الشاعر، المتكلم والصوت
لم تُسعف اللسانية الحديثة، ولا السبل البنيوية، ولا تأويلات الهرمنوطيقا، في إضاءة نص القصيدة في صورة كافية، وبما يشير إلى أنها تموقع إنساني ومسعى في التداول، بحكم أنها حرف ولفظ وشكل ومستويات وأبنية وغيرها. وإذا كان النقد القديم - نقد الشرح، أو النقد البلاغي - اقتصر على معالجات تجزيئية وتقنية للقصيدة، فإن المساعي الحديثة لم تكن أفضل حالاً، وإن اتسم عملها بقدر عال من الاتساق ومن المعاينة الفحصية الدقيقة؛ ذلك أن هذه المساعي أحالت النص إلى بنية من ذرات وعلاقات، وإلى مجسمات تصميمية، غافلةً أو مسقطة ما هو في أساس صدور القصيدة: وهو أنها تلفظٌ، له ما يستدعيه وما يُبتغى منه في تداول يسبقه ويتعداه فيما يشارك فيه. ولو شئت - في مسعى اختصاري، تمهيدي – لتحدثت عن ثلاثة عوائق:
هذا ما يتمثل، في معاينة أولى، في افتقار درس الشعر إلى مقاربات علوم الإنسان والمجتمع المختلفة، فهو لا يفيد منها، ويكاد هذا الدرس أن يكون خلواً منها: فلا القصيدة تتنزل في سياقات، ولا تصدر عن مقاصد؛ كما لو أنها تتنقل خارج هواء الزمن، وخارج الدوافع والمحركات الاجتماعية والنفسية التي تطلقها وتتلقاها.
وهذا ما يتمثل، في معاينة ثانية، في غياب الدرس الكافي لأسباب انتقال موجبات تأليف الشعر العربي، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، من سياق البلاطات ومجالس العلماء إلى سياق القارىء العمومي، سواء مع غيره في حفل أو شارع، أو في غرفته وجلسته الصامتة.
وهذا ما يتمثل، في معاينة ثالثة، في غياب الدرس للعلاقات المعقدة بين الشاعر والقول الشعري، حيث أننا لا نوليها عناية كافية، أو نختصرها في فهم مبسط، يمكن التدليل عليه في هذه الاختصارات: بسرعة وابتسار نقيم الربط بين الشاعر بوصفه شاعراً وبينه بوصفه كائناً اجتماعياً، وبين اسمه العائلي واسمه الفني، إن طلبنا الترميز؛ وبسرعة وابتسار نقيم التلازم بل التطابق بين هذا الاسم وبين قوله الشعري من دون تبين العمليات التحويلية بينهما (بما تتيحه، حسب المقاربات النفسية، من عمليات تكثيف وتحوير وتبديل وترميز وتصعيد وغيرها)؛ وبسرعة وابتسار نقيم التلازم بل التطابق بين القول الشعري والمتكلم (أو المتكلمين) فيها، من دون أن نميز في مباني القصيدة ومقاصدها بين المتكلم والصوت، من جهة، وبين الفعل الكتابي نفسه والفعل التخاطبي، من جهة ثانية.
وهي معاينات أنتهي بها إلى طرح الإشكالية التالية: إن ما سقته أعلاه يمكن أن يندرج في تحديد القصيدة الحديثة عموماً، أو في المساعي المفتقدة في درسها العربي، فهل يمكن الدارس أن يتبين ما إذا كانت القصيدة العربية الحديثة أقامت في هذه الفسحات التي أتاحتها انتقالة القصيدة من السماع إلى القراءة، من الخطبة إلى الكتاب، من التحكم الاجتماعي الوظيفي إلى التعبيرالإرسالي الفردي؟ هل القصيدة تنبني وفقاً لمهارة مستعملة وموظفة في الطلبات الاجتماعية، ولأداء احتياجات خارجها، أم هي ممارسة أقرب إلى الفعل الفردي (النرجسي أحياناً، أي الذي يتمارى فيما ينظر إلى غيره) الذي ينتظم وفق تحديدات مغايرة، تقع بين الشاعر وبين القارئ العمومي؟
وهو ما يمكن أن أدفعه في وجهة أقوى، وهي: هل القصيدة سهلت تحويل نفسها إلى مدونة ذاتية، أم أنها أوجبت اجتماعية جديدة لها؟ هل الشاعر يسوق قصيدته مثل الخطيب خطبته أم أنه ينجلي فيها فيما يكتبها؟ هل يكتبها فيما تكتبه؟ هل يتعرف عليها بعد الانتهاء منها أم يتعين صنيعه فيها، في طلبٍ عليها، تمليه تحديدات اجتماعية وإيديولوجية وغيرها؟
لهذا قصرت درسي، في هذه الورقة، على الشق الأخير من الإشكالية، وهو علاقة الشاعر بالمتكلم وبالصوت في القصيدة، ما يجمع الشاغل البحثي في هذه الورقة حول السؤال التالي: أي وظيفة يخصها الشاعر لنفسه في قصيدته؟ ما دعواه لنفسه؟
واخترت لمعالجتها التوقف عند ثلاثة شعراء: معروف الرصافي في "ديوانه" (1)، ومحمد الماغوط في "ديوانه" (2)، وبول شاوول في مجموعته "أوراق الغائب" (3).
***
من يتصفح مجموعات وقصائد الشعر لعدد من الشعراء "النهضويين" ولاحقيهم المباشرين، تستوقفه عناوينها التي ليست بعناوين بعد. وسببُ ذلك يعود إلى أن فكرة "المجموعة" لم تظهر بعد، على ما درست سابقاً، ولم تظهر "السياسات" التي ستسم المجموعة لاحقاً، وهي سياسات إظهارها وتقديمها وتسويقها. وما كان معمولاً به هو طبع "جزء أول" من ديوان "مفتوح"، لا يلبث أن يكتمل، بل أن ينغلق، مع موت الشاعر أو توقفه عن كتابة الشعر.
