محمود أمهز : البحث عن جذور المفهوم الغربي للفنّ الإسلامي

في كتابه "الفنّ والشرق"، الصادر عن "المركز الثقافي العربي"، في جزئين، يضمّان خمسة أبواب وثمانية عشر فصلاً وعدداً من الملاحق والفهارس، يتناول الدكتور شربل داغر فنوناً شرقية، إسلامية، انطلاقاً من رؤية أوروبية (فرنسية بالدرجة الأولى)، يعمد إلى دراستها وتحليلها والبحث في عوامل نشأتها وخلفياتها وأهدافها. وهي الرؤية التي تكوّنت، في نطاق الفنّ، من خلال العلاقات القائمة بين الشرق والغرب ودوافعها السياسية والاقتصادية والمساعي الدؤوبة للهيمنة والاستيعاب طوال ما يزيد عن خمسة قرون (من القرن الخامس عشر إلى الحرب العالمية الأولى في الربع الأول من القرن العشرين).
يتناول الكاتب الفنّ، بين إنتاجه وإعادة إنتاجه (أو إعادة تقويمه)، بعد انتقاله من مصادره الاساسية أو أماكن صنعه، العربية والإسلامية، وتداوله والتناوب على امتلاكه وحفظه النهائي داخل مجموعات العاديات أو المتاحف الغربية، سواء عن طريق التجارة، المشروعة أو الخفية، أو عن طريق الاكتشافات الأثرية المرتبطة بسياسة الأمر الواقع والهيمنة السياسية والعسكرية والاستعمار المباشر. وهو إذ يتناول هذه الأمور، إنّما يعالجها علمياً، استناداً إلى مراجع ومصادر أساسية، قديمة وحديثة، ويسعى إلى دراسة ما تكوّن حولها من مفاهيم واعتقادات وأحكام، كان هاجسها تفسير ثقافة الغير وتقاليده وفنونه، من خلال نماذج فنية ممثّلة لها انتقلت، بل اجتُزئت من بيئاتها الخاصة وسياقاتها العملية والوظيفية لتوضع خارجها، وتُمنح بذلك قيماً ومعاني جديدة في عمليات متتالية ومعقّدة هي أشبه بإعادة إنتاج لها.
إنّ معالجة شربل داغر لمثل هذه المسائل الفنية المرتبطة، في جانب منها، بمفهوم الاستشراق، بشقّيه المتخيّل والفعلي (المادي)، المتمثّل بملكية الغرب لنماذج من فنون الغير (الشرق) وإسهامه الفعلي بالكشف عن آثاره القديمة والوسيطة، إنّما تلقي الضوء على جوانب مهمّة (ربّما لم يتطرّق إليها أحد من قبل بمثل هذا الشمول، على الأقلّ في اللغة العربية) من تاريخ العلاقات بين الغرب والشرق. فهي تتناول أموراً عديدة ومتباينة تجمع بين الطروحات الفلسفية والمفاهيم الجمالية، وتبحث في العلاقة بين الفنّ والآثار، بين الفنّ والحرفة والطرفة، وفي النتائج المتأتية عن ملكية هذه الأشياء وتناقلها وتداولها وحفظها وإعادة إنتاجها، وذلك استناداً إلى منهجية علمية تستعين باللسانية والاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا.
يأتي هذا الكتاب الجديد لشربل داغر في السياق العام لاهتماماته البحثية، ومحورها الأساسي "الفنّ الإسلامي"، إذ يبحث فيه عن جذور المفهوم الغربي للفنّ الإسلامي ونشأته وتطوّره وفق ظروف ومقاييس غربية، بينما كان قد رجع، في دراساته السابقة ("مذاهب الحسن"، و"الفنّ الإسلامي في المصادر العربية")، إلى كتابات عربية قديمة لا لكي يستخرج منها فقط شواهد قد تلقي الضوء على جوانب معيّنة في الفنّ الإسلامي، بل لكي يبحث فيها عمّا قد يشكّل منطلقاً لإدراك بعض مفهومات الجمال وتصوّراته في بيئة إسلامية، بما يمكننا من تصويب خلل أو اعوجاج هنا وهنالك في الدراسات الفنية الإسلامية الغربية التي باتت تشكّل، اليوم، مكتبة غنية جداً لا بدّ من الرجوع إليها إذا ما تناولنا أيّاً من الموضوعات الفنية الإسلامية.
