديم (6)، التي أبانت شيئاً من حقيقة النص، وهي أنه لا يخضع «لنظام» مبرم ذي فقرات متعالقة ومتماسكة، وانه لا يؤلف «بنية مغلقة»، وإنما تشغله وتنشط فيه نصوص أخرى، على أساس أن كل نص هو «استيعاب وتحويل لعدد كبير من النصوص» (7).
وإذا كان التباين بين القاموسين، بل بين إصدارَيْه، يفيد شيئاً فهو أن تعيين محتويات المفاهيم، الناشئة خصوصاً، يخضع للتقلبات والاجتهادات: ما كان مستحسناً ومطلوباً في أيام «عز» البنيوية (أي في الإصدار السابق)، أي التأكيد على أن النص «ممارسة» (أي اشتغال النصوص المختلفة والمتباعدة في الكتابة النصية، كما كانت تقول جماعة «تَلْ كَلْ»)، ما عاد مستساغاً في عهد تراجع البنيوية الحالي. هذا ما أَنتبه إليه في واقعة أخرى، وهي أن «قاموس اللسانية» (8) لا يتضمن - وهو معروف بجانبه «المحافظ» - أية إشارة عن «التناص». ومع ذلك أقول بأن مفهوم «التناص» شغل العديد من الدارسين؛ ولو تتبعتُ عدداً من الكتب والدراسات الأوروبية، الفرنسية والإيطالية تحديداً، وعدداً من الكتب، وإن القليلة، العربية، لوجدت حضوراً لافتاً لهذا المفهوم. فما حال «التناص»؟ وما معنى التردد الذي يصيبه في مجال الدراسات؟
لعلنا نجد، على ما يفيد «القاموس المعرفي الجديد» المذكور، في شخص العالِم الروسي ميخائيل باختين واضعَ هذا المفهوم الجديد، وفقاً لاستعمالات الباحثة جوليا كريستيفا له. وعنى هذا المفهوم الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص، في استعاداتها أو محاكاتها لنصوص (أو لأجزاء من نصوص) سابقة عليها، بدل الفهم التقليدي الذي يتعامل مع كل نص في صورة متسقة على أنه صنيع مبتكر، مصدرُه فيه وغايتُه واقعةٌ فيه كذلك. ماذا لو أتبين حال هذا المفهوم في عدد من الدراسات الإيطالية والفرنسية، التي سعتْ، على ما سأتبين، إلى توسعة تعيينات هذا المفهوم ومجال عمله، مثلما سعت أيضاً إلى تعيين ميدان لاشتغاله أو لوجوده في النصوص؟
لعل جوليا كريستيفا هي الأولى التي تطرقت إلى هذا المفهوم، وأجرت عليه استعمالات إجرائية لافتة، في دراستها الشهيرة «ثورة اللغة الشعرية» (9)، والتي عينت فيها «التناص» على أنه «التفاعل النصي في نص بعينه»، وتوسعت في تبين قابلياته الإجرائية حين تناولت أحوال التناص في شعر لوتريامون تحديداً، متوقفة أمام عمليات «التحوير» التي أقامها الشاعر على نصوص عديدة معروفة، بما يشبه «اختطافَها»، أو تحويلها عن مجراها. وتبقى دراستها في هذا المجال المثال الأنجح عن القابليات الإجرائية لاستعمال هذا المفهوم في مقاربة النصوص الأدبية.
كريستيفا شقت الطريق هذا، وسعى الباحث الإيطالي سيغريه (10) إلى الوقوف على حقيقة هذا المفهوم، في وقفة نقدية-تاريخية، لعلها الأولى في هذا المجال. فوجد في دراسة نشرَها في العام 1985 أن هذا اللفظ «جرى اعتماده مؤخراً» في الدراسات الأدبية، وأنه يشتمل على مجالات عمل عديدة في النص الأدبي، هي التالية: التذكر أو الاستعادة، أو الاستعمال الصريح أو المقنع، الساخر أو الإيحائي للأصول واستعمال الشواهد (11).
ومن المعروف أن جيرار جينيت تناول بدروه، في كتابه «التطريسات» (12)، «التناص»، لكنه أَدرجه في تصنيف منهجي جديد للعلاقات النصية المفارقة، وقد أَجملها في خمسة أحوال: الاستشهاد والسرقة، علاقة النص بـ«عتبة النص» (العنوان، العناوين الفرعية، المقدمة، التمهيد، التنبيه وغيرها، مما يقع في تقديم الكتاب)، والعلاقة القائمة بين النص والنص الذي يتحدث عنه، وعلاقات الاشتقاق بين النص والنص السابق عليه، والعلاقة بالأجناس الأدبية التي يفصح عنها النص. وهو فهم يؤدي إلى ربط النص بما يحيط به، وبما يسبقه ويحدده في آن؛ وهو في ذلك عملٌ «ترتيبي» له قيمته النظرية والإجرائية من دون شك، إلا أنه يبقى، في مجال «التناص» المخصوص، رهين مفاهيم البلاغة وتعييناتها، مثل المحاكاة الساخرة والسرقة وغيرها.
أما فرنسوا راستييه فيفيد أن التوسعة طاولت حمولات هذا المفهوم، باتجاه تعيينٍ «إدراكي» له، ويجد ذلك ماثلاً في مباحث الدارسَين الإيطاليين بوغراند ودريسلر، اللذَين وضعا التعريف التالي لـ«التناص» (في العام 1984): هو «الترابط بين إنتاج نص بعينه أو قبوله، وبين المعارف التي يملكها مشاركو التواصل عن نصوص أخرى» (13). ويمكن الانتباه إلى كون هذا التعيين الجديد يولي «التواصل» (مثل الكثير من الآراء اللسانية التي تخص الجانب التخاطبي بالاهتمام، على حساب المدونة، في الدراسة اللسانية للنصوص) الأولوية في تعيين هذا المفهوم، ما يعني أن التناص لا يقع في «النص نفسه»، وإنما في عمليات التواصل الاجتماعي التي ينطلق منها ويعود إليها (أي التي تقع في شروط إنتاجه، كما في شروط تلقيه)، فيما نجد التعيينات السابقة تحصره في العمليات النصية «الداخلية» إذا جاز القول. ويخلص راستييه من مناقشة المفهوم إلى القول بأن النص لا يعدو كونه ظاهرة «تضمينية» في نهاية المطاف، لا يقوم على «ظاهر» نصي، وإنما على عمليات معقدة، فيها الصريح والضمني في آن، ونتحقق منها في النص نفسه، في تراكيبه وصيغه.
يتم، إذن، توسعة هذا المفهوم، ويصل الأمر عند الفرنسي أرِّيفي، هو مثل ريفاتر، إلى تعيين مجال عمل هذا المفهوم، وهو «مكان التناص» ويعينه الأول منهما على الشكل التالي: «إن مكان ظهور (هذه الوقائع النصية) ليس النص، بل مكان التناص، على أن هذا الأخير يفيد أو يعين مجموع النصوص التي تنشأ بينها علاقات تناص» (14). يتألف «مكان التناص»، إذن، من مواد عديدة تنشأ بينها علاقات تفاعل، على أننا لا نكتفي بدراسة، أو بتعيين هذا «المكان»، بل بتحديد سبيل تحليلي مناسب له يتحقق من عمليات «التنصيص» التي خضعت لها المواد المذكورة، أي ما أسميه بـ«الوقائع التناصية». هذا ما ينتهي إليه غير باحث أوروبي، ولكن أليس هذا هو عينه الذي تحدث عنه النقاد العرب القدامى في باب «السرقات» (أو «التلاص»، حسب نحت المناصرة)؟ فما «السرقات»؟
يقول الآمدي في كتابه «الموازنة»: «ووجدتهم فاضلوا بينهما (أي الطائي والبحتري) لغزارة شعريهما وكثرة جيدهما وبدائعهما، ولم يتفقوا على أيهما أشعر (...). ولست أحب ان أطلق القول بأيهما أشعر عندي؛ لتباين الناس في العلم، واختلاف مذاهبهم في الشعر، ولا أرى لأحد أن يفعل ذلك فيستهدف لذم أحد الفريقين (...)؛ لاختلاف آراء الناس في الشعر، وتباين مذاهبهم فيه. (...) أما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أوازن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، فأقول: أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى، ثم احكم انت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علماً بالجيد والرديء» (15).
يتجنب الآمدي، على ما أرى، عادات العرب القديمة (16)، في تعيين «الأشعر» بين عدة شعراء، أو البيت «الأجمل» في غرض بعينه، بأن يضع أصولاً لـ«الموازنة»، من دون أن يجنح إلى تمييز الشاعر، بل القصيدة. إلا أن هذا التوازي بين قصيدتين، وإن عنى انتقالة عما كان عليه مبدأ التفاضل السابق، يبقى ذوقياً واستنسابياً، ولا يغيب، في هذه الحالة بالذات، كون الآمدي يستحسن شعر البحتري، على ما قال إحسان عباس، و«يؤثر طريقته ويميل إليها»، «ومن أجل ذلك جعلها «عمود الشعر» ونسبها إلى الأوائل وصرح بأنه من هذا الفريق دون مواربة» (17).
ما يعنيني في أمر هذه «الموازنات» عموماً، وفي سياق قولي هذا، هو أنها لا تفي بمرادي، وتبقى بعيدة عما نعرفه في مجال العمليات «التناصية»، ذلك أنها تجعل سلفاً من «التفاضل» غايتها، ومن «التقابل» سبيلها إلى تبين حقيقة التباري والتنافس، وإلى فرز «السبق» عن «السرقة». وماذا عن «الأدب المقارن»؟ أليس سبيله المعروف هو سبيل «التناص»، ولكن بعبارات أخرى؟ ألا نستبدل اسماً بآخر؟ ألا نستعيض تسمية سبيل منهجي («الأدب المقارن») بسبيل منهجي آخر («التناص») من دون أن نجدد طرائقه وإجرائياته بالضرورة؟
لا، خلافاً للظن، ذلك أن «التناص» لا «يقارن» بين نصوص عالجت موضوعات متشابهة، أو قامت فيما بينها علاقات تأثر وتأثير مثبتة. فنحن نعرف أن عمل «الأدب المقارن» ينتظم على أساس مقارنة بين نصين: بين نص سابقِ التحقق تاريخياً، بوصفه النص الأول والأصلَ وفاعلَ التأثير في غيره، من جهة، وبين نصٍ لاحقٍ تاريخياً على الأول، بوصفه النص الثاني والنسخةَ والخاضعَ للتأثير بالتالي، من جهة ثانية. وهو انتظام يشبه في بنائه أساس العلاقات في الترجمة، بين النص الذي تتم ترجمته (وهو الأول، والأصل، والمبتكر بالتالي)، وبين النص المترجَم (وهو الملحق، والقابل لصياغات مختلفة، ما يعرضه بالتالي لحسابات وقواعد في الأمانة). أما «التناص» فإنه يتجنب، بل يقلب تماماً هذا الأساس التفاضلي، اللازم في أية عملية مقارنة، مطلوبة أو مستترة، إذ أنه يسقط مبدأ المقارنة نفسه، ويجعل من النص المطلوب دراسته بنيةً بذاتها، وإن تتضمن في عناصرها وعلاقاتها ما يشدها إلى نصوص واقعة قبلها وخارجها، والمواد هذه تتحقق في النص (أو يشير اليها تلميحاً أو تصريحاً) في تراكيب نحوية ودلالية، هي «الوقائع التناصية». وهي وقائع تقوم في تفاعلها وإنتاجها تبعاً لعلاقات مختلفة، قد تكون الاستعادة، أو التذكر، أو التلميح، أو إيراد الشواهد، أو التقليد، أو المحاكاة الساخرة وغيرها مما نقع عليه من فنون أدبية، متعمدة أو عفوية، بفعل «الاختطاف» أو «التملك» أو بمفاعيل «الذاكرة» الناشطة في الكتابة. ولكن ماذا عن حال «التناص» في الدراسات العربية؟ أما قام به بعض النقاد ولكن وفق تسميات منهجية أخرى، أو بأدوات أخرى؟
قلما انصرف الدارسون العرب إلى تبين ما يمكن مقارنته من نصوص أدبية عربية بنماذج مماثلة من نصوص الأدب العالمي، على الرغم من الدور الذي قام به محمد غنيمي هلال في هذا الميدان الدراسي، إذ انطلق من الأدب العربي وبحث عن تأثيره في الآداب الأوروبية، وتتبع أيضاً تأثر الأدب العربي الحديث ببعض المذاهب الأوروبية الحديثة. وهو ما شرع به إحسان عباس في الشعر العربي الحديث، في كتابه عن بدر شاكر السياب، وأبان فيه، وإن بشيء من التسرع، تأثر الشاعر العراقي بقصائد من الشعر الإنكليزي الحديث، ولا سيما مع إليوت (18).
إن مراجعتي لعدد من الكتابات الأدبية العربية، منذ «عصر النهضة» تحديداً، تدعوني إلى الوقوف أمام ظواهر التفاعل الثقافي المختلفة، وإلى التساؤل عن أسبابه وحقيقته، وهو تفاعل ما شهدته الكتابة العربية وفق هذه المقادير والأحوال في تاريخها السابق: ما يمكن القول عن أثر الرومانسية الإنكليزية على شعراء «جماعة الديوان»، أو أثر بودلير على شعر الياس أبي شبكة، وأثر الرومانسية الفرنسية والإنكليزية على شعر أبي القاسم الشابي وغيرها من التأثرات؟ وما القول أيضاً عن تشابهات وتقاطعات في مجالات أدبية أخرى، بين «بيجماليون» برنار شو وتوفيق الحكيم، أو في الرواية الواقعية بين إميل زولا ونجيب محفوظ، وفي مسرع العبث بين أوجين يونسكو وعصام محفوظ؟
يمكنني أن أعدد الأمثلة، وقد تناول النقد العربي الحديث بعضها بالدراسة والتحليل. فـ«التناص» مدروس في بعض النقد العربي الحديث، في عدد كبير من مواده، ولكن في عدد محدود للغاية من «وقائعه»، ذلك أن الناقد يكتفي في غالب الأحيان بتعيين أو عرض المواد («المقارنة» أو التي تنشأ بينها علاقات تقابل)، من دون أن يبالي بالأشكال اللفظية والنحوية والدلالية التي تحققت بها هذه المواد في النص المدروس، أي دراسة «الوقائع». وعلينا في هذا المجال أن نميز، بداية، بين السبيل التناصي وسبيلين في «المقارنة»: بالإضافة إلى السبيل المقارن التقليدي (وهو دراسة التفاعل بين نصين قامت بينهما علاقات مؤكدة ومثبتة)، يمكننا الحديث، حالياً في الدراسات، عن سبيل «مقارن» آخر لا يقوم بالمقارنة بل بالمقابلة: يقابل هذا السبيل بين نصين تقابلاً يبين لنا، على سبيل المثال، موقفَ أو نظرة هذا الشاعر، من هذه اللغة (والثقافة)، إلى الموت، وموقفَ أو نظرةَ شاعر آخر، من لغة (وثقافة) أخرى، إلى الموضوع عينه، من دون أن تكون بين الشاعرين أي علاقات تعارف أو تفاعل مؤكدة أو ممكنة. إلى هذين السبيلين، عرف النقد العربي الحديث سبيل التناص، ونشير خصوصاً إلى محاولتين قام بهما محمد بنيس ومحمد مفتاح (19) في السنوات الأخيرة.
يُؤْثر بنيس، منذ كتابه الأول، استعمال مصطلح «التداخل النصي» بدل «التناص»، ويعاود التأكيد على تفضيله هذا في كتابه الثاني، ويدافع عن كونه «أول» من تكلم في النقد العربي عن هذا المنحى: «كان تناولنا لمفهوم «التداخل النصي» في «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» جديداً على المتداول في الخطاب النقدي العربي، وهو ترجمة لمصطلح (l'intertextualité ). وبعد هذا العمل ظهرتْ دراسات عربية في المغرب أكدتْ أهمية هذه الخصيصة النصية، ولكنها فضلت ترجمة المصطلح بـ«التناص» الذي أصبح شائع الاستعمال في الخطاب النقدي العربي. (...) ومن ثم فان الطابع العفوي لترجمة «التناص» لا يسهم في إنتاج شبكة العلائق التي نستطيع بها الانتقال من وحدة إلى أخرى أو من جهاز مفاهيمي إلى غيره» (20). يشير بنيس في ملاحظته هذا إلى كتاب مفتاح المذكور أعلاه، وهو كتاب جعل من «التناص» علامة لعنوانه، فما يعني «التناص» (أو «التداخل النصي») بينهما بعيداً عن الاجتهاد في ترجمة المصطلح؟
يعتمد بنيس على خطة جينيت في تناول النص الشعري، ولا سيما على مصطلحه في «النص الغائب» (أي الذي يتم استحضاره وتحويله في الممارسة النصية)، ويتبين، أو يجمل القول في عرضه هذا، على أن الشعر العربي الحديث بات متسماً بحضور لافت لـ«ثقافة موسوعية» هائلة من النصوص الغائبة. يقول بنيس: «بالنسبة للشعر المعاصر، في الثقافة العربية، نلمس اتساع حقل التداخل النصي (...). ولكن اعتماد الشعر المعاصر نصوصاً من خارج الذخيرة الشعرية العربية، أو مما هو متداول فيها، يدلنا على أن عينة نصوص الشعر المعاصر مكثفة بنصوص غائبة قَدِمَتْ من أمكنة ثقافية وحضارية متنوعة، يمكن من خلالها رصد ثقافة موسوعية أصبحت تميز الشعراء المعاصرين» (21). ويعمد إلى تبين حال «التداخل النصي» في ثلاث قصائد معروفة: للسياب («المسيح بعد الصلب») وأدونيس («هذا هو اسمي») ومحمود درويش («أحمد الزعتر»).
أما مسعى مفتاح فقد أتى بعرض مقنع ومتوسع ومتصل بغالب الاجتهادات والمقترحات، عارضاً لمختلف التعيينات الداخلة في تعريف «التناص»، إلا أن مسعاه بدا أقل توفقاً في درسه أحوال «التناص» في الشعر، كما نتحقق منها في مسعى بنيس. فقد توسع في عرض المسائل الداخلة في أمر «التناص»، واتخذ من التعيينات البلاغية القسط الأوفر من حمولاته. إلى هذا فإن تعريفه «التناص» يبقى متوزعاً بين «داخل» (هو النص المدروس) و«خارج» («النص الغائب»، في تعيينات جينيت) في قسمة بينة. لكنه يتوفق، إلى ذلك، في الحديث عن تناص «ضروري»، وهو القائم في كل ثقافة (وهو ما تحدثتُ عنه أعلاه بوصفه «التناص اللازم» عند الباحث الإيطالي)، وآخر «اختياري»، وهو ما يطلبه الشاعر نفسه. كما إنه يقترح التمييز بين تناص «داخلي»، وهو ما يصيب علاقة الشاعر بنتاجه السابق، وآخر «خارجي»، وهو ما يصيب النص في علاقته بخريطة الثقافة التي ينتمي إليها. أو يميز بين تناص «اعتباطي»، وهو الذي يعتمد على ذاكرة المتلقي، وبين تناص «واجب»، أي الذي «يوجه المتلقي نحو مظانه» (22). ويتطرق مفتاح إلى مجالات عمل «التناص»، باحثاً في «آلياته» في صورة لافتة، وإن بقت دراسته أسيرة التعيينات البلاغية المعروفة.
محاولات بنيس ومفتاح لافتة، إذن، إلا أنها تبقى، رغم قرائتها الجديدة لنظريات «الموازنة» و«السرقات» عند النقاد العرب القدامى، محددةً بما بلغته الدراسات الفرنسية خصوصاً في هذا المجال. كما تكتفي غالباً بلحظِ وعرض مواد التناص من دون وقائعه، كما أتحقق من ذلك، على سبيل المثال، في دراسة بنيس المذكورة لقصيدة «هذا هو اسمي»، إذ يكتفي بايراد ملخصات تعريفية لما تشتمل عليه المواد المضمونية في قصيدة أدونيس و«فصل في الجحيم» لرامبو، من دون أن يحلل أو يدرس التحققات اللفظية والدلالية. كما أتحقق أيضاً من أن عودة مفتاح إلى التناص، لدرس قصيدة ابن عبدون، تبقى استنسابية، لا ضابط لها أبداً، ولا يقتضيها المنهج في صورة لازمة ومتسقة، إذا جاز القول. أي أن هاتين المحاولتين تفتقران إلى خطة إجرائية بينة، يتم الاعتماد عليها في العملية التحليلية.
سبيل «التناص» لم يُستثمر كفاية، ويتمتع بقابليات أداء واسعة. والعديد من الظاهرات الأدبية وغيرها في الثقافة العربية المعاصرة قابلٌ لدراسات تناصية: كيف يمكن فهم، على سبيل المثال، المنزع الاسطوري في الشعر الحديث («المنزع التموزي»، كما جرت تسميته) خارج السياق الذي تعرف فيه الشعراء العرب المعنيون على صنيع إليوت في هذا المجال تحديداً وحصراً؟ هذا ما يمكن أن نتبينه حتى في موضوعة متفرعة عن السياق هذا، مثل «الفراغ» الذي راح الشعراء يتبينونه في الحياة العربية على أساس «الخراب» الذي تحقق منه إليوت في الحضارة الغربية. هذا ما نتحقق منه في بعض «مفردات» و«حمولات» الشعر العربي الحديث، كما يمكننا أن نتبينها في مسرد الألفاظ، ذات الحمولات الفلسفية الأوروبية الناشئة، التي أخذ بها الشعراء العرب الحديثون، والتي أَدرجها كمال خير بك في كتابه عن «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر»، أي ألفاظ «الشك» و«التساؤل» و«التمرد» و«الرفض» وغيرها (23)؟ وماذا نقول عن أثر ناظم حكمت ولوي أراغون في شعر السياب وغيره، أو عن أثر نيرودا اللاحق علي عدد من الشعراء الشيوعيين؟ وماذا عن أثر السورياليين، وقد بلغ الأمر ببعض شعراء العربية الى التنافس على التركة وعلى الأمانة في حمل الرسالة؟
حتى لا أنساق في تعداد أمثلة متفرقة من «التناص» في الكتابة العربية، ولا سيما الشعرية منها، أجد ضرورة، في البداية، للوقوف أمام سؤال أساسي، هو التالي: ألا يكون لزاماً عليَّ، قبل أن أتطرق إلى أحوال التناص، أو وقائعه في الشعر العربي الحديث (وغيره)، أن أتناول بالتحليل مسألة ما إذا كان «التناص» سبيلاً مستقلاً، قائماً بذاته، لدراسة النص الشعري، أم أنه مكمل لغيره (أي للدراسة اللسانية للنص الأدبي)؟