لا نعثر على اسم مجموعة شعرية، ولا على اسم قصيدة في أحوال كثيرة، حيث أن العنوان يشير إلى جزء من بيتها الأول، أو إلى "مناسبتها". إلا أن ما يستوقف في متابعة هذه العناوين-المناسبات يتعدى الجانب "الإشهاري" لها (4)، إذ تبدو هذه القصائد غير معنية بجذب القارىء إليها ابتداء من عناوينها. وقد يعود سببُ ذلك إلى أن هذه القصائد كانت تتلى ثم تنشر، أو تنشر مباشرة في جريدة، قبل طبعها اللاحق في الديوان، "الحافظ الختامي" للشعر (5). وهو ما يفسر اقتران القصيدة أيضاً بشرح لمناسبتها... وهي أسباب مختلفة ترينا بأن القصيدة ما كانت تحتاج، عند تلاوتها في حفل، أو عند نشرها في جريدة، إلى ما يجذب القارئ إليها، طالما أنها "منتظرة" من جمهور سامعيها (عند إلقائها في حفل)، أو تحظى سلفاً بأوسع تعريف بها لنشرها في أقوى الحوامل الإشهارية في ذلك العهد، أي الجريدة. لذلك يمكن الحديث عن شعر يتم "حفظه"، في المقام الأول، عند طبعه في كتاب أو ديوان، ولا تنشأ بين المجموعة الشعرية المزمع إصدارها، وعند وضعها قصائد وعناوين، وبين القارئ العمومي والمفترض علاقة جذب أو إثارة أو مناداة أو غيرها من التعالقات المتحققة أو المبتغاة.
تقول العبارة الشهيرة: "يُقرأ المكتوب من عنوانه"، فيما يتحدث جيرار جينيت عن "العتبة" و"العتبات" (6)، التي تعني الابتداء من العناوين، بوصفها مداخل لازمة لدراسة النصوص الأدبية، ومنها الشعرية. وقراءة عناوين مجموعات الشعر، ومناسباته خصوصاً، مدخل لازم لدرس هذا الشعر، بل يمكن القول إنه درسٌ مفيد عن علاقة شخص الشاعر باسمه الشعري، أي عن علاقة الشاعر بالقول الشعري، كما أطلب درسها في وقفة أولى.
ما يستوقف في "ديوان" الشاعر العراقي معروف الرصافي - مكتفياً بمجلده الأول وحسب -، هو تنوع "المناسبات" الشعرية نفسها (7)؛ وهو تنوع يمكن أن أحدده في الوظائف التالية:
* الشاعر خطيباً في حفل عمومي، بناء لدعوة موجهة إليه؛
* الشاعر خطيباً في حفل عمومي، بناء لاقتراح منه؛
* الشاعر يجيب شعراً على رسالة موجهة إليه، ما يمكن تقريبه من الوظيفة السابقة، على أن الشاعر يشارك في الحفل عن بعد، كتابياً وحسب؛
* الشاعر في مناسبة اجتماعية خاصة (مثل زواج وغيره)؛
* الشاعر في "مراسلة" شعرية يتوجه بها إلى أديب أو صديق، عن بعد؛
* الشاعر يكتب بناء لاقتراح من أصدقائه (بعد تمضية ليلة في ملهى، في استانيول، على سبيل المثال).
ولو شئت التفقد أكثر لانتبهت كذلك إلى أن شعر "المناسبات" يتعدى المجلد الأول من ديوانه، وهو ما يتأكد في صورة أقوى في المجلد الثاني، ولا سيما في "المقطعات الشعرية" الكثيرة فيه.
إلا أننا نجد، إلى جانب شعر المناسبات، نوعين آخرين من الشعر:
- نوع ثقافي المصدر، إذا جاز القول، ويتمثل في كتابة قصائد تبعاً لما اطلع الشاعر عليه في المدونات الطباعية والثقافية والعلمية، من "كونيات" و"فلسفيات"، وما التزم به في قناعاته ابتداء منها؛
- نوع فردي المصدر، يتمثل في ما "عاينه" الشاعر بنفسه، مثل قوله: الشاعر كتب "عياناً" في ما شاهده في الأعظمية (حي في بغداد).
إذا كنت قد أشرت أعلاه إلى "المناسبة" بوصفهاً سبباً في تكوين القصائد، فإنما أردت من ذلك أيضاً الإشارة إلى أمر آخر، وهو أن الشاعر ألزم نفسه - فضلاً عن قصيدته، وقبل مباشرة القصيدة - بما لها أن تكون، وبما له أن يكون: إلزام طبقاً لموجبات هذا العقد الاجتماعي، قبل أن يكون شعرياً. فمن يُدعى هو شاعر بعينه؛ وإذ يَقبل الشاعرُ الدعوة يتقيد بما له أن يكون، أي "خطيبَ" حفلتها، أي "المتكلم"، الذي يتكلم باسمها إذ يخاطبها، وإن يصدر الكلام الشعري بلسانه هو. هناك توافق معقود سلفاً، بل هناك تواطوء ملزم للشاعر خصوصاً بمجرد قبوله الدعوة، وهو أن يكون بحجم المرتجى من قوله من أصحاب الدعوة. وهو ما يمكن تلخيصه بالقول التالي: أفق المعنى الذي كان له أن يكون للقارئ بات مؤطراً سلفاً، ومحجوزاً من قبل الشاعر لصالح الحساب الاعتباري الذي للجهة الداعية. أما القارئ العمومي، فله أن ينتظر صدور القصيدة في جريدة، أو لاحقاً في كتاب... إذ أن الشاعر "مشغول"، إن صح القول، بتلبية رغبات من سيكونون في الصفوف الأولى في الحفل، ومن استعدوا للتصفيق بمجرد السماع (أو من سيتابعون، بل يستبقون وقوع القوافي في أمكنتها المناسبة قبل تلفظها من الشاعر نفسه).
ما يعنيني تبينه، في هذا الاستعراض الاختصاري، هو ملاحظة المفارقة بين "المناسبة" نفسها، وبين "مكانة" الرصافي: فما يستوقف في قصائد الشاعر هو أن العدد الأكبر منها، الذي لا يشتمل على "مناسبة"، يعود إلى ما كان الرصافي قد نشره (ووضعه طبعاً) في الجزء الأول من شعره، ويمكن أن أضيف إليه ما قاله في "الكونيات" و"الفلسفيات". وهذا يعني أن شعر "المناسبات" تركز وتعاظم لما تحققت للرصافي مكانته الشعرية، والاجتماعية بالتالي.
