«التراث» وتأجيل استثمار المعنى


لم نتحقق، بعد، من مؤديات العملية التي تسارعت في البلدان العربية، في الأنشطة والممارسات الاجتماعية أو على صفحات الأوراق والسجالات، والساعية الى «أَسْلَمَة» الحقل الثقافي. وهي عملية سابقة في أصولها على انفجار «الثورة الايرانية» (1979)، إلا أنها وجدت في هذا الحدث الهائل وضعاً مكملاً لها ومنشطاً - وهو الحدث الذي تموجت تأثيراته وأفعاله في أوضاع عربية وإسلامية عديدة، ما شهدنا مثيلاً لها، منذ المنزع «الاستقلالي»، أو «العالمثالثي» اللاحق والمكمل لنزعات التحرر من السيطرة الاستعمارية المباشرة. ذلك أن ما جرى في مدى الثمانينيات لا ينحصر فعله في إنفجار «موجات عنفية»، اختلطت فيها أعمال المجموعات العنفية القسرية (اغتيالات، «حرب عصابات»، عمليات «إرهابية» ...) مع أعمال حربية منظمة (في الحال الافغانية خصوصاً)، متلبسة وجوهاً من الصراح المحلي، وإنما تعدى فعله هذه البلبلة العنفية ليطاول الحقل الثقافي عينه. وإذا كانت الموجات العنفية لم تحرز نجاحات سياسية بينة (إلا في السودان، وفي أوضاع مخصوصة للغاية)، فانها قد نجحت في إجراء تبديلات في الحقل الثقافي وتغيير محدداته في مسارات تستجمعها عملية «الأسلمة» المشار اليها.
يتحقق الناظر الى حقيقة الاعتمالات على الأوراق والسجالات من حصول عمليات متسارعة نرى فيها أثاراً أفعل وأمضى في الحقل الثقافي مما هي عليه في الصراع السياسي. وهي تتعدى الأثار الموضعية، على ما نرى، إذ تطاول مجمل الحقل الثقافي العربي، وإن بنسب متفاوتة بين هذا البلد العربي أو ذاك. وهو حقل بتنا نرى فيه ذيوعاً وانتشاراً لأفكار ودعوات ما كان لها أي حضور أو وجود (إلا في حلقات ضيقة ومغلقة) قبل مطالع الثمانينيات، عدا أن الدعوات هذه قد أرغمت أو دفعت غيرها، مما سبقها ونقضها، إلى التحدد انطلاقاً منها، وهو ما يمكن أن نرمز إليه في الشعار الذي بتنا نقع عليه حالياً في بعض الأدبيات والمدبجات والمؤتمرات (مثل الحوار الوجاهي بين القوميين العرب والإسلاميين في «مؤتمر الكارلتون» في بيروت، قبل عام ونيف)، وهو شعار وحدة «القوى الإسلامية والوطنية». فما حقيقة التغيرات الثقافية هذه؟
«التراث» واحدة من المفردات القديمة، مثل «الحداثة»، التي باتت جديدة في الاستعمال العربي بعد مجهودات عديدة طاولتها في الاستثمار الدلالي والايديولوجي في الكتابة العربية المعاصرة. ولعلنا نجد في كتابات المستشرق الراحل جاك بيرك أحد المصادر الأولى التي عملت على «تحميل» هذا اللفظ مضامين مستحدثة، مثل ألفاظ أخرى عديدة، كـ«الحداثة» و«الثابت» و«المتحول» و«القدسي» وغيرها. إلا أن التسمية هذه لا تغيب عن بالنا أن عملية إعادة النظر إلى الماضي العربي-الإسلامي تكاد تكون مزامنة، في «عصر النهضة»، لكتابات وجدت في التشوف إلى الثقافة الأوروبية خلاصها الأكيد من الانحطاط. فأدب التعريف والترويج والتدبيج، انطلاقاً من متون أوروبية، سواء في الفكر أو الشعر أو التقنية، لم يسبق بكثير متناً كتابياً آخر سعى إلى قراءة الماضي قراءة تؤكده مثل المرجع اللازم، أو الأصل، للحاضر في سيرورته، وللنهوض بالتالي. كيف لا، وكاتب مثل رفاعة الطهطاوي يجمع في نسق كتاباته بين التأويل السلفي والتنوير التجديدي في آن!
