تكوين الدواوين والمجموعات الشعرية

 

يجري الحديث في أيامنا هذه عن «مجموعة» شعرية، أو عن «ديوان»، أو عن الأعمال «الكاملة» لشاعر ما، من دون أن نفحص أو أن نتساءل عن مسألة «مثول» الشعر العربي بين الأمس واليوم: هل يخضع جمع قصائد بعينها في كتاب لترتيبات لاحقة على كتابتها، وقبل دفع القصائد إلى الطبع، أم أن تأليف القصائد يخضع في منشئه لخيار تأليفي، لا يلبث أن يجلوه ويؤكده الكتاب نفسه، ومنذ العنوان؟ هل يسبق الترتيبُ كتابةَ القصائد ويوجهها أم يأتي مثل تكريس أو تسمية لقصائد واقعة قبل إطلاق التسمية؟
ذلك أن إصدار الصنيع الشعري، أو «روايته»، أو طبعه، أو توزيع قصائده، أو وضع عنوان خاص به، أمور قلما انتبه إليها النقد أو التاريخ الشعري، مع أن التعرف إليها يفيد - على ما تحققتُ - في درس الشعر، صنيعاً وتصوراً وتثبيتاً لعمل شعري ما. فماذا عن بدايات تجميع الشعر العربي في كتب ومجموعات منفصلة؟ وكيف نخلص إلى «الديوان» المفرد بعد الديوان «التام»؟ أهناك علاقات تلازم تكويني بين القصيدة (في عنوانها، في موضوعها) وبين ما يكون عليه خروجها في كتاب؟

1 : «جمع» الشعر
لو جرت العودة إلى المصادر العربية لبانت صعوبات في التعرف على الهيئات الأولى لتجميع الشعر القديم، بين روايته وتدوينه. وما نجده لا يمثل عمل الشعراء أنفسهم على شعرهم، بل ما خلفه في الغالب الرواة والجامعون عنه. ولو عدتُ إلى المتوافر من مجموعات الشعر العربي الأقدم لوجدت أن ما وصل منها لا يوفر، في أحوال عديدة، مدونات الرواة أو الجامعين الأوائل، بل مدونات لاحقة ترقى خصوصاً إلى عمل المصنفين في القرنين الثالث أو الرابع الهجري. وما نعرفه عن شعر امرىء القيس وحسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي هو ما بقي من عمل جامعين وشراح ورواة، ولا تصل نهاية سلسلة الإسناد في الروايات المختلفة إلى الشاعر نفسه في أغلب الأحوال. إلا أن هاتين الصعوبتين لا تعدمان، مع ذلك، سبيل البحث، وإن تجعلنا نقيم في ميدان للدرس غير أكيد المعالم، خصوصاً في مرحلة ما قبل التدوين.
لن نجد الشعر، في أخباره أو في مدوناته، إلا في عمل رواته، بوصفهم جامعين له بعد أن كانوا منشدين له، وذلك في «كتب» و«أشعار» و«دواوين»، حسب التسميات التي وصلت عن أعمالهم. ولقد عمل عدد من الدارسين، من كارل بروكلمان إلى ناصر الدين الأسد وغيرهما، على التحقق من مجموعات الشعر العربي في مراحل تدوينه أو تقييده الأولى، وتوصلوا، ولا سيما الأسد، إلى التحقق من أن الرواة-الجامعين الأوائل في القرن الهجري الثاني عملوا على ترتيب كتبهم بدءاً من كتب ومدونات توافرت لهم، بالإضافة إلى ما حفظوه من هذا الشعر شفاهاً. ويرجح الأسد أن بعض الشعر الجاهلي «كُتب في صحائف متفرقة أو في دواوين مجموعة، منذ عهد مبكر جداً، وربما كتب بعضه منذ العصر الجاهلي»؛ وأن بعض هذه المدونات بلغ علماء الطبقة الأولى من الرواة، واعتمدوها مصدراً من مصادر تدوينهم لهذه الكتب التي رواها عنهم تلامذتهم؛ وأن هؤلاء العلماء الرواة في القرن الهجري الثاني كانوا يعودون، هم وتلامذتهم، إلى نسخ مكتوبة من هذه الكتب في مجالس علمهم وحلقات دروسهم؛ وأن رواية هذه الكتب التي بين أيدينا - حين يكون الكتاب مسنداً - تنتهي إلى أحد هؤلاء العلماء من رواة الطبقة الأولى أو إلى أحد تلاميذهم، ثم تقف عندهم ولا تتجاوزهم. هكذا نعرف، على سبيل المثال، أن الوليد بن يزيد طمع في جمع «ديوان العرب» فاستدعى، على ما تقول المرويات، حماد الراوية وجناد بن واصل واستعار منهما كتباً ودواوين كانت في حوزتهما، ومنها كتابا ثقيف وقريش في الشعر، و«ديوان العرب» وجزءاً من شعر الأنصار. كما نعرف أيضاً أن المفضل الضبي اختار قصائده من دواوين وكتب كانت في حوزته كذلك. وهناك أخبار أخرى تفيد كلها أو تؤكد ما سبق، وهو أن جامعي الشعر الأوائل عملوا على مدونات سابقة عليهم، وتعود في بعضها إلى عهد ما قبل الإسلام.
المعلومات عن عهد ما قبل التدوين، وعن تدوين الشعر في مجموعات أولى، تبقى محدودة على أية حال، ولا تتيح التعرف المقرب والمدقق على العمليات هذه. إلا أننا لا نجد صعوبة، فيما بلغنا من أخبار، في التأكد من أن الشعر عرف، هو مثل غيره، وضعية أولى، شفوية، جرى فيها تناقل الشعر عبر الألسن أو عبر رواة متمرسين (كثير عزة راوية جميل بثينة، وجميل راوية هدبة بن خشرم، وهدبة راوية الحطيئة، والحطيئة راوية زهير، حسبما ورد في «الأغاني»). ونتحقق في هذه الوضعية من دور مخصوص للشعر، هو دور «الإلقاء»، إذا جاز القول، في لقاء، أو مناسبة، أو حفل عام، على أنه شكلُ وجودِ الشعر، وشكلُ تداوله في الجماعات أيضاً، وتصاحبه تقاليد حفظ ورواية من منشدين ورواة، وهم بالتالي العاملون الأوائل، قبل دور النشر والمطابع ووسائل الدعاية والترويج، في نشر الشعر وإيصاله.
وما لبث الشعر أن عرف وضعية أخرى، تدوينية، بعد «تعريب الدواوين» في العهد الأموي، وبعد انتشار الورق منذ مطالع العهد العباسي، جرى فيها قيد الشعر في كتب ودواوين في صورة مزيدة. ونتحقق في هذه الوضعية كذلك من أن الشعر لم يفارق دوره التخاطبي، إلا أن أوجه تداوله باتت تتعين أيضاً في صيغ مادية يتم فيها التعرف علىه والتفاضل فيه ونقده وتثمينه، سواء في البلاطات والمجالس، أو في حلقات الشعراء والعلماء والدارسين.
وإذا كانت المعلومات عن مرحلة التدوين الأولى قليلة، فإننا نفوز بعد ذلك بمعلومات أثمن وأوسع وأدق، نتحقق فيها من انتشار تقاليد جمع الشعر في كتب جلية الترتيب. وهو ما يدعو الأسد إلى القول: «الدواوين كانت موجودة - مكتوبة مدونة - في القرن الثاني الهجري، أي من نهاية الربع الأول من القرن الثاني على التقريب إلى مطلع القرن الثالث، وهي الحقبة التي كان يحيا فيها هؤلاء العلماء الرواة من رجال الطبقة الأولى، وبلغ فيها نشاطهم ذروته». وهذا يعني، واقعاً، أن جمع الشعر في مجموعات يرقى إلى القرن الهجري الأول، إذ عاد هؤلاء الرواة إلى كتب سابقة عليهم. ونحن نعرف أن عدداً من خلفاء بني أمية، منذ معاوية بن أبي سفيان، سعوا إلى جمع الشعر وغيره أيضاً من متبقيات العهد السابق في الجزيرة العربية، مثل «اللغات» و«الأخبار» و«الأنساب» وغيرها، في مجموعات. ونتساءل: هل نجد في مساعي خلفاء بني أمية هذه طلباً لتأكيد «عربيتهم» في الوقت الذي كانت تمتزج فيه سلوكاتهم وتدابيرهم بغيرها من السجلات والمرجعيات الأخرى (البيزنطية، الفارسية، القبطية ...) وأخذهم عنها؟ وهل يمكن وضع عمليات التجميع في سياق تقاليد أخرى تأكدت في الدولة الأموية، وهي تأسيس تقاليد «ثبوتية»، وسلطانية بالتالي، من صك العملة لأول مرة في التاريح الإسلامي إلى ضبط قواعد عمل «الدواوين» بعد تعريبها وغير ذلك؟
أخلص من هذا إلى التحقق من أن أشكال جمع الشعر، أو التعرف على وجوده في التداول بين الجماعات، بقيت منفصلة عن الشاعر، وتحكم بها وسطاء غيره، ما يكشف عن خططهم هم في المقام الأول، لا عن خططه هو في تقديم شعره، وقد يكشف أحياناً عن تلاعبهم بنتاجه وتحكمهم في تصريفه و«نحله» ربما: ففي غير رواية عن الرواة نتحقق من كون بعضهم كانوا يجتمعون أحياناً لمقارنة ما بلغهم من الأشعار والأخبار فيصححونها وينقدونها ويعدلونها بالتالي. أي أن الوسطاء سعوا إلى تقديم شعر الشعراء، وإلى شرحه بعد وقت، من دون أن نتبين صلات بين مقاصد الشعراء في قول الشعر وبين مقاصد الرواة في تجميعه، أو أن مقاصدهما ليست متطابقة على أية حال: أين ينتهي عمل الشاعر وأين يبدأ عمل الراوي؟ هل يقوم دور الراوي على النقل فقط، وعلى حفظ ما قام بتسجيله، في الذاكرة أو في مدونة؟ هل ينتهي عمل الشاعر بعد وضع قصيدته، بل بعد إلقائها؟ هذا يصح من دون شك في شعر المدائح، وربما الهجاء، ولكن ماذا نقول عن شعر الوصف أو الطرديات أو الغزل وغيرها؟ كيف كان يتم تناقلها وتداولها؟ ما فعل المتنبي، على سبيل المثال، بعد أن وضع قصيدة «الحمى»، وبعد أن حفظها في مدونة خاصة به؟ هل أخذها عنه بعض النساخ أم سمعها البعض الآخر؟ وكيف وصلت إلى ابن جني وأبي بكر الصولي لكي يدرجاها في «ديوان المتنبي»؟
يمكننا أن نسوق أسئلة عديدة من دون أن نحظى بأجوبة أكيدة دوماً، مكتفين في غالب الأحوال بالتخمينات والترجيحات. ولو كانت المعلومات متوافرة لكانت أفادتنا من دون شك في التعرف على كيفيات تداول الشعر، وعلى المغازي المطلوبة من تدوينه، وعلى مقاصد الشاعر خصوصاً في جمع شعره وترتيبه وغيرها. وقد نحظى أحياناً بمعلومة ثمينة تتحدث، على سبيل المثال، عن إقدام أبي فراس الحمداني (320- 356 هـ.) على جمع شعره وترتيبه في ديوان قبل وفاته بنفسه، إلا أننا لا نقوى على تثمين هذه المعلومة، ولا على وضعها في سياق تفسيري، طالما أننا نفتقر إلى غيرها. وقد نعلم، على سبيل المثال، أن أبا نواس راجع شعره ونقحه وحذف بعضه (على ما يقول ابن رشيق في «العمدة»)، فهل يعني هذا أنه هو الذي عمم أو نشر مدونات عن شعره «أجازها» بنفسه؟ لا نستطيع التقدم في هذا المجال، ذلك أن ما وصلنا من شعر العديد من الشعراء، من أمثال ابن الرومي والبحتري وأبي تمام وابن المعتز وغيرهم، لا يمثل صنيعهم، أو تدبيرهم، بل هو ثمرة العمل الذي قام به أبو بكر الصولي (-335 هـ.) تحديداً، بعد أن جمع المتفرق من قصائدهم، ونقحها وشرحها.
باختصار، نجد في عمل الجامعين والشراح مدونة عما ستكون عليه لاحقاً كتب الشاعر، إلا أنها هيئة طباعية ليس إلا؛ أي لا نتبين في المادة المجموعة ما يدل على خطة في الجمع وضعَها الشاعر نفسه، وتفيد مطلوبنا، وهو التعرف على «تكوين» القصائد. وما كانت بالتالي لفكرة الجمع فائدة تكوينية (أي دالة علي تكوين شعر هذا الشاعر أو ذاك)، بل حفظية.
لذلك أقول إن دراسة ما بلغنا من الشعر العربي في عهوده الأولى خصوصاً، من وجهة نظر «تكوينية»، تضيء خصوصاً عمل الجامعين، لا عمل الشعراء، وإن أقدم بعضهم، مثل الحمداني وغيره، على جمع شعرهم وترتيبه بأنفسهم. ولقد توصلت، بعد دراسة عدد من المدونات الشعرية الأولى التي بلغتنا، إلى التمييز بين عدد منها، وهي التالية: المحفوظ الجاهلي، الجمع المتفرق، المنتخب المعلل والجمع الأوفى.