وهذا يعني أن الشاعر يبني "مكانة"، ولا يبني قصيدة. وهي مكانة تتعين في جسد الشاعر الطبيعي، الاجتماعي، لا الرمزي، مثلما يتحصل عليها الشاعر الذي يبني قصيدته، بفعل تراكم التقدير لشعره، من دون أن نعرف له وجهاً، أو أن ندعى إلى إحدى أمسياته.
للشاعر، في شعر كهذا، أن يظهر، لا أن يتخفى؛ وله أن يوجِّه لا أن يتردد في ما يقول. وله أن يقول "قصيدة عصماء"، لا قصيدة مترددة في ما لها أن تقول. له أن يكون مالك القصيدة الحصري، من دون تشويش أو التباس. وهو في ذلك يتصدر القصيدة، يعلوها، وتسبقه مثل بطاقة تعريف. وهو بالتالي لا يكتبها، إن جاز القول، بل يتلفظها. القصيدة تستبق الشاعر إلى جلسته الكتابية، إذ أنها تلبي احتياجاته الاجتماعية والرمزية في التصدر، في التموقع.
القصيدة تكون بذلك إظهاراً، بل تأكيداً لصورة الشاعر لنفسه، لقوله، ورافعةً لتصدره، لتثبيت اسمه، لتأكيد وإعلاء صنعته. حتى أننا بتنا لا نقرأ قصيدة بعينها، وإنما نقرأ لهذا الشاعر...
لهذه الأسباب وغيرها يمكن القول إننا أمام شاعر، لا أمام قصائد. وهو - أي الشاعر – هو الذي يمسك بنسيج القول الشعري، والقصيدة هي التي يمليها الشاعر على غيره، بما فيها على نفسه.
لهذا يصعب الحديث عن متكلم في القصيدة غير الشاعر نفسه، غيره بوصفه صاحب هذا الاسم الاجتماعي ومالك هذه القصيدة؛ كما يصعب الحديث عن صوت (وأصوات) في القصيدة، إذ أن الاسم الاجتماعي للشاعر بوصفه شاعراً هو الذي يمسك بالقصيدة مثل خطيب يعلو جمهوره.
***
تختفي "المناسبة" في القصيدة – لو تابعت مراجعة أعمال شعرية لاحقة على ديوان الرصافي -، وفق تدبير طباعي، من جهة، ووفق تدبير أخفى يعين في صورة معدلة علاقة الشاعر بقوله. وبعد الكلام أعلاه عن "اسم اجتماعي" للشاعر، يمكن التنبه إلى بروز "اسم فني" له، من "الشاعر القروي" حتى "أدونيس" مروراً بـ"جماعة أبوللو" وغيرها. وهذا ما يصيب القصيدة نفسها، حيث أن المتكلم فيها بات "الفينيق" أو "المسيح" أو "قدموس" وغيرهم.
درسَ البعض هذا الإظهار الجديد لصورة الشاعر لنفسه تحت دائرة "القناع"؛ وهو مصطلح غير موفق في حسابي، ولأكثر من سبب: من هذه الأسباب أن الحديث عن "القناع" يفترض ضمناً على الأقل، وجود تباين أو مسافة بين القناع والاسم، بين المبنى والمعنى، كما لو أن الشاعر يختفي فعلاً، فلا يندرج ويتورط في ما يقول. إلا أن أقوى الأسباب يبقى في ناظري قائماً في إساءة الفهم إلى "القناع" نفسه، منذ التجربة الإغريقية في التمثيل: فقد كان القناع الإغريقي يخفي هوية الممثل، بما يجعل القول مفصولاً عن متحدثه، لا ملصوقاً به؛ وهو نوع من أنواع "التبعيد" المبكر، حسب الطريقة البرشتية. أما أن يتحول "القناع" إلى "جسد ثان" للشاعر فهو أمر آخر، ويحتاج إلى تبين ودرس (8).
ما أريد أن أشير إليه بنوع من الاختصار هو أن الشاعر هذا لا يتدبر قناعاً له، بل اسماً إضافياً، يقوي ويعلي من مكانته الرمزية. هو نوع من الاحتفاء بالاسم، بتملكه لغيره، حتى أن اسم أدونيس الفني بات أشهر من اسمه العائلي.
إذا كان الكلام السابق لم يظهر تبايناً بين الاسم العائلي والاسم الفني، فإنه أظهر تبايناً بين الشاعر والقول الشعري، حيث بات الشاعر ينصرف إلى قوله، عوالاً عليه في صورة مختلفة، ويولي البناء الفني أسبقية على "مناسبة" القول نفسها؛ بل اختفت أو كادت تختفي هذه المناسبة، إن لم تعد "خادمة" للقصيدة نفسها، منطوية في تضاعيفها، ملتمة على أقوالها.
هكذا يجعل صلاح عبد الصبور من مجموعته فرصة للكلام: "أقول لكم"، في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه عن "الناس في بلادي"، حيث العلاقة الجديدة باتت ممكنة بين ما له أن يقوله لهم، وما له أن يقوله فيهم (9). وهو نوع من التبعيد، من إقامة المسافة، ما يخفف من التماهي التقليدي والشعري بين الشاعر فرداً وبينه مندغماً في الجماعة.
وهو تموقع جديد يسمح بالانفصال، من جهة، وبالتكلم ابتداء منه، من جهة ثانية. يتحدث البياتي عن "المخبر"، وغيره عن "الحلاق"، ما يشير إلى نوع من الفكاك، من إلقاء النظر... وهو قول يعكس "تبرم" الإنسان في الشاعر من جماعته، في نوع من التعيين استناداً
إلى "الوعي": هو تخلص من عواقب "الاستلاب" فيما يرتع فيه غيره.