ما أريد قوله، وباختصار، أننا نشهد منذ عقود «النهضة» الأولى حصول عملية تاريخية، أطلق عليها تسمية: «تأليف الماضي». وهي عملية قامت على تحقيق المخطوطات العربية القديمة ونشرها والتعليق عليها، وعلى التأويل انطلاقاً من دعاويها وطروحاتها، في مساع انتقائية طبعاً، تقوم على التخير والترتيب والتسوية بما يفيد معالجات راهنة، مثل التداخل والالتباس الذي طلبه عبد الرحمن الكواكبي، على سبيل المثال، بين «الديمقراطية» و«الشورى»، أو بين اجتماع الصحابة لبت مسألة الخلافة في «السقيفة» وبين دعوته «أفاضل» الإسلام إلى الاجتماع في مكة في كتابه «أم القرى» لإصلاح حال الإسلام والمسلمين.
وهذه العملية الجارية تجد في مشروعات عديدة لاحقة، منذ «ضربات» الطيب تيزيني اللافتة في بدايات السبعينيات، وفي «الثابت والمتحول» لأدونيس، و«النزعات المادية» في التراث للدكتور الراحل حسين مروة، ثم في الكتب المتسلسلة للدكاترة محمد عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد أركون (على اختلافاتها)، صورة مستمرة عنها، وإن أخذت أشكالاً ومعالجات متباينة. أقول هذا لأفيد أن النظر إلى الماضي ما انقطع منذ منتصف القرن التاسع عشر، وإن وجد في النزعة «الإسلاموية» الراهنة منطلقاً قوياً ما عرفه في العقود السابقة. ولأفيد أيضاً أن النظر إلى الماضي ما سلم أبداً من الصراع عليه، أي أن أسباب النظر ما انقطعت أبداً عن الجمع بين التاريخ والايديولوجية في آن. فالتعويل على «المادي» أو «التقدمي» أو «المتحول» من «التراث» لا يعدو كونه مصادرة واستعمالاً له في الصراع الجاري، وإخراجاً له من «ماضويته». كما أن استثمار «الماضي» هو جعله حاضراً في كيفية ما، وإحياؤه من جديد وعرضُه على التداول والمنافسة.
مسألة «الهوية»، أو تطمين الذات بعد «الرضة الاستعمارية»، هي التي حَرَّكَتْ هذه المشروعات قبل أن يكون الأمر إعادة جدولة للمعرفة القديمة، وضبطاً لتاريخ غير مفكر فيه (أو ممنوع التفكير به) في صورة سليمة وكافية. ولهذا لا أقوى أبداً على تشبيه هذه العملية بما جرى في أوروبا في «عصر النهضة»، أي استعادتها للصلة بماض إغريقي-روماني من دون غيره من ماضيها، والمعروف بعهدها «الكلاسيكي»، ولا بما جرى فيها أيضاً في «عصر الأنوار»، أي تخزينها وجدولتها للمعارف من جديد. ذلك أن ما جرى في أوروبا حرَّكَتْه، واقعاً، عمليات جارية في المجتمعات، وفق علاقات نتبينها في التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، من جهة، وفي التحولات التقنية والصناعية وخلافها، من جهة ثانية، فيما تقيدت حركة المشروعات العربية هذه بنوازع مثقفين في المقام الأول، على ما فيهم من اضطراب ومواجع بين أنسابهم التقليدية وتشوفاتهم الغربية.
عرفتْ هذه المشروعات العربية مقادير متفاوتة من التوفق، ومنها ما يعود إلى المفكر الجزائري محمد أركون، الذي أرسى طريقة صائبة في النظر، ذلك أن كتابات غيره أدت إلى نزعة توكيدية لـ«التراث»، بل تبجيلية له أحياناً، تقره بما هو عليه في حالته الطباعية الراهنة، من دون التشكيك بما غاب (أو غُيِّب) منه، وبما لم يصلنا منه، ومن دون النظر النقدي إلى تاريخيته المعرفية. أما الكلام عن نزعة «مادية»، أو عن أخرى «تحولية» (وهي لا تناسب سوى جماعة إسلامية من دون غيرها)، فلا يحقق معرفة أدق وأوثق بهذه التركة (و«التراث» من الميراث) وإنما يجدد النزاع على ملكيتها والاستفادة منها بالتالي.