 

1 . أ : المحفوظ الجاهلي
يمكن الحديث طبعاً عن مدونات مختلفة جرى فيها جمع الشعر فوق حوامل مادية بعد تناقلها عبر الألسن والرواة، إلا أننا لا نقوى على وضع ترتيب تاريخي تتابعي لصدور هذه المدونات المختلفة، وإن كنت أعتمد في عرضي هذا سبيلاً يكشف عن ميلي إلى ترجيح التتابع المذكور. وما أقوى على تأكيده، بداية، هو التمييز بين عهدين، تتوزع فيهما المدونات المختلفة: عهد أول قام على جمع متبقيات الشعر الجاهلي في مجموعات تضم شعر الفحول أو شعر القبائل أو «منتخبات» شعرية منه؛ وعهد ثان قام على جمع شعر العصور اللاحقة، وعلى اختيار منتخبات معللة منها، وعلى إعادة جمع أوفى للشعر الجاهلي. فماذا عن الجمع في العهد الأول؟
لا يمكن الحديث عن جمع الشعر في هذا العهد إلا في صيغة تناقله الشفوي، في المجالس والمحافل والطقوس وغيرها، عبر الرواة والمنشدين والمغنين، وربما في مدونات مادية خاصة ببعض الشعر الذي ميزته القبائل عن غيره، والحامل من دون شك لمفاخرها وأيامها. ففي أخبار الجاهلية، كما في أشعارها، أحاديث وإشارات عن الكتب والتحبير والتنميق وغيرها، وعن الشعر نفسه، وعن التباهي به، بالإضافة إلى أشكال التكسب الأولى (النابغة الذبياني عند النعمان ابن المنذر، آخر ملوك الحيرة)، وغيرها مما يكشف عن «حياة» شعرية ناشطة، لم تسلم من تدوين ربما، وإن ظلت رواية الشعر وتناقله عبر الألسن الشكلَ الاجتماعي لتداوله. فإذا كانت المعلومات تفيد عن «كتب» شعرية متوافرة منذ الجاهلية في الجزيرة العربية، فهذه الكتب تخص شعر القبائل من دون شك، من دون أن تشتمل بالضرورة على مجمل شعر هذه القبيلة أو تلك. فهذه الحاجة قد لا تكون مطلوبة في زمن المنازعات القبلية، بل المطلوب هو التباهي والفخار ورفع أناشيد الجماعة في ماضيها وانتصاراتها (وهو ما يبدو بيناً في معلقة عمرو بن كلثوم)، وهو ما يوفره بعض الشعر في كل قبيلة، لا كله بالضرورة.
إلى هذا، فإن فعل الكتابة كان مخصصاً في ذلك العهد، على ما هو معروف، لأفعال جليلة وسامية، مثل كتابة العهود والمواثيق وغيرها، فيصعب والحالة هذه تخيل إمكان تدوين شعر كل قبيلة في «كتاب»، بل مختارات منه على الأرجح. كما يمكن القول إن جمع الشعر كاملاً أو تاماً يقتضي وجود سعي في الإحاطة، في التوضيب، لا نتبينها في حاجات ذلك العهد، وفي غير مجال من مجالاته. إلا أن هذا الكلام لا يعني بالضرورة أن جمع بعض شعر الشعراء، أو بعض قصائدهم ربما، لم يكن ميسراً أو مطلوباً في ذلك الوقت، ولا سيما مع التنافسات في سوق عكاظ وغيرها. كيف لا، ونحن نجد في بعض الأخبار ما يفيد عن وجود بعض الشعر مدوناً منذ العهد الجاهلي، إذ يقول ابن سلام الجمحي: «وقد كان عند النعمان بن المنذر (580- 602 م.) منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مُدح هو وأهل بيته به، فصار ذلك إلى بني مروان أو صار منه». كما يُحبر كذلك عن «كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة».
واللافت في هذا العهد هو الحديث عن دور «الراوية» نفسه، حيث أنه لم يكن ناقلاً وحسب، ولا وسيطاً فقط، وإنما كان شاعراً «مبتدئاً»، إذا جاز القول، يتمرس بكتابة الشعر وبتعلم على فنونه، تابعاً أحد الشعراء أو عدداً منهم، على ما نعرف من سِيَر عدد من شعراء ما قبل الإسلام. ويشد الانتباهَ في ذلك قولُ الجاحظ، وتسميتُه للشعراء الفحول بـ«الشعراء الرواة». وهو ما أتأكد منه لو عدت إلى سلسلة الشعراء الرواة: فقد كان زهير بن أبي سلمى راوية أوس بن حجر وتلميذه، ثم صار زهير أستاذاً لابنه كعب وللحطيئة، ثم جاء هدبة بن خشرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار راويته، ثم تتلمذ جميل بن معمر العذري لهدبة وروى شعره، وكان آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثيراً، تلميذ جميل وراويته. وماذا عن شعر القبائل وعما أصاب بعضها بعد أن جرى انتخابه وتمييزه عن غيره، وبعد أن تم حفظه ونقله جيلاً بعد جيل، مثل قصيدة عمرو بن كلثوم التي عظمها أهل قبيلته حتى صارت معرض نقد وهجاء؟ فقد جاء في شعر بكر بن وائل:
«أَلْهَى بني تغلب عن كل مكرمةٍ قصيدةُ قالها عمرو بن كلثومِ
يروونها أبداً مذ كان أولهم يا للزجال لِشعرٍ غير مسئوم»

تبقى المعلومات قليلة وضعيفة السند عن شعر الجاهلية، ولعل بعضه وصل مدوناً على حوامل مادية إلى عدد من الرواة في القرن الهجري الأول، حسبما يرجح الأسد، إلا أن أكثر هذا الشعر وصل، من دون شك، عبر سلاسل الرواة.

 

1 . ب : الجمع المتفرق
تقليد الرواة لم ينقطع مع مجيء الإسلام، بل ازداد بفعل عوامل عديدة، منها حاجة التفسير القرآني لمادة الشعر الجاهلي نفسها، على ما هو معروف عن ابن عباس، «ترجمان القرآن» وأول المفسرين، وهو أنه ما كان يفسر آية قرآنية من دون الاحتكام إلى الشعر الجاهلي. كما ان حفظ الشعر كان السبيل أيضاً إلى تعلمه والتمرس به: هذا ما تحققت منه في سيرة عدد من الشعراء الجاهليين؛ وهو ما عُرف أيضاً مع الإسلام منذ عهوده الأولى، بدليل أن شعراء عديدين في القرن الهجري الأول، مثل الفرزدق وجرير والطرماح وذي الرمة وغيرهم، ما انقطعوا عن رواية الشعر، فأفادهم حفظُه في تمثله وتقليده ونقد رواياته أحياناً: ابن مَتَّوبه كان راوية الفرزدق، والحسين راوية جرير، والسائب بن ذكوان راوية كثير عزة، ومحمد بن سهل راوية الكميت ابن زيد الأسدي، وكان للأحوص راويته، ولذي الرمة راويته. وتفيد الأخبار أنه كان للفرزدق أكثر من راوية، كما يرد في هذا الخبر عن أحد أقرباء الفرزدق: «فجئت الفرزدق (...) ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره، فأخذت من شعره ما أردت (...). ثم أتيت جريراً (...) وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد، فأخذت ما أردت». والفرزدق، على ما هو معلوم، روى كثيراً من أشعار وأخبار امرىء القيس، حتى أن بعضها متصل الإسناد حتى الجاهلية نفسها، هو الذي قال فيه الجاحظ إنه «راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم».
غير أن الاستمرار في هذا التقليد لا يغيب، أو لا يخفي، حقيقة النقلة الواسعة التي شهدها توالي العهود الإسلامية، وتمثلَ في تبلور حاجات ناشئة تطلبتها الحياة الجديدة، كما سهلها وقواها اتصال العرب بالورق (حسب الطريقة الصينية في إنتاجها) والوراقة منذ مطالع العهد العباسي. وهي حاجات متباينة إلا أنها تلتقي كلها على بناء «مرجعية الفصحى»، وعنوانها العام إعادة جمع الشعر الجاهلي، شعر الفحول والقبائل. فما الحاجات هذه؟
هي حاجات متعاظمة لحفظ الشعر وتوابعه ومتعلقاته من أخبار العرب وأنسابها، سواء لأغراض السمر والثقافة العامة، على ما نعرف من عادات معاوية وغيره من الخلفاء، أو لتأديب الأولاد بها، بعد أن ولدوا وترعرعوا بعيداً عن بيئات آبائهم وأجدادهم في الجزيرة. ففي المظان أخبار عديدة تفيد عن تعلق بني أمية بالمرويات القديمة، منها ما قاله الأصمعي: «كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريداً إلى العراق». وقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث (-84 هـ.): «قدم عبد الملك - وكان يحب الشعر - فبعثت إلى الرواة، فما أتت عليَّ سنة حتى رويت الشاهد والمثل وفضولاً بعد ذلك». وعناية عبد الملك بالشعر معروفة، ولا سيما في تربية أولاده، إذ وردت عنه أخبار تؤكد على طلبه رواية الشعر في التأديب، ومنها قوله: «روِّهم الشعر، روِّهم الشعر، يمجدوا وينجدوا». وفي الأخبار أيضاً أنه كان لمعاوية رواة يرتبون له الأشعار والأحاديث، وأنه كانت له مجالس ينشد هو فيها ما حفظه من شعر ويستنشد الرواة والعلماء والشعراء. ونتحقق في الأخبار هذه من أنهم كانوا يحفظون الشعر ويتناقلونه ويدعون إلى تعليمه في القرن الهجري الأول.
كما لبى حفظُ الشعر، أو استدعته، حاجات أخرى، واقعة في الدين أو في العلوم اللغوية، لتفسير القرآن الكريم، ولا سيما لأقوام غير عربية، أو للاستناد إليه في دراسة العلوم اللغوية الناشئة، من «نوادر» و«غريب» وغيرها. وهو ما ننتبه إليه في نقد بعض العلماء لجمع الأصمعي، إذ لاحظوا أنه لا يشتمل على الكثير من الغريب والنادر، فيقول ابن النديم: «عمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غريبها واختصار روايتها».
فنحن ننتبه، منذ القرن الهجري الثاني، إلى انصراف أعداد من العلماء إلى جمع مواد واسعة في غير مجال، كان الشعر واسطتَها وعلامتها، واشتملت على مشافهات وعمليات جمع في البادية، فأتت متفرقة ومختلطة أحياناً، كما في كتاب «النوادر» لأبي زيد الأنصاري، وأتت مبوبة ومصنفة أحياناً أخرى. وماذا عن جمع الشعر ضمن العملية هذه؟ يقول ابن سلام الجمحي: «وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية». وفي كتابه ما يفيد دوماً عن دور «أهل العلم» الذين باتوا يفحصون كل ما يردهم من روايات وأخبار وأحاديث وأشعار وسواها. ولقد ذكر ثعلب عن أبي عمرو الشيباني أنه «دخل البادية ومعه دستيجتان من حبر فما خرج حتى أفناهما بكَتب سماعه من العرب». ولقد وجدت في أعمال الجمع الأولى سعياً إلى تأليف «مرجعية الفصحى»، كما أسميتها، واتخذ التأليف أشكالاً ثلاثة: «انتخاب» أشعار فاخرة لأغراض مختلفة في التأديب والسمر، جمع متفرق لشعر القبائل، وجمع متفرق لبعض شعر الفحول.