يستعرض المؤلّف، بداية، الكتابات الغربية عن الشرق ورؤيتها له، ليستنتج أنّها تفتقر إلى الموضوعية والمنهج العلمي التحليلي، فضلاً عن أنّ الجانب الفني فيها لم يكن محور اهتمامها. أي أنّ ثمّة تبايناً بين الكتابة عن الفنّ وإبراز هذا الجانب في تقارير المستشرقين عموماً، ما يعني غلبة الجانب اللغوي على غيره حتى لدى النقّاد والمؤرّخين الفنيين. إلاّ أنّ هذا الموقف قد يصحّ في حقبات معيّنة ولا ينطبق على حقبات أخرى من التاريخ الغربي. فالشرق الإسلامي "شهد تملّكاً فعلياً، لا تخيّلاً وحسب، لمواد الفنّ وثقافته"، وإذا كانت اهتمامات المستشرقين قد انصبّت على الوصف، فإنّها استندت في ذلك إلى مواد مختلفة (نصوص كتابية أو نقوش على حوامل مادية كالحجارة أو المعادن أو الأقمشة). فاهتماماتهم لم تقتصر على النصوص وحسب، وإنّما تناولت كلّ ما بلغته أيديهم من مواد الماضي، وفق منظور آثاري. وإذا كان الماضي الشرقي القديم، بخاصة الفرعوني، قد بهرهم، فإنّ علاقتهم بالماضي الإسلامي تبدو مختلفة، إذ بقيت ذات "طبيعة شكية، رفضية، بل تصغيرية".
إنّ مقاربة الفنّ الإسلامي انطلقت من مفاهيم ومعايير كانت سائدة في الغرب تقضي بتطبيق طرق تاريخ الفنّ الأوروبي ومفاهيمه على غيره من الفنون غير الأوروبية، كالفنّ الإسلامي. واستناداً إلى هذه المفاهيم العامة تصنّف الفنون وفق معايير تقلّل من شأن بعضها (كالصناعات اليدوية الحرفية والزخرفة)، وتعلّي من شأن بعضها الآخر (كالتصوير والنحت) الجدير بصفة "فنّ"، أيّ المفردة التي اقترنت منذ أواسط القرن الثامن عشر بدلالات جديدة تعني، في ما تعنيه، بلوغ الجمال المثالي من دون أيّ هاجس نفعي. الأمر الذي أدّى إلى فرز اصطلاحي للفنون يميّز بين فنون عظمى، وفنون صغرى، ويبقى معتمداً حتى في دراسات فنية حديثة من القرن العشرين.
ففي مقالة له عن التجريد، في موسوعة Universalis 1970، يقابل مايكل دوفرين بين "الزخرفي" و"التصويري"، فيعتبر أنّ الأول "يبقى تابعاً لما يزخرفه"، وأنّه يعطي قيمة لشيء آخر خارجه (الحامل)، فيما الثاني يتميّز بمعناه، ومضمونه، واستقلاله عن الحامل الذي ينتمي إليه. فالتصويري "يكفي ذاته بذاته، ويحمل في ذاته شيئاً له معنى ما". وإذا ما حصل انتقال من مجال إلى آخر فقد "يرقى الزخرفي (إذا ما مثل موضوعاً له معنى) إلى التصويري"، لأنّه في مرتبة أعلى منه، بينما "ينحدر التصويري (إذا ما تحوّل نحو التجريد وفقد موضوعه) باتّجاه الزخرفي"، لأنّه في مرتبة أدنى منه. يعني أنّ العمل الزخرفي، مهما بلغ من الدقّة، لا يرقى إلى مستوى العمل التصويري إلاّ إذا تخطّى كونه زخرفياً.