لهذه الأسباب وغيرها أقول إن انطلاقة النزعة «الإسلاموية» تجد في سابقات لها مرتكزاً أكيداً، وفي التنافس على «التراث» أيضاً منبتاً خصباً لها، وإن كانت النزعة الجديدة تجد في «الحدث» الايراني (وبعدها في التجربة الأفغانية) منطلقها الأكيد. ففي مدى هذه العمليات المختلفة، منذ «عصر النهضة»، انتهينا إلى تأكيد متن كتابي واعتقادي، هو المتن الإسلامي على أنه عربي، من دون أن تصيب هذا المتن أية نظرات نقدية، تستكمل ما بدأ به عدد من المستشرقين والآباء اليسوعيين خصوصاً، وهو التحقق النقدي من هذا «التراث»، وصوغ التاريخ بالتالي.
بإمكاننا أن نجد، طبعاً، في كتابات أرنست رينان مسعى تصنيفياً للأعراق يسقطه على الثقافات والجماعات، ومنها العربية، إلا أننا نجد فيها أيضاً مسعى يتخفف من ضغوط الأساطير على تواريخ البشر واعتقاداتهم، ويتحقق أيضاً من متبقيات التاريخ فيدقق فيها ويصوب كتابته إانطلاقاً منها. كما نقع في كتابات الأب هنري لامنس أو الأب لويس شيخو على أخطاء وتقديرات وتسرعات في الاستنتاج والتقدير (إذ يجعل هذا الأخير، على سبيل المثال، من شعراء الجاهلية شعراء نصرانيين في كثرتهم الكاثرة)، إلا أننا نجد في مسعيهما سبيلاً يقوم على التحقق النقدي والتاريخي من المواد المتوافرة، ولا سيما في الشطر العربي وغير الإسلامي أيضاً من هذا «التراث»، الذي بات نسياً منسياً في أيامنا هذه، أو عرضةً لتأويلات «مذهبية» (مثلما نلقاها حالياً عند بعض كتاب «الأقليات» الأقوامية والدينية العربية، مثل: الكردية، والآرامية، والسريانية، والمارونية، والقبطية وغيرها).
ورث «الإسلامويون» بالتالي متناً كتابياً مستثمراً ومتنازعاً عليه في الوقت عينه، وما تأخروا بالتالي عن تعديل وجهات الحقل الثقافي العربي في مسارات تأصيلية في ظاهر القول، وهي ملفقة وموضوعة غالباً، وأكثر أمانة وقرباً من «النص»، حسبما يزعمون، جاعلين من سابقيهم، المشتغلين بهذا المتن، «محرفين» غير أصلاء!
يمكننا أن نتحقق من عمليات التبديل هذه في لبنان، على سبيل المثال، فنحصي فيه وحده ما يزيد على عشر دوريات جديدة تندرج في هذا السياق، مثل «الغدير» و«منبر الحوار» وغيرها، حتى أن صدور مجلات أخرى مثل «الاجتهاد»، أتى ليجيب، ضمن حقل التعيين والتسمية والسجال نفسه، على القضايا نفسها، وإن بطروحات مغايرة أو منافسة أو مصححة. ولم يتأخر ناقدو «الإسلاموية» بدورهم عن استعمال اللغة «الفقهية» عينها- وهي ليست فقهية تماماً، بل خليط هجين موضوع في بعضه الغالب-، والوقوف بالتالي ضمن الحقل الثقافي الذي بات يعينه منتجو الخطاب «الإسلاموي». وإذا كانت بعض الدعاوى «الليبرالية» و«البرلمانية» ونزعات الدفاع عن «المجتمع المدني» و«حقوق الإنسان» قد وجدت في مأمولات «حرب الخليج» (و«النظام العالمي الجديد»: هل تذكرونه؟) ومستتبعاتها، ومنها إنهاء الصراع العربي-الاسرائيلي، مرتكزاً واهياً لمثل هذه الدعاوى، فإنها ما لبثت هي بدورها أن تبددت مثل سراب في سماء «عاصفة الصحراء». هذا، فيما انكفئت في الوقت عينه دوريات أخرى، مثل «الطريق» و«الآداب»...
كل هذه البلبلة العنفية لم تثمر طروحات ونظريات ودعاوى ذات حمولة فكرية أو إيديولوجية أو إعتقادية راجحة يمكن التعويل عليها. فهي دون ما قاله الكواكبي أو الافغاني، ولا تعدو كونها، على الرغم من كل الضجيج «التراثي» الذي تحيط نفسها به، «مصادرة» لحق التكلم باسم الجماعة، وإيكالها في أحسن الأحوال إلى «أمير» أو «فقيه» من دون الجماعة، جماعةً أو أفراداً.