 

1. ب. 1 : «انتخاب» الشعر الجاهلي
نجد في أخبار بني أمية معلومات أولى عن مساع بينة في جمع الشعر، بل في تصنيفه وتمييز الأجود من الجيد فيه، بل في انتخاب قصائد منه على أنها «أفضل» هذا الشعر. فهناك روايات مختلفة عن أسباب جمعِ ما جرت تسميته لاحقاً بـ«المعلقات»، بل عن أسباب اختيارها، وردت في كتاب طيفور، «المنظوم والمنثور»، نقلاً عن الحرمازي الذي نسبها إلى غيره: فرواية أولى تفيد أن من جمعها هو عبد الملك بن مروان، «ولم يكن في الجاهلية من جمعها قط»؛ ورواية ثانية تؤكد أن معاوية هو الذي دعا إلى جمعها، لكي يرويها ابنه. كما تختلف الروايات كذلك في عدد هذه القصائد: ففي الرواية الأولى (عن عبد الملك بن مروان) القصائد سبع، وتعود إلى: عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وسويد بن أبي كاهل («بسطت رابعة الحبل لنا») وأبو ذؤيب (أمن المنون وريبها تتوجع») وعبيد بن الأبرص («ان تبدلت من أهلها وحوشا») وعنترة («يا دار عبلة بالجواء تكلمي»)، وقصيدة أوس بن مغراء («محمد خير من يمشي على قدم»)، وفي الرواية الثانية (عن معاوية) أن مجموعها اثنتا عشرة قصيدة.
نتبين في هاتين الروايتين المختلفتين، بعيداً عن دقتهما، أن العمل الذي قام به هذا الخليفة أو ذاك عملٌ تجميعي لكنه لا يخلو من انتقاء: كيف لا، وعدد القصائد مختلف بين الروايتين؛ كما تفيد الرواية الأولى أن سليمان ابن عبد الملك بن مروان هو الذي أدخل قصيدة أوس بن مغراء («محمد خير من يمشي على قدم») في المجموع. ولا يخفى كذلك أن الرواية الثانية تتحدث عن عمل تربوي مطلوب من جمع هذه القصائد وتخيرها، وهو تربية ابن الخلبفة. أللتقاليد الأموية هذه تأثيرات على ما قام به وسعى إليه الجامعون، أم أن مساعي الجامعين أنفسهم هي التي دعت خلفاء بني أمية إلى الاستعانة بهم والطلب إليهم صنع مدونات مماثلة لما يفعلون، أو مغايرة، مما يلبي رغبات سلطانية في المقام الأول؟
لا يسع الدارسُ تقديم إجابة ناجزة عن هذا السؤال، ذلك أن الحاجات هذه ما وقعت في مجال واحد لكي تُحْكَم الأسباب بينها، عدا أن الحاجات استجابت إلى دواع مختلفة، وتتعدى في ما صدرت عنه قراراتِ حاكم أو عالم، لتطاول أموراً عديدة، واقعة في البلاط أو في حلقات المساجد، أو في عمل المجالس. ما يمكن قوله هو أننا نشهد، إلى جانب العادات الأموية المذكورة، قيام عدد من الرواة، مثل الأصمعي وحماد الراوية والمفضل الضبي وغيرهم، بجمع أعمال شعرية، لشعراء أو لقبائل.
الجمع هو المطلوب وإن لم ينتظم وفق «أساس معلوم في اختياره»، مثلما يصفه الأسد، بل يحكم واقعاً على ما جمعه المفضل الضبي في «المفضليات» والأصمعي في «الأصمعيات». ذلك أن الواعز إليها، بالإضافة إلى نقد الواصل من روايات الشعر الجاهلي، يميل إلى الإحاطة والتمام، أي ما بلغ الجامعَ من شعر جاهلي، بعد نقده والتحقق منه طبعاً. ويمكن التحقق في عمل الجامعين هؤلاء من أنهم سعوا إلى توسعة نطاق الجمع، وتنافسوا في ذلك: فالمفضل بن محمد بن يعلي الضبي (- 164، أو 168، أو 170 هـ.)، وهو معاصر حماد الراوية و«منافسه» (حسب عبارة بروكلمان)، وضعَ مختارات أوسع وأغزر من مختارات حماد الراوية. غير أن التنافس هذا لم يسلم دوماً من عمل اختياري، يتم فيه انتقاء أفضل الشعر، أو أنفسه، أو أجوده، ولا سيما عندما يتم الأمر تلبية لرغبة سلطانية: فلقد اختار الضبي، على ما هو معروف، للخليفة محمد المهدي 126 أو 128 قصيدة، وبينها مجموعة من المقطوعات لسبعة وسبعين شاعراً، وسمى مجموعته في الأصل «كتاب الاختيارات»، وسميت بعد ذلك، نسبة إلى جامعها، «المفضليات».
وهو ما يظهره أبو القالي في ما جرى بين الضبي والأصمعي كذلك. قال أبو علي القالي: «قال أبو الحسن علي بن سليمان: حدثني أبو جعفر محمد بن الليث الأصفهاني قال: أملى علينا أبو عكرمة الضبي المفضليات من أولها إلى آخرها، وذكر أن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعدُ على الأصمعي فصارت مئة وعشرين. قال أبو الحسن: أخبرنا أبو العباس ثعلب: أن أبا العالية الإنطاكي والسدري وعافية بن شبيب -وكلهم بَصْريون من أصحاب الأصمعي- أخبروه أنهم قرأوا عليه المفضليات، ثم استقرأوا الشعر فأخذوا من كل شاعر غيار شعره، وضموه إلى المفضليات، وسألوه عما فيه مما أشكل عليهم من معاني الشعر وغريبه فكثرت جداً».
لا يمكن الوصول إلى صورة دقيقة عن حقيقة جمع الشعر، بعد انتشار الورق والكتابة، بل يمكن تعيين مسعيين مختلفين وغير متناقضين بالضرورة في عمل الجامعين والمصنفين والشارحين، وهما: السعي إلى الإحاطة والجمع الأشمل، وهذا يصح، ربما، في شعر القبائل أكثر منه في شعر الشعراء؛ والسعي إلى اختيار الشعر «الأنفس» والأفضل. ومنشأ هذا الأمر قائم في الحاجات المختلفة التي لباها جمع الشعر: منها ما طُلب في التنافس بين القبائل، ومنها ما تم جمعه لإرضاء الخليفة، ومنها ما جرى جمعه لاعتبارات لغوية-دراسية، ومنها لاعتبارات واقعة في نقد الشعر وتثمينه، أي فرز الأجود من الجيد في مواده.

 

1. ب. 2 : شعر القبائل
إذا كانت الاختيارات الشعرية قد خضعت لاجتهادات أكيدة، فان عمل الجامعين لم يتقيد، عند جمع شعر القبائل، بهذه الحسابات الذوقية، بل استجاب لمقتضيات في الجمع «التام» إذا أمكن، وإذا ما توافرت مواده. ووجبت الإشارة في هذا السياق إلى أن فكرة حمع شعر قبيلة بعينها أمرٌ سابق على حماد الراوية، بدليل أنه عاد إلى «كتاب ثقيف» و«كتاب قريش» في الشعر. ولقد سعى الجامعون في اتجاهين: جمع شعر القبائل، وجمع شعر الشعراء الفحول. فماذا عن شعر القبائل؟
هذا ما نجد جواباً بيناً عنه في ما قام به عدد من الجامعين: فلقد جمع أبو سعيد العسكري، على ما ذكر ابن النديم، 28 ديواناً من دواوين القبائل؛ وصنع أبو عمرو الشيباني ديوان بني تغلب، وديوان بني محارب، وذكر عنه ابنه أنه جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة، وكل قبيلة في كتاب مستقل. وممن عملوا في صنع مجموعات القبائل أيضاً: أبو عبيدة المعمر بن المثنى الذي جمع أشعار القبائل في كتب عديدة، والأصمعي، وحماد الراوية، والمفضل الضبي، وخالد بن كلثوم الكلبي، ومحمد بن حبيب وغيرهم.
المعلومات عن شعر القبائل عديدة، وتثبت كلها اتساع العمل في جمع هذا الشعر، حتى أن ابن قتيبة قال: «لا أحسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها». وهو ما أتبينه في قول للآمدي يشرح فيه عودته إلى ستين ديواناً لستين قبيلة عوَّل عليها عند وضع كتابه؛ كما أتحقق في قول الآمدي هذا من عدم اشتمال الدواوين هذه، على الرغم من سعتها، على شعرٍ وجده في متون أخرى. وهو ما يؤكد قولاً سبقه إليه محمد بن سلام الجمحي: «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير».
واللافت في أمر هذه الكتب هو أنها ما كانت تحمل في عناوينها تسمية «الديوان»، بل غيرها، إذ أطلقوا عليها تسميات كهذه: «أشعار بني فلان»، أو «شعر بني فلان»، أو «كتاب بني فلان»، على ما ورد عن أسماء كتبهم في كتاب «المؤتلف والمختلف» للآمدي. ويشتمل كتاب القبيلة على شعر القبيلة أو بعضه، وأخباراً وقصصاً وأحاديث، وفيها النسب كذلك.
وتفيد الأخبار أن الجامعين الأوائل، مثل الأصمعي وحماد وأبي عبيدة معمر ابن المثنى وغيرهم، عملوا على شعر القبائل. ويخلص الأسد إلى ترجيح أن «هذه الدواوين كانت مدونة في القرن الأول نفسه»، وأنه لم يصلنا من هذا المجموع الهائل سوى كتاب واحد، هو ديوان هذيل، الذي ينتهي الأسد بعد دراسته إلى القول: «ان ما بين أيدينا من شعر هذيل غير كامل».

 

1. ب. 3 : شعر الفحول
كما تفيد الأخبار، والمجموعات المتوافرة من الشعر الجاهلي، أن الجامعين الأوائل، مثل الأصمعي وغيره، عملوا على جمع شعر امرىء القيس وسواه؛ وهو ما يمكن التحقق منه لو جرت العودة إلى الروايات التي بلغتنا عن شعر امرىء القيس: أول ما وصلنا من الروايات الست عشرة لديوان امرىء القيس، في الروايات البصْرية، هي رواية الأصمعي الكاملة وأخرى ناقصة لأبي عبيدة، وهما رواية واحدة أو روايتان متقاربتان؛ وأول ما وصلنا من الروايات الكوفية رواية المفضل بن محمد الضبي (- 168 هـ.)، وجاءت عبر تلميذيه: أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني (- 206 هـ.) وأبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي (- 231 هـ.)، وحفظها أبو الحسن علي بن عبد الله بن سنان الطوسي (- 250 هـ.). يتحقق الأسد من الروايات كلها التي بلغتنا عن شعر امرىء القيس ويرى أن المصدرين الأسياسيين والأولين لها هما: رواية الأصمعي البصري ورواية المفضل الكوفي. ويرى كذلك أن رواية الأصمعي معروفة الأصل: يقول أبو حاتم: «قال الأصمعي: كل شيء في أيدينا من شعر امرىء القيس فهو عن حماد الراوية، إلا نتفاً سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء». ويتحقق الأسد من أن رواية الأصمعي تعتمد بعض الشيء على صحائف متفرقة، أو على دواوين مجموعة، كانت عند هذين العالمين (حماد الراوية وأبو عمرو بن العلاء)، وربما وصلتهما من العصور السابقة علىهما، فضلاً عن اعتمادهما على السماع والرواية الشفوية. أما رواية المفضل الضبي فتبدو كذلك متصلة بالمدونات التي وصلت إليه من العصور السابقة.
لا يمكن التأكد من حال المدونات التي بلغت الأصمعي والمفضل، أو الرواة قبلها، وصولاً إلى جامعها الأول. فقد قام عملهما على نقدِ وتحقيق ونخل وتمحيص ما بلغهما من قصائد، وما استقياه من المصادر التي عملا عليها، من دون أن يبلغنا ما يفيد عن اختياراتهم هذه؛ وأرجحُ الظن أنهما كانا يجمعان أوسع ما يصلهما من شعر شاعر، بعد التحقق منه. ويقول الأعلم عن رواية الأصمعي: «اعتمدت فيما جلبته من هذه الأشعار على أصح رواياتها، وأوضح طرقاتها، وهي رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي، لتواطؤ الناس عليها، واعتيادهم لها، واتفاق الجمهور على تفضيلها، واتبعت ما صح من رواياته قصائد متخيرة من رواية غيره».
ولقد ذهب بروكلمان في التفسير منحى جعله يقول إن توصل الجامعين إلى جمع شعر شاعر قد يعود إلى توافر شعره ليس إلا: «اختار قدامى الأدباء ستة من شعراء الجاهلية، جعلوها في المرتبة الأولى من التفوق والشهرة. ولعلهم فضلوهم على غيرهم لأنهم هم الذين أمكنهم أن يجمعوا لهم دواوين أطول وأكمل».