 

2 . مصادر التناص وميادينه
إلا أن علي، قبل الإجابة عن هذا السؤال، أن أعاين حال الدراسة اللسانية راهناً، في نجاحاتها وانسداداتها، وإن في شكل تعرفي سريع ومختصر. يمكن القول، بداية، إن الدراسة اللسانية باتت تدرس، اليوم، وقائع نصية تتعدى الجملة الواحدة في النص الواحد، بخلاف ما كان عليه الأمر في الأمس القريب، باحثةً عن علاقات قائمة وممكنة في النص الواحد تجمع بين جمله كلها (كما في القصة القصيرة، على سبيل المثال) أو بين جمل مختلفة فيه. هذا المسعى دقيق، محفوف بالمخاطر والتسرعات، إلا أنه يسعى إلى تدبر أدوات تحليلية مناسبة لما يتحقق منه في النصوص؛ وهو أنها تقيم علاقات في البناء أو في الدلالة، قد تشمل القصيدة في مجموع أبياتها، أو في عدد منها وحسب، ما يمكن أن أسميه بـ«كليانية النص»، التي باتت داخلة في حساب الدراسة اللسانية.
كما أتحقق، في الوقت عينه، من تبلور طرق في الدراسة اللسانية لا تكتفي بدراسة النص «في ذاته»، وإنما بما يحيط به من خارجه. والخارج، هنا، يشير إلى ظروف النص في صدوره عن «أنا (أو ذات) متكلمة»، أشبه بـرسالة، بإبلاغ، بخطاب موجَّه، أي أن معانيه تتصل في حمولاتها بـ«ظروف حوارية»، مشتركة بين المتكلم ومتلقيه المحتملين أو المرجوين. و«الظروف الحوارية» هذه تتضمن جداول من القضايا والأحوال المعيشة أو المأمولة، ومن الأفكار المتداولة (عند جهة أو جماعة)، أو المبثوثة في كلام الجماعة وقناعاتها السارية: هذا ما سعتْ إليه المحاولة «التداولية» - أي الناظرة الى اللغة في جانبها الاستعمالي - (24)، التي وجدت في الطابع «التحادثي» المُنشِىء لأي نص، وفي الطابع «التعليلي» الضابط له، فيما يتعدى الجملة الواحدة، ما يفيدها في مسعاها التحليلي. إلا أن اشتمال النص على خطاب، أو على رسالة ما، لا يعني أبداً في حساب اللسانيين قيامه أو استناده إلى رسالة مسبقة أو مدبرة، وهو ما يوضحه راستييه في قوله: «لا يمكننا اعتبار المعنى متضمناً في النص مثل رسالة، وإنما مثل وضعية حوارية تشمل فيما تشمل مرسلاً ومتلقياً، ومجموعة من الشروط (قواعد، بما فيها نمط النص، وممارسة اجتماعية محددة)» (25).
ذلك أن المساعي اللسانية في دراسة النص الأدبي وضعت حدوداً، أو توقفت عن مساعيها السابقة التي اكتفت بقراءة نحوية أو تركيبية للنصوص الأدبية (مثلما نتحقق من ذلك في مساعي هاريس أو شومسكي وغيرهما)، طالبةً وجهات أخرى في التحليل تقوى على دراسة المعنى قراءة متسقة، تربط الدلالات في النص الواحد، من جهة، وتربطها بخارجها وبأوضاعها «الحوارية»، من جهة أخرى.
إن هذه التوجهات الجديدة تقود إلى تناول مسألة التناص تناولاً «مريحاً»، إذ أننا نتوصل، مع هذه التوجهات، إلى طرح المسألة طرحاً مفيداً، يمكننا من الإجابة عن المشكلتين اللتين تواجهان أي تحليل تناصي، وهما: التناص بوصفه اتصالاً بخارجه، والتناص بوصفه اتصالاً ضمن النص الواحد. ولقد وجدتُ راستييه يفرق بين «التناص الداخلي» ضمن النص الواحد، وبين التناص الاعتيادي، ويمكن تسميته بالخارجي، أي الذي يصل النص بنصوص أو مقتبسات من خارجه. ولقد توصل هذا الباحث إلى تبين المشكلة التي أثرتها أعلاه، وهي الإجابة عن كون التناص سبيلاً مستقلاً أم مكملاً، أي منضوياً في غيره، إذ جعل الوظيفة التناصية الداخلية لازمة، بل منطلق التناص الخارجي. يقول راستييه: «الوظيفة التناصية الداخلية هي التي تعين الوظيفة التناصية الخارجية. إن لهذا التعيين محملاً عاماً: تنتسب الوظيفة التناصية الداخلية إلى نصاب المعنى (أي إلى مجموع العلاقات الناظمة لمضامين نص)، وتنتسب الوظيفة الناشئة بين أنظمة علامات مختلفة إلى نصاب التعيين»، خالصاً إلى القول: «إلا أن المعنى هو الذي يحدد التعيين» (26). وهو ما يمكن تلخيصه وتبسيطه بالقول التالي: إن توصُّلَ الدارس إلى معالجة التناص الداخلي، أي دراسة العلاقات بين المضامين المختلفة في النص الواحد، يمكنه من دراسة اتصال هذا النص بالذات، أو تحدُّدِه، بأنظمة علامات أخرى، قد تكون نصوصاً بدورها أو غير ذلك من أنظمة العلامات. وهو ما يقوله راستييه في تعريف جلي: «قد نتوصل إلى برهنة كون النص مجموعة متتابعة من الاحالات، أو تلصيقاً من الشواهد، إلا أن ذلك لن يمكننا من فهم نصوصيته الخاصة، والتي تجعله متمايزاً عن جدول من الكلمات والجمل. باختصار، إن دراسة النصوصية (أي ما ينشىء نصاً ما) هي القادرة وحدها على تأسيس دراسة التناص» (27).
التناص، إذن، مكمل للدراسة اللسانية، أو جزءٌ داخل فيها، إذا جاز القول، وهو غير ممكن من دون المرور بالدراسة اللسانية، على أن تؤدي معالجة التناص الواقع بين معطيات النص الواحد إلى ربطه بما يتحدد به من نصوص، «لازمة» أو «ضرورية» له، أو بما يطلبه منها في صورة اختيارية أو طوعية، أو بغيرها من العلامات الأدبية والثقافية والإيديولوجية وغيرها، مما يشكل الظروف الحوارية المعينة له. ولكن كيف يمكن تعيين التناص كسبيل إجرائي بعد توضح صلته وتفرعه عن السبيل اللساني نفسه؟