ولقد اكتفيت بالوقوف على جانب وحسب من "مدونة المتكلم" في شعر الماغوط، فقصرتها على ما يعلنه المتكلم بنفسه عن نفسه، وبالحرف العريض، فهو: متشرد وجريح، ومريض، وشبح غريب مجهول، وجارح، وفقير، ومهرج، وظمآن، وإنسان تبغ وشوارع وأسمال، وصاخب، وعبد حقيقي، ومخذول، ومزمار الشتاء البارد، ووردة العار الكبيرة، وطائر من الريف، والزهرة المحاربة، والنسر الذي يضرب فريسته بلا شفقة، والسفينة الفارغة، والشريد، ورجل من الصفيح، وأغنية ثقيلة حادة، والوحيد الذي مر في الشارع من دون أن يحييه أحد، ووحيد، وطفل أبله، وضجر، وزعيم الأرائك الفارغة، ومرهق وخجول، وهائم في الطرقات، وخائن، وحذاء، والذي لم يقتل "حتى الآن"، والطفل الضال، والكوخ المتداعي وغيرها (10).
وهي تعيينات سلبية، على ما يمكن ملاحظته، تختلف بل تعاكس صوراً أخرة توكيدية أو رمزية للشاعر العربي، مثل الخطيب الجماهيري أو الرائي أو "لغم الحضارة" وغيرها. وما وجبت ملاحظته، في سجل الصور السلبية هذه، هو أنها إذ تعلن هويتها الضدية تتذمر وتشكو مما هي عليه، مما يعطي هذا الكلام عن الذات بعداً متنوعاً، يخفف من إلحاحيته الهَوَسِيّة، إذا جاز القول.
وهو إقبال غامض على الشعر بقدر ما هو مشتهى، إقبال تملكي بقدر ما هو "بري"، في تحققاته اللغوية: كما لو أنه شكل من النزول إلى المدينة، إلى أن يكون موجوداً؛ فما دخل الماغوط إلى الشعر – مثل غيره – بلغة أجنبية واحدة على الأقل، ما زاد في تشهيه، في دخوله الضاج.
بمثل هذه الإعلانات التوكيدية، بل التي تأتي أحياناً في تراكيب لغوية على قدر من الفجاجة والمباشرة، لا يبني الماغوط مكانته الطبيعية، مثل الرصافي، بل مكانته الرمزية، الشعرية. وعماده في ذلك قصيدته وصورُها، بما فيها وخصوصاً صورة الشاعر لنفسه (11).
***
يبدأ المقطع الأول في مجموعة الشاعر اللبناني بول شاوول "أوراق الغائب" (1992) بالحديث عن "جسد الغائب"، وينتهي المقطع الأخير بهذه الجملة: "سريره/ يحفظ/ رائحته/ الأخيرةَ/ سريرُه" (ص 119). وبين جسد الغائب وما يبقى منه في سريره ينعقد الكلام الشعري، خصوصاً وأن المقطع الأول من المجموعة يفيد بأن "في الغرفة لا يوقظ الجسد مداه. تعوزه حواس أو أن يستبقيه كلام" (ص 7). هذا ما تعد به المجموعة منذ مفتتحها، وهو ما يوفره لها الشاعر، إذ سيوفر للغائب الحواس وإن بعد الموت، بل سيوفر الكلامَ للغائب بما يستبقيه، في ما كان عليه، في ما هو عليه، في غيابه الماثل، المسجى في دار القصيدة. إنها، إذن، قصيدة ما بعد الغياب، على أن له حضوراً مخصوصاً، هو ما نستبينه في مقاطعها المتسلسلة. أهي قصيدة الغائب بوصفه متكلماً، بوصفه ضمير الغائب؟
مرة أخرى أتأكد، بعد إميل بنفينيست، وبعد ما سقته وبنيته في كتابي "الشعرية العربية الحديثة" وفي غيره أيضاً، من أن الضمائر في العربية تصلح لمقاربة القصيدة في أكثر من مستوى من مستوياتها. وهو ما أقصره في هذا البحث – كما سبق التحديد – على مدونة المتكلم. فمن المتكلم في مجموعة شاوول؟
يصعب على الدارس، وعلى القارئ قبله، التعرف على هوية المتكلمين في هذه القصيدة ذات المقاطع أو الابتداءات العديدة. يصعب تحديد المتكلم من جهتين:
- من الجهة الشعرية، أي ما يظهر عليه ويتبناه وينسبه إلى نفسه أو إلى غيره،
- من جهة هويته، أي ما يمكن طرحه في الأسئلة التالية: من هو هذا المتكلم؟ أهو متكلم محض؟ أهو متكلم قابل للتعريف والتعيين؟ أهو متكلم يعود إلى شخص بعينه أو متخيل؟ أهو الشاعر نفسه أم الإنسان الذي هو عليه أم غيره؟ ما صلة المتكلم بالشاعر أو بشخصه؟ أهناك صلة بينهما؟ أي صلة؟ أهي صلة توكيد أو تبعيد؟ أهي صلة سيرية أو تعبيرية أو تخيلية؟
إن تفقد "أوراق الغائب، أو التنصت لمستويات التكلم فيه، يُظهر صعوبة تحديد المتكلم، سواء المضمر، أو المعلن، ما يطرح السؤال: أهو المتكلم عينه كلما تكلم متكلم مضمر أو معلن؟
ربما يصح الكلام عن متكلم مضمر واحد في هذه المجموعة الشعرية، وهو أشبه بالراوي في الرواية، حيث لا يتكلم تصريحاً بل عن غيره. هذا المتكلم لا يظهر ولا يتعين نحوياً بأدوات المتكلم المعروفة في الضمائر المنفصلة والمتصلة بالعربية، وإنما يظهر في كون بعض الكلام يصدر عنه وحسب، وعن غيره، ولا سيما عن الغائب. فهو يرى حيث لا يرى غيره، وهو ثاقب للقشرة الخارجية التي للأشياء والكائنات: يسبر أحياناً ويعبر عما يدور ويختلج فيها. هو دور شعري، إذن، وله وظيفية سردية في المقام الأول؛ ويزيد من أهمية دوره كونه يتحدث عن غائب، حيث أن للغائب أفعالاً وأحوالاً، إلا أنها ليست كمثل أفعال البشر وأحوالهم:
"وقع خطاي لا يعلن حضوراً" (ص 26)؛
"غيابه/يضيء/بلا رحمة" (ص 88).