 

1 . ج : المنتخب المعلل
وما أريد الخلوص إليه هو أن جمع الشعر في مجموعاتٍ طالبةٍ للتمام والإحاطة (من دون أن تكون تامة، ولا محيطة بمجموع شعره بالضرورة)، في شعر شاعر أو في قبيلة، يرقى، على ما أرجح، إلى العهد الأموي، وإلى تأكد مقام الراوي-الجامع وتكريسه. وهو ما يظهر جلياً في مساعي حماد الراوية والأصمعي والمفضل الضبي وغيرهم.
ويمكن بالتالي، بعد الجمع المتفرق للشعر الجاهلي بأشكاله المختلفة، الوقوف عند نقلة ثانية، أي عند تصنيف شعر ما بعد الجاهلية الذي خضع لحسابات شعرية في المقام الأول، ولصراعات بين الشعراء، ولمعايير ناشئة في التمايز أو «الموازنة». إلا أنه وجب الإيضاح، بداية، أنه ما كان للعمليات هذه أن تتأكد لولا توافر أعداد كبيرة من مواد الشعر السابق، ومن شعر المحدثين كذلك. ذلك أن عمليات جمع الشعر ما توقفت أبداً، وتكدست المجموعات في الخزانات، بدليل أن أبا تمام (- 231 هـ.) وجد أمامه في همذان «خزانة كتب»، لا كتاباً أو كتابين، عندما شرع في وضع كتاب «الحماسة». فالكتاب هذا، في حساب العديدين، هو أقدم المختارات الشعرية المرتبة على «معاني الشعر» (وهو ينقسم، واقعاً، إلى خمسة كتب، أشهرها كتاب «الحماسة» الذي بات يختصر عند المتأخرين تسمية الكتاب كله، علي أساس تسميته بأول أبوابه). ويربط كارل بروكلمان بين هذه المختارات وبين استحسان العباسيين للقصائد القصيرة، إذ استحسنوها «واكتفوا بتذوق القطع المختارة». إلا أن هذا الذوق ما كان له أن ينصرف إلى عمليات الانتقاء والتخير إلا بعد تكدس الشعر المجموع في الخزانات من دون شك. كيف لا، والأخبار تفيد، قبل أبي تمام، أن المفضل الضبي ترك بين يدي ابراهيم بن عبد الله (نحو 145 هـ.) «قمطرين فيها أشعار وأخبار».
أما «الحماسة» لأبي تمام فقد بني اختيارها على أبواب المعاني: باب للحماسة، أول الأبواب وأكبرها، باب للمراثي، باب للأدب، باب للنسيب، باب للهجاء، باب للأضياف والمديح، باب للصفات، باب للسير والناعس، باب للملح، باب لمذمة النساء. وما يستوقف في هذا السياق، بعيداً عن صحة تسمية هذه الأبواب، هو سعي أبي تمام إلى التصنيف والترتيب، مما لا يقع في عمليات الجمع وحسب، بل في تصور الشعر كذلك. صنع أبو تمام مختاراته، على ما سأوضح أدناه، من غير كتاب بعد أن توافرت له مدونات الشعر، لا رواياته، واستخرج منها بالتالي ما يناسب ذوقه الشعري. وهو ما نعرفه من المرزوقي، شارح «الحماسة»، الذي استعاد هذا الكتاب بعد مئتي سنة على وفاة أبي تمام. يقول المرزوقي: «هذا الرجل (أى أبو تمام) لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الإغفال، ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه، المجيب لكل داع، فكان أمره أقرب؛ بل اعتسف في دواوين الشعراء جاهليهم ومخضرهم وإسلاميهم ومولدهم، واختطف منها الأرواح دون الأشباح، واخترف الأثمار دون الأكمام، وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه، لأن ضروب الاختيار لم تخفَ عليه، وطرق الإحسان والاستحسان لم تستر عنه، حتى أنك تراه ينتهي إلى البيت الجيد في لفظة تشينه، فيجبر نقيصته من عنده، ويبدل الكلمة بأختها في نقده، وهذا يبين لمن رجع إلى دواوينهم، فقابل ما في اختياره بها».
و«اختيارات» أبي تمام لم تقتصر على الكتاب المذكور فقط، بل شملت غيره: «الحماسة الصغرى»، وهو مبوب مثل الكتاب السابق، ويسمى أيضاً «الوحشيات»؛ و«فحول الشعراء»، وهو مجموعة من الأشعار لشعراء جاهليين وإسلاميين، مرتبة حسب الموضوعات؛ و«مختار أشعار القبائل». ويتضح من عناوين الكتب هذه أن الشاعر أقدم على الانتقاء، بل على جمع الشعراء الجاهليين بالإسلاميين، وهو ما قام به عدد من الجامعين قبله، ولكن في نطاقات محدودة للغاية.
ولقد حاول البحتري (- 284 هـ.) محاكاة صنيع أبي تمام، فاتخذ سبيلاً مختلفاً، وأكثر من الأبواب (174 باباً). وكانت الوحدة المعتمدة في الاختيار عند أبي تمام والبحتري هي في الغالب المقطوعة أو عدد من أبيات مختارة من قصيدة طويلة. ويختلفان في هذا عن معاصر لهما، ابن أبي طاهر طيفور، صاحب كتاب «المنظوم والمنثور»، الذي اعتمد فيه تمييز النظم والنثر على درجتين: المفرد في الإحسان، والمشارك بعضه بعضاً في الإحسان. ويفسر إحسان عباس هذا السبيل في الاختيار بقوله: «لذلك رأى بعض المشتغلين بالشعر ممن لا يقفون موقف العداء من الشعر المحدث أن يبرزوه للناس بعمل مختارات منه، فكانت من ذلك كتب الاختيار التي ظهرت في ذلك القرن» (أي القرن الثالث الهجري). ويذكر منها: كتاب «البارع» لأبي عبد الله هارون بن علي عن شعر المحدثين، وكتابه الآخر «كتاب اختيار الشعراء الكبير» الذي أتم منه شعر بشار وأبي العتاهية وأبي نواس. ويمكن ذكر عدد من كتب الاختيار لأحمد بن طيفور: شعر بكر بن النطاح، ودعبل، ومسلم، والعتابي، ومنصور النمري، وأبي العتاهية وبشار وغيرهم؛ وكتاب «الروضة» للمبرد الذي اختار فيه شعر المحدثين، وكتاب «أخباراللصوص» للسكري الذي جمع فيه أشعار لصوص البدو المشهورين.
فبعد الجمع المتفرق، مثلما تحققت منه مع حماد والأصمعي والمفضل الضبي وغيرهم، نشهد في مدى القرن الهجري الثالث أعمال جمع مختلفة، مع أبي تمام وغيره، تقوم على انتقاء النفيس من الشعر، وفي مقطوعات قصيرة في الغالب. وهو ما أجده خصوصاً في كتاب «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي الذي قام على مسعى متبلور في الفرز، إذ قسم أشعار العرب وفقاً لحسابات واقعة في الجودة والنفاسة. وهو ما ينقله المفضل بن عبد الله المجبري عن القرشي: «قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وأنفس شعر كل رجل منهم». ولقد جُمعت «جمهرة أشعار العرب» في أواخر المائة الثالثة للهجرة، وهي مجموعة سباعية تشتمل على سبعة أقسام، أولها المعلقات السبع، وتحمل الأقسامُ الستة الباقية العناوينَ التالية: المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثي، المشوبات والملحمات. وسبق ذلك كله مقدمة في المجازات واختلاف العلماء في تفضيل بعض مشاهير الشعراء.
انقطع الشعراء عن الجمع بالتالي، وانصرفوا إلى اختيارات في متن بات متوافراً، وهو ما ألتمسه في صورة أجلى في ما قام به طيفور نفسه، الذي أجرى اختياراته على أساس «المفرد»، أي «ما ليس لأحد مثله»، مثل قصيدة «أمن آل نعم...» لعمر بن أبي ربيعة، على سبيل المثال، أو مثل قصيدة جراد العون النميري («ذكرت الصبا فانهلت العين تذرف») لأنها «من الشعر المقدم في الغزل الذي لا نعرف له مثلاً في جاهلية ولا إسلام». وهو ما نعرفه عنه حينما انقطع أياماً عن مجلس أبي الحسن علي بن هارون المنجم، فلما عاد إليه أخبره أنه كان متشاغلاً باختيار شعر امرىء القيس، فقال له أبو الحسن ابن المنجم: «أما تستحي من هذا القول؟ وأي مرذول في شعر امرىء القيس حتى نحتاج إلى اختياره».

 

1 . د : الجمع الأوفى
كيف يمكن الحديث عن عمليات جمع أوفى بعد أن سقت القول أعلاه عن عمليات انتخاب وانتقاء؟ وكيف للجمع أن يأتي بعد الانتخاب؟ السؤال منطقي وبديهي من دون شك، إلا أنه لا يُظهر واقعَ هذه العمليات تماماً، وهو أنها عرفت في كيفيات متداخلة عمليات الجمع وعمليات الانتخاب. ومع ذلك لا يسعني تغييب ترجيحي وهو أن عمليات الجمع اتبعت مساقاً أجده في تتابع العمليات التي عرضتها أعلاه، وهو ما حققه سبيل العرض. وضمن هذا المنظور أيضاً يمكن الترجيح بحصول عمليات لاحقة، ومتعلقة بها كذلك، وهي عمليات الجمع الأوفى، ما كان يمكن أن نسميه بعمليات التصنيف والترتيب كذلك. فنحن نشهد في عمل عدد من الجامعين، مثل أبي بكر الصولي خصوصاً، وفي مجموعات الشعراء «المفردين» تحديداً، سعياً بيناً إلى تجميع أوسع الشعر، بعد فحصه ونقد رواياته، وإلى تصنيفه وفق مداخل بعينها، وقد أجملتها في ثلاثة:

- الترتيب الهجائي : رتب أبو بكر الصولي ديوان ابن الرومي على حروف الهجاء، وهو ما فعله كذلك في ديواني البحتري وأبي تمام. واعتمد هذا الترتيبَ أيضاً ابن جني (-392 هـ.) في ترتيب ديوان المتنبي (303-354 هـ.).

- الترتيب على أساس الأغراض : رتب علي بن حمزة الأصفهاني (المتوفي في بداية القرن الرابع الهجري) ديوان البحتري على أساس الأغراض الشعرية، وديوان أبي تمام على أبواب مختلفة من أغراض الشعر؛ وجمع أبو القاسم هبة الله بن الحسين الاسطرلابي (-534 هـ.) شعر ابن الحجاج (-291 هـ.) في مائة وعشرين باباً.

- الترتيب الزمني : اشتمل ديوان الشريف الرضي (359-406 هـ.) على أشعاره في كل سنة بين 374-405 هـ.

 

2 : من القصيدة إلى المجموعة
أخلص من هذا العرض إلى القول: إن معرفتنا بجمع الشعر، وبعمليات ترتيبه، تبقى مرهونة بمدى قدرتنا على معرفة تاريخ التدوين في العربية القديمة، وبمدى توصلنا كذلك إلى معرفة أنماط التأليف نفسها، أي الخلوص (أو عدم الخلوص) إلى فكرة الكتاب نفسها: أهو جمع مواد متفرقة أم هو تأليف مخصوص في موضوع أو مسألة بعينها؟ كما أخلص إلى القول أيضاً: ان الهيئات المختلفة في جمع الشعر، بين جمع متفرق بعد تنقيح وحذف، وبين اختيارات منتخبة، سواء للشعراء أو لمجموعات القبائل أو لفئات بعينها من الشعراء مثل «المحدثين» وغيرهم، عرفت أشكالاً ترتيبية انتهيتُ إلى فرزها في ثلاثة أنماط: جمعُ الشعر على أساس الأغراض، وعلى أساس الترتيب الأبجدي للقوافي، وعلى أساس الترتيب الزمني لوضعها.
كما أخلص إلى القول إن عمل الشاعر متصل بعمل الراوي في صورة محكمة: فهو حافظ الشعر، وناقله بالتالي؛ وهو ما يمكن التأكد منه في ما وصل من شعر الشعراء، حيث أنها خضعت في ترتيبها إلى ما قرره الرواة، وبعدهم الجامعون أنفسهم. وهذا يعني أننا لا نجد في الهيئات المادية المتوافرة من هذا الشعر ما يدل - إلا في صور محدودة، على ما سنأوضح أدناه - على مقاصد واستهدافات بعينها طلبَها الشاعر في تقديم شعره.
غير أن دور الراوي، ومن بعده الجامع العالم، لا يقتصر على الحفظ فقط، بل يشمل أيضاً تعديل القصيدة وربما تنقيحها، على ما وصل من أخبار بعض الرواة الذين أعملوا أيديهم في التنقيح والحذف وتصحيح للسناد في القوافي وغيرها. وتبدو دواوين بعض الشعراء، في التصحيحات والتدقيقات هذه، شبيهة بدواوين بعض الشعراء الفرنسيين، على سبيل المثال، بعد وفاتهم، أي تبدو حافلة بمعلومات وتدقيقات، مفيدة في أية مقاربة «تكوينية». فعملُ بعض الجامعين على نقد الروايات التي حفظت هذه الأشعار يشكل مساهمة مفيدة في التحقق من تكوينها، وفي رفض الطارىء أو المقحم عليها والمنحول منها. إلا أن المساهمات هذه ظلت دون ما تطلبه شروط الدراسة التكوينية. فصنائع الشعراء والرواة ظلت مقيدة بفكرة الديوان «الحافظ» للشعر، لا المساهم في تكوينه وإنتاجه. فالراوي يقوم عمله على جمع الشعر، على حفظه من التفرق والتشتت، وعلى إيصاله في صورة سليمة ومطابقةلما قاله الشاعر في مدى حياته، من دون أن يوفر جمعُ هذا الشعر في تتابع قصائده ما يفيد عن تعالقات بين قصائده أو عن أسباب تكوينية تخص مجموعات من القصائد مع بعضها البعض ومن دون غيرها. فالديوان لا يحتفظ، إلا فيما ندر، بترتيب زمني لوضع القصائد، مثلما فعل الشريف الرضي، وإلا لكان الترتيب قد أفاد في تتبع التصور الشعري عند الشاعر. أما الفائدة فمعدومة إذا ما تم توزيع القصائد حسب الترتيب الأبجدي للقوافي!
الديوان بمعناه القديم حافظ، لا يفيد في ترتيبه، إلا فيما ندر، عن تكوين هذا الشعر: هو مجموع سيرة الشاعر وسجله الثبوتي. ولكن هل كان في تصورات الشعر، أو في وقائعه، ما يساعد على وجود تعالقات بين القصائد، فيأتي تقديم الشعر في مدونة ليظهرها ويجلوها؟
لا، في غالب الأحوال، ذلك أن الشاعر ما كان يكتب نتاجاً متتابعاً، أو مقطعاً في مراحل، وإنما كان يضع قصائد، في «مناسبات» أو أحوال خصوصية، وإن كان يرجع أحياناً إلى ما كتبه هو أو غيره من أشعار في هذا الموضوع أو ذاك. نقع في أشعار العديد من الشعراء على «سرقات» أو «معارضات» أو تناولات، مشابهة لما سبق أن قالوه أو قاله غيرهم، إلا أن هذه الأسباب التي ترسم تعالقات بين القصيدة والقصيدة في نتاج الشاعر نفسه أو مع غيره، لا تؤدي، وما أدت في واقع الحال، إلى بروز حاجة إلى جمعها مع بعضها ومن دون غيرها.
فالهيئة المادية التي يخلص إليها الشعر، أي الديوان الحافظ، وأشكاله الترتيبية الثلاثة (ترتيب القرافي أبجدياً، الترتيب الزمني وترتيب الموضوعات) سنجدها في توالي عمليات جمع الشعر وتصنيفه في العصور الأدبية اللاحقة، وذلك حتى القرن التاسع عشر، على الرغم من دخول الطباعة (على الحجر، بداية، وغيرها) إلى الولايات العربية المختلفة وانتشار الكتب فيها، ومنها الشعرية، على نطاق أوسع مما كان عليه في عهد الوراقة. فما نقول عن دواوين العصر الذي دخلت فيه الطباعة، بعد عهد مديد من الوراقة؟ هل تغيرت أشكال جمع الشعر في مدونات عما كانت عليه؟