 

2 . أ : المصادر التناصية
لا يمكن مباشرة السبيل اللساني قبل الوقوف على المصادر التي ينهل منها التناص، وعلى الميادين التي تجتمع فيها مواد المصادر هذه. ذلك أن التناص يستمد مواده من مصادر متباينة، منها ما يتشكل عفواً أو عمداً في الذاكرة بفعل الدراسة والقراءة، أي في المخزون الشخصي، الواعي واللاواعي؛ ومنها ما يتشكل بفعل معايشة «ظروف حوارية» معينة؛ ومنها ما يتشكل عند التنصيص نفسه (ويمكن تسميته: «التقميش» أيضاً)، أي مما يطلبه الشاعر في صورة قصدية واعية. ودراسة المصادر التناصية دراسة ذات طابع نظري وترتيبي في آن، ولا تخص الشعر وحده بالتالي، إلا أن لها فائدة بينة، وهي المساعدة على تعيين مقاصد التناص، على ما سنوضح في فقرة لاحقة. وخلصتُ إلى تعيين ثلاثة أنواع من المصادر التناصية:

- المصادر «الضرورية»، كما أسماها مفتاح، وهي «اللازمة» عند سيغريه، وعند راستييه أيضاً الذي يقول: «يوجد في كل فضاء (أو متحد) ثقافي انتظام متسق من العلاقات بين النصوص» (28). وجرت تسميتها بـ«الضرورية» لأن التأثر فيها يكاد أن يكون طبيعياً وتلقائياً، مفروضاً ومختاراً في آن، وهو ما نجده في كتابات بعض الكتاب العرب في صيغة «الذاكرة»، أي الموروث العام والشخصي، ويتخذ في العديد من الأحوال سبلاً اختيارية (كجنوح الشاعر إلى التأثر الواعي بشيء من نتاج شاعر آخر)، أو وراثية (كتقيد الشاعر غير الواعي بالضرورة بحدود ثقافةٍ وشعرٍ توافرتْ له في إعداده وتعليمه). هذا ما يمكن أن أتبينه، على سبيل المثال، في «الوقفة الطللية»، وهي أقوى المصادر القديمة، من دون شك، التي تقيدت بها صناعة الشعر العربي قديماً؛ أو في العديد من الدعاوى الحزبية التي نشطت في كثير من الشعر العربي الحديث.

- المصادر «اللازمة»، وهي «الداخلية» في كلام مفتاح، وتشير إلى التناص الواقع في نتاج الشاعر نفسه في تكراراته واستعاداته.
ومن المساعي النقدية التي عالجت هذه المسألة، وإن في منظور غير تناصي، دراسة مالك المطلبي: «إنتاج ما أنتج: مقدمة نظرية ودراسة تطبيقية»، التي يتحقق فيها من أن قصيدتي السياب «غريب على الخليج» و«أنشودة المطر» تؤلفان «مقطعين في قصيدة واحدة» في الكل السيابي (29). وفي العديد من الكتب والدراسات العربية، الخاصة بالتجربة الشعرية أو بموضوعات الشعر عند هذا الشاعر أو ذاك، تناولاتٌ مناسبة تفيد مثل هذا المسعى، وتمكننا من الوقوف على الأشكال الشعرية أو القضايا التي شغلت الشاعر في غير قصيدة ومجموعة، حتى أنها تخترق نتاجه كله اختراقاً بيناً. كيف لا، وبعض الشعراء لا يتورعون عن كتابة «المناخ» الشعري نفسه، أو تنويعات عليه من تجربة إلى أخرى.

- المصادر «الطوعية» في حسابي، وهي «الاختيارية» عند مفتاح، التي تشير إلى ما يطلبه الشاعر عمداً في نصوص مزامنة أو سابقة عليه، في ثقافته أو خارجها، وهي «المطلوبة لذاتها». وهي مصادر أساسية في الشعر العربي الحديث، بل أذهب الى القول إننا لا نستطيع دراسة هذا الشعر من دون الوقوف عندها. وهي مصادر متعددة، تندرج فيها متون شعرية أجنبية وعربية في آن. هذا يصح في إقبال أعداد من الشعراء على محاكاة صنيع شعر سابقيهم أو التأثر بصنيع مزامن لتجربتهم (مثل تأثرات محمود درويش، في بداياته، بشعر عبد الوهاب البياتي ونزار قباني). وقد تكون المصادر الأجنبية فرنسية (لوتريامون، رامبو، سان-جون بيرس، إيف بونفوا...)، وإنكليزية (إليوت، ستويل ...)، وأميركية (وولت وايتمان...) وغيرها، عدا أن النص الواحد قد يشتمل على مواد من أكثر من مصدر، في صور ضمنية وحاذقة أكثر فأكثر، ما يجعلها صعبة الالتقاط، أو خافية في تضاعيف الكتابة الشعرية. وعليَّ أن أشير في هذا السياق إلى أن انصراف هذا الشاعر أو ذاك إلى هذا المصدر أو ذاك قد لا تتوافر له شروط الاستقبال الصحيحة، بدليل أن عدداً من الشعراء العرب الحديثين اتصلوا بعدد من المصادر في صور ملتوية أو غير مباشرة: فإذا كان أنسي الحاج، أو شوقي أبو شقرا، يعرفان الفرنسية جيداً، أو جبرا ابراهيم جبرا وتوفيق صايغ الإنكليزية، حين اتصلوا بما طلبوه من مصادر، فإن الأمر كان خلاف ذلك مع أدونيس (الذي اتصل بالفرنسية اتصالاً ضعيفاً في بداياته، ما كان له أثره البين على ترجمته شعر سان-جون بيرس، ووقوعُه في أخطاء ناتجة عن عدم معرفته بالحمولات التاريخية والسياسية وغيرها للألفاظ الفرنسية)، أو مع السياب الذي اتصل بشعر أراغون في كتب إنكليزية، أو مع محمد الماغوط الذي عرف القصيدة بالنثر، منذ قصيدته «النبيذ المر»، في العام 1953 في مجلة «الآداب»، من ترجمات عربية لها.

 

2 . ب : ميادين التناص
بدا لي مفيداً، بعد الوقوف على مصادر التناص، دراسة الميادين التي تشتملها، ذلك أن التناص يقع في مواد بعينها، على أنها تشتمل مستويات القصيدة كلها. فقد يعمل الشاعر على تقليد قصيدة ما، بحراً وقافية وموضوعاً على ما هو معروف في الشعر العربي القديم، وقد يلجأ إلى «أخذ» صورة شعرية ما، أو معنى ما، إلى غير ذلك من المواد التي تقع في هذا المستوى أو ذاك في القصيدة. لهذا لا يمكن الحديث عن «ميادين التناص» من دون الوقوف عند مستويات القصيدة، وهو ما أبسطُه في عنوانين: في الأنماط والتراكيب والصياغات، وفي القضايا والموضوعات و«المناخات».
ولقد فضلتُ استعمال هذه الألفاظ تحديداً، بدل ألفاظ أو مصطلحات أخرى معروفة في السبيل اللساني لدراسة النص الشعري (30)، جاعلاً من ميادين التناص مواد متفرقة، ذلك أن استحضارها في النصوص ليس نسقياً، ولا متسقاً في غالب الأحيان، ما يدعوني إلى تبين أشد لطبيعة المواد. وهي تشتمل على مواد متعددة، ميزتُ فيها «النمط»، ويشير في حسابي إلى شكل ما (وربما مضمونٍ ما ملاصق للشكل هذا) في ترتيب القصيدة، مثل نمط «الهايكو»، أو «القصيدة-اللقطة» وغيرها. وميزتُ «التراكيب»، وتشير إلى أنواع معينة من الجمل، مثل الجمل «الحالية» التي تبدأ بالحال، أو الجمل الاسمية وغيرها. وميزتُ «الصياغات»، وتشير إلى طريقة في شد الألفاظ بعضها الى بعض، مثل تقديم الصفة على الموصوف وغيرها (31). كما ميزتُ «القضايا»، وتحدد قضية معينة، مثل الكثير من القصائد العربية الحديثة الموسومة بقضايا «الحرب الباردة»، أو بقضية القنبلة الذرية في هيروشيما، كما في قصيدة «هياي كونغاي كونغاي» لبدر شاكر السياب (32). وميزت «الموضوعات»، مثل الغربة في المقهى، والوحدة في الشارع وبين الجموع وغيرها. وميزت «المناخات»، وتعين في حسابي أجواء شعرية، مثل الأجواء التشردية و«الصعلكة» والتمزق وغيرها.
ولقد وجدت، إلى ذلك، ضرورة للوقوف عند مستوى ثالث، هو مسألة «الجنس الأدبي»، بل أن أفتتح بها دراسة الميادين، بعد أن تحققتُ من كون هذه المسألة تاريخية أساساً، تتصل بدخول «أجناس» (أو أشكال) أدبية من أدب (أوروبي، في دراستي) إلى الأدب العربي الحديث، إذ أنني لا أستوفي التناص حقه من دون تناول هذا المستوى التكويني في الشعر العربي الحديث.