ذلك أن الراوي - هكذا سأعينه من الآن وصاعداً، تسهيلاً للتعيينات – يرى ما لا يراه أحد، ما لا قدرة لأحد على فعله. فهو يعرف بأن "السروة يزرعها الموتى بعد موتهم" (ص 11)؛ وأن "الموتى يتسامرون في الحديقة وتسمعهم" (ص 20)؛ كما يعرف ما يجري في غرفة أخرى غير التي يصفها (ص 21)... هو وحده القادر على ذلك، طالما أنه يقول: "الغائب يفتح عينيه منذ الصباح ولا يراه أحد" (ص 25): بلى، يراه هذا المتكلم-الراوي وحده، وفي القصيدة. وهو وجه أول من أوجه مثول الراوي، إذ أنه يبادر، في مقاطع، إلى التكلم، إلى المخاطبة، فيتوجه إلى الغائب الجسدي ويناديه، بل يعبر عما يخفيه أو لا يصرح به: "في ما يحدق جسدكَ في بياض أسرته" (ص 38). وهو ما يتكرر في أسئلة أخرى في القصيدة، في تخاطب يلقيه الراوي على الغائب الماثل لعينيه وحده.
هناك الراوي، وهناك الغائب طبعاً، وهو ينصرف إلى التكلم في غالب المقاطع. إلا أنه وجب السؤال: ماذا عن هذا المتكلم المعلن؟ أهو عينه كلما أعلن سطر وجملة عمن يضطلع بالكلام ويتبناه؟
يمكننا - كما فعلنا مع الراوي - أن نتتبع أقواله والسياقات التي يقع فيها لكي نستجمع ما يدل على هويته، لا الكلامية وحسب وإنما الجسدية أيضاً. وهو ما ننتهي إلى تبينه في القصيدة، حيث أننا نقع على الغائب بوصفه متكلماً. وهو يتكلم في ما كانه، في استعادة بعض سيرته الطفولية (أو "الطفل الذي ذهب ولم يعد")، أو عند سقوطه بأكثر من رصاصة (طالما أنه يشير إلى رصاصة "أولى"، بما يدل على وجود غيرها بالضرورة)، أو في ما يعايشه من أحوال، وهو مسجى.
وهو في ذلك يتكالم ويكالم، في توظيفين مختلفين للتخاطب مع غيره. فهو في حال "يتكالم"، بمعنى أنه يوجه الحديث إلى مخاطب لا يعدو كونه نفسه، أو يوجه الحديث إلى غيره، إلى مخاطب، على أنه يعود إليه:
"كيف لي أن أسمعكِ. تتكلمين بأصوات كثيرة وحدكِ. كيف لي أن أتلمسكِ
تقتربين بأجساد كثيرة وحدكِ.
كيف لي أن أراك. تجلسين في مقاعد كثيرة وحدك" (ص 82)؛ أو في هذا القول: "من يتنفس فوق رأسي كل هذا الليل ولا أجيبه؟" (ص 24).
وهو، في حال أخرى، "يكالم"، أي يوجه حديثه إلى غيره: "كانت/ الهاوية/ أكبر/ من/ خطاي./ خلفكِ" (ص 70).
ومعه يتوجب السؤال: مَن الراوي مِن الغائب؟ من يكون الراوي إذ يتكلم ومن يكون الغائب إذ يروي؟ أهو بول شاوول شخصياً؟ أهو الشاعر بول شاوول؟ أهو مما يقع بينهما، فيهما وأبعد منهما؟ وماذا عن هوية الغائب؟ أهو غائب بعينه؟ أهو غائب الحروب التي تتحدث عنها القصيدة؟ أهو غائب رمزي؟ إلى من يرمز؟ أإلى الشاعر شاوول؟ وماذا عن هذا الغياب؟ أهو غياب جسدي أم نفسي؟ تخيلي أم تأملي؟
مدَّد شاوول الغائبَ فوق سرير القصيدة، فيما استقام، هو، فوق سرير التخييل الشعري (الذي له غرفات وصلات ممتدة مع التحليل النفسي). وهذا ما يجد في "الاستيهام" (fantasme ) مرتكزه النفسي-الشعري. إذ قد يسارع البعض – والشاعر شاوول مسرحي مجدد ومعروف – إلى تنسيب صنيعه الشعري إلى المسرحة، فيما أجده أقرب إلى السرد: فإذا كان الروائي يغطي تخيلاته الاستيهامية في السرد التقليدي بالشخصيات الروائية، فإن الشاعر شاوول بسط لاستيهامه الجنائزي وضعيات هي أقرب إلى السرد الحديث؛ وهي وضعيات قابلة لتكلم له أن يتكفل به متكلم، وله أن يصفه راء محيط به. وهو استيهام يبلغ أشده إذ يضع الشاعر نفسه في وضعيات احتمالية لغيابه، ويكون السؤال الشعري بامتياز: كيف يتحول فعل التكلم إلى فعل تخيلي؟
وهذا ما يجد في صورة السرير مرتكزه الوجودي: فوق أسرَّة التحليل النفسي يتكلم المريض، وهو قيد التمدد، عن جسده، أحياناً بوصفه حاضراً في ما هو عليه، وأحياناً بوصفه غائباً؛ وفي الحالين للكلام عن الجسد مثول جنائزي.
كتب بول شاوول في بحث نقدي حول "النص المفتوح"، يعود إلى العام 1981، كلاماً يشير، من وجه خفي، إلى قصيدته التي سينتهي إلى كتابتها: "يتم فيه (النص المفتوح) اقتراح فضاء للنص متعدد الاتجاهات حتى لا نقول لانهائي الاتجاهات. هذا اللانهائي تعبير عن لانهائي التأويل وغير محصور بالإيحاء الناجز، أو بالمعنى النهائي، أو بالإحساس الأحادي من ضمن غنى في النص وتشعب في الملامح (وهذا لا يعني تعقيداً في التجلي أو في الأسلوب أو في التعبير)، بحيث يكتسب النص أكثر فأكثر خصباًَ (...). في هذه الكتابة المفتوحة، يبدو النص كالآخر المجهول بلا حدود" (12).