 

2 . أ . على نسق القدماء
إن العودة إلى المطبوعات الشعرية في مدى القرن التاسع عشر ليست بالميسرة أبداً، عدا أن نشرها من جديد قد لا يحافظ دائماً على الهيئة الأولى للجمع، مثلما تحققت من ذلك في «ديوان البارودي» على سبيل المثال. ولكن ما يخفف من حجم هذه المشكلة هو أن دراستي لا تستدعي أو لا تطلب، في بعض الأحيان، سوى الوقوف عند عناوين كتب الشعر ليس إلا. وما يعنيني في المقام الأول أقوى على العثور عليه - أي الوقوف على «ترتيب» الأعمال الشعرية ووضعها في دواوين أو مجموعات شعرية مفردة ومستقلة - عند مراجعة عدد من تراجم الشعراء المشمولين بالدرس، أو في «معجم المطبوعات العربية والمعربة» الذي وضعه بوسف اليان سركيس، وصدر في طبعته الأولى في العام 1928، واشتمل على «ثبت شامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والغربية مع ذكر أسماء مؤلفيها ولمعة من ترجمتهم وذلك من يوم ظهور الطباعة إلى نهاية السنة الهجرية 1339 الموافقة للسنة 1919 ميلادية»، حسب العنوان الفرعي للكتاب.
ولقد اعتمدت أيضاً على تراجم موضوعة بعد وفاة هؤلاء الشعراء في غالب الأحيان، ما يقدم شهادات نقدية مزامنة للتجارب الشعرية نفسها، أو على نبذات تعريفية موضوعة، هي الأخرى، في سنوات غير بعيدة عن الحقبة التي يتم درسها. والعودة هذه تفيد في صورة مزدوجة: في التعرف على هؤلاء الشعراء في صورة موثقة (خاصة وأنه أُعيد طبع كتب بعضهم من دون أن تحتفظ في أحيان كثيرة بصيغتها الطباعية الأولى، واللازمة في هذا الفحص)؛ وتفيد في كونها مدونات نقدية مزامنة للكتب نفسها، ما يعد قراءة نقدية أولى لها في هذه الحقبة التاريخية.
غير أنني وجدت ضرورة، قبل تناول الكتب الشعرية بالدرس، لطرح مسألة أولى، ملازمة بل تمهيدية لهذا الفحص، وهي معرفة ما إذا كان الشاعر هو الذي جمع كتابه الشعري بنفسه، أم قام بذلك غيره، وما إذا جمع شعره في كتاب في حياته أم قبل سنوات على وفاته. ففي الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يمكن التوصل إلى معرفة، بل إلى تعيين معلم أساسي في عملية الترتيب الشعري: قد يكتفي الشاعر بإلقاء قصائده في مناسبات، على سبيل المثال، علي أن يضمها لاحقاً ديوانه الحافظ، وقد يلقيها ويقدم على نشرها في جريدة، أو في كتاب (بعد توافر الطباعة وذيوع النشر) وقد لا يلقيها أبداً، بل يعدها للنشر وحسب في كتاب. وهي مسألة تقع، بأبعادها وتشابكاتها المختلفة، أبعد من حدود الترتيب، إذ تشمل صلة الشاعر بقصيدته، وصلة القصيدة بالزمن، وصلة القصيدة بالتلاوة والنشر. فماذا لو أبدأ بفحص هذه الأبعاد والتشابكات.
إن العودة إلى الكتب الشعرية الأولى، المطبوعة في القرن التاسع عشر، تُظهر بأنها لم تبصر النور إلا بعد انصراف بعضهم، من أقرباء الشاعر أو أصدقائه، إلى تجميعها وتنقيحها ودفعها إلى الطبع، مثلما فعل سليم ناصف في سنة 1898 حين جمع شعر بطرس كرامه (1774-1851) وطبعه في «المطبعة الأدبية». هذا ما قام به ابن الشاعر محمد الشهال الطرابلسي (- 1892)، الذي جمع شعر أبيه في «عقد اللآل من نظم الشهال» (طرابلس، 1312 هـ.). وهذا ما صنعه بعضهم في شعر الشيخ محمد الهلالي (1819-1894)، والشيخ مصطفى سلامه النجاري، تلميذ الشاعر جبرائيل المخلع الدمشقي (-1853)، المعروف بكونه شاعر عباس الأول، إذ جمع مجمل كتاباته، بين شعر ونثر، في ثلاثة كتب، منها كتاب «الاشعار بحميد الأشعار»، المطبوع على الحجر في مصر، في سنة 1284 هـ. . وهو ما أصاب شعراء لاحقين عليهم، مثل معروف الرصافي الذي تولى محي الدين الغلاييني طبع قصائده وتبويبها وتفسير ألفاظها، في العام 1910، وحمل عنوان: «ديوان الرصافي»، أو «الرصافيات».
إلا أنني أقع في قوائم كتب القرن التاسع عشر على كتب أخرى قام بدفعها إلى المطبعة المؤلفون أنفسهم، مثل شهاب الدين محمد بن اسمعيل (1803-1857) وكتابه «سفينة الملك ونفيسة الفلك»، الذي ضمنه مجموعة من الزجليات والموشحات والأهازيج والموالي التي «يتغنى بها أرباب الفن في مجالي الأفراح ومعاهد السرور»، ولما أتمه في سنة 1259 هـ. قال في تاريخه:
«هذه سفينة فنٍ بالمنى شُحنت والفضلُ في بحره العجاج أجراها
وإذ جرت بالأماني فيه أرَّخها سفينة البحر بسم الله مجراها»
أو يوسف الشلفون (1840-1895) الذي جمع شعره في ديوان، ودعاه «أنيس الجليس» في العام 1874؛ أو سليمان الصوله (1814-1899)، وله ديوان واسع في 382 صفحة طبعه في مصر في سنة 1894، واعتذر في مقدمته أنه «برضٌ من عدٍ ومجموع صغير، بقي من ديوان كبير، غادرته اللصوص، بين محروق ومقصوص، فقال وهو يتعزى: إذا ما كان لي ابل فمعزى»؛ ثم أضاف إليه ما جد عليه من النظم فطبعه «مفضلاً القليل المقبول على الكثير المرذول»؛ أو الشاعر قسطاكي الحمصي (1858-1941) الذي جمع شعره في ديوان سماه «السحر الحلال في شعر الدلال».
واشتملت عمليات الجمع، بمبادرة من الشاعر أو من معارفه، على مجمل شعره، بعد أن تم تنقيحها أو حذف بعضها قبل دفعها إلى الطبع، في حركة تشير إليها في صورة بينة عناوين الكتب. فهي عناوين تميل إلى ثلاثة تعيينات: تعين اسم الشاعر أحياناً (ديوان الشهال أو الرصافي) و/أو تعين صنف الكتاب ونوعه (هذا يصح في الإشارة إلى أنه «شعر» أو «نظم»)، و/ أو تروج له (هذا يصح في إطلاق تسميات، مثل «أنيس الجليس»، أو «عقد اللآل»، أو «الدر المنظوم»، أو «الطراز الانفس»، على الكتب). ولقد وجدت، في مراجعة كتب الشعر في القرن التاسع عشر، الأنماط الثلاثة التي تبينتها في جمع الشعر القديم، وهي:

- الجمع على الترتيب الهجائي، كما في الكتب التالية: ديوان علي أبو نصر المنفلوطي (-1880) المطبوع في مصر في سنة 1300، وديوان الشيخ شهاب الدين المصري (-1857)، المطبوع في مصر في 1277 هـ.، وديوان محمود سامي البارودي وغيرها الكثير.

- الجمع على أبواب المعاني، كما في الكتب التالية: ديوان عبد الفتاح اللاذقي (من مواليد 1842)، «سفير الفؤاد»، المطبوع في بيروت، في مطبعة جمعية الفنون، في العام 1880، وجعله الشاعر في أربعة أركان، هي: في المدائح والتوسلات، وفي امتداح السادات، ثم في التهاني والمراثي، وأخيراً في القدود والموشحات؛ وديوان الشيخ محمد الهلالي (1819-1894)، الذي ضم أبواباً حسب معاني الشعراء من مديح وتهانىء ورثاء وتواريخ؛ وديوان محمود صفوت الساعاتي (-1880)، المطبوع في سنة 1912 والمرتب على الموضوعات؛ ومثله ديوان ابراهيم مرزوق المصري (-1866)، المطبوع في مصر، في 1287 هـ؛ و«ديوان الرصافي»، المرتب على أربعة أبواب، هي: في الكونيات، في الاجتماعيات، في التاريخيات، وفي الوصفيات.

- الجمع على الترتيب الزمني، كما في الكتب التالية: «العصر الجديد» لخليل الخوري، وهي مجموعة شعرية، لا ديوان، أصدرها الشاعر في العام 1863 (بيروت، المطبعة السورية)، ورتب القصائد وفق تواريخ وضعها.

