ما بلغنا من ديوان الحداثة العربية؟ أللشعر الحديث "ديوان" فعلا ؟ وما نعرفه من مجموعات وقصائد شعرية حديثة أيمثل فعلا، هذا الشعر في مواده المختلفة؟ يمكننا أن نعدد الأمثلة، ذلك أن هذا الباب من أبواب مساءلة الحداثة يكاد أن يكون منغلقا على مسائله، بل متكوما عليها دون تبين أو مراجعة.
هذا يصح في "وقائع" هذا الشعر، أي قصائده، في الأحوال التي وصل بها إلينا، حيث إننا نفتقر إلى دراسات وتحقيقات نقدية فحصت ما وصلنا منه، والكيفيات التي وصلنا بها، مثلما فعل النقاد العرب فيما مضى في نقدهم للروايات التي وصل بها الشعر القديم إليهم، أو النقاد المحدثون في أوروبا ممن صاغوا أسس دراسة "علم المسودات الأدبية" أو "تكوين النصوص".
وما يعنينا من طرح القضية يتعدى عمليات التحقق النقدي، ويشمل طرح المسألة الأدبية، والنص الشعري خصوصا، من زاوية النظر اليه على أنه نص قابل للدرس في لحظات اشتغاله، ما يبدل النظر الى «نهائية» النص الشعري ويضعه في منظور جديد، منظور «النص الأمثل»، ويفتح سبيلا جديدا، في الدراسة اللسانية للأدب عموما. وتشتمل مقاربتنا هذه على تحقق نقدي من أحوال نصية واقعة في تكوين عدد من قصائد بدر شاكر السياب وأدونيس، وخلصنا من التحقق المزدوج الى وجود استهدافين مشتركين يقعان وراء الحذف والتعديل: تحسين النص وتصحيح السيرة الشخصية.
قد يكون مالك «دار العودة» هو صاحب فكرة طبع "الأعمال الكاملة" للشعراء العرب المعاصرين، التقليديين والحديثين، إلا أن الشعراء المشمولين بهذا التكريس ما لبثوا أن اتبعوا هذا التقليد الناشيء، ونقلوه معهم الى دور أخرى، مثلما سارع غيرهم الى تقليد خطوتهم، وعلى نفقتهم الخاصة أحيانا. وهذا التقليد ناشيء، لا يمكن نسبته الى التقليد العربي القديم، أي جمع قصائد الشاعر في «ديوان»، والطبع يخص شعراء أحياء، وفي «عز» عطائهم الشعري، مثل أدونيس، عند طبع أعماله لأول مرة، أو محمود درويش بعده. ولا يمكن نسبته بالمقابل الى التقاليد الدارجة في البلدان الغربية.
ففي فرنسا الأمر مختلف، إذا طلبنا المقارنة. فقد يقدم شاعر على طبع عدد من أعماله مجموعة في كتاب واحد يؤرخ لمرحلة شعرية أو لعدد من دواوينه، إلا إننا لن نجد في غالب الأحيان شاعرا، أو دار نشر، تقدم على طبع "الأعمال (او «الأثار») الكاملة" لشاعر قبل وفاته بل بعدها بعدة عقود في غالب الأحيان. ذلك أن دور النشر تنتظر، قبل الإقدام على ذلك حكم... الزمن، بالإضافة الى حكم النقد. فمن يتأكد تكريسُه الأدبي تُضَم كتبه في عمل جامع، تتوافر له أحسن شروط الطبع، وأفضل ظروف الدرس والتقديم النقديين. ودور النشر تعوض الشاعر الغائب على طول انتظاره (وتبرمه ربما، أليس كذلك ؟) فلا تقرر نشر أعماله الكاملة وحسب، بل تكلف أيضا ناقدا أو أكثر من كبير دارسيه لتحقيق هذا العمل.
هكذا ينتظر الغائبون في جنة الخلد طويلا قبل أن تتملى عيونهم من رؤية أعمالهم مطبوعة على الورق الشفاف في سلسلة «لابلياد»، أو "كتب الخالدين"، التي تصدرها دار "غاليمار" المرموقة. كما ينتظر النقاد بدورهم طويلا قبل الاطلاع على هذا العمل المحقق، الذي يجيب عادة على مشكلات عديدة، ما توصل النقد الى تبينها، أو الى الفصل بها، في حياة الشاعر. فالأعمال الكاملة تعين في هذه الحالة تحقيقا نقديا لها، يقوم به جامعها عائدا الى نتاج الشاعر طبعا، في طبعاته المختلفة، وفي عدد من الأحوال الى مسودات اشعاره، إذا ما توافرت.
كيف لا، وعدد من الفرنسيين يعمدون، منذ قرنين ويزيد، الى حفظ «الرسائل» التي تصلهم، مثل احتفاظ ايزابيل، أخت رامبو، برسائل أخيها من الحبشة (وغيرها ايضا)، ما مكننا من قراءة "مراسلات" أخيها في آثاره الكاملة. كيف لا، والشعراء هم بدورهم، يعمدون الى الاحتفاظ بمسودات أعمالهم، فيعمل النقاد عليها لاحقا، ويتبينون القصيدة على انها «ممارسة منتجة لمعنى»، كما تقول جوليا كريستيفا، اي قابلة للتحولات الصياغية المختلفة دون أن تكون لها وجهة لازمة ومبرمة. ومن المعروف ان عددا من الكتاب في فرنسا يوصون مكتبة ما، او جهة ما، او «مركز حفظ الوثائق» منذ سنوات معدودة بجمع، بل بملكية مسودات أعمالهم، مثلما فعل الفيلسوف لوي ألتوسير، قبل فجيعة موته المعروفة. هذا التقليد يستند واقعا الى تبادلات مجتمع "كتابي" (بالمقارنة مع مجتمع شفوي)، تديره الدولة وتشترطه كذلك، بما تطلبه في ادائها من معاملات وتوثيقات، للمكتوب فيها قوة الاثبات والتحقق. فكيف إذا صاحبت التقليد البيروقراطي هذا سلوكات أخرى تمحض المقتنى، أيا كان، قيمة تبادلية ما.
وما يعنينا في هذه المسألة يتصل بعملية التحقيق النقدي، التي تستند الى هذه الممارسات الاجتماعية، وتستفيد منها في آن. وما تجب الاشارة اليه هو ان الأدباء، في اعداد واسعة منهم، يقبلون على الاحتفاظ بمسودات اعمالهم ومراسلاتهم بل يرتبونها، على ما نعرف، بانتظار عيون المحققين. وهم في ذلك يميزون بين الاسم العائلي، إذا جاز القول، والاسم الأدبي، فيحتفظون بالمواد التي تخص الكاتب، أو القسم الكتابي من حياتهم، على حدة، كما لو أنها لا تخصهم، ولا يحق لهم التصرف بها، بل هي ملك الحكم النقدي المؤجل. وهم في ذلك لا يتأخرون عن حفظ "رسائل" فاضحة لحياتهم الخاصة، مثل رسائل فيكتور هوغو الى عشيقته جان، أو مربكة لهم في شؤون مختلفة من الحياة. وقد يعمد بعضهم الى منع نشر هذه الرسائل إلا بعد مضي عدة عقود من الزمن، لكي تنعدم تماما الملابسات والحيثيات المحيطة بها وباشخاصها، فلا يبقى إلا الاهتمام النقدي الصرف بها. فمن دون «الرسائل» والحفاظ عليها، ما كان لنا أن نقرأ «رسالة الرائي»، التي كتبها رامبو في 15 أيار (مايو) من سنة 1871، والتي لم يعرف بوجودها، ولم تنشر إلا في العام 1912، وغيرها الكثير في العام 1929. ومن دون رسالة أخرى له، ما كان لنا أن نعرف الشيء الكثير عن علاقته الصاخبة بالشاعر فرلين، ومن دون اقدام ماتيلد فرلين على حرق عشرين رسالة من رامبو الى زوجها لكنا عرفنا الأكثر أيضا.
ما يعنينا هو الانتباه الى حصول النقاد على مواد ثمينة في عدد من الأحوال تضيء او تصحح الكثير مما علق في اذهاننا، أو مما درج الكلام عنه، أو مما طبع من أعمال أدبية، ما يستدعي مراجعة وتدقيقا للطبعات السابقة، وتصويبا للمعارف المحصلة منها وللحسابات النقدية المبنية عليها. حتى اننا نعلم اليوم بوجود طرق اكاديمية خاصة بدراسة هذه الأعمال، وبانصراف عدد من اللسانيين الى دراسة "علم المسودات الأدبية"، أو "علم ما قبل النص"، كما يسميه جان بيلمين-نوويل (Jean Bellemin -Noel ).