كما سبق للوتريامون أن كتب: "أكتب فوق سرير موتي"، بعد أن وجدت في مسعى شاوول تقابلاً مع مسعى لوتريامون في أكثر من مستوى في التعبير، بل في التجربة الشعرية. أكتفي بذكر واحد منها: الشبح عند لوتريامون والغائب عند شاوول. يقول الشاعر الفرنسي: "أنا، بدوري، نزعوا جلدة رأسي"، أو يقول في موضع آخر: "لنبحث عن هذا الجسد غير الموجود، والذي تراه عيناي مع ذلك (...). الشبح يسخر مني: يعينني في البحث عن جسده المخصوص. وأنا إن أشرت إليه بأن يبقى في مكانه، تراه يرد لي الإشارة عينها" (13).
لوتريامون أقام التبعيد، منذ الاسم، بينه في نسبه وبينه في كتابته، مثلما أقام الازدواج في جسد المتكلم، بين ما هو ماثلاً وما هو شبحاً، بينه حاضراً وبينه معطوباً. وهو ما تشير إليه جوليا كريستيفا في حديثها عن أن "الفردانية" - التي هي في أساس التعبير في الشعر الحديث الفرنسي - تحولت مع لوتريامون إلى "فردانية كالييودوسكوبية"، أي متعددة المرايا العاكسة ( 14 ).
***
أنتهي من هذه المراجعة إلى القول: لقصيدة الرصافي خطيب يقف فيها، فيما يقف الماغوط خلف ورقة القصيدة بوصفها مرآة ونافذة، ويتنقل شاوول فوق خشبة هي بمثابة غرفة جانبية أو كواليس للقصيدة.
الرصافي يعمل "في خدمة" الشاعر الذي هو، الذي انتهى إلى أن يكون عليه من دور، من مكانة؛ وهو بحكم ذلك يمنعنا من أن نقيم أي اتصال، أو التباس، أو تداخل، بين الشاعر والمتكلم (في القصيدة)، لصالح الشاعر، لصالح الاسم الاجتماعي.
أما الماغوط فيعمل "في خدمة" متكلم، يقع فيه وأبعد منه، خصوصاً وأن ما يقوله المتكلم عن نفسه ليس مدعاة لافتخار أو تباه. فيما يعمل شاوول "في خدمة" القصيدة، على أنها شخصية أو تنتسب إلى سيرة متخيلة، لا يظهر فيها الشاعر وإن يتنقل خفية؛ وهو إذ يتنقل يتغير "الموقع" الذي يتم التكلم انطلاقاً منه. فلميتة الغائب تفسيرات شتى ومتضاربة: قد تكون ميتة رمزية، مبتة ابتعادية، ميتة استباقية... وهذا ما يغري في البحث عن التشابكات والتداخلات الثرية، عند شاوول، بين الشاعر-الاسم الاجتماعي والمتكلم، بين المتكلم والمتكلمين، وبين المتكلم والصوت (الأصوات).
أعود من جديد إلى استعارة "الجسد الثاني"؛ وأريد منها التدليل على إمساك الجسد الأول بتلابيب القول الشعري، بتوظيفاته واستثماراته، في المعنى، في الحساب الاعتباري. وهو نوع من اللحمة في مجتمع لا يفصل بعد بين وحداته.
يتحدث أحد محاور المؤتمر عن "تعددية" وعن "تنوع" بما يشير إلى علاقات الشعر بغيره إبداعياً، وإلى علاقات التنوع التي لها أن تربط شعرنا بغيره من الثقافات. إلا أنني طلبت في هذا البحث إزاحة هذا الموضوع صوب وجهة أخرى: تريد إظهار أن التعدد قد يقع (ولماذا لا يقع؟) في الشاعر، في القصيدة نفسها؟ لماذا لا يكون "التعدد" و"التنوع" (المطلوبين في سؤال المؤتمر) في تمكين القصيدة من أساليب مثل السرد والمسرح واللقطة وغيرها في مبانيها الفنية؟ لماذا لا يقع التعدد بين الشاعر والمتكلم، بين المتكلم نفسه وبين الصوت؟ لماذا لا يقع التعدد في أدوات القصيدة نفسها؟ وهو ما أوجهه في وجهة ثانية: لماذا لا نرى إلى القول الشعري إلا بوصفه خطبة أو مقالة أو تسديداً لقول؟ لماذا لا يكون القول الشعري حواراً، له أصوات متعددة؟ لماذا لا يكون الصوت إلا برفعه؟ لماذا لا يكون بخفضه، بما يصلح لجلسة صامتة، بين القارىء ونفسه؟ لماذا لا يكون القول الشعري سوى تحكم وتسديد له، فلا يسمح بتردد في مبانيه، بلعثمة في حروفه، بتشاطر القول الشعري بين متكلمين مختلفين؟
الهوامش
1 : معروف الرصافي : "ديوان"، دار العودة، بيروت، مجلدان، 1986؛ وتحيل الشواهد إليه.
2 : محمد الماغوط : "الآثار الكاملة"، دار العودة، بيروت، من دون تاريخ، وتحيل الشواهد إليه.
3 : بول شاوول : "أوراق الغائب"، دار الجديد، بيروت، 1992، وتحيل الشواهد إليه.
4 : تروق لي تسمية التونسيين: "الإشهار"، لما نسميه في بلادنا بـ"الدعاية"، إذ أن مقترحهم يفيد الإظهار كما الترويج، وفي الوقت عينه، ما يشير إلى دلالات أقوى عما نريد التحدث عنه.
ولقد قصرت بحثي على جزء وحسب من "مدونة المتكلم"، طالما أن الكلام يفيض دوماً عن كاتبه، عن متكلمه، كما يقول جاك دورندو: "أن نكون وأن نتكلم: لسنا (أو لا نتعين في) ما نقول، لأننا نقول دائماً أشياء أخرى غير ما نقول في الوقت الذي نقول":
Jacques Durandeaux : Poétique analytique, Seuil, Paris, 1982, p. 59.
5 : شربل داغر : "تكوين الدواوين والمجموعات الشعرية"، مجلة نزوى، مسقط، 1998، العدد 13.
6 : Gérard Genette : Seuils, Seuil, Paris, 1982.