 

 

2 . ب : المجموعة المختلطة والمستقلة
تحققت في الكتب المذكورة من كونها تشتمل على مجموع شعر الشاعر، وعلى المنتقى منه بعد تنقيح وحذف، إلا أنني وجدت في الكتب الشعرية المطبوعة في القرن التاسع عشر ما يفيد عن وجود ديوانين أو أكثر للشاعر الواحد: شعر الشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871) متفرق في ثلاثة («النبذة الأولى»، «نفحة الريحان»، و«ثالث القمرين»)؛ ولأبي حسن الكستي (1840-1909) ديوانان: «ديوان مرآة الغريبة» (طُبع على نفقة سليم رمضان، في العام 1880) و«ترجمان الأفكار» (المطبوع في 1299 هـ.)، ولعبد الله نديم (1844-1896) ثلاثة دواوين كبيرة. هذا ما يدعو إلى طرح التساءل: هل الدواوين هذه كتب مختلفة كالتي نعرفها عند شعراء اليوم، أي مجموعات متفرقة ومتباينة، أم هي «نبذات» مختلفة من مجموع نتاجهم جرى توزيعها في أكثر من كتاب، ولو على فترات متباعدة؟
لن أستمر في التخمين أو الترجيح، ذلك أن ما يعنيني واقع في ميدان أخر، أو يمكن التحقق منه في مساءلة الكتاب الشعري المطبوع عما يتضمنه من قصائد. فلو وقفت عند كتب جبرائيل المخلع الدمشقي (-1853) لوجدت أنها تتوزع على ثلاثة أبواب: الأول في الصناعات، وهو مرتب على السنين، والثاني في غير المصنع، ورتبه على حروف المعجم، والثالث في النثر والأدوار، وهو «الإشعار بحميد الأشعار» (المطبوع على الحجر في مصر سنة 1284 هـ.). وهو ما نمتلك صورة أوضح عنه لو درسنا كتب محمد عياد الطنطاوي (1810-1861) التي يمكن تسميتها بالكتب «المختلطة». فنحن لا نستطيع القول إن فكرة تأسيس «الكتاب» كعمل مشتمل على موضوع بعينه، لا على جمع متفرق، قد تبلورت تماماً في مدى القرن التاسع عشر. ولي في أسماء كتبه وفي موضوعاته خير دليل على ما أقول: فالطنطاوي أخرج كتاباً بعنوان «أحسن النخب في معرفة لسان العرب»، ويدور الكتاب على ألفاظ وجمل وحكايات ورسائل تبودلت بينه وبين أصدقائه في مصر، وقد أرخت بعض هذه الرسائل بتاريخ سنة 1257 هـ. (1841). وهو ما أقع عليه عند غيره، إذ شملت كتبهم على مجموع ما كتبوه، وإن في أنواع أدبية مختلفة، مثلما فعل رزق الله حسون الحلبي (1825-1880) في بعض كتبه: في «النفثات» قسمان، أولهما في تعريب قصص كريلوف، شاعر الصقالبة، ووضعها على طريقة بيدبا الهندي ولافونتين ولقمان في حكاياته، وعربها نظماً (في 41 قصة تقع في 69 صفحة)، وثانيهما نخبة من منظوماته، من تواريخ ومدائح وشكوى وأوصاف (في 84 صفحة بقطع وسط)، وطبعهما في لندن، في العام 1867. هذا ما أقع عليه أيضاً في بعض كتب فرنسيس المراش (1835-1874)، «مشهد الأحوال»، وهو كتاب اجتماعي، نثري وشعري في آن.
غير أن دخول الطباعة وترجمة الكتب ومحاكاة الأدباء الأوروبيين في صناعاتهم الكتابية أدت إلى إصدار كتب مستقلة: محمد عثمان جلال (1829-1898) نقل أمثال لافونتين شعراً إلى العربية وأخرجها في كتاب دعاه «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ». هذا ما فعله الشيح خليل اليازجي (-1889)، في «رواية المروءة والوفاء»، وهي شعرية تمثيلية مبنية على حكاية حنظلة والنعمان، وقلد فيها شعر الإفرنج، في نحو ألف بيت، وجرى تمثيلها في بيروت في سنة 1878، وطبعت فيها في سنة 1884، ثم في مصر سنة 1902. هذا ما يمكن قوله في كتاب رزق الله حسون (1825-1880)، «أشعر الشعر»، المطبوع في المطبعة الأميركية في بيروت، في 1869 و1870، وأودعه نظم سفر أيوب ونشيد موسى في الخروج ونشيده في التثنية ثم سفر نشيد الأناشيد لسليمان وسفر الجامعة وختمه بمراثي إرميا، أو في كتابه الآخر، «النفثات» (لندن)، الذي ضمنه أربعين مثلاً من أمثال أحد الكتبة الروس، فنقلها إلى العربية نظماً، وألحقها ببعض مقاطع شعرية من نظمه.
هذا ما يمكن أن أطلقه على عدد من الكتاب، مثل فرنسيس المراش (1836-1873)، الذي انصرف إلى تأليف الكتب وفق موضوعات بعينها وأصدرها في المطابع تباعاً: فهو انتقل، على سبيل المثال، بعد دراسته الطب في حلب، إلى باريس في سنة 1866، فوصف سَفره في كتاب طبعه في السنة التالية، وأصدر بعده عدداً من الكتب المتفرقة الموضوعات، مثل: «المرآة الصفية في المبادىء الطبيعية» (حلب، 1861) فيه أصول علوم الطبيعة؛ و«شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة»، وهو كتاب مبني على مبادىء العلوم الطبيعية؛ و«غابة الحق» (حلب، 1865)، وجمع فيه بين الفلسفة والآداب؛ و«مشهد الأحوال» (بيروت، 1883)؛ ورواية «در الصدف في غرائب الصدف»، و«خطبة في تعزية الكروب وراحة المتعوب»، وكتاب «الكنوز الغنية في الرموز الميمونية» (1870)، وهي قصيدة رائية في نحو خمسمائة بيت ضمنها رموزاً على صورة رواية شعرية؛ ومن نظمه أيضاً «ديوان مرآة الحسناء» (طبعه له محمد وهبه سنة 1872 في «مطبعة المعارف» في بيروت).
يقول مارون عبود في ديوان فرنسيس المراش «مرآة الحسناء» (1872)، الواقع في 348 صفحة: «لو طبع كما تطبع دواوين اليوم لفصلنا من ذلك القماش دواوين عدة، واستقلت كل من مواضيعه بديوان خاص به، ولكنه طبع في ذلك الزمان، يوم لم يكن هذا التنظيم والترتيب الذي يكثر ورقه ويقل كلامه». وتفيد مقدمة الكتاب عن جمعه لشعره، إذ يقول: «الحمد لله الذي ألبس الشعر جمالاً وجلالاً، وجعل فيه البيان سحراً حلالاً، فطابت النفوس في جنات أزهاره، ورقصت الألباب بكؤوس عقاره»؛ ثم يضيف: «وقد رتبته (الديوان) على حروف الهجاء، متجرداً من المدح والهجاء، فإن المدح إطراء ورياء، والقدح حسد وعباء، فما أحوجني الله إلى بيع ماء المحيا في سوق الشعر، وأبى الله أن أرد الدر إلى القعر، ولكني مدحت بعض العلماء والأخلاء الكرام، تبياناً لفضل العلم وحفظ الذمام. فوا غبن شاعر سوّد بالمدائح سواد القرطاس، وباع كرائم الشعر وذهبه في سوق الزجاج والنحاس»: جمع المراش، إذن، شعره على طريقة القدماء، إلا أنه أصدر، مع ذلك كتباً متفرقة، مستقلة الموضوعات.
وقعت أعلاه على كتب شعرية مستقلة الموضوعات، غير أنها، مثل كتاب «أشعر الشعر» للمراش، تنطلق من مساعٍ في الروايات الشعرية والحكمية، بخلاف ما هو عليه الأمر، على ما تحققت، عند الشاعر والصحفي والمترجم خليل الخوري (1836-1907)، الذي سعى، لأول مرة، إلى وضع عنوان خاص بمجموعة شعرية، هي مجموعته: «العصر الجديد»، بل إلى إصدار مجموعات مستقلة من القصائد: «زهر الربا في شعر الصبا» (بيروت، 1857)، «العصر الجديد» (1863)، «النشائد الفؤادية» (بيروت، 1863)، «السمير الأمين» (1867، بيروت، مطبعة المؤلف)، «الشاديات» (بيروت، 1875)، و«النفحات» (بيروت، 1884). يقول عيسى اسكندر المعلوف عن ديوان «العصر الجديد»: «وعلى الجملة فالعصر الجديد مثل اسمه عصر جديد للشعر العربي السوري وهو أول ديوان نقل فيه الشعر من النمط القديم إلى الأسلوب الجديد. ومن استقرى قصائده رأى فيها من المعاني الحديثة ما يشهد له بحبه للجديد ومحاولته ترك القديم وإن كان لم يستطع أن يتخلص من ربقته ويقطعها. ولقد ميز قصائده بعناوين تدل على أغراضها وتابعه في ذلك نفر من شعرائنا مثل فرنسيس المراش الحلبي في ديوانه «مرآة الحسناء» وسليم (بك) العنحوري الدمشقي في ديوانه «سحر هاروت» وغيرهما». وهو ما يمكن أن أتأكد منه لو عدت إلى مجموع الكتب الشعرية للعنحوري، وهي: «سحر هاروت» (في الغزل والنسيب والمحسنات، المطبعة الحنفية، دمشق، 1885)، و«بدائع هاروت» (بيروت، مطبعة القديس جاورجيوس، 1886)، و«الجوهر الفرد والشعر العصري» (وهو النبذة الثالثة من شعره، وفيه، بعد المدائح لمعاصريه، مباحث في الحقوق والواحبات، المطبعة الشرقية، الحدث-لبنان، 1904) و«آية العصر» («نبذة خاصة من الشعر»، مصر، 1905).
في هذه الكتب ما يشير إلى تدبيرات تختلف عما كانه حفظ الشعر، «الختامي»، كما سبق القول، إذ يقدم الشاعر على إصدار الكتاب الشعري تلو الكتاب الشعري، ما يجتمع في صيغ مختلفة، منها: النبذة أو مجموعة قصائد في موضوع بعينه، وغيرها من التقسيمات.

 