 

2 . ب . 1 : في الجنس الأدبي :
إن دراسة الأجناس والأشكال الأدبية لا تحظى بالعناية اللازمة، التي تقتضيها مسألة إنشائها أو تأسسها أو انتقالها من فضاء (أو متحد) ثقافي الى آخر، على الرغم من أن دراستها قد تكشف عن نواقص، بل عن أغلاط فاحشة يقوم عليها تاريخ هذه الأجناس والأشكال والأنماط: فجيرار جينيت توصل، في دراسة لافتة له (33) عن الأجناس الأدبية الرائجة في أوروبا، والعائدة إلى الإغريق، بل إلى أرسطو، في حساب التاريخ الأدبي المتداول (وهي «الغنائية» و«الملحمية» و«الدرامية»)، إلى برهنة أنها ترقى إلى القرن الثامن عشر ليس إلا. فما يمكن القول عن الأجناس الشعرية العربية؟
لا يسعني، في نطاق هذه الدراسة، تناول مسألة تأسس الأجناس أو الأشكال أو الأنماط في الشعر العربي، على الرغم من قيمتها التاريخية والنقدية (34)، مكتفياً بدراستها فقط في إطار التفاعل الثقافي منذ «عصر النهضة»، وفق أشكال مختلفة من التناص، وخصوصاً في صيغه التشوفية. هذا يصح في إقبال كتّاب على اعتماد فنون غير معروفة في العربية، مثل الرواية والقصة والمسرحية وغيرها، وغيرها من أنماط شعرية بعينها، بعد خروج الشعر العربي من أنواعه وأغراضه التقليدية المعروفة. ويمكن الإشارة إلى الأنواع المعتمدة التالية: القصيدة الحكمية (على ألسنة الحيوانات)، القصيدة التمثيلية، الملحمة، القصيدة-الحكاية، القصيدة الأسطورية، القصيدة بالنثر.
يمكن التوقف أمام هذه الأجناس الشعرية جنساً جنساً، ملاحظين إقبال أعداد من الشعراء عليها، فنرى انصراف أحمد شوقي إلى القصائد الحكمية، و«جماعة أبوللو» إلى الشعر الرمزي والقصصي وكتابة «الأوبرتات»، وشفيق المعلوف إلى الملحمة، والياس أبو شبكة وسعيد عقل وخليل مطران وعلي محمود طه وغيرهم الكثير الى المطولات الشعرية ذات الأساس الحكائي-الأسطوري (35). إلا أن هذه الأجناس تحديداً ما لبثت أن سقطت من الاستعمال تماماً، ما يشير إلى أن إقبال الشعراء عليها ما وازاه، على ما يبدو، إقبالٌ واستحسان مماثلان. وهو ما يدعو إلى التساؤل: ألا يعكس التسرعُ في التخلي اللاحق، وإن في صورة معكوسة، التسرعَ في طلب اللحاق السابق؟
لكننا نستطيع، إذا شئنا، الوقوف طويلاً أمام نجاح أكيد حققه جنس شعري آخر، «القصيدة بالنثر»، الذي بات لها مريدوها أينما كان في عالم العربية. ويمكن القول إن النزاع المستمر حول وجود هذه القصيدة في الشعر العربي الحديث يُبلِّغ، وإن في صورة غير وافية، عن عملية دخولها الناشئة. والعودة إلى بعض كتابات أدونيس الأولى، وإلى مقدمة ديوان «لن» للشاعر اللبناني أنسي الحاج (1960)، تبين كيف أن الشاعرين عادا إلى الكتاب عينه (36)، للتعريف بهذا الجنس الشعري الجديد في حياة الشعر العربي، وشرح وسائله وتقنياته المخصوصة.
لا يسعني التوسع في مسألة الأجناس الشعرية الجديدة، لأنها تتطلب عرضاً وتعمقاً في التناول، فيما يقصر غرضي عن ذلك، مكتفياً بتناول ميادين التناص في صورة تلمسية أولى. لكنني سأسعى، طمعاً بتبين أوفى لما أريد أن أتناوله، إلى عرض مسألة وحسب تُظهر جانباً من العملية التناصية في شأن الجنس الشعري، وهو جانب «وحدة القصيدة». فالشاعر العربي الحديث لم يأخذ بأجناس شعرية ما ألفها في الشعر فقط، وإنما أخذ أيضاً بطرق في بناء القصيدة. وهو ما أتحقق منه، بداية، في تجربة الشاعر خليل مطران (1872-1949)، الذي يعتبر في الحساب النقدي، وفي اعتراف غير ناقد وجماعة شعرية، مثل «جماعة أبوللو»، الشاعر الذي انتقل من «البيت المفرد» إلى «جملة القصيدة في تركيبها وترتيبها». فهو يفيد في «المجلة المصرية» (37)، أنه اطلع في «المجلة البيضاء» الفرنسية على قصائد ترتبط فيها الأبيات والمعاني «بعضها ببعض في القصيدة كلها قصداً إلى غاية واحدة، بخلاف ما عليه منظوماتنا القديمة والحديثة إلا ما يحاول صاحب هذه المجلة أن يحدثه من الطريقة الخارجة عن المألوف». غير شاعر، مثل مطران، ولا سيما في فترة ما بين الحربين، جعلوا من الاطلاع على الشعر الأوروبي، أو من ترجمته، غرضاً مخصباً للشعر العربي نفسه. فأبو شادي جعل، على سبيل المثال، من ترجمة الشعر الأجنبي «تطعيماً» للأدب العربي بآداب هذه الأمم (38)، كما يفيد ابراهيم ناجي، في حديثه عن «جماعة أبوللو»، أن اتصالهم بالأدب العالمي، ومتابعتهم للتيارات الفكرية الجديدة، و«مطالعاتنا المتعددة»، جددت طريقة نظرهم إلى الشعر العربي (39).
يتحدث مطران عن الشعر الفرنسي، ولكن هل تعود نظرية «الوحدة العضوية» إلى المتن الفرنسي أم إلى المتن الانكليزي (مع الناقد كولريدج تحديداً)؟ وإذا عاد هذا المفهوم لكولريدج فعلاً، واطلع عليه مطران في نصوص فرنسية، فإلى أين نتجه في عملية تتبع الوقائع التناصية، وكيف نعامل بالتالي هذه النصوص الفرنسية بالنسبة إلى النصوص الإنكليزية «الأصيلة»، إذا جاز القول؟
إن تتبع هذه الوقائع التناصية ممكن ربما، إلا أن التحقق منها صعب من دون شك، وتحول دونه أمور واقعة في المواد نفسها (مدى الحصول على مواد موثقة عن الفترة المدروسة، وعن أسباب الاتصال فيها)، وفي المنهج كذلك، أي في الكيفية الاجرائية للتناص. أقع في كتابات ما بين الحربين (وقبلها أيضاً) على مواد عديدة تفيد في عملية التتبع هذه، بخلاف ما هو عليه الحال في كتابات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما مع انطلاقة «الشعر الحر». إلا أن قراءة بعض المجلات الأدبية، وبعض زواياها، مثل «قرأت العدد الماضي من (مجلة) الآداب» و«بريد الشعر» ومتابعات «خميس شعر» في مجلة «شعر»، توفر بعض المواد، بل المعلومات المنيرة لها. هذا ما يصيب إحدى قصائد أدونيس، «مرثية القرن الأول»، المنشورة في العدد الرابع عشر من مجلة «شعر»، إذ أن «بريد الشعر» في العدد اللاحق من المجلة يعرض مدونة مفيدة لهذه الدراسة، تشتمل على ردود فعل شعراء ونقاد عرب معروفين على القصيدة المذكورة؛ وهي ردود تطاول في مضامينها معالم «التناص» البادية في القصيدة، ومنها اعتمادها لنمط بعينه من الشعر الفرنسي.
يقول السياب: «كانت قصيدتك رائعة بما احتوته من صور، لا أكثر. (...) أين هذه القصيدة من «البعث والرماد» تلك القصيدة العظيمة التي ترى فيها الفكرة وهي تنمو وتتطور، والتي لا تستطيع أن تحذف منها مقطعاً دون أن تفقد القصيدة معناها، أما قصيدتك الأخيرة، فلو لم يتبق منها سوى مقطع واحد، لما أحسست بنقص فيها. ليس هنالك من نمو للمعنى وتطور له. ما زلتَ، أيها الصديق، متأثراً بالشعر الفرنسي أكثر من تأثرك بالشعر الإنكليزي الحديث، هذا الشعر العظيم - شعر إيليوت وستويل ودلن توماس وأودن وسواهم» (40). يميز السياب بوضوح، وإن من دون توسعة وتبيان، بين تأثر وآخر، بين الفرنسي والإنكليزي في بناء القصيدة، مشدداً على كون القصيدة ذات النهج الإنكليزي في البناء تميل إلى نمو الفكرة وتطويرها في صورة متمادية ومتراكمة أشبه ببناء معماري، فيما لا تتسم القصيدة ذات النهج الفرنسي بمثل هذا البناء التراكمي، أشبه بمقطع واحد من دون نمو داخلي وتدريجي. كما يوضح السياب أيضاً أن التأثر شأن طبيعي في حركتهم التجديدية، بل شأن يتم التشوف إليه، أي إلى الشعر «العظيم»، كما يسميه. وما لا يوضحه السياب في رده - وإن هو متعارف عليه بين جماعة «شعر» - فهو التعويل الشديد على نمط إيليوت تحديداً في الجمع بين الماضي الأسطوري والحاضر. وهو ما يقوله، في ردة فعله، الناقد منير بشور: «الماضي مهما كان يبقى ردة إلى الوراء (...). إن بعض شعوري هذا هو ردة فعل لاتجاهك الشعري في السنوات الأخيرة». وهو ما يثبته الناقد حليم بركات في الإشارة إلى عدد معين من القصائد التي انتهى أدونيس الى كتابتها، وهي القصائد التالية كما يذكرها بركات: «وحده اليأس»، «البعث والرماد»، «سبعة أيام في حياة منبوذ» و«الفراغ» وغيرها. ويبلغ الأمر عند جبرا ابراهيم جبرا حدود النقد الملطف، إذ يشير إلى أن أدونيس «أثقلتها (للقصيدة) بالرموز أكثر مما يحق للأذن أن تحتمل ولكن لمَ لا؟». أما الناقد أسعد رزوق فيلتفت إلى واقعة أخرى في التناص هذا، وهو تعويل أدونيس على القصيدة بالنثر (الفرنسية)، أي إلى هذا النوع من الشعر الذي «يختزن طاقات هائلة لو أتيح للشاعر أن يضمنه الكثير ويخلق منه الجديد».
إن ملاحظات النقاد والشعراء هذه تتطلب، على ما ألاحظ، جهداً أكيداً في فك معلناتها، فكيف بمضمراتها! كما تستدعي سبلاً في البحث باتت تشترطها عمليات التناص الحاذقة والمتعددة، كما أتحقق من وجودها في الشعر المتأخر أكثر منها في الشعر السابق عليه.

 