1- دراسة المسودات الأدبية
يقوم بيلمين-نوويل، في كتابه هذا، بدراسة مسودات مختلفة لعمل أدبي واحد، هو «العجلة» للشاعر أوسكار-فلاديسلاس دي لوبيش-ميلوش (Milosz )، وتبلغ خمسا وسبعين صفحة مرقمة في صورة تتابعية. وصولا الى خمسة وستين بيتا، هي مجموع أبيات القصيدة في صيغتها المثبتة في اعمال الشاعر المطبوعة. وعملُ بيلمين-نوويل يندرج في اعمال تحقيقية عديدة سبقته، وتوقفت امام «مخلفات» أبقاها الكتاب عن أعمالهم المنتهية، وحفلت بمعلومات ثمينة «أضاءت» أعمالهم فعلا، مثل الكشوفات التي أصابت أعمال فلوبير، وخصوصا رواية «مدام بوفاري»، أو مطولة «البارك الشابة» لبول فاليري أو فيكتور هوغو وغيرهم. وما بادر بيلمين-نوويل الى القيام به، او ما توفق في العثور عليه، يعد مادة ثمينة للمحقق اللساني، ذلك أنه عثر على مسودات هذه القصيدة منذ "أجزاء" أبياتها الأولى حتى صيغتها الأخيرة في أوراق مرقمة ومتتابعة ومرتبة من الشاعر: كما لو أنه جهز سلفا للمحقق «أوراق الملف» كلها! هكذا يتاح لنا تتبع القصيدة مثل مشروع قيد التحقق، لا كإنجاز تام ومكتمل، أي أننا نرى الكتابة في أحوالها المختلفة، في تعثراتها وتردداتها وتوصلاتها.
هذا ما سعت إليه أيضا دراسات مجموعة في كتاب، «تكوين النص: النماذج اللسانية»، وعالجت مسودات أدبية عديدة شعرية ونثرية في الكتابة الفرنسية والألمانية، من مارسيل بروست الى لوتريامون مرورا بالشاعر هـ. هاينيه (H. Heine )، وتوقفت فيها أمام مظاهر مختلفة من التحققات اللسانية. وما يعنينا من هذا الفهم النقدي الجديد، ومن هذه المعالجات المبتكرة للشعر (وغيره) كـ «صنيع»، إذا جاز القول، هو الانتباه الى حقيقة النقلة التي تنجزها الدراسات اللسانية، إذ تنتقل من دراسة اللغة (عموما، أو في النصوص الأدبية) كـ«أفعال منتهية قابلة للمعاينة» الى دراسة اللغة كـ«عمليات جارية»، إذا جاز القول. أي أن الدراسات تبين لنا النص في أحواله الكتابية المختلفة، في تغيراته كما في تحققاته المختلفة، على انها عمليات تنصيصية واقعة بين مقاصد واستهدافات للقول (واعية وغير واعية مدبرة وعفوية في آن)، وبين مراجعات وتنقيحات وتبديلات لاحقة وجارية على عمليات التحقق هذه.
هكذا تتحدث الدارسة جوزيت راي-دوبوف (Josette Rey-Debove )، في دراسة لها عن عمليات الحذف والشطب والتنقيح التي تصيب عددا من مسودات مارسيل بروست، وما تجمله في مصطلح «النص الأمثل» (optimal ). فما هو؟ تشير الباحثة الى أن غالب الدراسات، التي تناولت «أدبية» النصوص، توقف خصوصا عند النصوص «المنتهية» لاغيا تماما - أو لم يعبأ - بدور منتج النص الأدبي، وبسعيه لانتاج "نص أمثل". والنص هذا لا يصدر في حسابها عن نشاطية عفوية، وانما عن بحث، عن عمل "ترميزي"، كما نتحقق من ذلك فيما يطلبه إعداد نص دعائي أو قانوني من جهد قد يتعدى الأسابيع والشهور، وهو جهد يتحقق في عمليات عديدة تستدعي وتتطلب محوا وإعادة كتابة وتبديلا وتعديلا وتنقيحا وزيادات وغيرها. وتهدف العمليات هذه الى انجاز «نوعية» ما مطلوبة أو متوخاة من النص، ما يدعو الباحثة الى تسميته بـ«النص الأمثل»، اي النص الذي ينتهي الكاتب الى «اعتماده»، الى «اقتراحه» للطبع (وهو ما توفره، إذا جاز القول، العبارة اللاتينية: nevarietur ) النص غير القابل للتغيير. ونخلص من المعالجة هذه الى تبين وجود حدين، إذا جاز القول: حد يعين النص في إمكان قبوله الدنيا، أي في أي جملة منتجة لمعنى ما، أي الجملة «المقبولة» للدرس من قبل اللساني (وهو ما توفره المواد المختلفة في المسودات، من جمل أو من نصوص غير "نهائية")، وحدٌ يعين النص في تحققه "الأمثل" والمبتغى، على أن بين الحدين عمليات تنصيصية عديدة، هي محل اشتغال دارس المسودات الأدبية.
إذا كانت هذه البحوث «التكوينية» جديدة وناشئة للغاية في بلورتها المفهومية وعملها الاجرائي، فإن النقاد ما انقطعوا، قديما في "شرح" القصائد العربية، وحديثا في أوروبا، عن التدقيق في صنيع الشعراء، والتحقق غير النقدي من أعمالهم. فالعثور على عدد من نصوص رامبو الشعرية الأولى غير المطبوعة في أعماله، هي التي أبانت لنا بداياته المتعثرة، بل انصرافه أحيانا الى ما يشبه "انتحال" الشعر، مثل تقليد ألفرد دو موسيه أو فيكتور هوغو: نحيل كثيرا الى رامبو في هذه الدراسة، ذلك أن نتاج «الشاعر الملعون» يكاد يكون مجموعا من محلات متفرقة، من معارفه وأصدقائه في المقام الأول، لا من طابعه. والعودة الى غير طبعة محققة من اعماله الكاملة (في دارَي «غاليمار» و«غارنييه») تظهر لنا التحقيق النقدي الذي يصاحب كل مجموعة شعرية أشبه بتحقيق بوليسي. فالعثور على المسودات والرسائل اكتنفته دوما مصاعب عديدة، نظرا لحياة الشاعر المتقلبة نفسيا ومكانيا، إلا أن أعدادا من معارفه كانوا حافظين للتقليد الكتابي ولمقتضياته (أي عدم التصرف، ولا اتلاف المواد)، ومحترمين له.
كما أعتدنا، عند قراءة الكتب العربية "المحققة"، على رؤية هامش في اسفل الصفحات، محفوظ لجمل والفاظ يثبتها المحقق على أنها تحل محل أخرى في هذه النسخة او تلك من النسخ التي عول عليها في عمله، ما يكشف عن عمل تحقيقي أكيد. هذا ما نتبينه أيضا في كتب "الشرح" الشعري العربية، التي تحفل عادة بمعلومات عن رواة، تفيد عن مناسبة قول هذه القصيدة، وتشرح أو تحيط بما غمض من معانيها وإحالاتها. كما نتحقق في بعض كتب النقد القديم من اشتغال الشعراء وطلبهم لنصوص "مثلى" عند امريء القيس وأبي نواس، على سبيل المثال، ويجعل ابن رشيق من «تفقد» الشعر شرطا لجودته، «ولا يكون الشاعر حاذقا مجودا حتى يتفقد شعره، ويعيد فيه نظره، فيسقط رديئه، ويثبت جيده، ويكون سمحا بالركيك منه، مطرحا له، راغبا عنه». وهو ما عرفناه عن عدد من الشعراء، مثل مروان بن سليمان بن يحيى بن ابي حفص (103-182هـ)، الذي كان يسأل يونس بن حبيب أن ينتقد شعره ويهذبه، أو جرير الذي كان يأتي برواته وينقح ويحذف ويعدل أشعاره المعروفة، كما نعرف أن الأصمعي أطلق على زهير والخطيئة تسمية "عبيد الشعر"، لأنهم كانوا ينقحونه.
هذا الحرص التحقيقي الذي ننعم به في الكتب التراثية - وباتت له طريقته العلمية، أي التعويل على طرق مثبتة في التعامل مع النسخ وتقديرها، أو في التحقق من الاسناد في الرواية – لا ننعم به في كتبنا الحديثة، ومنها الأدبية. فلا التقليد موجود، ولا النقاد منصرفون الى مثل هذه الأعمال، فيما لو توافرت موادها. وهذا يصح في الأدباء المتوفين، قبل الأحياء. فما بلغنا عن أديب عربي أنه عهد بمسوداته الى هذه الجهة، أو الى ذلك الشخص. ولا نشهد بالمقابل احتفاظ أعداد من متلقي الرسائل بالرسائل التي تلقوها من هذا الأديب أو ذاك بدليل ان أحدا، فيما خلا حالات محدودة، لم يقدم على نشر رسائل هذا او ذاك، او عن معرفة هذا وذاك بوجودها. الصحفي العراقي ماجد السامرائي أقدم على نشر "رسائل السياب"، في العام 1975، من دون أن يبلغنا منذ ذلك الوقت خبر صدور أعمال مماثلة، إلا الضجة التي أثيرت عن رسائل غسان كنفاني التي وجهها الى الأديبة غادة السمان ونشرتها في كتاب، وعن مراسلات خليل حاوي وديزي الأمير، أو ما قام به الكاتب رياض نجيب الريس، في العام 1996، حين عمد الى نشر رسائل موجهة اليه من أدباه معروفين. ألا يكتب الأديب العربي رسائل؟ الا يجمعها متلقوها أبدا؟ الا يهتم بأمرها الناشرون؟
ولو فتحنا الكتب الفرنسية الأدبية المحققة لوجدنا في أسفل كل صفحة مقترحات أخرى لألفاظ أو عبارات من القصيدة التي نقرأها في القسم العلوي من الصفحة، وتعود هذه المواد أو ترسم أحوال النص، أي تردداته واختياراته. فهنا حذف، أو تعديل، أو زيادة، أو قلب لبيت أو أكثر من مكان الى آخر في القصيدة نفسها. والهوامش هذه، أو التوضيحات، تمكننا من دخول القصيدة مثلما ندخل الى مشغل، أو الى "ورشة عمل"، نرى فيها المواد والآلات مبعثرة، كيفما اتفق، أو في صور تتجه أكثر فأكثر الى التأكد والوضوح.
المواد العربية تكاد تكون معدومة في هذا المجال: أيعود ذلك الى سلوكات أدبية لا تزال تربط الكتابة، لا بنظرية «الالهام» وحسب، وانما أيضا بتقاليد «الصناع» في بلادنا وغيرها، التي تمنع تفشي أسرار المهنة؟ أيعود ذلك الى فكرة عن الأدب تقوم على ايصال صورة عنه، تامة وكاملة، ولا يشوبها أي خدش؟ لم نقرأ محاولات نقدية تظهر لنا شغل النقاد أو عثورهم على مواد مماثلة تتيح لهم اجراء مثل هذه القراءات المركبة، التي تتيح الدخول الى «صنعة» القصيدة، بل الى تاريخها التحولي والتكويني، على أنه تاريخ يبدد صفة الكمال أو النهائية التي تحيط بالنص.
ذلك ان قراءة المسودات، أو الطبعات، الأدبية المختلفة تساعدنا، لا على تأريخ مدقق للنص يربطه بما يحيط به في زمانه من «ظروف حوارية» وحسب، وانما أيضا على التعرف على أحوال النص في إبلاغه، وعلى تغيرات المقاصد فيه، بما تتضمنه هذه المواد أو المدونات من حذف وتعديل واضافة وتبديلات وغيرها. وهو ما يبلغ عند بعض الدارسين حدودا تحليلية دقيقة وحاذقة، وطريفة في بعض الأحيان، مثل إقدام أحدهم على دراسة تغيرات الكتابة في المسودات و"الخربشات"، وما تمثلها من ضغوطات وإلحاحات نفسية؛ كما توقف غيره، مثل الدارس جان بيتار (Jean Peytard )، أمام علامات التنقيط في ثلاث طبعات من شعر لوتريامون.

2 : "تقلبات" السياب
وإنتاج النص ناتجُ عمليتين واقعا: صدفة وحسب ("إلهام"، لقى موفقة، "فيض"...)، وعملٌ حرفي متقطع ومتصل. وعلينا أن نقول إن مباشرته قد تخضع في غالب الأحوال الى مخطط، الى فكرة أولية، الى هاجس، الى صورة بدئية، أو الى غير ذلك من الأحوال التي قد تكون مبهمة للغاية أو على درجات من التبلور. لكن هذا النص، في حاصله، في ناتجه، ليس وليد "سابقة" أبدا، إذ يخضع لعمل كتابي قد يبدله رأسا على عقب، وقد يعدله، ما يجعلنا نفصل بين "سابق" النص و"ناتجه". فما نقول عن السياب، مثالنا الأول في هذه الدراسة؟
قلما انتبه النقاد العرب المعاصرون الى هذه المسائل بخلاف ما كان عليه الأمر في النقد القديم، ولا سيما في مساعي "شرح" الشعر، على محدوديتها في التحقق من المسار التنصيصي الذي تعرفه القصيدة بين وضعها وخروجها الى الناس. ولقد افادتنا الدراسات اللسانية المذكورة أعلاه وغيرها، إلا أننا تحققنا من أنها تفترق في موادها عن المواد التي نسعى الى دراستها (فيما خلا دراسة بيتار المذكورة، التي تدرس أحوالا طباعية مختلفة للنصوص ذاتها، إلا أن الفائدة المنهجية من هذه الدراسة لا توافق مواد دراستنا): فهي تدرس المسودات المختلفة السابقة على «ثبوت» النص، فيما لا نقع – في المواد التي ندرسها للسياب وأدونيس – إلا على مدونات منقحة، تامة الشكل، وان جرى تعديلها لاحقا. والباحثة دوبوف تعرض لحالتين في دراسة المسودات: أديب يصحح نفسه، ولا يلبث ان يبقى لنا أوراقا مختلفة تظهر لنا عمله المتمادي على وضع نصه في أحواله المختلفة، أو أديب يجري تعديلات على النص قبل دفعه الى الطبع، أي العمل الممهد والمؤكد لثبوته. هكذا تعمل دوبوف على دراسة التصحيحات التي يجريها بروست على كتاباته، ما تسميه بعمليات التنقيح، ويمكنها ذلك من دراسة الفكر واللغة في تجاذباتهما، والصياغة كعمليات تنصيصية مفتوحة. أما المواد التي تتوافر لنا لدراستها، عن السياب وأدونيس، فلا تنتسب، كما المواد الأجنبية المذكورة، الى ما يسمى بـ«ما قبل النص»، بل الى النصوص الثابتة. فنحن لا ندرس مسودات، بل مدونات ثابتة جرى تعديلها، وهو ما لا يسهل مهمتنا بالتالي، وإن يعدنا بتجديدات بحثية ممكنة في هذا السبيل اللساني الناشيء.