2 . ج : العنوان دالاً على الكتاب
يمكن القول، إذن، إن علاقة ذيوع الشعر بمتلقيه تغيرت ابتداء من القرن التاسع عشر، إذ باتت تتحكم بها المسألة الطباعية، ما أخل بالقاعدة القديمة (حفظ الشعر الختامي في ديوان)، من جهة، وأوجب ظهور قاعدة جديدة (مثول القصيدة في مدونة طباعية)، من جهة ثانية. هكذا نشهد في هذا القرن، وفق تفاوتات تحتاج إلي فحص ودرس بين البيئات العربية المختلفة، ظهورات تداولية مختلفة للقصيدة: بين ظهور قديم ومستمر يقوم على تلاوة القصيدة في بلاط، في مجلس، وبين ظهور جديد ومختلف يقوم على نشر القصيدة في مدونة طباعية (الجريدة والمجلة خصوصاً)، وغالباً على نشر مجموعة من القصائد في كتاب (مختلط أو مستقل). بل يمكن التحقق في هذا السياق التاريخي من لزوم الطبع لأية قصيدة، حتى وإن تمت تلاوتها في حفل سامر أو تأبيني، أو في تظاهرة وغيرها من أشكال اللقاء الاجتماعي، الجمعي تحديداً.
فالعائد إلى مطبوعات عديدة، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر أو في الربع الأول من القرن العشرين، يلاحظ إقدام الشاعر على نشر قصيدة التأبين بعد تلاوتها في حفل، في جريدة، قبل ثبوتها النهائي في مجموعة شعرية. وهو ما يمكن ملاحظته في منشورات العديد من المجلات الأدبية، ولا سيما في القاهرة، إذ كانت تقدم على نشر القصائد إثر تلاوتها العمومية، أو في حفل خاص (تنشر مجلة «الزهور»، في عددين مختلفين، القصة التكوينية لقصيدة أحمد شوقي: «مضناك جفاه مرقده...»، التي بدأت في صيغة «معارضة» لقصيدة أندلسية شهيرة، ونقلت المجلة صيغتها الأولى، ثم أبياتاً أخرى ألحقها بها الشاعر: راجع في هذا الخصوص: ). ويمكن الوقوع، في أحوال أخرى، على قصائد قيلت في مناسبات من دون أن يجمعها الشاعر بنفسه، مثل حال الشاعر المصري حافظ إبراهيم، الذي جُمع ديوانه بعد وفاته، إثر تكليف وزير المعارف أحمد أمين بذلك. وهذا ما يمكن قوله كذلك في شعر الرصافي، الذي تكفل به غيره.
يمكن ذكر أمثلة أخرى تظهر بالتالي بأن غرض الشاعر تمثل في القصيدة في المقام الأول، أي في نظمها بغرض تلاوتها، وليس في الكتاب الشعري، أياً كان موضوعه أو ترتيبه أو جامعه. وهذا ما يصح في كثيرين من الشعراء، ممن يمكن تسميتهم بـ«أعيان» الشعر، الذين حافظوا على صلات ثابتة بمواقع النفوذ في زمانهم، ولا سيما في البلاطات والدور والمحافل الاجتماعية الجديدة (هذا ما يفسر خصوصاً ارتباط الشعر المصري، على سبيل المثال، بشعر المناسبات، عند «أعيانه» الكبار، والمرتبط بحيوية جذابة في بلاط الأسرة الخديوية، ومنها تقليد «شاعر الأمير»).
ان استمرار ظاهرة القصيدة، وكونها نواة الشعر من الناحية الإنتاجية، هو الذي أمد بحياة جديدة لتقليد الديوان الحافظ والختامي؛ ولا يختلف بالتالي ديوان حافظ إبراهيم عن ديوان البحتري، وإن ظهر الأول في هيئة طباعية. والعامل الطباعي لم يشكل بالتالي عاملاً «تثويرياً» في حال بعض الشعر، ولم يملِ مقتضيات منه على العملية الشعرية نفسها. بل اقتصر الأمر أحياناً على تغييرات إخراجية وحسب، مثل وضع عنوان للكتاب الشعري، تقيداً بما بات لازماً في صناعة الكتاب، وفق الطريقة الأوروبية. وهذا ما فعله العقاد، كما يمكن الملاحظة، في العناوين المتتابعة التي أطلقها على كتبه الشعرية: «يقظة الصباح» (1916)، «وهج الظهيرة» (1917)، «أشباح الأصيل» (1921)، «أشجان الليل» (1928). وهو ما أوضحَه، بعد أن جمعَها في كتاب واحد، في هذه الكلمات: «سميت كل جزء باسم يدل عليه بالنظر إلى الأجزاء كلها على قدر المستطاع من الدلالة في هذه الأغراض، فسميت الجزء الثاني «وهج الظهيرة» وسميت الجزء الثالث «أشباح الأصيل» وسميت الجزء الرابع «أشجان الليل»، فإذا قرأه القارىء فربما وجد في «أشجان الليل» ما هو أخلق بـ«وهج الظهيرة» أو وجد في «يقظة الصباح» ما هو أخلق بـ«أشباح الأصيل» ولكنه لا يخطىء أن يستدل بالاسم على الروح في عمومه ولا أن يدرك الفاصل الذي يميز بين جزء وجزء في قوته وميسمه، وهذا حسبنا على الجملة من دلالة الأسماء». أي أن العقاد حافظ على مبدأ الديوان الجامع، بأن أقام صلة دلالية متتابعة بين عناوين الكتب المتتابعة، التي لا تعدو كونها بالتالي أجزاء الديوان النهائي. ولا يمكن اعتبار كل كتاب، وإن يمتلك عنوانه الخاص، كتاباً شعرياً بالمعني التأليفي، بل هو كتاب جامع ليس إلا، موصول بإنتاج الشاعر في عهد زمني وحسب، في حياته.
غير أن الأمر يختلف، ابتداء من «سياسات» العنوان، في أحوال كتب شعرية أخرى، مثلما تحققت من ذلك في بعض كتب الشعراء «العصريين»، من أمثال خليل الخوري وسليم العنحوري وفرنسيس المراش وغيرهم. وهو ما أراه في صورة أبين في تجارب أخرى، ترقى إلي العقود الأولى في القرن العشرين، مع الشاعر عبد الرحمن شكري، في «ضوء الفجر» (1909)، و«تذكار الماضي» (الاسكندرية، 1911) لإيليا أبو ماضي وغيرهما. وهي كتب بالمعني الشعري الصرف، وتخضع لمبادىء في التأليف. وقد يكون الوقوف عند العنوان، أو عند الهامش، مؤشراً أولياً للاستدلال على نسق الكتاب الشعري. فماذا عن العنوان؟
جمعَ العقاد ديوانه في كتب متتابعة، إلا أنه لم يخص القصائد فيها بعناوين، بخلاف خليل الخوري، سابقه، الذي خص غالب قصائده بتسميات مناسبة. وهو ما اتبعه شعراء عديدون، بل بات منذ الربع الثاني من القرن العشرين، السمة الغالبة في تقديم الشعر، بل القصيدة. فالقصيدة لم تعد موضوعة لمناسبة، هي عنوانها أيضاً، وإنما تتقدم وفق تسمية لها، مستقاة من موضوعها التأليفي. وهناك صلة أكيدة، بين تغير غرض القصيدة بين عهد وآخر وتغير أو بروز «سياسات» للعناوين. فالقصيدة ما كانت تحتاج لعنوان مختلف عن مناسبتها طالما أنها مرتبطة بها تأليفياً، فيما اقتصى الأمر تقديماً جديداً للقصيدة طالما أنها لا تظهر في مناسبة، بل في مطبوع وحسب (في جريدة، أو كتاب)، ولـ«قارىء»، بات هو غرض القصيدة الجديد. ففي التوجه إلى غير الأمير، أو إلى غير أقران الشاعر (في حفل تكريمي أو تأبيني أو مراسلات «إخوانية» بينهم)، أي في التوجه إلي «قارىء» غير معروف مسبقاً من الشاعر، ما يبدل، أو ما يؤثر على الأقل في ظهور القصيدة لمتلقيها، أي «القارىء» تحديداً.
يقول زكي نجيب محمود: «أول ما يستوقف النظر في الشعراء المحدثين، هو إصرارهم على أن يستدبروا الماضي بصورة قاطعة، حتى ليحرصوا على ألا يطلقوا علي مؤلفاتهم الشعرية اسم «الدواوين» خشية أن تفوح من هذه التسمية رائحة القديم، فلئن كان فيما مضى يقال: ديوان المتنبي وديوان البارودي وديوان شوقي وهكذا، فهم اليوم يقولون - مثلاً - الناس في بلادي، مدينة بلا قلب، أنشودة المطر، البئر المهجورة الخ». يمتنع محمود عن تسمية هذا المصنوع الشعري الجديد، الذي حل مكان «الديوان»، وهو «المجموعة»، إلا أنه ينتبه لوجوده؛ وهو ما سبق سلوكات صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وبدر شاكر السياب ويوسف الخال (الذين أشار إلى عناوين مجموعاتهم الشعرية في كلامه) نفسها، بعد أن عرف الشعر قبلهم عناوين مماثلة مثل: «آية العصر»، «سحر هاروت»، «تذكار الماضي» وغيرها. هذا يدعو من جديد إلى طرح السؤال: هل العنوان دال إلى هذا الحد عن تغيرات ظهور الشعر نفسه؟
يمكن الحديث عن ثلاث وظائف للعنوان، وهي:
- تشير إلى «صنف» الكتاب: هذا ما كان متوفراً في التسمية القديمة، مثل «ديوان المتنبي» أو غيره؛
- تشير إلى «اسم» المؤلف: وهو ما كان متوافراً كذلك في التسمية القديمة مثل الحديث عن المتنبي منذ العنوان؛
- تشير إلى وظيفة ترويجية: وهو ما بات متوافراً في بعض كتب القرن التاسع عشر، التي طلبَ جامعوها، وفي العنوان الواحد المتصل، ترويج الكتاب بإطلاق صفات عليه («الدر»، «الأنيس»، «الثمرات» وغيرها)، بالإضافة إلى الوظيفتين المذكورتين، كما في العنوان التالي: «الطراز الأنفس في شعر الأخرس»، المطبوع في الأستانة في سنة 1304 هـ.، وهو للشاعر العراقي عبد الغفار الاخرس (-1873).
هذا ما يمكن التحقق منه في تغييرات أخرى وسمت الشعر في انطلاقته الجديدة، ولا سيما بعد دخوله العهد الطباعي، وهي تغييرات نلقاها منذ 1860، وتطاول ترتيب المجموعة، مثل اشتمالها على عناوين خاصة بكل قصيدة.
لا أبالغ إذا قلت إنني أجد وجه الشدياق في أي وجه من وجوه التجديد، وفي غير نطاق في هذه الحقبة التاريخية، وذلك حتى في الهيئة المظهرية التي يخرج بها الكتاب الشعري، أو في المواد التي بات يطلبها نشر هذا الكتاب على القراء. يقول الشدياق قي مقدمة ديوانه: «كما اني خالفت الشعراء في تقديم هذه المقدمة على شعري، فكذلك خالفتهم في تسمية مجموع ما نظمت وهو «المغني لكل معنى» »؛ وتحمل المقدمة في عنوانها الأصلي: «مقدمة ديوان أحمد فارس أفندي»، وطبعت في استانبول في 1860، أي أنها كتبت في تركيا أو في تونس على أبعد تقدير.
إلا أن التجديد الحاسم في هذا النطاق ألقاه، في أجلى خياراته، في ما كتبه خليل الخوري: فلقد اعتمد، منذ مجموعته، «العصر الجديد» (1863)، نشر القصائد تبعاً لمواعيد نظمها، وهو ما يقوله صراحة على غلاف المجموعة: «وضع القصائد مرتبة بحسب أوقات نظمها». وهو ما يكرره في مجموعاته اللاحقة: في «تنبيه» يتصدر مجموعة «السمير الأمين» (1867) يقول الخوري: «ان القصائد المدروجة بهذا الكتاب وُضعت بحسب أوقات نظمها على الترتيب الواحدة بعد الأخرى»؛ ويقول كذلك في مستهل «الشاديات» (1875): «افتتحت بالقصائد المنظومة في مدح الحضرة السلطانية العلبة ثم أدرجت بها بقية القصائد مرتبة بحسب أوقات نظمها». كما أتحقق كذلك في غير مجموعة من وضعه عناوين للقصائد، فلا يكتفي -كما كانت العادة قبله وبعده كذلك - بذكر نوع القصيدة، أو مناسبتها التي قيلت فيها، فنجد العناوين التالية: «سرور السرير»، و«الجلوس المأنوس»، و«صدى الشكر»، و«صدى الغرب»؛ وهو ما يمكن قوله في قصائد عديدة له في الغزل: «الحنين»، «الملتقى»، «الرقيب»، «الاحتراق»، «الإعراض»، «الوجد»، «عواصف الهوى»، «الرؤيا» وغيرها.
صنيع الخوري جديد، لا ألقاه في مساعي العديد من الشعراء بعده: فالشاعر سليم عنحوري، يسبق كل قصيدة في مجموعته «سحر هاروت» (طبعة أولى، دمشق، المطبعة الحنفية، 1880)، بعنوان خاص بها، إلا أنها عناوين أنواع شعرية ليس إلا، مثل هذه: التشطير، والتخميس، والتورية، ومراعاة النظير، والجناس التام أو «الشعر الملمَّع». لكن مجموعة عنحوري لا تخلو في بعضها من تجديد في «عدة» الشعر، في النبذات الشرحية التي تحفل بها هوامش صفحات المجموعة، إذ لا تخلو صفحة من هامش، ومن عدة نبذات شرحية أو إيضاحية، وتصل النبذة أحياناً إلى 7 صفحات (صص 102-108)، وهي عن «البطلة» الفرنسية جان دارك. ويفيد الشاعر في غير هامش عن تفسير الألفاظ الغريبة الواردة في القصيدة، وهي ألفاظ عربية قديمة، أو يذكر ترجمة لأديب اسحق، صديق الشاعر.
أخلص من هذا الفحص إلي القول: مثول الشعر بات طباعياً، ما اقتضى أشكالاً مختلفة لظهوره، بل لعلامات ظهوره (من عنوان الكتاب إلى عنوان القصيدة)؛ ولا يمكن بالتالي الوقوف على درس تغيرات الشعر العربي من دون الوقوف عند الصيغ العيانية الجديدة التي تسم الشعر العربي منذ القرن التاسع عشر. إلا أن هذه التغيرات التقنية أوجبت أو حملت في تضاعيفها (مع غيرها) تغيرات أوسع منها، طاولت الشعر نفسه، لا في ظهوره فقط، وإنما أيضاً في تصوره، وفي استهدافات التداول التي يستجيب لها ويساهم فيها: تغيرات رسمت معالم تداول مختلف للشعر. وماذا يمكن القول عن المجموعات الحديثة، والسارية راهناً في الشعر العربي؟
إن عودة إلى العناوين الجديدة تظهر تغييباً للوظيفة الأولى («صنف» الكتاب)، ونقلاً للوظيفة الثانية («اسم» المؤلف) من عنوان الكتاب إلى صفحة الغلاف (مجموعة إلى اسم دار النشر، ومكانها، وسنة الطبع)، وتبديلاً للوظيفة الترويجية لصالح وظيفة «دلالية»، إذا جاز القول، تُظهر أو توجه سلفاً قراءة المجموعة الشعرية.
وهو ما يناسب تعريف العنوان الذي يقترحه ليو هوك (Leo Hoek ): هو «مجموعة من الإشارات اللسانية (...) يمكن لها أن تظهر في رأس نص لكي تعينه، وتحدد مضمونه العام، وتجذب إليه الجمهور المستهدف». إلا أن جيرار جينيت، الذي يورد تعريف هوك، يميز بين الوظائف الثلاث، فيجد أن الوظيفة الأولى «لازمة»، والأخيرتين «اختياريتان وثانويتان». ويميز هوك كذلك بين نوعين من العناوين: «الشخصية» و«الموضوعية»، أما جينيت فيميز بين نوعين من العناوين: «ما يتم الحديث عنه»، أي مضمون الكتاب وتعيينه من خارجه، وهي الوظيفة القديمة للأدب، إذا جاز القول، و«ما يقال»، أي تعيينه الداخلي، وهي الوظيفة الجديدة له في الأدب. ويخلص جينيت إلى اقتراح وظيفة مزدوجة ولكن واحدة، هي الوظيفة الوصفية للعنوان. وما يسترعي انتباهي في درسا «سياسات» العناوين عند هوك وجينيت وغيرهما هو التوافق بين ما هي عليه وظائف العنوان الثلاثة (كما حددها هوك) في الأدب القديم الذي درسوه وفي الأدب القديم العربي كما درسته. وهو التوافق عينه بين ما هي عليه وظيفة العنوان في الأدب الغربي الجديد، أي تعيينه «الداخلي»، وما هي عليه وظيفة العنوان في الأدب العربي الحديث. يقول جينيت: «تسود حالياً مشهد الأدب العناوينُ التي تشير وإن في صورة غامضة إلى موضوعه، ويجب ألا ننسى أن الاستعمال كان مختلفاً (في ماضي الأدب)، بل معكوساً، حيث أن عناوين القصائد كانت تشير إلى صنف الكتابة، مثل: المراثي، والأناشيد وغيرها».
ويقر جينيت بأننا نحتاج إلى تحقيق طويل للغاية عبر الطبعات الأصلية للكتب لكي نتوصل إلى تعيين الحقبات التي أدت إلى الوضع الحالي، وهو التعيين المستقل لصنف الكتاب. هذا ما أجد بعض الإجابة عنه في كتاب سابق على كتاب جينيت، وهو «ظهور الكتاب». ففي هذا الكتاب أقرأ فقرة ضافية عما يمكن أن أسميه «الهيئة الثبوتية» للكتاب، أي «ورقة قيده» التي تظهر اسم صاحبه وعنوانه وصنفه واسم ناشره ومكان الطبع وسنته. ذلك أن القارىء الحديث يتوقع سلفاً الوقوع على هذه المعطيات في الصفحات الأولى من أي كتاب جديد، فيما كان الأمر مختلفاً في القرن الخامس عشر أو في القرن الذي تلاه، حيث أن الكتب المطبوعة ما كانت تملك صفحة أولى مخصصة للعنوان. وكان على القارىء أن يلجأ إلى الصفحة الأخيرة منه لكي يحصل على بعض المعلومات عن الكاتب والناشر وسنة الطبع ومكانه، نقلاً عما كانت عليه تقاليد كتابة المخطوطات، وهي ذكر المعلومات في الصفحة الأخيرة منه.
كما نقع في هذا الكتاب على معلومات قيمة تظهر الظهور المتدرج للمعلومات المتصلة بالعنوان على صدر الكتاب، وذلك منذ القرن الخامس عشر. ولكن ما صلة العنوان بمادة الكتاب نفسها؟ متى يوضع العنوان: قبل مباشرة الكتاب أو بعد الانتهاء منه؟ إن طرح هذا السؤال يقود واقعاً إلى دراسة مسألة أخرى، وهي الوقوف على أصناف المجموع الشعري في الكتب الشعرية المتفرقة والمستقلة. فالنقلة من «الديوان الحافظ» إلى النبذات الشعرية المتفرقة لا يستدعيها الانتقال من الوراقة إلى الطباعة وحسب (ومعها انتشار الكتب على نطاقات أوسع والطلب عليها والتنافس بالتالي على عرضها وتقديمها)، وإنما يستدعيها تغير في النظر الشعري نفسه، للشعر من جهة، ولصيغته التداولية في المجتمع، من جهة ثانية.