2 . ب . 2 : في القضايا والموضوعات و«المناخات» :
أسوق مثالاً واحداً، وهو الوقوف على واحدة من القضايا التي تشغل الحداثة الشعرية، بين ما انتهت إليه في فرنسا، على سبيل المثال، وفي البيئات العربية، في الوقت عينه، وهي قضية «الحساسية الفردية» في النص الأدبي. فنحن لو راجعنا عدداً من الأدبيات عن الحداثة العربية لما وجدنا تنافراً أو تغايراً بين ما هي عليه وما شرعت به الحداثة في فرنسا مع بودلير ورامبو ومالارميه. كما لو أن مطران أو السياب أو أدونيس وغيرهما نهلوا من الينبوع نفسه، أو اتخذوا الوجهة النصية ذاتها، فيما يبدو لي أن الأمر يتطلب أكثر من وقفة نقدية فاحصة. فنحن نقع هنا أو هناك على دراسات جامعية أو نقدية تقيم التقارب والتشابه بين ما قاله بودلير في تعيينات الحداثة وما قاله أدونيس، على سبيل المثال، ولكن من دون أن تتحقق تماماً من حقيقة التقارب والتشابه. فيغفل الناقدون عن حقيقة التفاعل الثقافي التي تقع في أساس هذا التقارب، وهي أن الشاعر العربي «أخذ» عن الشاعر الفرنسي بعض أفكاره، وهو أمر معروف في صلات المبدعين والشعوب، على أنه مجال درس وتحقيق، لا إنكار وتمويه، كما هو عليه في ثقافتنا. فكم من الدراسات لا يعبأ، أو لا يتحقق من الشروط التي تمت فيها عمليات الدخول هذه، كما لا يتوقف أمام الصياغات المختلفة التي انتهت إليها عمليات الأخذ في السياقات المحلية. فلو أثرت، كما سبق القول، مسألة «الحساسية الفردية» في النص الأدبي، لوجدت أنها أحد مجالات الالتباس والتمويه والبلبلة المميزة.
فنحن نعرف أن المنزع الرومانسي، وقبل بودلير، عمل على إعلاء، بل على إيلاء «الحساسية الفردية» الشأن الأول في النص الأدبي، ولا سيما الشعري منه: القصيدة تعبير مخصوص، هو مجال تحققٍ واشتغال لتناول فردي للعالم، وهو ما جرى التعبير عنه في صياغة أولى في مفهوم «الرؤيا». فالشاعر لا يولي الجمال المتحقق في الطبيعة، ولا يجعله، كما في المثال الكلاسيكي، مرجعيةَ الجمال، بل يتجه وجهة أخرى ترى إلى التخييل، وإلى التناول المبتكر، بل الحر والغريب أحياناً، على أنه ملكة أو قوة في إنتاج الجميل الكلامي. وهو ما لا نلبث أن نراه متحققاً، في التصوير بعد الشعر، إذ يجتنب الفنان النموذجَ الطبيعي المقترح والصياغات المثالية للواقع، ساعياً وراء جمالية قوامها الصورة الإحساسية التي يثيرها الواقع والطبيعة في نفس الشاعر.
لست في مجال عرض، ولا نقاش، هذه الفكرة الميسرة عن «الحساسية الفردية» في الحداثة الفرنسية؛ ما يعنيني قوله هو أن هذه الفكرة لن تنزل في منازلها العربية، إذا جاز القول، ولن تحط بحمولاتها الفرنسية المذكورة، بل بغيرها. إن مسار هذه الفكرة أدى في التجربة الشعرية الفرنسية، على ما أبانته غير دراسة، مثل كتاب جوليا كريستيفا المذكور أعلاه، أدى إلى جعل «الأنا (الذات) المتكلمة» في النص الأدبي (لا «الشاعر»، كما يسارع البعض إلى القول) ذاتاً «منفصمة»، أو إلى جعل القصيدة مجالاً تشتغل فيه نزوعات مختلفة ومتضاربة ومتعايشة في آن، وتنقض بالتالي ما سبق أن قاله النقد التقليدي عن الشعر. فالتجارب الحداثية هذه أدت إلى تبديل النظرة التقليدية إلى الشعر، التي كانت تجعله «إلهاماً» أو صنعة خارقة، لا يدركها ولا يكابدها إلا نخبة منتخبة من المتميزين الخارقين، والتي كانت تجعله أيضاً نتاجاً كثيفاً يعبر مثلما يصدر عن «ذات» متمحورة على نفسها، لها ما تقوله لغيرها، بوصفها مصدر قول مبرم. فغير شاعر مثل رامبو انتهى إلى القول مثله: «أنا (هو) آخر»، أي إلى التعبير عن الأحوال المتناقضة والمتغيرة لنفس إنسانية «متصدعة» (أو «فصامية»، كما يقال في علم النفس)، لا متماسكة بالتالي. هل نجد الحال عينها في النصوص العربية؟
راجت طبعاً في الأدبيات النقدية العربية، منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، أقوالٌ وتأكيدات نقدية ذهبت إلى الاعلاء من قيمة «الرؤيا»، بل إلى جعلها الشبكة الدلالية والمفهومية التي يصدر عنها الشاعر. مثلما نتحقق أيضاً في عدد من القصائد العربية الحديثة من وجود هذه «الحساسية الفردية»، التي قلبت معادلة العلاقة بين الشاعر والخارج: فما عاد الشاعر يتتبع المعاني في الخارج، ولا «في الشارع»، كما قال الجاحظ، وإنما جعل العالم مثل عالم صغير في عالم كبير هو الشاعر. فكم من شاعر عربي حديث بات يعين الأشياء في قصائده على أنها تصدر عنه، وأنه هو الذي يسميها، وهو ما يمكن أن نجمله ونرمز إليه في أحد أبيات أدونيس، حيث يقول: «وطني فيَّ لاجىء».
إن صدور هذه الحساسية الفردية في النصوص الحديثة العربية أدى بطبيعة الحال إلى إنتاج شعر خرج عن أغراض الشعر المعروفة، وفتحَ بالتالي قنوات أوسع وأصرح بين الحياة والشعر، وهو ما افتقدناه طويلاً في تاريخ الشعر العربي. والشعر العربي الحديث يحمل في العديد من قصائده تعبيرات معيشة، وأحوالاً مزاجية، وتلاوين فردية، ومدونات حميمية (أو «مهموسة»، مثلما قال مندور في الثلاثينيات)، وهو ما نلتمسه خصوصاً في الشعر الغنائي. إلا أن تحويل القصيدة إلى مدونة شخصية ما جعل منها تعبيراً عن رقة النفس الإنسانية وتصدعها في غالبها، كما كان لها أن تصير في فرنسا على سبيل المثال. فلقد أتى خروج الشاعر من الأغراض المعروفة، ومن دوره التقليدي (الشاعر متكسباً أو في خدمة الجماعة)، مثل «ثورة» فعلاً، لكن غرضها انتهى إلى أن يكون استلاماً للسلطة (الرمزية طبعاً)، لا تغييراً لموضوعات التعبير ولكيفيته. فالشاعر الحديث قائل الحق، أو «متنبيه»، قبل أن يكون ذاتاً وموضوعاً عن هشاشة الشرط الإنساني وصعوبته. فهو شاعر يقول ما هو «حق»، في الوطن والسياسة والتاريخ والعالم، وما هو جدير بالتمثل والتطلع. هو شاعر مُوَجِّه، مرشد، على أن تعبيراته أو إعلاناته في شعره طموحٌ الى أداء دور عام، إلى احتلال موقع، إلى مصادرة رمزية للتسمية والتعيين في المجتمع.
فنحن قلما نلتقي بشاعر عربي حديث في غرفته المغلقة، مثلما قال أحدهم ذات يوم، وهو «يتبصر في المخلوقات»، أو ينظر إلى مرآة، هي الورقة البيضاء، ذلك أننا نجد الشاعر، حتى لو كان شاباً وشديد الحداثة (كما يدعي أو يتطلع هذا وذاك)، واقفاً دوماً على منصة عالية، تصدر منها أقواله، وهي منصة القول الجمعي بالضرورة، وإن أتت في قوالب فردية.
يقول الشاعر محمد الماغوط في قصيدة بعنوان «بعد تفكير طويل»:
«قولوا لوطني الصغير، والجارح كالنمر
إنني أرفع سبابتي كتلميذ
طالباً الموت أو الرحيل
ولكن،
لي بذمته بضعة أناشيد عتيقه
من أيام الطفولة
وأريدها الآن» (41).
وفي قصيدته هذه صورة عن هذه العلاقة التي تبدو فردية (وهي كذلك)، وانفصالية أو معارضة (وهي كذلك)، ولكن من دون أن تنقطع أبداً عن القضايا الجمعية، وعن هذه العلاقة الآمرة للأشياء والمعاني، ولو أنها تقوم في هذه القصيدة على إعلان استنكاف عن ممارسة هذه الأمرة.
ما نريد قوله هو أن الحداثة الشعرية، على الرغم من أخذها المتمادي والمستمر لموضوعات ومفاهيم وطرق أسلوبية في الصياغة والتركيب عن الحداثات المختلفة في العالم، فإن أخْذها هذا، أو إنزالها لهذه المواد والتأثرات، يبقى موسوماً بتلاوين محلية لا تقربها تماماً من المثال الشعري الذي تتأثر به وتروج على أنها من معينه: فالحداثة الشعرية العربية لا تزال في العديد من تجاربها بعيدة كل البعد عن مقتضيات الحساسية الفردية في التعبير، وهي مقتضيات تصل بالشاعر إلى قول متردد، متعثر، متقلب بين أحواله، لا إلى قول مبرم، فاصل، ينتهي بأحدهم إلى وصف اسمه بانه «لغم الحضارة»!

 

2 . ب . 3 : في الأنماط والتراكيب والصياغات :
يمكن أن أتناول في هذا الميدان شؤوناً عديدة متصلة بشكل القصيدة ونمطها البنائي وطرقها الصياغية والتركيبية، بعد أن تحققت من تأثر الشعر العربي الحديث بها، بمقادير مختلفة. ويمكنني، في هذا السياق، أن أشير إلى عدد من الأنماط الرائجة في التجارب الشعرية الجديدة، مثل: القصيدة-اللحظة، أو القصيدة-المفارقة، أو القصيدة القصصية، أو الدعابة السوداء، أو القصيدة اليومية، وهي مأخوذة في أصولها من تجارب شعرية أجنبية.
وهذا ما أستطيع قوله حتى في مجالات تركيبية ضيقة مثل التأثرات القوية الناتجة عن التعرف على فنون التركيب في التجارب السوريالية (42) وغيرها، من «الكتابة الآلية» إلى «الصدفة الموضوعية» وإنتاج الصور الغريبة والصادمة، إلى قلب علاقات الإسناد، أو تبديد صلة الشبه بين المشبه والمشبه به، أو تقديم الصفة على الموصوف به في علاقات التقديم والتأخير وغيرها الكثير مما نلقاه في تضاعيف الكتابة الشعرية العربية الحديثة، حتى انها باتت «متبيئة» في صورة لافتة، ما يعيق عمليات التعرف إليها. وإذا كنتُ أشير، في هذه الأمثلة، إلى أطوار سابقة في «التناص»، بينة وجلية، فإنني أجد صعوبة راهنة في تتبع آثار شعراء متفرقين، مثل يانيس ريتسوس اليوناني (43) وأنديره دو بوشيه الفرنسي وبابلو نيرودا التشيلي وفريدريكو غارثيا لوركا الإسباني وشعر «الهايكو» الياباني وغيرهم.

 

3 . التناص : السبيل الإجرائي
علي أن أُوضح، بداية، تعبيراً اعتمدتُه من دون أن أُوضح المراد منه واستعماله، وهو «الوقائع التناصية»: يفيد هذا المصطلح في تحليل المواد اللغوية الظاهرة أو الموحى بها في النص، والتي تحيل إلى مواد أخرى، في نصوص أو معطيات حوارية خارجية. والفارق بين نوعَي المواد، هو أن المواد الأولى هي منطلق الدراسة والتحليل، وتُدرس على أساس لساني، أي وفق بنائها اللفظي. أما المواد الثانية فهي التي تحيل عليها الدراسة أو تستعيدها؛ وقد تُدرس وفق أساس لساني، فيما لو اتخذتْ عملية التناص شكلاً اقتباسياً، أميناً أو محوراً؛ وقد تُدرس كمادة «خام»، أي مادة مطروحة في معناها الأدنى والتقريبي، وتكون قابلة وفق هذه الصيغة إلى قراءات متعددة، منها القراءة التي انتهت إليها في النص المدروس.

 

3 . أ : أشكال التناص
إلا أن تعيين هذه «الوقائع» لا يكفني أبداً عناء البحث عن الصيغ والأحوال والعمليات، أي عن الأشكال التي تصيب التناص. ذلك أنها عديدة، لا تختصرها الأقوال البلاغية القديمة عن «التضمين»، أو «الإحالات»، في لغة النقد السارية. وبدا أنني أحتاج إلى مفاهيم تقودني في العملية هذه، وهي تدور، على ما تنبهتُ في كتابات عدد من النقاد، حول مفهوم «التملك»، كما تحققتُ في كتابات كريستيفا ورولان بارت أيضاً (وإن في نطاق آخر).
يقول رولان بارت في دراسته الشهيرة عن الأساطير: «إن الطابع الأساسي للمفهوم الأسطوري هو أنه قابل للاحتياز» (44). أي يدرس بارت الجانب التملكي الذي تقوم عليه أي أسطورة في تنقلها بين الجماعات والشعوب؛ وهو تملكٌ نتحقق منه في غير نطاق انساني، مثل «الأدب الشفوي» (الحكايات الساحرة، الأمثال وغيرها)، ويمكن التحقق منه في التناص الأدبي أيضاً. ذلك أن التناص، في جميع أحواله، احتيازٌ لنصوص (أو لأجزاء من نصوص) بفعل الإيراد نفسه، أي استحضار المواد السابقة في النص الذي يتم إعداده، وأياً كان شكل الإيراد هذا (إيراد تام أو مجزوء، أمين أو محور). هكذا تحدَّث النقد البلاغي العربي القديم عن «التضمين»، أو عن «النقائض»، أو عن «المعارضات» وغيرها، إلا أن المفاهيم البلاغية لا تكفي لمعاينة أحوال التفاعل بين النصوص، ولا سيما الحديثة منها. وهو ما تحققَ في دراسات لسانية نظرتْ إلى القول اللساني على أنه «فعل حواري»، مثل باختين، بل يؤدي أيضاً إلى «فعل ما»، مثلما يقول اللساني أوستن (Austin ) في حديثه عن الأقوال اللسانية المؤدية إلى أفعال ما، مثل أفعال «أعد بـ...»، أو «أقر بـ..»، أو «آمر بـ...» وغيرها. فهي أقوال تستدعي من المتلقي، أو تفرض عليه شروطاً، ما يجعل القول اللساني فعلاً، من دون النظر إلى محتواه وحسب وإنما إلى بنيته التي تستدعي علاقة ما. فطرحُ السؤال يتطلب من المتلقي جواباً ما (أو امتناعاً عنه)، وهو ما تسميه كريستيفا بـ«اقتصاد الحوار». وبنية الاستعمال اللساني هي التي توفر اقتصاد الحوار هذا، وتتضمن وظيفتين أساسيتين: «الوظيفة القضائية»، والتي تجملها كريستيفا في جملة نموذجية هي التالية: «أفرض شروطاً وعالماً للخطاب»، و«الوظيفة التملكية»، والتي تمثل عليها بهذه الجملة: «أقر بما تقوله أو أرفضه، لكنني أمتلكه ويستحوذ عليَّ في آن» (45). أي أن كريستيفا، في دراستها لنصوص النصف الثاني من القرن التاسع عشر الفرنسي (لوتريامون، مالارمِه...)، تنظر إلى النص على أنه نص يسعى الى «تملك» الوظيفة «القضائية» المفروضة عليه وإلى تحويلها.
المسألة «تَمَلُّكٌ»، إذن، على أن لها «آليات» مختلفة، كما يقول مفتاح. جرى الكلام كثيراً عن «التمطيط» (أي الانطلاق من معنى ما، أو من عبارة، والنسج على منوالها، أو تفريعها أو تطويلها)؛ أو «التركيز» و«الاختصار» (أي الانطلاق من مواد والتخفف من حمولاتها، وضغطها وتكثيفها) وغيرها من العمليات التي تصيب عمليات التنصيص، أي «التنصص». والأشكال هذه مختلفة، قد تقوم على استعادة وحسب، لجملة أو لعبارة من دون تبديل، في مسعى اقتباسي، تضميني بيِّن، وهو ما أتحقق منه - طلباً للتمثيل - في عدد من قصائد أدونيس:
يقول النفري في «موقف نور»: «أوقفني في نور وقال لي:
يا نور انقبضْ وانبسطْ وانطوْ وانتشرْ فانقبضَ وانبسطَ وانتشرَ وخفيَ وظهرَ» (46). ويقول أدونيس في «تحولات العاشق»:
«وقلتُ
ايها الجسد انقبضْ وانبسطْ واظهرْ واختفِ
فانقبضَ وانبسطَ وظهرَ واختفى» (47).
يورد أدونيس نص النفري ناقلاً له، محولاً ركيزة المعنى من «النور» إلى «الجسد»، ومحولاً القائل من الله إلى أنا العاشق المتكلمة. أكتفي بهذه الإشارة، ذلك أن عدداً من الدارسين العرب توقف عند عمليات «التملك» التي أصابت كتابات المتصوفة (وغيرها أيضاً) في شعر أدونيس، والتي تبلغ في حساب بعضهم حدود «الانتحال» (48).
إلا أن هناك شعراء يَنْحون وجهة مختلفة في التنصيص، تقوم على «اختطاف» الجمل وتحويرها، بل على قلب معانيها قلباً يبدلها في صورة نقضية لها. ففي شعر أنسي الحاج أتحققُ من وجود مصدر لغوي، هو النسق الديني المسيحي في لغة التوراة والأناجيل والقداس والصلوات الكنسية وغيرها، ويمارس عليها الحاج فعلاً نقضياً، يشبه عمليات تحويل اللغة عن جريانها واستعمالاتها المعهودة، وهي العمليات المعروفة خصوصاً عند الشاعر لوتريامون تحت اسم وعند السورياليين لاحقاً: يستعير الحاج جملاً دينية معروفة ثم يقلبُها قلباً يذكر بأصولها ولكن في صور عابثة وطريفة ونقدية ولاهية: فالجملة الشهيرة في ترتيلة عيد الميلاد: «المجد لله في العلى وعلى الدنيا السلام...» تتحول في شعره إلى العبارة التالية: «فعلى القبر السلام وفي القهر المسرة» (49). كما يستعيدها في صورة أخرى، هي التالية:
«وتجيء العصور
ومجد العصور
وفي الناس الرعشة» (50).
ويحول قصة السيد المسيح وتلميذه بطرس (الذي ينكر المسيح ثلاث مرات قبل صياح الديك) قلباً ساخراً في هذه الجملة: «يسوع، ديكك لا يصيح» (51)؛ وهو ما يصيب اليعازر أيضاً. ولا يتورع في مواضع أخرى في شعره عن استعادة العبارة التي طالما رددها المسيح على رسله، وهي التالية: «الحق الحق أقول لكم ...»، لأداء حالات غير دينية ابداً.
يبدل أنسي الحاج العبارات والصيغ الدينية ويقلبها، وهو ما يوضحه صراحة في أحد المقاطع: «احتجزْها واروِ لها «حينما يسوع قال»، أجل، لا تسلْ كم يُرَوِّع كم أُبدّل! «أحبوا بعضكم»، على كفك تحت إبطك تذكرْ، «بعضاً...»، أي أنا!» (52). الشاعر «يُروع» العبارات، و«يبدلها»، وفي ذلك ما يجلب له «لذة نصية»، إذا جاز القول. وهذه الظواهر وغيرها قد تنتج عن سليقة، أي غير واعية، أو عن تدبير محكم ومطلوب، وهو ما يتضح بجلاء في التركيب وفنونه في لغة أنسي الحاج الشعرية.