2- أ : بين الوضع والنشر
إن العودة الى الكتب الأولى التي أعقبت وفاة السياب تبين لنا إقبال النقاد والمعارف على اجراء أعمال تحقيقية، طاولت خصوصا جمع شتات الشاعر المتفرق بين الأصدقاء والرسائل والمجلات، من مجموعات وقصائد ورسائل، وهو ما اجتمع شعرا، وفي أكثره، في "المجلد الثاني" من «ديوان» السياب، الصادر عن «دار العودة»، كما جرى أيضا جمع «الرسائل» في كتاب أعده ماجد السامرائي. فعدد من مجموعات السياب ما عرف سبيله الى النشر إلا بعد وفاة الشاعر، وبفضل جهود أقاربه (عائلة السياب، ومنها أخو زوجته) وأصدقائه (مثل خالد الشواف وغيره) ونقاده (مثل محمود العبطة وعيسى بلاطه وماجد السامرائي) وناشره (ناجي علوش وغيره)، وهي المجموعـات التاليـة: «إقبال» (1965)، «إقبـال وشناشيل ابنة الجلبي» (1995)، "قيثارة الريح" (1971)، «أعاصير» (1972)، "الهدايا" (1974) و"البواكير" (1974).
ولقد قام حسن توفيق، بعد صدور الأعمال هذه، بتجميع نصوص مفقودة، ورتبها وفق تاريخ كتابتها، مدققا في بعض المعلومات التي وردت في الكتب السابقة المذكورة، عدا أنه - وهو ما يفيد مرامنا في المقام الأول - ضمَّن القصائد المنشورة نبذات تفيد عن عمليات الحذف والتعديل التي أصابت القصائد والمجموعات، بين وضعها ونشرها، في صيغها المختلفة، بين طبعة وأخرى. وكان بلاطة قد أشار في كتابه المذكور الى بعض هذه العمليات، كما سعى أحيانا الى فهم وتعليل هذه التبديلات.
اشتمل كتاب توفيق على نشر مجموعة بكاملها وقصائد امتنع السياب عن نشرها، بعد صدورها في طبعة أولى، مثل عمله الشعري "أزهار ذابلة" وقصائد متفرقة له منشورة في المجلات والدوريات. كما عمل أيضا على اثنتي عشرة قصيدة من شعر السياب أجرى عليها الشاعر عند نشرها مرة ثانية تعديلات وتنقيحات (وعمد توفيق الى نشر النصوص الأصلية والمعدلة والمنقحة في بعض الأحوال، تمكينا للقاريء من المقارنة). فما حقيقة التعديلات والتنقيحات؟
لن نقوم في هذا القسم من الدراسة، أي الخاص بالسياب، سوى باستغلال ما وفره لنا الباحث توفيق في مواد الكتاب وغيره في الكتب المذكورة، لكننا سندرج المواد التي يقترحها في ترتيب نقدي مختلف، خاص بنا، ويناسب دراستنا بالذات. والمواد هذه كثيرة تبين لنا عمليات مختلفة أجراها السياب في غير مرة في حياته، وعلى غير قسم من نتاجه، وأدت، أو طلب منها تحسين نصوصه، أو "الرفع" من إمكاناتها في الأداء. ويندرج في هذه العمليات ما قام به السياب من اسقاط للمجموعات والقصائد، بعد وضعها، أو بعد نشرها في مجلة أو في مجموعة؛ وهي ثلاثة أنواع:

2-أ-1: شعر "ساقط" بعد وضعه
في النوع الأول يمتنع الشاعر عن نشر قصائد سبق له أن وضعها، وهي القصائد التي عثر عليها المحققون في أوراق الشاعر الخاصة أو في رسائله، من دون أن تكون مكتملة بالضرورة، وتعود الى فترة مبكرة من نشاطه الشعري، ويتضح فيها اقباله على النظم، وتأثره بشعراء بعينهم (الياس أبو شبكة، علي محمود طه)، وبميله البين الى التناولات الرومانسية. من هذه القصائد ما أدرجه توفيق في كتابه، والسامرائي في طبعة "الرسائل" الجديدة، ومنها ما توصلنا الى جمعه بدورنا... فلقد امتنع الشاعر عن نشر قصائد، نذكر بعضها: قصيدة «عادة الشوق» (وردت في رسالة الى صديقه خالد الشواف، في 26 مارس 1942)، وهي قصيدة غزلية من أحد عشر بيتا، نظمية المبنى، ذات قافية موحدة؛ وقصيدة «الخريف» (وردت في رسالة الى الصديق نفسه، في 23/ 11/ 1942)، وهي في الوصف، لا تخلو من بروز «خفر» لأنا المتكلمة، وتتألف من اربعة وثلاثين بيتا، نظمية المبنى، ذات قافية موحدة؛ وقصيدة "مريضة" (وردت في رسالة للشواف، في 9/3/1943)، وهي في الغزل، وتتألف من ثلاثة عشر بيتا، نظمية المبنى، ذات قافية موحدة؛ وقصيدة بعنوان «الشتاء» (وردت في الرسالة السابقة الى الشواف)، نظمية المبنى، ذات قافية موحدة، وتماشي قصيدة الوصف الأخرى، المذكورة اعلاه أو تتبعها بالأحرى؛ وقصيدة بعنوان «في الغروب» (وردت في رسالة الى الشواف، في 11/7/ 1944)، نظمية المبنى، ذات قافية موحدة، تتألف من ثمانية وعشرين بيتا، ويبدو فيها المنحى الوصفي مشوبا، أكثر من قصيدة "الخريف" بميل الأنا المتكلمة الى البروز والابلاغ؛ وقصيدة "الشعر والحبيبة والطبيعة" (وردت في رسالة الى الشواف، في 26/7/ 1944)، النظمية المبنى، ذات القافية الموحدة، التي يتأكد فيها الميل الوصفي المشوب بإبلاغات رومانسية ووجدانية وغزلية.
يمكننا أن نذكر المزيد من هذه القصائد المكتملة او القائمة على عدة أبيات وحسب، وما يعنينا منها وما نقف عليه فيها، هو بدايات تمرس السياب بكتابة الشعر، بما تعنيه من مساع محاكاتية لعدد من الشعراء، أو لعدد من الموضوعات. وما يشد انتباهنا فيها هو العلاقة التي نشأت بين السياب والشواف خصوصا، والتي تتضح فيها نصائح الصديق النافعة للسياب، والتي تكشف خصوصا عن احتياجات السياب للنصح والكتب في آن، هو القابع في البصرة البعيدة عن بغداد العامرة والمتحركة، حيث يقيم الشواف. ففي غير رسالة يكشف السياب عن افتقاره الى مجموعات "الخلاقين من الشعراء"، ممن نصحه الشواف بالاطلاع عليهم و"تتبع غبارهم"، وهو ما يلخصه في هذه العبارة: "إذن فقد فتشت، ثم اشتريت، ثم قرأت فتأثرت، ثم نظمت". وتضم الرسائل بينهما عينات مفيدة عن عثرات السياب في النظم أو النحو أو البيان، وهو في السادسة عشرة من عمره، وعن تصحيحات وتنقيحات يقدم عليها أو يقترحها على الشواف.

1 – أ – 2 : قصائد غير مدرجة في المجموعات
في النوع الثاني أسقط الشاعر قصائد سبق له ان نشرها في المجلات والدوريات، ولم يضمنها أيا من مجموعاته المطبوعة. منها قصيدة "قصة خصام" التي نشرها في مجلة «البيان» العراقية، في عددها 69-70، الذي صدر بتاريخ 15 سبتمبر 1949، ويرجح توفيق كتابتها في العام 1948، لا في العام 1949، ذلك انها موجهة الى زميلة الشاعر، الشاعرة لميعة عباس (عمارة)، بعد ان انطوت قصته معها في العام 1948، لا في العام 1949، اذا كان السياب في هذه السنة يعمل مدرسا للغة الانكليزية في احدى مدارس لواء الرمادي. وهي قصيدة من خمسة وعشرين بيتا، نظمية المبنى، ذات قافية متنوعة تبعا لكل مقطع خماسي من الأبيات. ومنها قصيدة "العودة" التي نشرها في جريدة "الأنباء الجديدة"، عدد 23، في 23 يناير 1965، وهي من 54 بيتا، متنوعة القوافي والاسطر، ويتناول فيها السياب حكاية "حميد" الكسيح واجدا فيه شبهه في الألم.

2 – أ – 3 : مجموعات وقصائد "مسقطة" من الأعمال "النهائية"
في النوع الثالث أسقط السياب من نتاجه شعرا (بين مجموعات وقصائد بأكملها أو مقاطع وأبيات بعينها) سبق أن ورد في طبعة من مجموعاته، وما ادرجه في طبعة لاحقة: امتنع السياب عن اعادة نشر مجموعتيه، "أزهار ذابلة"، الصادرة في العام 1947، والثانية، "أساطير" (1950)، في أي طبعة لاحقة، عامدا الى نشر ست قصائد من المجموعة الأولى (مسقطا تسع عشرة قصيدة) مجموعة الى قصائد مجموعته الثانية (فيما خلا ثلاث قصائد) في ديوان "أزهار وأساطير"، الصادر في العام 1963، قبل وفاته بعام، عن «دار مكتبة الحياة» في بيروت.