 

3 . ب : الكتاب والسوق
هذا يدعوني، في وقفة أولى، إلى درس مبدأ التأليف نفسه في الكتابة العربية القديمة، على أن أعود، في وقفة ثانية، لفحص حالها المستجدة. يقول الجاحظ: «إن لكل شيء من العلم ونوع من الحكمة وصنف من الأدب سبباً يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتاً ومعنى يحدو على جمع ما كان منه متفرقاً ومتى أغفل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار واستنباط الآثار وضم كل جوهر نفيس إلى شكله (...) بطلت الحكمة وضاع العلم وأميت الأدب». وفي كلامه ما يشير إلى أن حاصل الأدب (والعلم والمعرفة)، أو سبب تأليفه، واقع في سابقٍ عليه، هو مجموع المشتت والمتفرق، على أن جهد المؤلف هو جهد الجامع بالتالي، أي الذي يتوصل إلى تجميع المواد كلها (أو ما أمكن منها)، وإلى التمييز فيما بينها، وإلى فرز كل منها، وتنسيبه أو ضمه إلى ما يناسبه. ويقوم التعريف بالتالي على رسم حدود للعلم (والحكمة والأدب، من دون تمييز بينها) نجد محدداتها فيما بدأ به عدد من علماء العربية، قبل الجاحظ ومعه، وهو جمع «مرجعية الفصاحة». ويمكن القول إن التأليف في العربية، ولا سيما في ميادين المعرفة والأخبار، اتسم بهذا الطابع الجمعي-التمييزي-التصنيفي. وهو ما أتأكد منه في عدد من ديباجات التآليف العربية القديمة، حيث يسارع المؤلف إلى تبيان الداعي إلى التأليف، وهو أن أحداً ما سبقه إلى طرق هذا الباب، أو تجميع هذه المواد، أو التدقيق فيما بلغنا منها. يقول قدامه بن جعفر في مقدمة كتاب «نقد الشعر»: «لم أجد أحداً وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتاباً (...) ولما وجدت الأمر على ذلك (...) رأيت أن أتكلم في ذلك بما يبلغه الوسع». وهو ما يعطي هذه المعرفة (والعلم والأدب) صفة «الميدان المنتهي»، أي القابل للزيادة والتصحيح، «فلا يخرج منه شيء»، مثلما قال الفراهيدي. إلا أن صفة الانتهاء هذه تعين شأناً آخر، وهو أن التأليف لا يخضع لكتابة ما، بل لتجميع وتدقيق وتصنيف، على أن حامله، أي المدونة أو المخطوطة، هو شرط حفظه، لا تحققه بأية حال: المعنى (أو موضوع التأليف) موجود قبل أن ينتهي المؤلف إلى جمعه، وسابق بالتالي على عملية التأليف نفسها، كما لو أن العملية هذه لا تعدو كونها ضماً له وإحلاله في منزله الصحيح بعد أن ضاع وتشتت عن أصله. فالمخطوط يحفظ، إذا جاز القول، ما هو منته، أو ما هو متمم ومكمل لميدانه، وهي الهيئات المادية المختلفة التي تحدد جمع الشعر في ديوان: فالشعر، بل الديوان، حاصل ومنته قبل وضعه في مدونة، على أن عملية إنزاله تقوم على التدقيق في مواده، وربما على حذف بعضها، وعلى فرز هذه المواد في أبواب أو مداخل تتيح التعرف الخارجي، أو التوضيبي لها، لا الدال على شبكاتها التكوينية أو الدلالية.
لهذه الأسباب كلها وجدت أن إقدام الشعراء على تجميع قصائدهم في مجموعات مفردة، مثلما هو عليه الحال راهناً، لا يخضع لحسابات واقعة في النشر، ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر (مع الطباعة وانتشار الكتابة والقراءة على نطاقات واسعة) فقط، وإنما يخضع أيضاً إلى تغير في النظر إلى الكتابة نفسها، بل إلى تغير النظر إلى الشعر في المجتمع، وهو ما ألخصه في هذا القول: انصرف الشعر من البلاطات والمحالس والحلقات، أي من دورة الحكم والنافذين، إلى دورة السوق والقراء.
لم يعد تعيين الشعر قائماً في اسم، في شاعر، بات مكرساً أو معتبراً، فيأتي صدور الديوان إيداعاً أو ضبطاً لما كان تحقق في دورة أخرى، لا تعينها أو لا تشترطها مواد الكتاب المجموع نفسها، ولا رصيد الشاعر المتتابع والمتراكم. أما مع دورة السوق والقراء فقد بات لزاماً على الشاعر أن يقنع ويغوي ويستدرج القارىء، على أن في اسم الشاعر (وربما اسمه الفني، لا العائلي)، وفي عنوان الكتاب، وفي ما يتضمنه خصوصاً، ما يثير الإقبال على شرائه، هو وغيره بعده. يمكننا بالطبع أن نشير إلى تغيرات حاصلة في مفهومات الشعر، وقضت بتغير الصنيع الشعري، إلا أن تبدلات العلاقة بين الشاعر والقارىء باتت تتأثر، هي الأخرى، بتبدل العلاقة بين الشاعر والقصيدة، وبين القصيدة والقصيدة. هكذا يمكننا الحديث عن دورة شعرية جديدة، بات معلمها الأساسي إصدار مجموعات من القصائد، لا انتظار «مناسبات» إلقاء القصائد الجديدة، ولا «الديوان» الأخير والحافظ للكل. ولكن ما الذي يحدد جمع القصائد فيما بينها؟
قد يكون قرار الجمع لاحقاً على وضع القصائد، كأن يقرر بدر شاكر السياب، ذات يوم، إصدار مجموعة جديدة، ويطلق عليها اسم «أنشودة المطر»، وهو ما أسميه بالمجموعة «الزمنية»، أي التي تجمع بين دفتيها شعر الشاعر الأخير. وأخلص من هذا القول إلى أن قرار إصدار المجموعة يخضع لاعتبارات نشرية، لاحقة على كتابة القصائد، وما كان لهذه الاعتبارات بالتالي أي أثر على توجيه القصائد أو على نشأتها أساساً. وقرار النشر بالتالي تدبير وإخراج لاحقان لعملية سبقتهما، وما كان لهما تأثير عليها. وللشاعر في الإخراج، بل في الإعلان عن ذلك، طرق وفنون، فيقوم مثل السياب باختيار عنوان قصيدة يعتبرها الأجمل (أو أية صفة أخرى) في مجموعة القصائد، مثل «أنشودة المطر»، ويطلقها عليه. وقد يعمد مثل محمود درويش إلى اقتراح عنوان، مثل «حصار لمدائح البحر»، لا نجده في أي من عناوين قصائد المجموعة، بل يبدو مثل عنوان دلالي جامع لمجموع القصائد (وهي منتجة، فيما يتعلق بهذه المجموعة بالذات، في مرحلة بعينها، هي مرحلة حصار الجيش الاسرائيلي، بعد غزوه لبنان في سنة 1982، لقوات «منظمة التحرير الفلسطينية» وخروجها من بيروت في السنة نفسها).
وقد يكون قرار الجمع سابقاً، إذا جاز القول، على صدور المجموعة، بل على كتابتها أيضاً، كأن يقرر الشاعر كتابة قصيدة أو سلسلة من القصائد في موضوع بعينه، وهو في ذلك يشبه عمل الفنان التشكيلي الذي انصرف مثل بيكاسو إلى مرحلة «زرقاء» وثم إلى غيرها، وهو ما نتبينه في السلاسل التي يخصصها الفنانون التشكيليون لأعمال متقاربة في الصنع. وقد يكون، لهذه الأسباب، عنوان المجموعة الشعرية جاهزاً قبل كتابة القصائد، وقبل دفعها إلى الطبع ربما. لن نحقق في هذا الأمر، إلا أن بعض مجموعات الشعر العربي الحديث، وفي عدد من عناوينها، توحي كما لو أن واضعها طلبها، في موضوعها من دون شك ومن دون عنوانها أحياناً، قبل مباشرة الكتابة نفسها، وقبل إصدار المجموعة. فكم من المجموعات الشعرية الحديثة حملت منذ عناوينها وحتى متونها انصراف الشاعر إلى «مناخ دلالي واحد»، يتحقق منذ العنوان: «أغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس، «أوراق الغائب» لبول شاوول وغيرها الكثير.
إلا أن الشاعر العربي الحديث ما اقتصر فعله على التبديلات المذكورة في وظائف العنوان، بل تعداها لتقديم مقترح جديد للعنوان يمكن التحقق منه في ما أقدم عليه الشاعر أنسي الحاج في مجموعته الأولى «لن» (1960): فالعنوان هذا يبلبل ما سبق أن تبيناه من وظائف العنوان، أو ما أغفلناه فيها، وهي أن يكون العنوان جملة اسمية مثل العناوين الكثيرة المذكورة أعلاه، أو جملة فعلية، على ما يحصا كثيراً في مجموعات الشعر العربي الحديث: «أقول لكم» لصلاح عبد الصبور، «تعالي نذهب إلى البرية» لزاهر الجيزاني، «أرى ما أريد» لمحمود درويش وغيرها الكثير. أما عنوان الحاج فيقطع مع مبدأ الجملة النحوية (الاسمية أو الفعلية) التي قام عليها العنوان؛ وهو عنوان قابل لتفسيرين: أن يكون تحويلاً لأداة النصب عن وظيفتها، فلا تعود أداة، بل أشبه بالاسم، أو أن تكون «لن» طرفاً من جملة غيب طرفها الآخر، أو جرى إضماره، أي الفعل اللازم لها.
يتحدث جيرار جينيت عن عدد من المواد التي دخلت، مع الأدب الحديث خصوصاً، في تعيينه، فباتت جزءاً لازماً له، ويطلق عليها تسمية «العتبات» (وهو عنوان الكتاب أيضاً)، على أنها المدخل اللازم للعبور إلى مواد الكتاب. وهو ما نتبينه منذ العنوان، سواء للكتاب أو للقصائد، أو في مواد أخرى (الإهداء، أو التقديم، أو المواد المصاحبة له، قبل صدوره أو بعد ذلك)، وتشير كلها إلى تكوين النص، أي ما يفيد عن العمليات التي دخلت في صنعه قبل أن يستقر في صيغة «ثابتة»، هي صيغة الطبع.
(مجلة "نزوى"، مسقط، العدد 13، 1998، صص 16-32).