 

3 . ب : مقاصد التناص
لستُ في مجال دراسة الجانب «المقصدي» في إنتاج النصوص الشعرية، وهو جانب أتحقق فيه من أن النص يصدر عن «قائل»، ويتوجه إلى «قارىء»، على أن في حمولات النص ما يشير، ضمن «الظروف الحوارية» المعينة للنص وأطراف الحوار، إلى «مقاصد» مستهدفة أو مرجوة أو متحققة من دون أن تكون مطلوبة. ذلك أن القارىء، أو «المتلقي»، قد لا يتلقى ما استهدفه أو طلبه الشاعر بل غيره؛ كما ان الشاعر قد يضمن نصه ما لم يكن يتحكم به أو يطلبه أو يقصده في تضاعيف العملية الشعرية في جانبها اللاواعي، عدا أن عمليات التنصيص قد تؤدي، على ما نعرفه في عدد من التجارب الشعرية، إلى تلاقيات وتدبيرات ومعان غير مطلوبة، بل أنتجتها «الممارسة النصية» نفسها (أو «الممارسة المنتجة لمعنى ما»، كما تحددها كريستيفا - pratique signifiante -). ولذلك سأتوقف في هذه الدراسة عند جانب وحسب من جوانب المقصدية هذه، وهو دراسة مقصدية النص من جهة الشاعر (مُسقطاً جهة المتلقي في التلقي)، أي ما يقصده، وفي صورة واعية، بل عمدية إذا جاز القول، وهو ما يتمثل في العلاقات التي ينشئها الشاعر مع المصادر «الطوعية»، كما أسميتها.
فهناك توجهات ومقاصد معينة يطلبها الشاعر حين يقتدي أو يتمثل أو يقلد أو يضمِّن نصوصه مواد بعينها من تجربة هذا الشاعر (أو عدة شعراء في آن) أو ذاك. ولا يكفي، في هذه الحال، الوقوف عند الجانب الأخلاقي من هذه المسألة: هل «سرق» الشاعر، أم «انتحل»، أم تأثر في صورة غير واعية؟ هل أغفلَ ذكرَ مصادره عمداً أم سهواً؟ هل كان «أميناً» أم «محوِّراً» في عمليات أخذه؟
علي أن أنتقل، على ما أعتقد، من هذا المنظور (53) الأخلاقي الذي يعود في أصوله العربية، على الأقل، إلى منطق «التفاضل» (أو «الموازنة») بين الشعراء، والذي يشير، في واقع التبادلات التي تحدد النص في الظروف الحوارية المحيطة به، إلى دورة التنافس التي حصرتْ نطاقَها في الأبيات المفردة. وعلي كذلك أن أنقد الأصول الأخرى لهذا المنظور، والتي تعود إلى التركة الرومانسية التي نظرت إلى النص على أنه ابتداع وخلق لا يشوبهما أي «تلوث». ذلك أن المنظور التناصي بات يرينا النص في كيفية تناسب أكثر طبيعتَه، وهو أنه داخلٌ حكماً في علاقات (مع نصوص أخرى) تنتجُه وتحدد مقاصده: فلا يوجد نصٌ مولود نفسه، وإنما هو حصيلة غيره وإضافة عليه كذلك. فكيف النظر، والحالة هذه، إلى المقاصد المطلوبة في الشعر العربي المتأخر؟
يمكن القول إن الشعر العربي دخلَ، ابتداء من «عصر النهضة»، أو طلبَ ثنائيةً ما كانت معروفة في المصادر الطوعية المحسوبة في التناص، وهي المصادر الأوروبية، بل يمكن القول إن الشعراء جعلوا، منذ ذلك الوقت، من هذه المصادر أكثر من مواد يأخذون منها ويحيلون عليها: جعلوها مثالاً للشعر ومآلا له. وهو ما أتحقق منه في مساعي نقولا فياض وشبلي الملاط في كتابة القصيدة القصصية، وفي مسعى نجيب الحداد إلى إدخال الشعر التمثيلي، موضوعاً ومترجماً إلى العربية، وفي مساعي العديدين غيرهم ممن لم يتوقفوا حتى أيامنا هذه عن تتبع الصنيع الشعري الجديد (وربما القديم، ولكن غير المعروف في العربية)، لا في أوروبا وحدها وإنما في أميركا الشمالية والجنوبية وفي اليابان وغيرها أيضاً، وتقليده أو التأثر به.
وهذه استهدافات يقصدها الشاعر، وتقع في باب التشوف، وربما التماهي أحياناً، مع صنيع شعري (أو مع ثقافة) معين على أنه الأكثر تجدداً وحداثة، ما يدعو إلى النظر إلى المقاصد هذه لا من وجهة تناصية وحسب، وإنما من وجهة أناسية أيضاً: تعويل النص على علاقة إطلاعية، لا عيشية، في تجديد الأشكال والمعاني، ما يمكن نسبته إلى ثقافة استعمالية (حتى لا أقول: استهلاكية)، لا إنتاجية، وهو يشير في ذلك، لا إلى هشاشة التأصل الحداثي في النخب الثقافية وحسب، وإنما أيضاً إلى دونية موقع الثقافة عموماً في تبادلات المجتمع نفسه.
ذلك أننا لو ننظر، على سبيل المثال، إلى ما قام به شاعر، مثل لوتريامون، في باب التناص، في تحويل المقاصد الطوعية عن مدلولاتها واستعمالاتها التي عاد إليها، لبان أن التجديد يقوم على تعالق مع نصوص سابقة ومزامنة للحظة الكتابة، ولكن على أساس أن النص «ممارسة منتجة لمعنى ما» (من دون أن يعني المعنى رسالة مدبرة أو مطلوبة)، فلا تكتفي بنقله، أو بتضمينه، أو بمحاكاته، أو باستيحائه، وإنما تعمل على قلبه، وعلى جعله محل نزاع في خطاب المتكلم نفسه. وهو ما أبانته كريستيفا في كتابها المذكور أعلاه إذ أشارت إلى ان «التملك يتحقق دوماً (عند لوتريامون) من باب النفي»، على أنه نفي لساني وغير لساني كذلك: ينفي الشاعر المواد التي يعود إليها في مبناها اللفظي فلا يوردها كما كانت، وفي مبناها غير اللساني، أي حمولاتها الاعتقادية وغيرها التي تصلها ب«الظروف الحوارية». تفيض كريستيفا في شرح الأحوال المختلفة للنفي هذا، إلا أن ما يعنيني من هذه الأحوال كلها، هو التحقق من كونها عمليات إنتاجية، وتصدر بالتالي عن «أنا» (أو «ذات») مندرجة في صورة عيشية وفكرية في آن في ما تكابده وتعاني منه وتسعى إلى التعبير عنه. وتتحقق في الأحوال التناصية هذه عمليات «انزلاق» (حسبما تسميها الناقدة) تشير إلى «التخلي عن موقع التحكم بالنص بوصفه فعلاً تخاطبياً» (54)، ما يعني أن النص لا يشتمل على خطبة مركزة، بل على تعبير مأزوم، لا متسق ولا مبرم كما هو عليه الحال في نصوص شعرية تجمع غالباً بين مقاصد الحق الإيديولوجي وتركة «الفحولة».

 