2 – ب : تحسين فعالية النص
تعرضنا أعلاه لأنواع ثلاثة من التغييب أصابت شعر السياب في أحواله كلها، بين الوضع والنشر، من دون أن نتبين الأسباب الني دعته الى ذلك. فما هي؟
لا نملك أجوبة عن هذا السؤال سوى اغفالات السياب المتعمدة، أي إسقاطه المتعمد لهذه المجموعة أو هذه القصيدة، أي "تغييب" قسم من نتاجه. إلا اننا قد نجد في بعض رسائل السياب، الى صديقه خالد الشواف تحديدا، ما يساهم في إجابات أولية عن هذه الأسئلة. توصل إحسان عباس الى إثبات أن القصيدة، «مريضة»، تعود كتابتها الى 15/1/1943، ما يشير الى أن السياب أرسلها الى الشواف بعد أقل من شهرين على كتابتها. كما توصل توفيق الى اثبات ان قصيدة «في الغروب» تعود في كتابتها الى 26/6/1944، أي الى شهر وحسب من تاريخ إرسالها في رسالة الى الشواف. هذا ما نتحقق منه في قصيدة ورسالة أخرى: يرسل السياب قصيدة «الشعر والحبيبة والطبيعة» في 26/7/1944، اي بعد أيام على وضعها، في 15/7/1944. في غير مرة نتحقق في «الرسائل» من طبيعة الصلة بين الطالبين والصديقين، السياب والشواف، ولا سيما في مطالع الأربعينات، مثل لجوء السياب الى تغيير القافية المتنوعة في قصيدة «يوم السفر» بعد ان نصحه الشواف بتحويلها الى قافية موحدة.
ونقع في نتاج السياب على حدوثات تنقيحية وصياغية تندرج، على ما نقترح، في المسار "التحسيني" عينه. تعديلات وتنقيحات أصابت عددا من القصائد بين طبعة وأخرى، فاحتفظت القصيدة بشيء من ماضيها الأول، ودخلت عليها صياغات ومقترحات جديدة، «خفيفة» في قصائد السياب، طلبا لنص «أمثل»، كما قلنا، أو لـ "تقديم اعماله الفنية في أحسن صورة لها"، حسب عبارة توفق.
قصيدة "يوم السفر" تحضر في نتاج السياب في ثلاث صيغ مختلفة: واحدة في رسالة موجهة الى الشواف، في 23/11/1942، وتفيدنا انها صيغة منقحة عما كانت عليه القصيدة (في رسالة سابقة مفقودة، حسب توفيق). بعد أن جعل القصيدة ذات قافية موحدة، خلافا لما كانت عليه، أي ذات قافية منوعة في الصيغة الأولى. ثم لا نلبث ان نقع على صيغة ثالثة من القصيدة منشورة في مجموعة "إقبال"، وتختلف عن صيغتها الثانية، الواردة في رسالة الشواف المذكورة. في حوزتنا صيغتان من هذه القصيدة، ما يمكننا من التعرف على العمليات التنصيصية:
- يقوم السياب بتبديلات بسيطة، متصلة بتغيير لفظ بآخر كما في الأمثلة التالية: "دهم القلب موجه" تصبح: «زخم القلب موجه»، و«أسفا! زورق المنى/وسط أمواجه انغمر» تصبح: «(...) /وسط أمواجه اندثر». و«قد جلت ساعة الوداع شتيتا من الصور» تصبح: «(...) شتاتا من الصور». وتشمل التغييرات لفظا عاميا أو «ركيكا» طلبا للفظ أفصح، أو يغير اللفظ إحلالا لغيره مما يوسع المعنى أو يغنيه دلاليا.
- يتخفف من عدة أبيات حاذفا بعضها في الصيغة الأخيرة للقصيدة، ما يوازي خمسة أبيات، دون أن نجد سببا بينا للحذف سوى طلب السياب الرفع من «فنية» القصيدة.
- كما يقوم بتعديل عدة ابيات، منها هذه:
«أنت يا من أحبه / جاد بالوصل أم هجر
أنت يا من حدوت ركب سروري لك المغر
جاء يشكو لك الأذى/ ساهد طالما سهر
كم فؤاد قتلته / قبل أن يدرك الوطر
واحنين لقبلة / فاز من قد بها ظفر».
وتصبر هذه الأبيات في الصيغة الأخيرة للقصيدة على الشكل التالي:
«أقبلت فتنة الفؤاد / وفي عينها الخبر
عبرات على التراب / تهاوين في الضجر
انها خمرة الغرام / سقينا به الحجر
يوم أن لاح أنها / لحرام على البشر
انه يومنا الأخير / عن الفرقة انحسر
خلديه بقبلة / تصرف الهم والكدر».
وهو ما يجريه على بيت آخر في الصيغتين، يتحول البيت التالي:
«قد جلت ساعة الوداع شتيتا من الصور»
إلى الشكل التالى:
«أدمع فابتسامتان / فيأس فمصطبر».
وهو البيت الذي تنتهي به القصيدة في الصيغة الأخيرة، ما يعني أن الشاعر عدلها تعديلا جوهريا بين صيغة وأخرى.
يمكننا ان نقع على أمثلة مشابهة للتعديلات هذه، في قصيدة «ديوان شعر» التي نشرها للمرة الأولى في مجموعة «أزهار ذابلة»، وهي مكتوبة في بغداد ومؤرخة في 26/3/1944، ثم نشرها مرة ثانية في مجموعة «أزهار وأساطير»، ولكن بعد أن حذف عدة فقرات منها، وابدل عدة ألفاظ: أبدل لفظ «وتحوم» بفعل «وترف»، و«لما يعين» بـ «إذا رأين». كما حذف منها عشرين بيتا.
هذا ما فعله من تبديلات وحذف في قصيدة «نهر العذارى» العائدة الى سنة 1946. وهو ما نتبينه كذلك في قصيدته الشهيرة «هل كان حبا»، التي يؤرخ بها كتابته لأول مرة «الشعر الحر»: ينشر القصيدة لأول مرة في مجموعته «أزهار ذابلة»، ويؤرخها في 29/11/1946، وينشرها ثانية في مجموعة «أزهار وأساطير». حاذفا منها عددا كبيرا من الأبيات: 28 بيتا، ولكن من دون أن يختل المبنى في صورة اساسية.
قصيدة «اقداح وأحلام» تمدنا بأمثلة كثيرة تبين لنا تبديلات ألفاظ أجراها السياب في قصيدته: أبدل لفظ «سكرى» بلفظ «ظماى»، و«السبيل» بلفظ «الطريق»، و«عاد» بـ«بات»، و«جوانبها» بـ «رفارفها» وغيرها.
نراه يتحقق على سبيل المثال من هفوة في الصياغة، أو من عدم تناسب في البيت: يقول في قصيدة «في أخريات الربيع»:
«أين منهن ظل أقدامك البيضاء... بين الحشيش... فوق اخضراره »
ويصبح: «اين منهن خفق أقدامك (...)».
بعد أن بان له، من دون شك أن الخفق يناسب أكقر سياق المعنى.
يمكننا ان نذكر الكثير من هذه الأمثلة، التي تبين لنا ان السياب اعمل يده المنقحة في نصوصه في إعادات نشرها فاستبدل لفظا «ركيكا» في حسابه بلفظ افصح واكثر دلالة أو ايحاء، او نراه عمل إحلال لفظ جديد مكان لفظ آخر بعد ان تحقق من إمكان «استغلال» شيكات دلالية مغنية للمعني، ما كان تنبه لها عند وضع القصيدة، بل عند مراجعتها بعد وقت. أو نراه أجرى تبديلات على عدد من الأبيات واعاد صوغها من جديد، ما لا يعد تصويبا أو تحسينا لها، بل إعادة كتابة، وذلك عند قراءتها مرة ثانية. ذلك أنه يتأتى للشاعر «إمكانات قول» في المد الدينامي المفتوح بين حدي القصيدة، بين صيغها الدنيا وصيغها المثلى، من دون أن تكون المسافة بين الحدين دالة على بلوغ النص أو المعنى حدا كاملا أو نهائيا، بل حد قناعة عند الشاعر، هي ما تحقق له عند قراءتها من جديد. لا نقول إن القصيدة ورشة مفتوحة دائمة، وانما أنها تحتمل إمكانات تركيب فيها تتيحها الشبكات النحوية والدلالية في كل صيغة من صيغ القصيدة، وهو ما لا يتأخر السياب عن خوض غماره من جديد: أيعني هذا أنه لم يسبر تماما، في الوضع الأول، إمكانات القول وأنه لم يتعب تماما في البحث والعمل، حينها، للوصول الى النص الأمثل؟
ومع ذلك تفيد غير شهادة عن السياب انه كان يعمل على تنقيح قصائده قبل «تثبيتها»: يؤكد قريب السياب، مصطفى السياب، في رسالة الى بلاطة، أن السياب «كان يكتب الشعر (في صباه) ثم يعيد كتابته ثم يمزق كثيرا مما يكتب». وهو ما تأكد منه بلاطة نفسه، حين وقع على بعض مخطوطات السياب، بخط يده، وهما قصيدتا: «اللعنات» و"أجنحة السلام" (اللتان لم ينشرهما رغم تنقيحه الدائم لهما، على ما سنتبين): «كان يعود اليهما باستمرار ليضيف اليهما أو ليحذف منهما (...). وجدت صعوبة كبيرة في قراءة بعض الأبيات، وذلك لأن بعض الكلمات أو العبارات قد شطب وأعيد كتابته في حيز ضيق، بالحبر مرة وبقلم الرصاص مرة أخرى، بحيث طمست معالم الكتابة طمسا». إلا أن هذا لا يمنع بلاطه من القول إن تنقيحات السياب «قليله إذا ما قيست بغزارة نتاجه».
في غير مرة، وفي غير موضع، نتحقق من أن السياب أعمل يده من جديد في ما كان وضعه أو «ثبته» (في مجلة، أو مجموعة). طبعا نحن نجد في تغيرات مواقف السياب السياسية والإيديولوجية سببا للتنقيحات هذه (وهو ما سنعرض له أدناه)، كأن يقدم في إحدى قصائده، في مرحلة التزامه الماركسي، الى وضع هامش يعين ت. س. إليوت بوصفه «الشاعر الرجعي» (في ديوان «أساطير»)، ثم يشطبه لاحقا ويعده أكبر شعراء الانجليزية. وينسب بلاطة ذلك الى تعويل السياب على «فيض الأفكار والعواطف»، من دون أن يكون واعيا في حسابه، في التصميم والنباء. ولكن ما الأسباب الأخرى؟
يرى إحسان عباس، في غير موضع من كتابه المذكور، أن السياب كان يعتمد سياسة «الترضية» في شعره ومع عدد من أصدقائه، كأن يزيد أبياتا عليها، أو يحذفها، أو يعدلها، وهو ما نتحقق منه في عدد من الأمثلة التي جمعها علوش وتوفيق بدورهما. مثال على ما نقول نجده في هامش قصيدة «يوم ارتوى الثائر»: «كتب السياب هذه القصيدة إبان ثورة 1958 ولم ينشرما في حينها، وقد ألقاها في ذكرى الثورة الثالثة بدعوة من مدير مصلحة الموانىء العراقية في البصرة، واضاف اليها بإيعاز منه البيت الثامن والعشرين والبيت الثاني والثلاثين»، وهما البيتان التاليان:


عبد الكريم الذي أجرى بثورته

ماء ونورا كغيم ممطر لمعا

حتى ازدهى كل شبر في العراق

ففي مينائه نور الفجر قد سطعا

ويعلق عباس على سلوكيات السياب هذه «فقد كان (السياب) سريعا الى الترضية، حتى ليتنازل في سبيلها عن كثير مما يحرص عليه، وتلك ناحية استغلت فيه وأسيء استغلالها في بعض الأحيان، وأصابت بشظاياها بعض قصائده وغاياتها».
أما بلاطة فيسعى الى تفسير واقع في تدافعات العملية الشعرية: «ليس شعر السياب على مستوى واحد من الجودة الفنية. والواقع أن هناك قصائد في مجموعاته المنشورة لو أتيح له ان ينقحها أو أن يحذف منها لفعل. فالتنقيح أو الحذف الذي لحق قصائده الباكرة التي أعاد نشرها في «أزهار وأساطير» أو في «أنشودة المطر» يشير الى هذه الامكانية حتى في الحالات التي لم يكن فيها التنقيح أو الحذف ناشئا عن الأخطاء المطبعية وغيرها، أو عن تبدل مواقف الشاعر السياسية والعقائدية. فهو في تنقيحاته يحسن لغته عادة باختيار ألفاظ أدق وأنسب، ويحسن صوره بانتقاء صور أكثر حيوية وأقل سذاجة. أما في حذفه فهو يحاول أن يحقق ايجازا واقتصادا في التعبير، وأن يخلص قصائده في طبعاتها الجديدة من كثير من الحشو والاسهاب ويذكر مثلين عن عمليات التنقيح هذه.
ولكن كيف يتصرف السياب بقصائده «الثابتة» كما لو أنها مسودات، لا تزال بين يديه، يعمل فيها منقحا، حاذفا معدلا كاتبا من جديد؟ وكيف يتاح له ان يعمل على «تحسين» النص، والرفع من فعاليته، بعد أن أصبح في «السوق»؟ نثير الأسئلة، على أن نعود اليها في ختام الدراسة للاجابة عنها وعن غيرها.

2 – ج : تصحيح السيرة الشخصية
أَعْملَ السياب يده الفاحصة في نتاجه الشعري، بل عينه الناقدة، أشبه بمحقق نقدي أو بلاغي طلبَ التخفف من «ركاكة» في اللغة، أو من «هلهلة» في العبارة، أو من ضعف أداء في المعنى، أو من قلة إشعاع دلالي في تشابكات المضامين. وهو عمل «تحريري»، إذا جاز القول، يتحقق عادة في عمل المسودات، في ترددات الكتابة وتعثراتها. والسياب ما اكتفى بذلك، بل أقدم على مراجعات ذات طبيعة أخرى، مضمونية، وهي مراقبة النصوص، وإن كانت ثابتة من ناحية تعبيراتها السياسية والايديولوجية تبعا لتقلبات مواقفه، وتغيرات نظرته السياسية. ولقد اعتمد في ذلك «سياستين»، إذا جاز القول: حذف تام لبعض القصائد، أو حذف (أو تعديل) بعض الأبيات من قصائد ذات موضوعات سياسية.
فلقد أسقط ثلاث قصائد قالها في مدح حاكم العراق عبد الكريم قاسم، فلم ينشرها في مجموعاته، مثل قصيدة «أم سجين في نقرة السلمان»، الموضوعة في العام 1952 (والتي نشرها لاحقا غائب طعمه فرمان في كتابه «الحكم الأسود في العراق»)، وهي نظمية المبنى، ذات قافية متنوعة، من اربعة وعشرين بيتا، موزعة على مجموعات من ستة ابيات.
كما عمل في مواضع أخرى على الاحتفاظ بقصائد سياسية الموضوع، ولكن بعد أن أجرى عليها تعديلات وصياغات وحذفا، كما نتبين ذلك في قصيدة «الأسلحة والأطفال»: نشر القصيدة في كراس مستقل في العام 1954، و ما لبث أن ضمنها في مجموعته «أنشودة المطر»، بعد ان أصابتها عمليات عديدة منها حذفه لبيتين يرد فيهما ذكر «وول ستريت»، أو استبداله «نهر الدون» الروسي بنهر «الكانج» الهندي (!) أو حذفه عشرين بيتا (في ثلاثة مقاطع من القصيدة) تحيل الى التفرقة العنصرية التي يتعرض لها الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية (!).
يمكننا أن نشير الى مثال أخر، وهو أن السياب أجرى تعديلات على قصيدة كان نشرها في ديوان بمجرد أن دفعها الى النشر في مجلة انكليزية: قصيدة «جميلة بوحريد» صدرت في صيغة، في مجموعة «أنشودة المطر» (في العام 1960)، وفي صيغة ثانية في مجلة «أصوات» الانكليزية (العدد الأول، عام 1961)، 153 بيتا في الأولى، و72 في الصيغة الثانية، وعمل على تبديل ترتيب الأبيات في الصيغة الثانية، واستبدل العديد من الألفاظ فيها، عدا أنه كتب أبياتا جديدة (ما يزيد على عشرين سطرا) لم يضمنها الصيغة الثانية، ما يعد «تأليفا» جديدا لها. وبواعث هذه التغيرات (وغيرها أيضا) سياسية بالطبع، لنا أن نستدل اليها من هذه الأبيات المحذوفة:
«بالأمس دوى في ثرى يثرب
صوت قوي من قبر نبي
ألوى يبغي الصخر… لم يضرب
وحطم التيجان... أي انطلاق
في مصر، في سورية، في العراق
في أرضك الخضراء، كان انعتاق».
تقلب السياب - مريضا، غريبا وحيدا - في الحياة، كما في السياسة بين الشيوعية والقومية العربية وخلافهما، عدا أنه تقلب شعريا واحتاج الى معونة أحد الأصدقاء في خياراته الشعرية، ولا سيما في مرحلة البدايات. ووجوه التقلب مختلفة، وآثارها كذلك. فاذا كانت تردداته الشعرية الأولى دالة على تململه الأكيد، وتطلعه الى شعر مختلف غير واضح التوجهات، فإن تقلباته السياسية تبقى خفيفة الأثر في شعره. فالسياسة والايديولوجيات عموما، تبدو غير متجذرة تماما في نسيج كتابته، وقابلة للسلخ، إذا جاز القول والتشبيه، من دون مشقات كبيرة، بخلاف ما هي عليه عند غيره من الشعراء.

3 : أدونيس: «إعدام» أنطون سعادة
حظي شعر أدونيس بدوره بالتفاتات نقدية عالجت التنازلات والتبالات التي لحقت به بين صدوره الأول واللاحق، وهو ما ساهم أدونيس في تناوله بين تصويب وايضاح. ولقد وجدنا في تجربة الشاعر مثالا نادرا، هو الآخر، في النصوص العربية الحديثة، نتعرض فيه لأعراض هذه المشكلة، إذ أن شعره خضع في غير مرة لمراجعات، أدت الى عمليات حذف و«تنقيح» (كما يقول عنها). واخترنا مطولة «قالت الأرض» في طبعاتها المختلفة عينة لهذا العرض، لأن موادها متوافرة، ما يساعدنا في الكشف عما أصابها، ويفسر أيضا حقيقة التجاذبات التي جعلتها عرضة لطباعة جديدة من دون موافقة الشاعر. وسنقوم، لهذا الغرض، بمسعى أول في عملية التحقيق النقدي لقصائده، وهو مقارنة إحدى مجموعاته الأولى، «قالت الأرض»، بما آلت اليه في عدد من طبعاتها اللاحقة. وسنقوم، في مسعى ثان، بالوقوف على أحوال قصائد أخرى في طبعاتها أو صياغاتها المختلفة، للتأكد مما كنا توصلنا اليه في المسعى الأول.
وهي عودة لا تتطلب جهدا كبيرا في المراجعة، إذ أن قراءة سريعة للمطولة في طبعتها الأول الصادرة في العام 1954، عن المطبعة الهاشمية في دمشق، ومقارنتها بـ «مقاطع» بقيت منها في الطبعات اللاحقة من شعر أدونيس، تتيح لنا التأكيد بأن هذه المطولة عرفت بين صدورها الأول وطبعاتها اللاحقة تغيرات كبيرة قلبتها رأسا على عقب، وهو ما لا تتيحه عبارة ادونيس، التي بات يلصقها بطبعات أعماله الكاملة في السنوات الأخيرة، وهي «صياغة نهائية». ذلك أن الصياغة هذه لا تقوم على تبديل لفظ بآخر، أو على تحسين جملة ما أو على تجميلها (اي رفع شاعريتها) وانما على تغييرها تماما، لا في المواد اللفظية وإنما في حمولات القصيدة وتوجهاتها الدلالية والإيديولوجية العامة، ما يعد تحويلا لها، وتبديلا لقولها في الحسابين الشعري والتاريخي. ولذلك نقول: هي صياغة بل صياغات جديدة لشعر أدونيس، على أن كل طبعة منها «مدونة»، قريبة أو بعيدة، لأحوال كتابية عن الموضوعات ذاتها.

3 – أ : مقارنة الطبعات
ولقد وجدنا أن مقارنة مدونات «قالت الأرض» تتطلب عدة وقفات تحقيقية، بين الطبعة الأولى للمجموعة، وسنشير اليها من الآن وصاعدا بالمدونة الأولى (1954)، وما آلت اليه هذه المجموعة في صيغة «مقاطع» في إحدى مجموعات ادونيس اللاحقة، وهي «قصائد أولى» في طبعتها الثانية («دار مجلة شعر» و«المكتبة العصرية»)، وهي المدونة الثانية (1963)، وصيغة أخرى من «المقاطع» في أعمال ادونيس الشعرية الكاملة («دار العودة»)، وهي المدونة الثالثة (1985) وصيغة أخرى من «المقاطع» منشورة في ديوان «قصائد أولى» في صياغات أدونيس «النهائية» لأعماله الشعرية («دار الآداب»). وهي المدونة الرابعة (1988). فماذا عن الفوارق بين المدونتين، الأولى والثانية (1954 و1963)، وهي الوقفة التحقيقية الأولى؟

