التسامح بين الثقافات
بدا لي مفيداً، لا بل ضرورياًَ، طرحُ هذا الموضوع للنقاش في هذه اللحظة النزاعية التي تعرفها الثقافات فيما بينها، إذ نشهد تتابع حملات التعصب والعنصرية والقوقعة إزاء كل ما يؤدي، لا إلى نزع الاعتراف بالآخر وحسب، بل لطرده أيضاً من المكان المعين على أنه مكان "الأصيل"، لا مكان "الغريب" أو "المهاجر"، ولطرده أيضاً من نظام العلامات الرمزي. نعايش، في واقع الحال، لحظة تاريخية تتراجع فيها الإيديولوجيات "المستقبلية" و"الأنسية"، والأفكار العاملة على بلورة الإنسان في ذاته كما في علاقاته بالآخرين، لصالح سلوكات احترازية تؤكد الإنسان في أصله، في عرقه، في دمه، في تراثه، لا في كونه مشروعاً ومستقبلاً.
هكذا لم يعد الجدال ممكناً من دون التزيي، من دون الظهور، من دون إشهار ما يميز ويخالف بين هذه الجماعة الاتنية والطائفية أو تلك، كما لو أننا دمى فولكلورية ليس إلا! ألم يعد الجدال ممكناً من دون تبادل حجج، لا بل قناعات مستقاة مما لا تخضعه أي ثقافة للنقاش (...).
اخترت الحديث بدءاً من كاتب غير متحدر من ثقافتي، العربية، هو غوته الألماني، شاعر "الديوان الغربي-الشرقي"، في هذه المدينة الغربية-الشرقية، هي الأخرى (...).
يقيم غوته تمايزاً نظرياً وإجرائياً بين شكلين في الأدب: الأدب الوطني، والأدب العالمي. يقول غوته: "لم تعد عبارة الأدب الوطني تعني أي شيء في أيامنا هذه، ونحو نصبو إلى عهد جديد، عو عهد الأدب العالمي؛ وعلى كل واحد منا أن يعمل لتعجيل ميلاد هذا العهد". أهو وصف حال؟ كان غوته يستعجل حدوث العهد هذا أكثر مما يصف واقعاً قائماً. ذلك أنه إذا كان واحداً من قلة من أدباء أوروبيين ضمنوا، لا بل جعلوا من الآداب الأجنبية جزءاً من نتاجهم الشعري، فإن غيره من الأدباء طلب من الصلة بالآخر المختلف نوعاً من الرومنسية الحلمية، من التغرب الاستشراقي ومن انطباعية السفر. فغوته طلب، بخلاف الآخرين، التعرف إلى الآخر في كتاباته – الآخر، لا بوصفه بقاعاً بدائية، ولا مشاهد أثرية، بل ثقافة أساساً. وهو ما يفسر اتصاله الخصوصي بالترجمة (...).
يتوقف غوته أمام ثلاثة أنماط من الترجمة، لأنها تمثل ثلاثة أشكال خصوصية للاتصال بالآخر:
1 : "نتمكن في نمط الترجمة الأول من التعرف على الأجنبي، حسب مضامين في ثقافتنا"، حسب غوته. في هذا النمط يتخلى المترجم عن النص الأصلي، ولا يبالي بسماته النحوية والتركيبية، عاملاً وحسب على نقله، على إلحاقه، وعلى استيعابه.
2 : أما نمط الترجمة الثاني، فهو الذي "نجهد فيه، في واقع الأمر، لأن نكون في مقام الأجنبي، في ظروفه، ولكن لامتلاك المعنى الأجنبي، حسب مضامين المعنى في ثقافتنا". يتخلي المترجم، في هذا النمط، عن ثبوته المكاني، ويتنقل، لا بل لا يقف في مكان آخر طلباً للمعنى، ولكن من دون أن يُعنى بشكله.
3 : أما نمط الترجمة الثالث فهو "الأسمى" عند غوته، وهو الذي يفضله طبعاً. في هذا النمط "نسعى لأن نجعل الترجمة مطابقة للأصل". لم يعد المترجم وسيطاً بل مبدعاً جديداً، ولا الترجمة صيغة عن النص الأصلي بل نسخة "طبق الأصل" (...).
هو بدوره اقتنع بضرورة الحوار، بإمكانه، وفق "روحية عامة من التسامح"، حسب تعبيره. فأي تسامح هذا؟
يعتقد بعض المفكرين المعاصرين أننا نعايش حالياً تمزقاً شديداً بين تصور "اقتصادوي"، هو تصور الشمال الغني، وتصور "ثقافوي"، هو تصور الجنوب الفقير والمشلول. لا أشارك هؤلاء هذه النظرة إلى الأمور: إذا كان العالم يعايش لحظة من الاضطراب الإيديولوجي العميق العائد لسقوط الإيديولوجيات "المستقبلية" و"الأنسية"، فإن علينا أن نبحث عن أسباب هذا الاضطراب الشديد في أزمة اقتصادية مساوية لإعادة تعيين جديد للمنتجات والأسواق، ولقسمة سياسية جديدة للعالم. هذا الاضطراب بين في الشمال، في أوروبا التي لم تنجح بعدُ أشكال وحدتها في تأليف "يوتوبيا" منشطة ومحفزة لطاقات شعوبها، بل في وضع عقود تعاون وإدارة مشتركة وحسب. وهذا الاضطراب بين أيضاً في الجنوب حيث تحولت أطياف الحملات الوطنية الاستقلالية إلى كوابيس بوليسية، يعززها ويؤكدها فقر متماد، ما وجد له الشمال الغني بعدُ غير جواب "الإحسان" وسيارات الإسعاف الدولي.