4 . التناص ذو الأساس الأناسي
أبنتُ أعلاه أن كل نص واقعٌ في علاقات تناصية بالضرورة، وأن على الدراسة اللسانية، بالتالي، أن تخص التناص بجانب مناسب له في كل مستوى من مستويات قرائتها. وهو ما دعاني إلى نقد نظريتَي المقارنة والمقابلة التقليديتين، وإلى السعي إلى قراءة، تناصية، هي أكثر واقعية في تعرفها على أحوال التنصيص التي تسم في صور متزايدة النص الحديث، العربي وغيره. إلا أن هذا السعي لا يجنب القراءة اللسانية نفسها النقد، أو مراجعة حدود عملها، ذلك أن التناص لا يحصر القراءة اللسانية في حدود النص، «في ذاته» كما قلتُ، أو في عناصره المعدودة والمحسوبة في بنية مغلقة، وإنما يفتحها على التاريخ الأدبي، ومنه على تاريخ التبادلات في مجتمع ما، أي على «ظروفه الحوارية»، أي النص في منظور أناسي (أنتروبولوجي).
إلا أنني أنتبه، من جهة ثانية، إلى أن «التناص» قابلٌ لأداء دور أوسع، إذا جاز القول، لا في التحليل اللساني للنصوص الشعرية وحسب، بل في جميع أصناف النصوص، من السردية حتى الفكرية المحضة، وما يقوله بنيس عن «موسوعية» العناصر النصية في الشعر العربي الحديث يصح في غير باب كتابي عربي، ومنذ «عصر النهضة» تحديداً. كنت قد تنبهت أعلاه، عند مناقشة تعريفات «التناص»، إلى أن بعض الدارسين يميلون إلى النظر إلى التناص علي أساس «إدراكي»، وإلى ربطه بأنظمة سيميائية أخرى واقعة في المجتمع، ما يعني أن النص متعالق مع غيره، وينسج تعييناته في سبل حوارية متعددة، منها مع نصوص سابقة أو مزامنة له، ومنها مع «مناخات» وجدالات وإلحاحات واقعة في تبادلات المجتمع.
التناص واقعٌ في غير مجال من مجالات التبادل، ويستدعي طرقاً في المعالجة تتعدى النص الشعري. هكذا بدا لي مفيداً الجنوح بهذا المفهوم، أي التناص، صوب مجالات عمل جديدة، لا تقصره، كما بدا ذلك في دراسات الفرنسيين والإيطاليين، على الوقائع النصية ضمن اللغة نفسها، بل إلى غيرها من اللغات، وإلى غير لغة (إذا تطلب الأمر ذلك في النصوص نفسها) في النص الواحد أحياناً. والجنوح به أيضاً إلى مساعٍ لا تطاول النصوص الشعرية وحسب، بل غيرها أيضاً من النصوص، أي كل مدونة يقوم بناؤها على علاقات تصلها بغيرها. أشدد على ضرورة «توسعة» حمولات وتعيينات هذا المصطلح، لإنني أرى في الكتابة الحديثة حقلاً خصباً لحضور «التناص» كـ«فاعل نصي» (حسب تعبير كريستيفا) في عدد كبير منها. وهذا ما أتحقق منه في صورة مزيدة في عالم بات شديد التفاعل و... «التناص» بين أطرافه ونصوصه المتباعدة، حتى أنني أستطيع القول إننا ننتقل من المجال الكتابي المنغلق إلى المجال الكتابي المتفاعل.
وحاجاتنا العربية واسعة في هذا المجال، لأن «التناص» قابل لأن يكون السبيل الأنسب في تناول أصناف الكتابة العربية، لا القديمة وحسب، بل الحديثة خصوصاً، منذ «عصر النهضة» تحديداً، ذلك انه عهد مثاقفة في المقام الأول، أي عهد الدخول في علاقات تناصية، لازمة ومطلوبة في آن. وهذا ما يدعو إلى طرح السؤال: ألا يمكن القيام باستعمال جديد للسبيل التناصي، وفي مجال الأناسة (الانتروبولوجيا) الثقافية تحديداً، أي سبيل دراسة وقوع الجماعات البشرية، والثقافات عموماً، والأنماط السلوكية، والقيم والتصورات، في علاقات تناصية، هي الأخرى، بعضها طبيعي أو واجب، وبعضها الآخر مفروض وربما قهري؟ وكيف يمكن فهم العمليات «النهضوية»، التي أدت الى الاتصال والتعرف، وإلى «التملك»، في كيفيات مختلفة من «التبيئة»، لمصادر ومنتجات وأجناس عديدة، من المطبعة والمسرح والجريدة حتى فكر الديمقراطية الأوروبية والرواية والقصيدة بالنثر، إلا بوصفها علاقات تناص مميزة؟
والتوسعة التي تطاول هذا المفهوم لا تقصره وحسب على فهم عمليات «التملك»، وإنما تمكن أيضاً من فهم النوازع والمسالك التي تطلب التناص، على أنها نوازع تشوفية، طالبة الثقافة (والقيمة) في نص واقع خارج لغتها وثقافتها: التناص، إذن، سبيلاً إلى دراسة الثقافة في سياق أوسع، يدرجها، من جهة، في إطار العملية «النهضوية» المستمرة، على أنها فعلُ مثاقفة متماد، كما يتم فيها، من جهة ثانية، تناول النصوص (على أنواعها) انطلاقاً مما تقوم عليه من تحويرات وتملكات و«تبيئة». ومعها يمكن إثارة الأسئلة التالية: هل يعني هذا أن مؤدى هذا السبيل يجعلنا نتناول حاصل الحداثة، في نهاية المطاف، لا على انه فعل تأثر وتأثير وحسب (وهو ما يحصل في العلاقات الطبيعية، إذا جاز القول، بين الثقافات كما بين المؤلفين)، بل على أنه، أي هذا الاتصال في صيغته التشوفية في هذه الحالة، ناتجٌ عن علاقة تناصية، كان للثقافة الأوروبية (مع الأميركية حالياً) أن تؤدي الدور الأول والأصل والمبتكر، أي دور «الفاعل النصي» في النص المحلي؟ وهل يعني هذا أن مؤدى هذا السبيل التناصي يجعلنا نتبين الحالة التاريخية والنصية، التي تأسست في عهد المثاقفة ووفق شروطها، على أنها أدت إلى تغيير وضعية النص العربي في علاقته الواجبة واللازمة بتناصه الداخلي، وجعلته ينتظم بالتالي وفق مقتضيات علاقة «غيرية» باتت فيها للعناصر «الاختيارية» و«الاستنسابية» (أي «الخارجية»، باختصار وتسرع) إن تؤدي دورَ المثال وتحددَ مقاييس الاحتكام وتعينَ المآل؟
أعلق الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، مكتفياً بالقول إن هناك مساراً للمثاقفة، لا يمكننا أن نجمله كله في معنى واحد وتعسفي بالتالي لحركته وأحواله، أي المعنى الواحد والمتشابه. فما كان يصح في شوقي لا يصح في أدونيس، أي أن فعلهما يقوم وفق علاقات تناصية مختلفة ومتفاوتة. وما يصح في استيراد «التوموبيل» (كما جرت تسمية «السيارة» لأول مرة في العربية)، لا يصح في تعلم عادات الذهاب إلى الأمكنة الثقافية العمومية (المسرح، المكتبة العامة...)، على أنها علاقات تَمَدُّن، منذ «عصر النهضة»، ولا في تقبل القصيدة بالنثر والطلبِ عليها في الكتابة العربية. إن هذه الأمثلة كلها تنتسب إلى أطوار في المثاقفة، بوصفها عهداً للتعرف على الغير، للأخذ منه، ولاعتماد و«تبيئة» ما يقترحه في مثاله الثقافي والتمديني والتحديثي، سواء في المنتجات أو في العادات والسلوكات أو في القيم والتمثلات والتصورات.
هذا يدعو، إذن، إلى دراسة ميادين التناص ومقاصده وأشكاله المختلفة، كما يدعو إلى التنبه إلى أن التناص يمر في أطوار، هو الآخر: فما كان جلياً في علاقات التناص، أي في علاقات التأثر النافرة، يصبح، ولا سيما في أيامنا هذه، أشد خفاء وتعقيداً ومعاينة بالتالي، خاصة وأن الكاتب الحديث يعدِّد، في أعمال بعضهم، مصادر التناص في العمل الواحد، عدا أنه يتخفف من سبيل المحاكاة أو يُحْسِن إجراء عمليات تملك حاذقة في حال لجؤه إليها.
(مجلة "فصول"، القاهرة، المجلد السادس عشر، العدد الأول، صيف 1997، صص 124-146).

 