3- أ – 1 : الوقفة التحقيقية الأولى
علينا أن نشير بداية الى أن الشاعر لم يقدم، بعد طبع «قالت الأرض» لأول مرة، على نشرها كمجموعة مستقلة مرة ثانية في أي من منشوراته اللاحقة، بل عمد، منذ الطبعة الثانية لـ «قصائد أولى» (1963)، الى نشر «مقاطع» منها وحسب، بعد أن وضع على صدر صفحة الغلاف الداخلية العبارة التالية: «أضيفت اليها قصائد لم تنشر (1948-1955)»، ومنها الـ «مقاطع». ماذا عن علاقة المجموعة بالمقاطع؟ أفي العملية الشعرية ما يسمح بخلوص الديوان الى مقاطع؟ وما المقتضيات التي تحكمت بخيارات الشاعر في عمليات الحذف والابقاء؟
لنقمْ، بداية، بعملية مقارنة بسيطة بين المدونتين: ما حاصل المقارنة؟
- حذف من المدونة الثانية القسم الأول (الذي يحمل العنوان التالي: «1- اول آذار…») كله الوارد في المدونة الأولى.
- حذف في القسم الثاني (الذي يحمل العنوان التالي: «2: نحن حركة صراع») الأبيات العشرة الأول (من البيت 71 الى البيت 80) ومن البيت 86 الى البيت 110، وحذف من البيت 116 الى البيت 125، ومن البيت 131 الى 195.
- حذف في القسم الثالث (الذي يحمل العنوان التالى: «3: أزكى شهادة في الحياة هي شهادة الدم») من البيت من 216 الى 315.
- وحذف في القسم الرابع والأخير («4: إن طريقنا طويلة») من البيت 316 الى 352، ومن البيت 331 الى 340، ومن 366 الى 380، ومن 386 الى 400، ومن 411 الى 420.
ونلخص عمليات الحذف بالشكل التالي: عدد الأبيات في المدونة الأولى: 420 بيتا، وفي الثانية 85 بيتا، كما ننتبه في الوقت عينه الى أن الشاعر ألغى الأقسام التي قامت عليها المدونة الأولى، وهي اربعة اقسام، وجعل الأبيات المحتفظ بها في المدونة الثانية تتوزع في مجموعات من الأبيات ذات ترقيم جديد يصل الى 17 مقطعا. وقبل ذلك كله، لجأ الشاعر الى حذف مواد عديدة من «عتبات» النص، كما يسميها جيرار جينيت، وهي الاهداء: «إلى سعادة»، و«المقدمة» التي قدم بها الأديب سعيد تقي الدين المجموعة. كما قام أدونيس بتغيير زمان كتابة الديوان-القصيدة، فهو في المدونة الأولى معين على الشكل التالي: تموز 1949-آذار 1954، وفي المدونة الثانية: دمشق 1950.
يبقى أن نشير الى عملية تبديل بسيطة بين المدونتين، تقوم على تغيير لفظ بآخر. فالبيت 114 في المدونة الأولى:
«ليس إلا أن ننسج الدم رايات"
يصبح في المدونة الثانية:
"ليس إلا أن ننسج الحب رايات»
كيف تحول «الدم» الى «الحب» بين مدونة وأخرى؟ هذا ما يفسر بعضا من تبديلات الديوان في المدونة الثالثة، كما تحققنا من ذلك في الوقفة التحقيقية الثانية.

3 – أ – 2 : الوقفة التحقيقة الثانية
نعمد في هذه الوقفة الى مقارنة المدونة الثانية (1963) بالمدونة الثالثة (1985)، مما بات يندرج في أعمال أدونيس في صيغة «مقاطع» وحسب، من نتاج شعري سابق هو «قالت الأرض»، من دون أن يعرف القارىء، بعد هذا التغير، ما إذا كان مجموعة أم قصيدة أم غير ذلك. فما حاصل هذه المقارنة؟
احتفظ الشاعر في المدونة الثانية بما كان عليه اساس البناء النحوي–العروضي فيها، وهو البناء الخماسي، أي توزيع ابيات المطولة في مجموعات تتألف كل واحدة منها من خمسة أبيات ذات قافية موحدة. اما في المدونة الثالثة فقد ألغى هذا البناء الخماسي، موردا من كل مجموعة، من المجموعات البيتية التي يستبقيها، بيتين أو ثلاثة أو أربعة، ويصبح عدد المقاطع في المدونة الثالثة 39 مقطعا، متفاوتة الطول؛ كما ان ترقيمها يختلف عما كان عليه في المدونة السابقة.
الى هذا فإن الشاعر يزيد في المدونة الجديدة بدل أن يحذف، مثلما فعل عند إعداد المدونة السابقة، اي انه أعاد الى الثالثة ابياتا سبق له ان حذفها من الثانية، واستعادها من الأولى بالتالي: طبعة 1985 أكبر من طبعة 1963، ويرد فيها 153 بيتا بدلا من 85 بيتا؛ اي اعاد ايراد أبيات حذفها في طبعة 1963.
كنا تحققنا في الوقفة السابقة من تعديل لفظ واحد بين المدونتين الأول والثانية، اما في هذه الوقفة فالتعديلات عديدة، ونشير اليها في التغيرات التالية:
- «شهقات حمر» في المدونة الثانية، تصبح في المدونة الثالثة:
«صرخات–مدى».
- «أي حق رف الجمال عليه»: «أي حق حنا الجمال عليه».
- «ما لها ينتفها الحقد»: «ما لها يمزقها الحقد».
- «كلما غمغم الكفاح»: «كلما استيأس الكفاح».
- «لمحت في صراخه لغة الذل»: «لمحت في صراخه لغة القهر».
- «وشوك الدنيا»: «ورعب الدنيا».
- «فانحنت تأكل التراب وتمتص»: «فانحنت تأكل التراب وتستف».
- «فتحت كفه دروبي وشكتها»: «فتحت كفه دروبي وأرستها».
- «أنا ما همني، وكل جمال»: «أنا وجه المدى فكل جمال».
- «قلت، يحرص القطيع وينشك»: «قلت، يحرص القطيع وينقض».
- «أنا دربي طويلة كالغد المقفل»: «أنا دربي طويلة كغد يقبل».
- «أنا دربي حمراء»: «أنا دربي خضراء».
- «أنا جرح مغمس بالبطولات»: «أنا جرح مضمخ بالبطولات».
- «أنا لي مشرق النجوم ومسراها»": «أنا لي مشرق النجوم ومرساها».
- «من رأى الشمس تستفيق على البعث»: «من رأى الشمس تستفيق على الشعب».
- «دوي مفجع شهاق»: «دوي مغامر خلاق».

3 - أ - 3 : الوقفة التحقيقة الثالثة
نقوم في هذ الوقفة الثالثة والأخيرة بمقارنة المدونة الثالثة (1985) مما بقي من «مقاطع» من مجموعة «قالت الأرض» بالمدونة الرابعة والأخيرة عنها، والتي وردت في صورة «صياغة نهائية» لها (1988) فنجد التطابق تاما بين المدونتين الأخيرتين.

