رضوان السيد : الفنون الشرقية والإسلامية مجالاً للقراءة والتملّك
يحدّد شربل داغر أساليب المعنيين من الأوروبيين في دراسة الفنون الإسلامية بأنّها تتمّ بأربعة أشكال: نصوص تعنى بدرس مصنوع بعينه، أو مصنوعات عدّة، أو نوع بعينه من المصنوعات (درس آنية، أو مجموعة أوان مملوكة)، ونصوص تعنى بدرس المعالجة أو المعالجات الأسلوبية (درس الزخرفة في قصر)، ونصوص تعنى بعرض إجمالي، تاريخي الطابع، ونصوص تعنى بعرض إجمالي، أسلوبي أو فلسفي الطابع. وينتهي الأمر بداغر إلى اعتبار أنّ هذا التأمّل الرباعي يؤول إلى مبنى ثنائي، يمكن تلخيصه بالمادة والنظر إليها: فهناك كتابات تعنى بالتعريف التوثيقي بالمادة الفنية، وهناك كتابات تعنى بالنظر الفني والتاريخي والثقافي والجمالي. لكن أحداً لا يستطيع الزعم أنّ الواصف لا يتضمّن وصفه حكماً قيمياً، كما أنّ المتذوّق والمؤرّخ صاحب الفلسفة المعنية، لا يدع الوصف والتوثيق تماماً، بل الأحرى القول أنّ الرؤية الفلسفية أو الفنية تستند إلى استقراء لا بدّ من أن يكون الوصف التوثيقي جزءاً من مكوّناته.
لا يفرّق شربل داغر في تأمليات التفرقة بين التوثيق والدراسة، لكنّني أوردت هذه الفقرة من دراسته لأشير إلى غناها ودقّتها وهدوئها في التتبّع والمقارنة، وتمييز معاني وأغراض وآليات التملّك. ولنمض إلى نموذج آخر من نماذج هذا العمل الشديد الثراء: مسألة مفهوم الفنّ، يشير داغر إلى اقتران "الفنون بالآثار"، في عناوين الدراسات، والمتاحف، بل أنّ مركز اسطنبول التابع لمنظّمة المؤتمر الإسلامي يسمّي نفسه: التاريخ والفنون والآثار. فلماذا هذا التمييز؟ أوليست الآثار فنوناً؟ ثم أليست الفنون القديمة أيضاً ذات قيمة أثرية؟ يورد داغر احتمالات عدّة: إنّ علم الماضي، علم الآثار، يشمل الفنون وغيرها، أو أنّ الغربيين (الفرنسيين على الخصوص) بدأوا بالتعرّف على الآثار، أو أنّ مقاصدهم كانت أثرية، ثم تنبّهوا إلى الفنون ومواريثها. بيد أنّ هناك احتمالات أخرى، فالفنون أعمال إبداعية قصدية، ولا كذلك الآثار، التي مهما بلغت جمالياتها، يسودها الروتين. ثم أنّ التحف الفنية هي في الغالب من إنتاج أفراد، حتى لو لم نكن نعرف أسماءهم، ولا كذلك الآثار، لكن حتى الآثار، فإنّ وراء صنعها أو تشييدها مهندسين ذوي أذواق فنية معيّنة. ثم كيف ننظر إلى الصناعات اليدوية، التي تسير على نماذج معيّنة، لكن الروعة متوافرة فيها.
شربل داغر يعود فيورد احتمالاً ثالثاً أو رابعاً: الآثار كلّ ما كان قبل الإسلام أو بقي أو بقيت أطلاله. والفنون، كلّ ما بقي لها من العصور الإسلامية من القرن السابع الميلادي وحتى القرن التاسع عشر. وهنا نعود فنقع على إحدى الأفكار "القارّة" بلغة المغاربة: فالفلسفة هي طرائق التفكير والتربية الإغريقية وحسب، أو أنّها رؤية العالم لدى اليونان. وكلّ من أراد أن يكون فيلسوفاً فعليه الانضمام إلى هذا التقليد أو الانتظام فيه في مسائل الوجود والمعرفة. ولذلك فقد شغلتنا مسألة "الأصالة" الوهمية إلى حدٍّ بعيد، طوال أكثر من قرن، ردّاً على المركزية الغربية.
وكتاب إدوارد سعيد: الاستشراق (1978)، والذي يتعرّض له شربل داغر في مقدّمته، هو في وجه من وجوهه أسير لهذه النظرة. فهو ثائر على "المؤسّسة"، أي التقليد الأوروبي المركزي في تحديد الشرق والإسلام والعرب. ولذلك فهو يرحّب بماسينيون، ولا يرحّب بهاملتون غب، لأنّه يعتبر ماسينيون (الذي بدأ ضابطاً في الاستخبارات الفرنسية) ثائراً على المؤسسة والتقليد، بينما يصبح غب رمزاً للمؤسّسة أو التقليد.
شربل داغر يبدأ من إشكالية إدوارد سعيد حول الهيمنة والمعرفة والسلطة والتملّك، لكنّه لا ينتهي إليها. وأحسب أنّ الذي أنقذه من ذلك هو مصيره لاكتشاف التنوّع اللانهائي بالغرب، مثلما هو بالشرق. ثم أنّه إذا كان الأثريون ينتمون إلى مؤسّسة من نوع ما، فليس كذلك الباحثون الأوائل عن الفنون والإبداعات الشرقية. وصحيح أنّ علم الآثار دخل في مواريث الدولة القومية منذ القرن الثامن عشر، بحثاً عن دعائم وأسس أسطورية وتاريخية الوجود والازدهار والتوسّع، ولكن لا تعليل استعمارياً أو غير استعماري لهذا الانذهال بالآثار الفرعونية ومن جانب سائر الأوروبيين. وهكذا فحتى الآثار التابعة لمؤسّسة يبقى فيها "شيء لله"، كما يقول المصريون. فكيف الفنون؟
بيد أنّ شربل داغر في فصله عن مفهوم الفنّ، لا يكتفي بهذه التعليلات السريعة، بل يتجاوز تمييزات الفنون والآثار إلى جماليات العمارة، واجتماعيات المعنى، قبل أن يبدأ بعائده.
(جريدة "الحياة"، لندن، 9 تشرين الأول-أكتوبر 2004).