الهوامش
1 : الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996: عليها تحيل الصفحات اللاحقة.
2 : م. ن.، ص 7.
3 : م. ن.، ص 10.
4 : م. ن.، ص 12.
5 : Oswald Ducrot et Jean-Marie Schaeffer : Nouveau dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, éd. du Seuil, Paris, 1995 .
6 : Oswald Ducrot et Tzvetan Todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, éd. du Seuil, Paris, 1972 .
7 : op. cit., P 446 .
8 : Dictionnaire de linguistique : Larousse, Paris, 1973 .
9 : Julia Kristeva : La révolution du langage poétique, éd. du Seuil, Paris, 1974 .
10 : الذي يورد آراءه فرنسوا راستييه، في كتابه:
François Rastier: Sens et textualité, Hachette, Paris, 1989
11 : op. cit., P 29 .
12 : Gérard Genette: Palimpestes, éd. du Seuil, Paris, 1982 .
13 : François Rastier: op. cit., P 29 .
14 : M. Arrivé : Langages, 31, P 61 .
15 : الآمدي : «الموازنة»، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الباز للطباعة والنشر، د. ت.، صص 10-12.
16 : أرى عينات كثيرة منها في كتاب «العمدة» لابن رشيق («العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده»، حققه وفصله وعلق حواشيه: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، طبعة رابعة، 1972)، ويقول في «باب السرقات وما شاكلها»: «هذا باب متسع جداً، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل» (ص 2/280)، ناقلاً عن غيره بعض أصنافها وتعريفاتها، مثل: السَّرَق والغصب والإغارة والاختلاس والاصطراف والاختلاب والاستلحاق والانتحال والاسترفاد والاهتدام والنسخ والنظر والملاحظة والمواردة وغيرها الكثير (صص 2/280-294).
17 : إحسان عباس : «تاريخ النقد الأدبي عند العرب»، دار الثقافة، بيروت، طبعة خامسة، 1986، ص 162.
18 : يمكن سرد عدد من الكتب والدراسات العربية، التي صدرت منذ ذلك الوقت، والتي تخصصت بدراسة أوجه المقارنة بين نصوص عربية ونصوص أوروبية، مثل:
محمد شاهين : «أثر اليوت في شعر السياب وعبد الصبور»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1991؛
- محمد عبد الحي : «الأسطورة الإغريقية في الشعر العربي المعاصر»، القاهرة، 1978، و«أنشودة المطر: اليوت وشيلي والتراث العربي»، مجلة «المعرفة»، أكتوبر، 1978؛
- سعيد علوش : «الترجمات العربية بين المثاقفة والمقارنة»، مجلة «الثقافة الأجنبية»، العدد 5 و6، سنة رابعة، بغداد، 1984؛
- أحمد عبد العزيز: «أثر لوركا في الأدب العربي المعاصر»، وعبد الحميد ابراهيم: «جريمة قتل... بين اليوت وعبد الصبور» في مجلة «فصول»، عدد 2، وغيرها.
كما يمكننا ذكر محاور خاصة بالنقد المقارن في عدد من المجلات العربية: مجلة «عالم الفكر»، اكتوبر/تشرين الأول-نوفمبر/تشرين الثاني، الكويت، 1980؛ مجلة «فصول» المصرية، الجزء الأول، العدد الثالث، ابريل-مايو-يونيو، 1983، والجزء الثاني، العدد الرابع، يوليو/تموز-أغسطس/آب-سبتمبر/أيلول، 1983؛ ومجلة «الموقف الأدبي»، السورية، العدد 186، تشرين الاول/أكتوبر 1986 وغيرها. ويمكن ذكر أيضاً «أعمال الملتقى الدولي حول الأدب المقارن عند العرب»، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، جوان (حزيران/يونيو)، 1985 وغيرها.
19 : محمد بنيس في كتابيه: «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة تكوينية»، دار العودة، بيروت، 1979؛ و«الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها- 3: الشعر المعاصر»، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1990؛ ومحمد مفتاح في كتابه «تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص»، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1985.
20 : محمد بنيس : «الشعر العربي الحديث...- 3 ...»، ص 181.
21 : محمد بنيس : م. ن.، ص 188.
22 : محمد مفتاح : م. ن.، ص131 .
23 : Kamal Kheir Beik: Le mouvement moderniste dans la poésie arabe contemporaine, Publications orientalistes de france, 1978, pp 138-141 .
هذا ما سعى إلى تبيانه، ضمن مسعى آخر، سامي مهدي، إذ عرض تعريفات نقدية لعدد من السورياليين الفرنسيين، وأخرى لأدونيس، في المسائل التالية: الرفض، الهدم، البحث عن واقع أسمى (فوق الواقع)، رفض العقلانية والمنطقية، اللحظة السوريالية، الشعر والسحر، الشعر والجنون، الشعر والاكتشاف، الشعر واستقصاء المجهول، رؤية جديدة للأشياء، الصيغ الجديدة، براءة الكلمة، الشعر والتزيين، وخلص منها إلى القول: «في ضوء ما تقدم من نصوص يتضح لنا أن أدونيس كان عيالاً في مفاهيمه على التراث السوريالي (...). وما نجده في تنظيرات أدونيس من المفاهيم السوريالية يمكن أن نعثر له على مطابقات في شعره. وقد لا يتسع المجال هنا لاستقصاء هذه المطابقات، ولكن العارفين بشعر أدونيس لا يفوتهم أن يلاحظوا أن الرفض، والتمرد، والهدم، والانقطاع، والتجاوز، والمغامرة، والرؤيا، والحلم، والنبوءة، والجنون، والمجهول، والمطلق، والبحث، والكشف، والفتح، والتحول، والإشراق، وغير ذلك من مفردات القاموس السوريالي، هي، في الوقت ذاته، محور قاموسه الشعري»: سامي مهدي: «أفق الحداثة وحداثة النمط: دراسة في حداثة مجلة «شعر» بيئة ومشروعاً ونموذجاً»، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، ص 170- 171.
24 : رائدُ هذا المسعى هو الباحث الروسي ميخائيل باختين الذي نظر إلى النص الأدبي وفق «المبدأ الحواري» الذي يؤسسه، على أساس أن النص مسعى حواري مع ما يحيط به.
25 : François Rastier: op. cit., P 16
26 : François Rastier: op. cit., P 30
27 : François Rastier: op. cit., P 31
28 : François Rastier: op. cit., P 31
29 : مالك المطلبي في كتاب: «الشعر العربي عند نهايات القرن العشرين»، المحور الرابع في جلسات الحلقة الدراسية لمهرجان المربد الشعري التاسع: «اتجاهات نقد الشعر العربي المعاصر»، إعداد: عائد خصباك، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989، صص 297-341، والشاهد ص 325.
30 : وهي مبوبة وممنهجة في كتاب أ. ج . جريماس
A. J. Greimas: Essais de sémiotique poétique (col.), Larousse, Paris, 1972, p 11-12 .
واعتمدتها في كتابي «الشعرية العربية الحديثة: تحليل نصي»، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988.
وقعت على فصل لافت لمحمد مندور، في كتابه «النقد المنهجي عند العرب» (مكتبة نهضة مصر، الفجالة-مصر، د. ت.)، يدرس فيه «السرقات» (صص 352-369)، ويخلص فيه، بعد عرض آراء القدماء في المسألة، إلى ضرورة التمييز بين أصنافها: «الاستيحاء»، وهو أن يأتي الشاعر أو الكاتب بمعان جديدة مما قرأه؛ و«استعارة الهياكل»، وهي أن يأخذ الشاعر أو الكاتب موضوع قصيدته أو قصته عن مواد سابقة «وينفث الحياة في هذا الهيكل»؛ و«التأثر»، وهو أن يأخذ الشاعر أو الكاتب بمذهب غيره في الفن أو الأسلوب تتلمذاً أو من دون وعي؛ و«السرقات»، وهي «لا تطلق اليوم إلا على أخذ جمل أو أفكار أصلية وانتحالها بنصها دون الإشارة إلى مأخذها»، ولا يلبث أن يضيف: «وهذا (أى السرقات) قليل الحدوث في العصر الحديث وبخاصة في البلاد المستنيرة» ( ص 354).
31 : استبعدت من المستويات، والمواد هذه، الشأن الصوتي-الإيقاعي الصرف، بعد أن تحققت من كونه ما حظي في عمليات التفاعل الثقافي ضمن مجال الشعر بأعمال تأثر بينة، فيما خلا القصيدة بالنثر طبعاً التي أتناولها في مسألة الجنس الأدبي أدناه. وكان بإمكاني، بالمقابل، منح الشأن الخطي لظهور القصيدة العربية فوق الورق الطباعي عناية دراسية ما، بعد أن لاحظت، في دراسة لي، ثم في فصل من أحد كتبي، تأثر الشعراء العرب المتأخرين بتجارب أوروبية وأميركية، مثل تجارب أبولينير أو «الشعر البصري» وغيرها: راجع دراستي: «الشكل الخطي للقصيدة العربية الحديثة»، مجلة «دراسات عربية»، العدد 9، 1978، بيروت، صص 99-111، وكتابي المذكور أعلاه، صص 13-37.
32 : درس المستشرق الالماني شتيفان فيلد هذه القصيدة اللافتة في شعر السياب، بل في الشعر العربي الحديث، ملاحظاً أننا لا نقع، فيما خلا هذه القصيدة، على أية آثار تذكر للثقافة الصينية في الشعر العربي الحديث: «بابل هي شنغهاي: ما هو صيني لدى بدر شاكر السياب»، مجلة «عيون»، 1995، السنة الأولى، العدد 1، منشورات الجمل (كولونيا، إلمانيا)، صص 9-20.
33 : Gérard Genette: Introduction à l'architexte, éd. du Seuil, 1979, Paris .
ويخلص جينيت في الصفحة 66 من هذا الكتاب، بعد تنقيب تاريخي ونقدي عن المسألة هذه، إلى القول: «إن القسمة الرومانسية واللاحقة عليها ما عادت تعتبر الغنائي والملحمي والدرامي مثل مقامات للقول وحسب، وإنما مثل أجناس (أدبية) فعلية، لها في تعريفاتها عناصر مضمونية (أي تجعل من كل جنس أدبي خاصاً بمضمون ما)، وإن كانت ضبابية».
34 : هناك محاولات محدودة وجزئية وغير معللة كفاية في معالجة هذه المسألة، منها ما يجعل البحور البسيطة، على سبيل المثال، سابقة على غيرها من البحور الممتزجة؛ ومنها ما يجعل عدداً من البحور، مثل الرجز والهزج سابقة، هي الأخرى، لغيرها على أنها مرتبطة بالغناء الطقوسي أو بالحداء؛ ومنها ما ينسب أنواعاً شعرية، مثل الطرديات والخمريات إلى العصر العباسي تحديداً، وغيرها من التحققات غير الكافية بعد في هذا النطاق. يقترح نجيب محمد البهيتي، على سبيل المثال، دراسة أشكال الشعر العربي الأولى انطلاقاً من التشابه الحاصل بين القصيدة الموزونة على وزن الرجز، وهي عنده مثابة «النثر المسجوع»، وبين سجع الكهان المعروف في الجاهلية: «الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم»، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، طبعة أولى، 1987، ص 436. وتوصل عادل سليمان جمال ، في دراسة موفقة، إلى تعيين، بل إلى ترجيحات ما في «عمر» الشعر الجاهلي، إذ تضيف دراسته، حسب قوله «أكثر من قرن من الزمان إلى عمر اللغة العربية، وبالطبع الشعر الجاهلي»: «عمر الشعر الجاهلي: عود على بدء»، مجلة «فصول»، المجلد 15، العدد الثاني، صيف 1996، ص 306.
35 : غير شاعر عاد إلى متن الأساطير القديمة في مسعى محاكاتي أكيد: عباس محمود العقاد اعترف بأن قصيدته «فينوس على جثة أدونيس» لم تكن سوى ترجمة حرة لعمل شكسبير («ديوان العقاد»، أسوان، 1967، ص 25)؛ وهذا ما فعله المازني في قصيدته «الراعي المعبود» («ديوان المازني»، الجزد الثاني، القاهرة، 1917، ص 161)، أما الياس أبو شبكة فعاد إلى القصص الديني (شمشوم ودليلة، لوط وبناته...) وغيرهم.
وهذا ما قام به أيضاً الشعراء المحدثون، أو «التموزيون» كما أطلقها جبرا ابراهيم جبرا عليهم، في مسعى محاكاتي مختلف، إذ أخذوا بصنيع اليوت الشعري القائم على الجمع بين الماضي، ومنه الأسطورة تحديداً، وبين الحاضر. وهو ما يؤكد عليه عدد من الكتب التي تؤرخ للشعر العربي الحديث، مثل كتاب كمال خير بك المذكور، أو كتاب أسعد رزوق «الشعراء التموزيون: الأسطورة في الشعر المعاصر» (الصادر، بداية، في دراسة، في مجلة «آفاق»، صيف 1959) الذي يؤكد فيه: «وقد نسج الكثيرون من شعرائنا المعاصرين على منوال اليوت وتبنوا أسلوبه وتكنيكه وبعض رموزه. وقد يكون بينهم من تبنى شيئاً من مضمونه ومواقفه ومعتقداته» (طبعة ثانية، دار الحمراء، بيروت، ص 16).
إلا أنني توصلت، في دراسة يضمها هذا الكتاب، إلى الوقوف على أسباب أخرى أدت إلى تناول الأسطورة في الشعر المعاصر، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وهي دعوة أنطون سعاده، «زعيم» الحزب السوري القومي الاجتماعي، أعضاء الحزب وغيرهم، اإلى «بعث الروح في الأساطير السورية القديمة»، حسب عبارته، وهو ما فعله شعراء في هذا الحزب آنذاك، مثل سعيد عقل («بنت يفتاح»)، ويوسف الخال («هيروديا») وأدونيس (الملاحم الشعرية: «معزوفة الدماء» و«هانيبال» و«دليلة»، والمسرحيات الشعرية: «ديدون» و«قلقامش» ...) وغيرهم.
36 : Susanne Bernard: Le poème en prose, de Baudelaire jusqu'à nos jours, Librairie Nizet, Paris, 1959
راجع: أدونيس : «في قصيدة النثر»، مجلة «شعر»، العدد الرابع عشر، 1960، صص 75- 83؛ ومقدمة ديوان «لن» لأنسي الحاج، دار مجلة شعر، بيروت، في السنة نفسها.
37 : خليل مطران : «المجلة المصرية»، عدد 15 أغسطس (آب)، سنة 1901.
38 : أحمد زكي أبو شادي: مجلة «أبوللو»، المجلد الأول، يونيو (حزيران)، 1933، ورد في كتاب عبد العزيز الدسوقي: «جماعة أبوللو»، الطبعة الثانية، القاهرة، 1971، ص 333- 335.
39 : ابراهيم ناجي : مقدمة «أطياف الربيع»، مجموعة أبي شادي الشعرية، 1933، ورد في المرجع أعلاه: ص 315- 317.
40 : مجلة «شعر»، العدد 15، بيروت، صص 146-150.
41 : محمد الماغوط : مجلة «مواقف»، العدد 2، 1969، بيروت، ص 73.
42 : يمكن العودة إلى غير كتاب في العربية درسَ تأثرات الشعر العربي الحديث بالسوريالية، مثل كتاب «اندره بريتون» لكميل قصير داغر (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979)، الذي تضمن ملحقاً خاصاً بعنوان: «بريتون عربياً؟ أو السوريالية في بلادنا»، صص 109-169، وتوقف فيه عند أربعة شعراء: أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعبد القادر الجنابي بالإضافة إلى علاقات مجلة «شعر» عموماً بالنزعة السوريالية.
كما درس الشاعر عصام محفوظ هذه التأثيرات في كتابه: «السوريالية وتفاعلاتها العربية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987)، وتوقف فيه عند غير تجربة عربية، في مصر وسوريا ولبنان والعراق، ولحظ فيه أن التأثرات قد لا تتحقق مباشرة، وعبر النصوص الأصلية، بل عبر نصوص رديفة أو مترجمة، مثل تعرف شعراء المجلة العراقية، «الشعر 69»، على سبيل المثال، على «البيانات» السوريالية في نصوص جزئية عنها وبالانكليزية، لا بالفرنسية (ص 101).
ويمكن العودة أيضاً إلى كتاب سامي مهدي المذكور أعلاه، الذي درس فيه تأثرات مجلة «شعر» بالحداثة عموماً، وبالمواقف السوريالية خصوصاً.
ولعلي أجد في ما كتبه عمر فاخوري، منذ العام 1927، مسعى «تناصياً» مبكراً درس فيه تأثر الشاعر اللبناني يوسف غصوب بمذهب آخر، هو المذهب الرمزي، وذلك في تقديمه ديوان الشاعر «القفص المهجور» (مطبعة جدعون، بيروت، 1928)، الذي يعرض فيه تأثر الشاعر البين بألفرد دو موسيه، أو بألبر سامان.
43 : يمكن العودة إلى دراسة فخري صالح: «يانيس ريتسوس في الشعر العربي المعاصر: ولادة قصيدة التفاصيل»، في كتاب «المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر»، الحلقة النقدية في مهرجان جرش الثالث عشر، تحرير: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طبعة أولى، 1995، صص 143-160؛ وكنت قد تطرقت، في دراسة نقدية، «قصيدة الشباب: أسئلة الحداثة وتحدياتها» (الحلقة النقدية في مهرجان المربد الشعري، بغداد، 1987)، لهذه المسألة التناصية وغيرها.
44 : Roland Barthes: Mythologies, éd. du Seuil, Paris, 1957, p. 204 .
45 : Julia Kristeva : op. cit., p. 338 .
46 : النفري : «المواقف»، موقف نور، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1934، ص 72.
47 : أدونيس : «الأعمال الشعرية الكاملة»، المجلد الأول، دار العودة، طبعة رابعة، 1985، بيروت، ص 527.
48 : غير كاتب، مثل عادل عبد الله، واسماعيل الدندي، والمنصف الوهايبي وغيرهم توقف أمام أحوال التناص في شعر أدونيس وكتاباته، وأصدر كاظم جهاد كتاباً في هذه القضية، استجمع فيه العديد من المواد، وتعود إلى كتاب قدماء، مثل النفري والبسطامي والأصمعي والمسعودي والمعري وابن الأثير غيرهم، أو إلى شعراء أجانب، مثل بودلير وأوكتافيو باث وسان-جون بيرس وغيرهم، ورأى فيه أن ما قام به أدونيس انتحال ليس إلا، مميزاً بين «السرقة»، وهي عنده، نقلاً عند أحد القدماء، «ما نُقل معناه دون لفظه»، وبين «الانتحال»، وهو عنده «نقل معني الآخر ولفظه كليهما معاً»: «أدونيس منتحلاً»، «دار إفريقيا الشرق»، الدار البيضاء، 1990، ص 61.
49 : أنسي الحاج : «لن»، دار الجديد، بيروت، طبعة ثالثة، 1994، ص 44.
50 : أنسي الحاج : «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة»، دار الجديد، بيروت، طبعة ثانية، 1994، ص 103.
51 : أنسي الحاج : «لن»، ص 51.
52 : أنسي الحاج : م. ن.، ص 78.
53 : رغم أن ما يفعله بعض الأدباء العرب من عمليات «نقل» حرفي أو محور لمقالات ودراسات وقصائد أجنبية أو عربية ظاهرة لا تطيقها أية أخلاقية كانت، خاصة وأن هؤلاء الأدباء لا ينصرفون الى التناص في لعبة بينة، وإنما يعتمدونها و«يتسترون» عليها، ولا يلبثون أن يصححوا ما سبق لهم أن أخفوه، بحجج واهية، مثل سقوط المزدوجين أو الهلالين!
54 : Julia Kristeva : op. cit., p. 343 .
***