3 - ب : استهدافات التعديلات
تتغير المطولة في عدد ابياتها من مدونة الى أخرى، ولا يمكننا القول إن الاختلافات بين المدونات تقتصر على عدد الأبيات، بل تشمل المطولة في مجموع مستوياتها، من هيئتها الطباعية حتى مبانيها العروضية والنحوية والدلالية. كان لنا أن نقول إن القصيدة في مدونتيها الثانية والثالثة صورة مختصرة عن المدونة الأولى، وجرى فيها الاكتفاء بـ «مقاطع» منها ما يوحي بأننا أمام القصيدة عينها، فيما الأمر مختلف، على ما نظن ونسعي الى الابانة، وهو أننا أمام ثلاث قصائد مختلفة وان تصدر الثانية والثالثة منها عن قصيدة معينة على أنها «الأصلية». فماذا عن الهيئة الطباعية؟
أول ما يثير الانتباه في المدونة الأولى هو شكلها الطباعي اللافت الذي يوزع المطولة في أربعة أقسام، هي «أول آذار» (من الصفحة 13 حتى 26، في الطبعة الأصلية)، «نحن حركة صراع» (من 29 حتى 57)، «أزكى شهادة في الحياة هي شهادة الدم» (من 61 حتى 80) و«إن طريقنا طويلة» (من 83 حتى 103). لا نقع على هذا التقسيم في مدونة 1993، بل على تقسيم آخر يوزعها على أبيات متفاوتة العدد والتجميع، لا خماسية المبنى العروضي، مثلما كانت في الطبعة الأولى، ويبلغ عدد المقاطع فيها 17 مقطعا. الى ذلك جرى ترقيم مختلف للمقاطع، كما تم حذف عناوين المقاطع الأربعة التي كانت تتصدر كل قسم.
وهو تقسيم لا نقع عليه أبدا في طبعات هذه المطولة لاحقا، إذ تتحول الى مجموعة من الأبيات المتتابعة، تفصل بينها إشارات طباعية ليس إلا، وترقيمات أخرى تصل الى 39 قسما في طبعة 1985. كما نفتقد في الطبعات اللاحقة العناوين الممهدة لكل قسم، والتي توجه مسار المطولة في مبناها ومعناها، على ما سنتبين. وفي التبديل الأساسي تكمن محاولة أدونيس الأساسية، وهي تغيير القصيدة عن مراميها التي وضعت لها. ومؤشر هذا التبديل الحاسم هو إلغاء الإهداء الذي يتصدر الطبعة الأولى: «إلى سعادة»، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تعد هذه القصيدة ملحمته البطولية.
تختفي، إذن، معالم الاستدلال السابقة على المطولة: يختفي الإهداء، وتقديم الطبعة الأولى، وعناوين الأقسام الأربعة، ما يشير الى أن الشاعر أخفى من المطولة كل ما كان يحيل الى «مناسبتها»، كما قال نقاد العربية القدامى، او الى علامات الشاعرية «الخارجية» الدالة عليها، حسب دانييل ديلا وجاك فيليوليه، أو الى «عتبات» النص، حسب جيرار جينيت. وهو لا يخفي معالم الاستدلال وحسب، وانما يبدل القصيدة تماما، فيما تقوله، وهو ما نتحقق منه في عمليات الحذف الواسعة التي طاولة القصيدة.
لا نجد كبير تغيير بين نص المدونة الأولى وما آلت اليه الأبيات المحتفظ بها في المدونة الثانية، فيما خلا تبديل طفيف في البيت 114، كما أشرنا أعلاه: "ليس إلا ان ننسج الدم رايات"، يصبح "ليس إلا أن ننسج الحب رايات". إلا ان الأمر مختلف بين المدونتين الأولى والثالثة، إذ نلحظ وقوع عمليات تبديل واسعة، يحذف الشاعر غالبا، ويزيد احيانا مبدلا بعض الألفاظ والعبارات، في مسعى «تحسيني» للنص الأول، لا يغير كثيرا من طبيعته الأساسية. ففي البيت الأول منها يقول الشاعر في الطبعة الأولى:
«قالت الأرض، في جفوني آباد
وساع، وفي شفاهي سؤال»
ويرد البيت في طبعة 1985 على الشكل التالي:
«قالت الأرض، في جذوري آباد
حنين، وكل نبضي سؤال».
التبديلات بسيطة، على ما نلاحظ، تفيد توسعة المعنى او تكثيفا، أو التخفيف من التكرارات فيه، على ما نرى في امثلة أخرى من التعديلات. ففي الطبعة الأول يقول: «بعضي الفجر، بعني النور والشمس»، فيعدله على الشكل التالي: «بعضي الفجر، بعضي النور والحب»، طالما أن لفظ «النور» يحتفظ في سماته الدلالية بما يتضمنه لفظ «الشمس» فاقتضى الحذف، من جهة، وتعزيز المعنى، من جهة ثانية بزيادة لفظ «الحب» على البيت المعدل، وهي الحالة عينها التي نجدها في هذا المثل: «أي خلق، كالسر، كاللغز، كالفتح» (في الطبعة الأولى) تحول في الطبعة 1985 الى الشطر التالي: «أي خلق، كالسر، كالحلم، كالفتح»، بعد أن انتبه أدونيس من دون شك، الى أن لفظ «اللغز» الوارد في الطبعة الأولى يشتمل في سماته الدلالية على بعض ما يتضمنه لفظ «السر»، فاقتضى الحذف واقتضت الزيادة بدلا عنه بالتالي.
يمكننا القول إن مقتضيات الحذف الأولى مختلفة عن الثانية: ففي المرة الأولى كان على أدونيس أن يبدل معالم القصيدة تماما، أي أن يغير الهدف من وضعها، وهو ملحمة سعادة، فحذف على سبيل المثال، المقطع الثالث كله الذي يفيد في المدونة الأولى، عن عملية إعدام سعادة. أما الحذف في المرة الثانية، وعمليات الصياغة الداخلة في المدونة الثالثة، فاستدعاه طلب التحسين الفني للأبيات المتبقية من القصيدة الأصلية. وهو ما سيتضح أدناه عند الوقوف على التغيرات التي أصابت مباني القصيدة بل غرضها العام.
يمكننا أن نشير الى أنواع في التبديلات منها ما يتصل بالتخفف، كما قلنا، من الجانب «الدموي» أو الشهادي الواضح في المدونة الأولى: سبق أن قلنا أعلاه أن الشاعر بدل بيتا واحدا في المدونة الثانية، بل لفظا بلفظ في البيت التالي: الشطر «ليس إلا أن ننسج الدم رايات»، تحول الى الصيغة التالية: «ليس إلا أن ننسج الحب»، ما يمكن تلخيصه على عجل بأن الشاعر انتقل من دعوة الشهادة الى دعوة السلام. وهي نزعة نتحقق منها في المدونة الثالثة، وفي بيت آخر يعمل فيه الشاعر على حذف لفظ «الثورة» لصالح لفظ آخر، أقل حمولة منه، وهو «نشوة»: يقول في المدونة الأولى: «وتمشي في الأحافير ثورة وعراكا»، وينتهي في المدونة الثالثة الى القول: «وتمشي في الأحافير نشوة وعراكا». كما يتحول ضمن المسعى نفسه لفظ «الحمراء»، الذي يصف درب الشاعر الى «خضراء»!
كما نلاحظ، من جهة أخرى، مسمى لدى الشاعر يقوم على تبديل ما علق في أبيات القصيدة من ألفاظ عامية أو «ثقيلة» شعريا وغير مأنوسة في مفردات الشعر: «فانحنت تأكل التراب وتمتص» تصبح: «فانحنت تأكل التراب وتستف»، و«فتحت كفه دروبي وشكتها»، تصبح: «فتحت كفه دروبي وأرستها».
أقدم أدونيس في غير مرة على اجراء تبديلات صياغية على قصائده ومجموعاته، إلا أن ما قام به في «قالت الأرض» مختلف تماما عن غيره، في أنه بدل طبيعة القصيدة وتوجه بها وجهة مغايرة لما كانت عليه في وضعها الأول. ولا نبالغ في القول إذ نؤكد أن حاصل القصيدة، بعد التغييرات التي طرأت عليها جعلتها لا قصيدة «منقحة»، بل قصيدة أخرى، جديدة. يقول أدونيس في «إشارات» خاصة بطبعة 1985: «سيجد القاريء أنني حذفت هنا نصا، ونقحت هنا نصا آخر وقد يتساءل: ما السبب ؟ وربما كان جوابه أنه لا يشاطرني الرأي حسنا قد يكون له الحق لأنه يحددني من خارج، أما أنا فأحدد نفسي من الداخل فنيا، يتعذر أن يكون النص الشعري وثيقة، في أية حال، ومن أية زاوية أنظر اليه، وهو، لأنه انفجار، يظل هو هو - مهما حذف منه، خصوصا أن نصا ما ليس، هو كذلك، إلا حلقة في انفجار أكبر: تجربة الشاعر، ولذلك فإن الحذف والتنقيح إنما يتمان لغاية واحدة: منح النص مزيدا من التوهج، أعني مزيدا من التعمق والتأصل».
وعادة الحذف يلجأ اليها بعض الشعراء في حياتهم فلا يقدمون على إعادة طبع مجموعاتهم كاملة، أو المجموعات الشعرية كلها، أو بعض قصائدها، ما لا يعبأ به لاحقا جامعو شعرهم، إذ يعمدون الى تثبيت المجموعات والقصائد المحذوفة من جديد، والى زيادة الألفاظ والتراكيب المحذوفة في هوامش الصفحات لـ «إنارة» القاريء والناقد فعلا (مثلما يفعل منقحو ومعدو طبعات «لابلياد» الشهيرة في فرنسا، عن «دار غاليمار»). أما عادة التحوير التي يقوم بها أدونيس فمختلفة تماما، وهي ليست عملية «تنقيح»، على أي حال، كما يطيب له ان يقول. يكفينا العودة، في قراءة تحليلية سريعة للمطولة في طبعتها الأولى، لكي نتأكد من أن أدونيس سعى فيها الى كتابة حياة أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، واستشهاده شعرا.
وهو ما نتلمسه من عناوين الأقسام، حيث إن كل قسم منها يتخذ سبيلا بينا ومطلوبا في البناء الشعري. ويتضح لنا من دراسة كل قسم أن المعنى مدبر سلفا، أي القصد منه في القول. وهو ما يشير اليه بوضوح عنوان كل قسم، وما يوجه قراءة المعنى فيه. ففي القسم الأول يسلك المعنى سبيلا بينا، هو التمييز بين ما كانت عليه «الأرض» قبل «أول آذار» (عنوان القسم، ويشير الى مولد أنطون سعادة) وبعده، على ان المسار الزمني هذا والواقعة الفاصلة فيه (مولد سعادة) علامة، بل معلم دال على أن الماقبل علامة الجدب، والمابعد علامة الاخضرار. وهو ما ينعقد معناه في ختام القسم الأول في البيت التالي:
«ذاك آذار... ذاك أول آذار
وهذا ابنك العظيم «سعادة»!.»
أما القسم الثاني، «نحن حركة صراع»، فيشير الى حال الأرض، المعينة في جغرافيتها ومدنها (لبنان، صيدون، صنين...)، والى حال الإنسان بعد مولد سعادة، واكتشافهما لحال العبودية وارتسام طريق الحرية. وهو قسم يظهر عبودية الانسان في أرضه، واستعداده في الصراع الى النهوض على أساس الشطر الذي يقول: «كنا - فاخضرت الأشياء». أما القسم الثالث فيشير الى إعدام سعادة، الذي يلخصه البيت التالي: «ناظر معصوب وثائر مرهوب»، والى تأكيد الديمومة عبر الشهادة: «لبنان حي في شهيد». أما القسم الرابع والأخير فيلخصه البيت التالي: «حسب نفسي أني وجدت لنفسي دربها»، أي أن الشاعر توصل، ومعه الشعب، الى تبين الدرب الحقيقي لاستعادة الأرض والانسان هويتهما، وهي هوية تلخصها سيرة سعادة نفسه، غلى ما يقول البيت الأخير في المطولة:
«قيل: كون يبني فقيل بلاد
جمعت كلها فكانت سعادة!»
أما لو عدنا الى «المقاطع»، التي انتهت اليها المطولة-المجموعة في الطبعات اللاحقة لأعمال أدونيس الشعرية، فإننا لن نتبين هذا المسار الذي تتخذه المعاني، بل غيره، ما يغيب تماما كون هذه القصيدة هي سيرة سعادة أو ملحمته الشعرية، ولا تكون بالتالي تنقيحا لسابقتها، بل تبديلا تاما لها، وان تذكر بسابقتها الأصلية. ويمكن لنا أن نجعل التغير هذا بالقول أن ادونيس يغيب النسق السردي، بل الحكائي أحيانا من المطولة مبقيا على الجانب الانشادي-الغنائي.