7 : تخفيفاً للنص أعلاه، وتسهيلاً للقراءة، نقلت الشواهد المستقاة من المجلد الأول من "ديوان الرصافي" إلى الهوامش:
"إلى الشبان" (1، 186-194): طلب شبان عرب من الرصافي نظم قصيدة ليوم افتتاح "المنتدى الأدبي" في الآستانة؛
"إلى أبناء الوطن" (1، 203- 211): قالها يوم عودته إلى بغداد في العام 1923؛
"في منتدى التهذيب" (1، 217- 223): قالها في حفلة افتتاح "منتدى التهذيب" في بغداد؛
"في زحلة" (1، 224- 228): قالها في حفلة أقيمت له وللريحاني في زحلة، في 1923؛
"الحياة الاجتماعية" (1، 235-239): أنشدها في حفلة تأسيس "حماية الأطفال"، في بغداد، في 1938؛
"في سبيل الوطنية" (1، 240-249): "كتب إليه صديقه فخري البارودي، وهو إذذاك في بيروت، يخبره بأنه ألف في دمشق "شركة المنسوجات الوطنية"، ويطلب إليه أن يكتب فيها قصيدة يدعو بها القول إلى مؤزارتها والانضمام إليها، فكتب القصيدة الآتية وأرسلها إلى دمشق"؛
"المدارس ونهجها" (1، 250-254): أنشدت في حفلة وضع الحجر الأساسي لبناية مدرسة التفيض الأهلية، التي أقيمت عصر 18 كانون الثاني سنة 1929؛
"العلم" (1، 262-267): إلى شبان الكلية الإنكليزية في القدس؛
"دار الايتام، أو مدرسة شنلر في القدس" (1، 268-272)؛
"بين تونس وبغداد" (1، 374-378): أنشدت في حفلة التأهيل والترحيب بالزعيم التونسي الأستاذ عبد العزيز الثعالبي، عند قدومه بغداد سنة 1925؛
"في إيلياء، إلى فاضليها النشاشيبي والسكاكيني" (1، 388-392)؛
"الحمد للمعلم" (1، 404-407): "إلى المعلم نخلة زريق"؛
"عرس مصر" (1، 408-411): "قالها لما أقيم في مصر عرس لكريمة مصري عند اقترانها بابن الداماد فريد باشا، وكان ذلك أثناء حرب البلقان المعلومة"؛
"تحية سركيس" (1، 424-426): "أنشدها في حفلة أقيمت في القدس لتكريم الكاتب الشهير سليم سركيس، عند قدومه إليها زائراً"؛
"إلى البلاغ" (1، 427-429): "أرسلها وهو في الآستانة إلى محمد باقر، لما أصدر جريدة "البلاغ" في بيروت"؛
"إلى صاحبة الحياة الجديدة" (1، 433-434): "أرسلها إلى االسيدة حبوبة صاحبة مجلة "الحياة الجديدة" في بيروت"؛
"اليتيم المخدوع" (1، 439-442): "السبب الذي دعا شاعرنا إلى نظم القصيدة، أن رجلاً يهودياً مطرباً من حلب اسمه (سليم) خدع غلاماً مسيحياً يتيماً من أهلها. وأتى به من بغداد فأراد منه المنكر بعض أهلها، فأبت نفس الغلام الزكية الطاهرة ذلك، فجاءه يوم وهو سكران والغلام في نادي طرب يضم المئات من الناس، وأطلق عليه الرصاص، فسقط ذلك اليتيم المخدوع على الأرض. فحمل إلى مستشفى الغرباء هناك، وقبض على الجاني وزج به في السجن. فنظم معروف الرصافي هذه القصيدة حاكياً بها هذه الحادثة المؤلمة"؛
"حبذا النوم، إلى صاحبة مجلة "الفجر" "(1، 528-531)؛
"الغروب" (1، 549-555): "قالها سنة 1894 وقد وصف فيها ما شاهده في الأعظمية عياناً من منظر الغروب"؛
"ليلة في ملهى" (1، 556-562): "لما كان الرصافي في الآستانة سنة 1898 أخذ جماعة من فضلاء فلسطين، معهم الأستاذ خليل السكاكيني إلى مرقص من مراقص الآستانة في إحدى الليالي، واقترحوا عليه أن يصفه، فقال هذه القصيدة"؛
"في القطار" (1، 563-568): "قالها لما ركب القطار من الآستانة إلى سلانيك سنة 1898"؛
"على جسر مود" (1، 594-596): "قالها يصف ليلة مقمرة وهو على جسر مود ببغداد"؛
"الإحسان" (1، 616-620): "أنشدت في حفلة افتتاح مدرسة الأيتام التي أسستها الجمعية الخيرية الإسلامية في بغداد وأنفق في بنائها حضرة المحسن الكبير مناحيم صالح دانيل من أشراف الملة الموسوية وأغنيائها في بغداد وذلك سنة 1928"؛
"ما رأيت في بك أوغلي" (1، 631-637): "قالها عندما ذهب إلى حي بك أوغلي في الآستانة سنة 1898 وقد كان إذ ذاك معمماً، وذلك قبل أن يستبدل الطربوش"؛
"السد في بغداد" (1، 638-644): "قال يخاطب حازم بك والي بغداد، بعد خروجه إلى سد "الحربوة" من شاطئ الفرات، الذي انكسر فأغرق بغداد، وهذه هي الحادثة التي قال فيها الشاعر قصيدة سوء المنقلب"؛
"في مكتبة الأوقاف" (1، 663-667): "أنشدت في حفلة افتتاح مكتبة الأوقاف التي أنشأها معالي الشيخ أحمد الشيخ داود وزير الأوقاف سنة 1928"؛
"في المستشفى الملكي" (1، 690-692): "عاد الرصافي صديقه عبد المجيد بك الشاوي في أثناء مرضه. وقد طال مكثه في المستشفى الملكي ببغداد، فأنشده هذه الأبيات"؛
"قصر البحر" (1، 708-712): "قال وقد نزل في فندق قصر البحر في بيروت"؛
"يقظة الشرق" (1، 729-732): "أنشدت في مأدبة "نادي المعلمين"، لتكريم وفد الجامعة المصرية مساء 9 شباط سنة 1931، في أوتيل كارلتون ببغداد"؛
"إلى حماة الأطفال" (1، 737-740): "سبق لجمعية حماية الأطفال أن اعتزمت إقامة مهرجان كبير حاولت أن يكون الأول من نوعه، وقد تفضل شاعر العرب الخالد المرحوم الأستاذ معروف الرصافي، فأرسل هذه القصيدة العصماء، ووعد أن يلقيها بنفسه، ونحن ننشرها اليوم ليرى القراء جانباً من إحساس الفقيد نحو أطفال الوطن"؛
"إلى المتقاعدين من ضباط الجبش" (1، 462-465)؛
"دار تربية الطفل" (1، 466-469)؛
"خزانة الأوقاف" (1، 470-476)؛
"إلى العمال"، "إلى عبد اللطيف باشا المنديل"، "إلى جميع الغواني"، "إلى القزويني"، "إلى الجواهري"، "إلى طه الراوي"، "إلى البطل عبد الكريم الريفي"، "إلى عبد الكريم العلاف"، فضلاً عن قصائد أخرى: "في حفلة شوقي"، و"تجاه الريحاني"، "في حفلة الزهاوي" و"في حفلة الميلاد النبوي" وغيرها.