إلا أن الأزمة ثقافية أيضاً، ولكن في صيغة أخرى. إذا كنا نجد في كتابات غوته زحزحة لنظرية ثقافية ثبوتية، معترفاً بثقافات الآخرين في تمايزاتها (معنى وشكلاً)، فإن آراءه هذه تبقى مثالية الطابع، لا تقيم التمييز بين "الاختلاف" مع الآخر، و"الاختلاف الجذري" معه. ماذا يفيد قولي هذا عن الاختلافين؟
فالأدب، كشكل خصوصي ومبتكر في الثقافة، غرضُ وساطة وموضوعُ حوار، إلا أن جانبه "الانفتاحي" هذا لا يغيب عن بالنا كونه صعب الانتقال، على الرغم من الاستعدادات والنوايا الطيبة عبر الترجمة، إلى ثقافة أخرى. أي أنه يصعب، لا بل يستحيل، على النص المترجم أن يكون مساوياً للأصل. ذلك أن كل أدب، كل ثقافة، تتضمن قسمين: قسمٌ قابلٌ للانتقال، للترجمة، وهو ما أسميه "الاختلاف"، أي الأشكال المختلفة لرؤية الآخر، لمقاربته، لفهمه... إلا أن هناك قسماً آخر في كل أدب، في كل ثقافة، لا يمكن نقله، ولا ترجمته، مثل علامة دامغة على التميز، وهو ما أسميه "الاختلاف الجذري" (...).
لهذه الأسباب يبدو لي أن مفهوم "التسامح" لا يجيب تماماً على ما تثيره قضايا الحوار بين الثقافات. فالتسامح يبدو أشبه بإجازة مرور مؤقتة في حقل الثقافات الملغوم.
فالتسامح يعني لي، على الرغم من سمته السلمية والحوارية، تخلياً مزدوجاً عما يمكن أن يؤديه الفكر:
- التخلي عن إمكان نقد خصوصية كل ثقافة. فالتسامح يبدو في غالب الأحيان تهدئة وتلطيفاً لـ"العدوانية الخارجية"، إذا جاز القول، في أي ثقافة، وإقراراً وتوكيداً، ولو ضمنياً، لعصب كل ثقافة والمؤسس لها.
- التخلي أيضاً عن النظر النقدي المقرِّب من حال الثقافات، ذلك أن التسامح يفيد أحياناً الخلط بين الهيمنة والتبعية، بين المنتج والمستهلك، وعلى قدم المساواة نفسه المضلل بدوره.
علينا أن لا نخلط الأمور، ولا الأدوار: كيف لنا أن نطالب بالتساوي، بالتسامح، بين ثقافات لا تتمتع بشروط إنتاج، ولا بظروف نفوذ وتأثير، ولا بقيم ومراجع، واحدة! أي أن علينا أن نبحث في أمر العلاقات بين الثقافات فيما يتعدى التسامح، فيما يتعدى منطوق العبارة العربية: "العفو عند المقدرة". ما أنتقده في التسامح لا يقتصر فقط على جانبه الورِع، الدبلوماسي، غير العملي، وغير النافذ، بل على رفضه، الفعلي ولو غير المعلن، وعدم تعرضه لنقد الثقافات. فلا حاجة معرفية، ولتسامح حقيقي، من دون تعريض كل ثقافة لنقد عناصرها المؤسسة، طالبين من النقد هذا توسعةَ الحدود، حدود الإمكان، التي ارتضتها كل ثقافة لنفسها.
وبقدر ما أجد ضرورة للنقد، ولأن نكون عصاة ومنشقين، وكل واحد منا إزاء ثقافته الخصوصية، فإنني أجد ضرورة للتحسب والحذر وعدم اللبس في العلاقات بين الثقافات. أي أنني أدعو إلى احترام الحدود، ولو المبهمة، بين الثقافات، من دون تذويب إو إلحاق، ذلك أنني أتبين في مفاهيم عديدة نعود إليها، مثل الأنا والآخر، والكائن وطيفه وغيرها، تعيينات تسمي انطلاقاً من "أنوية" (هي الذات الأوروبية الموهومة على أنها الذات العالمية، أو مآلها الحتمي ثقافياً)، من "أنوية مهيمنة"، ملحقة بها سائر الثقافات الأخرى. كما أجد أيضاً في عدم الإيضاح الناجز، في العلاقات، بين المهيمنين والملحقين تأكيداً لمنطق قوة، لمنطق سيطرة، جاعلاً من هذه الثقافة النموذجَ والمرجع والمنتهى لغيرها من الثقافات.
إن العلاقات بين الثقافات تتطلب من دون شك حضور الدبلوماسيين والوسطاء، وسيارات الإسعاف، إلا أنها تحتاج بالأساس إلى فرقة من المتقدمين اليقظين والنقديين ممن عملوا ويعملون لفك الأطر الاتنية ذات النزعات المركزية في كل ثقافة، والذين لا ينظرون إلى التسامح على أنه "استراحة المحارب"، أو غفلته المؤقتة، أو ترفعه النبيل العابر، بل على أنه فتحُ فضاءات الحرية.
(ورقة أعدت أساساً بالفرنسية، ثم تمت ترجمتها، وقيلت في مؤتمر عن "التسامح بين الثقافات"، نظمته منظمة اليونسكو، في استانبول، في ربيع العام 1991).