يطيب لأدونيس القول، منذ نهاية الخمسينات، أنه يجانب «الواقعية» والوقائع، أي الصلة بالزمن. وهو قول تعزز في سيرته الشعرية بتأكيدات تطلب الجوهري دون العارض من المعاني. وهو ما يفسر عمله الدائم والمتمادي على إعادة صياغة شعره. إلا أن هذا الهوس «الكمالي» لا يغيب أبدا صلة أكيدة بالزمن، لا تتأتى وحسب من مقاصد القول عند أدونيس، بل تتحكم أيضا وتطبع أية صياغة وتنقيح لنتاجه الشعري. فأن يعمد أدونيس الى صياغة «قالت الأرض» من جديد في الثمانينات، فهذا لا يعني العمل على تحسينها، وانما على تبديلها وفق ما انتهت اليه قناعاته الشعرية (والايديولوجية وغيرها) في الثمانينات حصرا. ذلك أنه ينطلق أو يطلب من الشعر قولا «نبوي» التطلع والوقع، له عمق المعاني الخالدة، وان يتوسل دوما ويعول على حمولات الزمان والايديولوجية في تقلباتها وتغيراتها. هدفَ التغيير الأول، بين المدونة الأولى والثانية، الى تغيير غرض المطولة، فما عادت ملحمة سعادة الشعرية. أما التغيير الثاني، بين الثانية والثالثة، فهدفَ الى أمر آخر، وهو تحسين فنية القصيدة والتخفف مما بقي من نزعتها الشهادية «الدموية».
إلا أن الأمر - لو تناولنا مجمل شعر أدونيس المعروف - يتعدى ذلك إذ يهدف الى تغييب شعره الحزبي تماما: يشمل الأمر امتناعه عن نشر شعره الحزبي الأول، مثل قصيدة «قافلة المجد» (المنشورة في مجلة الحزب القومي السوري الاجتماعي، «النظام الجديد»، حزيران /يونيو 1948) وغيرها، أو المطولة الشعرية-المجموعة «دليلة» (مطبعة ابن زيدون، دمشق، 1950). وماذا عن المؤلفات التي يعلن عنها في ختام «دليلة» على أنها للمؤلف: «معزوفة الدماء» (ملحمة شعرية، تصدر قريبا)، «هانيبال» (ملحمة شعرية)، «ديدون» (مسرحية شعرية)، و«قلقامش» (مسرحية شعرية)؟ انها تختفي تماما في قائمة كتبه الواردة في صدر كتابه الشعري الآخر، «إذا قلت يا سوريا»، الصادر في بيروت في العام 1958، بعد «قصائد أولى»، والذي اختفى بدوره من قائمة مؤلفاته الشعرية اللاحقة.
غير أن عمليات الاستعادة لا تقتصر على عمليات التغييب، وعلى المحو الحزبي كما أبنا، بل تؤدي أحيانا الى عمليات تنقيح بين نشر وآخر لشعر ادونيس. ولتبيان ذلك سنكتفي بإيراد قصيدة «العمل»، دارسين لهيئتها الطباعية وحسب، كما وردت في أربع مدونات، هي التالية: «اذا قلت يا سوريا»، و«قصائد أولى»، وفي «الأعمال الشعرية الكاملة» في ديوان «أوراق في الريح» وفي «أوراق في الريح»، «صياغة نهائية».
يتبين لنا، بداية، أن القصيدة هذه صدرت في ثلاث مجموعات مختلفة: في «اذا قلت يا سوريا»، في العام 1958 وفي «قصائد أولى»، في العام 1963، وفي «أوراق في الريح»، في طبعتي 1985 و 1988. إلا أن التبديل لم يقتصر على ذلك، بل شمل أيضا الهيئة الطباعية وغيرها ايضا في المدونات الأربع.
نتحقق من حصول تغيير في الهيئة الطباعية، إذ يلجأ في المدونة الثانية الى الفصل في عدة مواضع بين السطور ما يفرز مقاطع جديدة، تضاف الى السابقة الموجودة في المدونة الأولى: 70 مقطعاً في الأولى، 11 في الثانية (على الرغم من حذف أبيات من المدونة الثانية، على ما سنلاحظ) وسبعة في المدونة الثالثة، وأربعة في الرابعة. الى ذلك، يغير أدونيس، في غير موضع، علامات التنقيط: الشارطة (-) بدل النقاط الثلاث، وهذه بالفاصلة، وغيرها كذلك.
اعتمد أدونيس في المدونة الأولى ترتيبا معينا للأبيات، وحافظ عليه في المدونة الثانية، إلا أنه عدله في المدونة الثالثة: بدل الترتيب الأفقي في بعض السطور، في المدونتين الأولى والثانية حيث السطر يذكر بالبناء التناظري، المنقسم الى شطرين، في الشعر الموزون، يلجأ أدونيس الى البناء العمودي زي الأسطر غير المزدوجة. لإيضاح ما نقول نورد شكل مطلع القصيدة في المدونتين الأولى والثانية.
«للعمل
شمر زند الأمل
وانطلقانا،
يزرع في ساعده يزرع فيه الأفقا».
ويصبح في المدونة الثالثة:
«للعمل
شمر رند الأمل
انطلقا،
يزرع في ساعده
يزرع فيه الأفقا».
ولقد تحققنا من ثبوت رأي أدونيس على هذا التعديل في المدونة الثالثة. إذ وجدنا ان المدونة الأولى تعمد في 17 موضعا الى توزيع أسطرها في قسمين، ثم يتغير هذا التوزيع كله في المدونة الثالثة. لن نتوسع في العرض ولا في التحليل، ملاحظين فقط أنه يعمد الى حذف عدة أبيات بين مدونة وأخرى: يحذف في المدونة الثانية تسعة أبيات، ويسقط من المدونة الثالثة 42 بيتا. كما يبدل صياغات عدد من الأبيات، الى غير ذلك من التعديلات التي وقعنا عليها في المدونات الأربع.
يمكننا ان نكثر من هذه الأمثلة: قصيدة «اوراق في الريح» تبلغ في مدونتها الأولى 75 مقطعا، وفي الثالثة 61 مقطعا. وهذا لا يشمل شعر ادونيس الأول، بل شعره اللاحق، حتى حين تكون الفترة الفاصلة بين الطبعتين بسيطة، مثلما جرى في قصيدة «مفرد بصيغة الجمع» التي اختلفت في عدد من موادها بين ما كانت عليه في نشرها الأول (في «مقاطع» في مجلة «مواقف»، العدد 29)، وبين نشرها في ديوان مستقل (في العام 1977 عن «دار العودة» في بيروت). ولهذا نتساءل: ما تعني عبارة أدونيس، «صياغة نهائية» التي بات يضعها، منذ نهاية الثمانينات، على صدر غلاف مجموعاته الشعرية (الصادرة عن «دار الأداب»)؟ أهو يضع، بهذه الطريقة، حدا لمشروع انتهى أخيرا الى تثبيته، حسما - في حسابه الشعري والنقدي- لمراجعات وتعديلات وتنقيحات أجراها على شعره، في مدى طبعاته المختلفة؟ ربما، إلا أنه لا يضع بذلك الكلمة الفصل في تحولات نصوصه: هذا ما يقترحه أدونيس على النقد والتاريخ الأدبي، على ان صياغته «النهائية» هذه ليست سوى حالة من حالات نصوصه، وصيفة من صيغ عديدة، هي السابقة في نتاجه، وان كانت الصيغ «النهائية» تحظي بموافقة الشاعر نفسه. أي أن الناقد والمؤرخ الأدبي ودارس المسودات الأدبية لن ينظر اليها على أنها حقيقة أدونيس أو نصه «النهائي» فعلا، بل على أنها المساعي الأخيرة التي انتهى اليها، جامعا اليها ما غيبه أدونيس من شعره، مثل الأحوال المختلفة لقصائده في طبعاتها المختلفة. فما نقول في ختام دراستنا؟
على مستوى الطريقة المنهجية في مقاربة «تكوين» النصوص الشعرية، يمكننا القول إن المدونات العربية التي درسناها تقترب وتختلف في آن مع ما توصل اليه دارسون أجانب في هذا المجال: توصلت الباحثة دوبوف في دراستها عن بروست الى تعيين ثلاثة أنواع من التعديلات أو التنقيحات: الزيادات والحذف، والنقل، وهو ما تقوله عن المخطوطات. أبإمكاننا أن نستعملها في دراسة الصيغ الثابتة؟
هذا ممكن طبعا إذ أننا نجد في مواد عملنا زيادات عليها (في حال السياب خصوصا، وهي أبيات، أو ألفاظ عند أدونيس، وسميناها في دراستنا «تبديلات»، أو تعديلات)، كما نجد عمليات حذف (إسقاط أبيات مقاطع، قصائد، مجموعات بكاملها، وسميناها في دراستنا «إسقاط»)، إلا اننا لم نجد في أمثلتنا أحوال نقل، ونلاحظ أنها عمليات تناسب المخطوط في حال تكونه، لا المسودات الثابتة. لكننا نجد في امثلتنا أحوالا لا ترصدها دوبوف، وهي أن الكاتب يعيد ترتيب النص الثابت، أي العمل في أقسامه وخطته ومقاصده، كما لو أنه مخطوط قيد العمل، أي ما قبل النص.
لم يتوقف أدونيس، وقبله السياب، عن العمل المستمر في نتاجهما الشعري، مثل نص قابل للكتابة دائما، فكيف يحتفظان بـ«حقهما» في التصرف... الدائم بما كتباه، فيما يمتنع بروست، أو ميلوش، عن ممارسة هذا الحق أو عن مجرد «ادعائه»! قلما يمحض الكاتب الأجنبي نفسه مثل هذا الحق، فالنصوص التي كتبها، الثابتة، باتت خارج حدود تدخله، وان تدخل فيها، فالأمر يحصل في أحوال قليلة، على ما نعرف، ولا يجعل منه بأية حال «أباً» أو «مالكاً» لنص قادرا على التصرف الحر والتام به، بل منتجا جديدا له، على أن اشتغاله المستجد عليه لا يعد تثبيتا نهائيا للنص، كما لو أنه وصل الى حقيقته... الأخيرة والحاسمة. وهو ما تقول به دوبوف، حين تشكك، بل تنفي وجود «نهائية» ما للنصوص.
ما قام به السياب وأدونيس متشابه تماما، وان بدرجات مختلفة، وهو من كشوفات الدراسة الشيقة، إذ كشف لنا عن تصرفات متطابقة، يمكن تفسيرها كذلك في سلوكات الأناسة (الأنثروبولوجيا) الثقافية. ألا نرى في تصرفات أدباء، مثل بروست وميلوش وفلوبير (مثالا، لا حصرا)، امام النص في أحواله التنصيصية المختلفة، كما اشرنا اليها (او كما تتضح في مجالات كتابية معروفة، ولا تحتاج لكبير عرض وشرح)، تعبيرا عن سلوكات شديدة الاحتراف، في مجتمع شديد الكتابية والوثوقية مما يفعله ويقر به؟ وهو ما يتمثل أدبيا في العمل الدؤوب على النص، الصادر عن اشتغالية نظامية عالية، لا تدانيها الحِرفية التي تنبه عنها ترددات السياب وادونيس وتعثراتهما في تثبيت نصوصهما، والتي تفضح شيئا من التسرع كذلك، وعدم أمانتهما واضطلاعهما، بالمقابل، بتبعات حياتهما (ومنهما اسهاماتهما الحزبية) وشعرهما بالتالي: حذف السياب وغيب ما شاء من شعره، المطبوع خصوصا، من دون أن يبرر فعله هذا، أما ادونيس فاكتفى بالقول أنه «تخلى عنه». كما أن الضعف التحريري هذا يبين لنا عدم وجود وسائط بين الشاعر والقاريء، وهو دار النشر بأدوارها المختلفة، ومنها العمل التحريري للنص قبل ثبوت هيئته الطباعية.
إلا أننا نتحقق كذلك، بعيدا عن حالتي السياب وأدونيس، من أن المواد المتوافرة من نصوص الحداثة العربية لا تتيح لنا سؤالها عن التدافعات الدينامية التي كابدتها وخرجت منها، ولا معاينة التجاذبات التي تتعرض لها الكتابة بين تقبلها واستدعائها لموادها (في صورة واعية وغير واعية في صورة مناغمة) وبين قولبتها لهذه المواد في صيغ كتابية، فتقبلها وتشطبها وتثبتها (كلها أو بعضها). إلا أن دراستنا اتاحت لنا الوقوف على عمليات أخرى، واعية هذه المرة، هي التحكم اللاحق بالنصوص وهو على نوعين:
- التحكم الفني، بعد فترة واقعة بين الوضع والنشر، أو بين النشر (الأول) واختيار النصوص والتدقيق فيها في مسعى «نهائي» («خلودي» إذا جاز القول).
- التحكم الايديولوجي، بعد فترة طلبا لتسوية السيرة الشخصية على أن المدونة الشعرية المستند الأقوى عنها.
نسعي الى «تحقيق» النصوص الى التنقيب في «تطريساتها»، كما يقول جينيت، إلا أن هذا لا يوهمنا بأننا قادرون على بلوغ معنى مخبوء، او مستور، في النص، وفي مجموع احواله الكتابية، ذلك أن الأحوال هذه ليست تتابعا لخط متصاعد، ولا تمثلل كل مسودة بالنسبة الى ما سبقها أو لحقها من مسودات تعديلا أو استكمالا لها، وانما هي كلها أحوال، ولكل واحدة منها نسقها المخصوص، ومعناها المخصوص أيضا، عملا بما قاله غير دارس، مثل ميشال فوكو وغيره وهو أننا واهمون أن هناك كاتبا يقف خلف هذه النصوص المجموعة تحت اسمه، وأن هناك «ذاتا» متماسكة، معبرة لا تتوانى عن الظهور والتأكد في النصوص هذه: «نسأل هذه القصص كلها، وهذه القصائد، وهذه المسرحيات المأسوية، (بل نجبرها على القول)، أن تفيدنا عما أتت منه، وعمن كتبها، ونطالب الكاتب أن يفيدنا عن وحدة النصوص الموضوعة تحت اسمه، ونطالبه بالكشف بل بجلاء المعنى المخبوء الذي يخترق هذه النصوص، ونطالبه بأن ينزلها في حياته الشخصية وتجاربه المعاشة، وفي التاريخ الحي الذي شهد ولادة هذه النصوص».

(مجلة "نزوى"، عُمان، عدد 15، 1998، صص 17-32).