يمكننا أن نرى إلى مؤديات هذه العملية في أمرين: إعادة النظر الى التاريخ العربي (في أطواره الاسلامية)، وتغيير المجتمعات في صورة أكثر تناسباً مع الذات (بعيداً عن تغربها السابق والمفسد لروحيتها، على ما يزعمون). فكيف نرى إلى حاصل هاتين العمليتين؟
ان العملية التي نشهدها أدت إلى انصراف العديد من الكتاب والباحثين والمثقفين والطلاب إلى «التراث»، أي إلى هذا العدد غير المتناهي ولكن المتفاوت قيمة وغير المحسوب كماً ونوعاً من الكتب المحققة والمخطوطات، للنظر فيه من جديد، أو لأول مرة في غالب الأحيان. فاكتفى بعضهم بإنتاج نص «مقتبس» في بعض مواده، معطوفاً على تأويلات معاصرة (في متونها الشيعية والإيرانية خصوصاً)، وإن عين خطابه على أنه الخطاب «الشرعي» و«الأصيل». وبعضهم الآخر عاد إلى التفكر في محمولات هذا «التراث»، في منحى «نقدي» غالباً، ولكن بغرض التعريض بتأكيدات الخطاب «الإسلاموي» وحسب.
هذه «الهجمة» المنظمة والعفوية على «التراث» لم تثمر الشيء الكثير، طالما أنها لم تدرج هذا التاريخ «الماضي» في ماضيه، متخلصة من فهمنا الأسطوري له. ازدادت، من دون شك، معرفتنا بهذا المتن القديم، في بعض جوانبه وأحواله وكتابه وقضاياه وسجالاته، إلا أنها معرفة ناقصة بطبيعة الحال، نظراً لعدم توافر المصادر المناسبة، ولعدم توافر حاسة تاريخية مجربة، عند المفكرين والمؤرخين، قادرة على التحكم (تبعاً لانفصال وقطيعة وكتابة) بهذا التاريخ. ولا يزال الطالب العربي، حين يقدم على إعداد أطروحة أو دراسة ما، يشرع بطلب الكتابات الاستشراقية، على اعتوارها المعرفي، لأنها تقوم على المساءلة التاريخية والنقدية، وتتعامل مع أية مواد بلغة الفحص والتدقيق والفرز، كما عند علماء الآثار، لا بلغة الحنين والفخار والتماهي - كما عند بعض كتابنا - التي تعمي وتضلل. وماذا نقول عن الوجه الثاني من هذه العملية، أي تغيير المجتمعات؟
ينشغل الكثير من الكتاب والمثقفين بمساجلات وكتابات وإعادات تصويب لـ«التراث» والنظر إليه، على أنها تصحح الخلل الحاصل في الحقل الثقافي، ظانين، على الأرجح، أن تصويب النظر إلى إبن رشد قد يفقد «الإسلامويين» حجتهم الدامغة و«شرعيتهم» المشهرة مثل سيوف على رقاب التفكير. إلا أن الظنون هذه تغفل عن ملاحظة التباين بين الخطاب والموقع: فالخطاب قد يكون «إسلاموي» الدعوة، إلا أن قوته لا تتأتى من المخزون الاعتقادي عند الجماعة وحسب، وإنما من أوضاع اجتماعية واقتصادية لنا أن نراها في جماهير «الحائط» (كما يسمونها في الجزائر، والتي تشير إلى الشباب العاطلين عن العمل، المستندين إلى حيطان الانتظار والبطالة).
هذه العملية ستنقضي مثل غيرها في تدافعات الفكر العربي، وسنلقى بعدها هشيماً من الأفكار، وركاماً من الصور المضللة، وكتلاً من العقد والتورمات، ولنا آن نتبين فيها، ونتساءل: كيف نعيد الماضي إلى ماضويته، ونتحكم في صورة مزيدة بحاضرنا؟ كيف نبدع حداثتنا التي لا محيد لنا عنها، مهما تعددت السبل والالتواءات؟ كيف نزيد من قوتنا في استثمار المعنى راهناً، وفي استثمار المزاعم، ومنها مزاعم التخييل الابداعي، في الزمن، فلا نكتفي بالتنافس على التركة، - وهي قديمة، في سائر الأحوال - مهما لمع بريقها العريق الفتان؟
(جريدة "الحياة"، لندن، 1996).