8 : استعرت مصطلح "الجسد الثاني" من أرنست هـ كنتورفيتش، أحد علماء الأناسة، الذي أشار به إلى هيئة الفرعون الظاهرة لتمييزها عن جسده الطبيعي، ما يمكن إدراجه في "فن الأبهة".
9 : سبق أن درست في مجموعة "حصار لمدائح البحر" لمحمود درويش، وفي مجموعة "أقول لكم" لصلاح عبد الصبور، طبيعة الجانب التخاطبي الذي تنبني عليه هذه القصائد. يمكن العودة إلى دراستي في الكتاب التكريمي عن صلاح عبد الصبور، القاهرة، 2001، وهي بعنوان: "القصيدة بين النص والقول: الحوارية في شعر صلاح عبد الصبور". وأستقي من هذه الأخيرة الخلاصة التالية:
"تحققت أيضاً، وفق منحى آخر، تداولي:
- من انشداد القصيدة، أو من احتفاظها بأسباب حوارية واقعة مع «خارجها» (مع مرجعها، وسابقها...)، ما جعلها تتقيد به في إنتاجيتها النصية،
- أو من انصراف القصيدة إلى تولدها المحتكم إلى انبثاقيتها الإنتاجية.
وفق هذا المنظور جعلتُ من شعر صلاح عبد الصبور ميداناً تمَّ فيه فحصُ التعالقات بين إرسال القول وبناء النص، على أن الإرسال يستعيد حوارية مسبوقة أو مكرورة، فيما يقترح بناء النص حوارية «مفتوحة»، لكونها مبهمة وقابلة لتملك تأويلي مختلف من قراء مختلفين".
10 : "أنا متشرد وجريح" (ص 15)؛ "إنني مريض" (ص 16)؛ "إنني هنا شبح غريب مجهول" (ص 19)؛ "أنا غريب، يا أمي" (ص 27)؛ "أنا جارح" (ص 37)؛ "أنا فقير" (ص 44)؛ "كنتُ مهرجاً" (ص 45)؛ "أنا فقير وظمآن-أنا إنسان تبغ وشوارع وأسمال" (ص 46)؛ "صاخب أنا" (ص 47)؛ "آه كم أود أن أكون عبداً حقيقياً" (ص 54)؛ "مخذول أنا" (ص 57)؛ "أنا مزمار الشتاء البارد-ووردة العار الكبيرة" (س 63)؛ "أنا طائر من الريف" (68)؛ "أنا الزهرة المحاربة-والنسر الذي يضرب فريسته بلا شفقة" (ص 70)؛ "أنا رجل غريب" (ص 71)؛ "أنا السفينة الفارغة" (ص 73)؛ "أنا الشريد" (ص79)؛ "أنا عبد لك يا حبيبة" (ص 90)؛ "إنني رجل من الصفيح-أغنية ثقيلة حادة" (ص92)؛ "إنني الوحيد الذي مر في الشارع من دون أن يحييه أحد" (ص 96)؛ "في فمي فم آخر" (ص 111)؛ "إنني وحيد يا إليهي" (ص 134)؛ "أنا وحدي الطفل الأبله" (ص 142)؛ "إنني ضجر" (ص 143)؛ "أنا سيد الأحلام-ةزعيم الأرائك الفارغة" (ص 187)؛ "إنني مرهق وخجول" (ص 194)؛ "أنا هائم في الطرقات" (صص 232)؛ "أنا لا أحمل هوية في جيبي... أنا طفل... أنا شيخ... أنا أمير... أنا متسول... أنا بطل... أنا خائن... أنا حذاء" (صص 235-237)؛ "أنا قروي ومعتاد على ذلك" (ص 296)؛ "أنا الذي لم أقتل حتى الآن" (ص 313)؛ "أنا الطفل الضال... أنا الكوخ المتداعي" (ص 320) وغيرها.
11 : وجب التمييز بين إنتاج الماغوط لصورة "ضدية" للشاعر الحديث، منذ قصيدته الأولى المنشورة في مجلة "الآداب"، "النبيذ المر"، في العام 1953، التي لم ينشرها في كتاب، وبين ما آلت إليه هذه الصورة عند عدد من متابعيه من الشعراء، حيث باتت صورة المتشرد والمتسكع والهامشي صوراً مكرورة، بل أشبه بالكنايات أو بأسماء بديلة للشاعر نفسه.
12 : استقيت هذا الشاهد من بحث قدمه بول شاوول في المؤتمر العام الثالث عشر للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب (مؤتمر عدن في الشهر الحادي عشر من سنة 1981)، بعنوان: "حول مصطلح الحداثة"، ونشرته جريدة "السفير"، بيروت، في 11-12-1981.
13 : Lautréamont (I. Ducasse) : Œuvres complètes, texte établi et présenté par M. Saillet, Le Livre de Poche, 1963, p. 243-244.
14 : Julia Kristeva : La révolution du langage poétique, Seuil, Paris, 1974, p. 317.
(ورقة عمل، في "مهرجان الشعر العربي" في القاهرة، 10-13 شباط-فبراير 2007)