بيد أنّ المفهوم التراتبي الغربي لا يقتصر على هذه الثنائية، بل يشمل أيضاً ما عُرف باسم الأنواع الفنية داخل المجال الفني الواحد، كالتصوير، حيث أُخضعت الأعمال الفنية لتصنيف تراتبي آخر يقوم على اختيار الموضوع: يعني أنّ لوحة تمثّل موضوعاً تاريخياً أو ميثولوجيا تتقدّم على غيرها من اللوحات التي لا تصوّر إلاّ "بورتريه" أو منظراً طبيعياً أو طبيعة صامتة. وقد بقي هذا التصنيف الإصطلاحي معتمداً حتى أواخر القرن التاسع عشر.
ولمّا كانت هذه التصنيفات المعبّرة عن مفاهيم أوروبية في حقبات تاريخية محدّدة لا تنطيق كلّها على الفنّ الإسلامي، اضطرّ الغربيون إلى استخدام مصطلحات جديدة لم يجر تداولها استناداً إلى ما قد تحمله هذه الأعمال من دلالات في نظر منتجيها وتعريفهم لها، بل لما تعبّر عن قناعات واجتهادات غربية. الأمر الذي أدّى إلى التمييز في تقييم الأعمال الفنية، فاعتبر بعضها فنّاً، بينما أُبقي على بعضها الآخر في دائرة "الصنيع الفني"، وصنفت أعمال على انّها "فنون عظمى"، في حين نُسب غيرها إلى "الفنون الصغرى". وهنا يتساءل الكاتب: كيف "تتمايز المصنوعات المادية في ما بينها، فيبلغ بعضها مرتبة الفنّ بينما لا تبلغها أخرى"؟ ويرى أنّ خطأ هذه المقاربات هو أنّها لم تراع مسألة أنّ الفنّ ليس معطى ثابتاً بل متغيّر. ذلك أنّ "الفنّ ليس في المادة ولا في الصنع أساساً، إنّما في تعيين ثقافي هو الذي يمحض هذا العمل البشري أو ذلك صفة فنّ". والفنّ في اعتقاده "صفة لاحقة وليس بالتالي مادة أو صنعاً بعينه، وإن يمثّل لنا في أنواع بعينها". أي أنّ تحديد العمل الفني على أنّه يتمتّع بصفات فنية هو أمر يخضع لمفاهيم متعارف عليها خلال فترة زمنية معينة، وفي ظروف اجتماعية معيّنة، وبخاصةً بعد أن دخل الفنّ في علاقات اجتماعية معقّدة وتحوّل إلى مادة مملوكة من فرد أو مؤسسة، وبلغ – منذ نهاية القرن التاسع عشر – درجة عالية من الاستثمار فيه. فالعمل الفني "شيء ثقافي واجتماعي، عدا أنّه شيء فني... وهو عملٌ يقع عليه التعامل في المجتمع وبين أفراد قبل أن يكون "لمسة ريشة" خلاّقة أو "ضربة إزميل مطواع".
هذه الرؤية للفنّ، كما يعبّر عنها شربل داغر، قد تلتقي مع قراءة كان قد قدّمها نيكوس حجينوكولاي، في كتابه "تاريخ الفنّ وصراع الطبقات" (باريس 1978)، يرى فيها "أنّ تاريخ الفنّ ليس تاريخ الفنانين"، رافضاً مقولة أنّ "لكلّ فنان أسلوباً خاصاً به"، لأنّ ما ينتجه منتج واحد من أعمال فنية لا يمكن أن يرتبط به وحده، وأنّ كون هذه الأعمال هي نتاج شخص واحد لا يشكّل صلة مهمّة في ما بينها. لذلك، فهو يستبدل كلمة أسلوب Style ، المصطلح عليها، بما يسمّيه "الأيديولوجية المصوّرة" Idéologie Imagée ، ويفسّر مسألة تعدّد الأساليب من خلال تعدّد الأيديولوجيات المصوّرة للطبقة الاجتماعية في المجتمع الواحد. وما يقصده بهذه العبارة، "الأيديولوجية المصوّرة"، هو "مزيج نوعي من العناصر الشكلية والموضوعية للصورة من حيث هي مظهر من المظاهر الخاصة للأيديولوجية العامة لطبقة اجتماعية". واستناداً إلى هذا المفهوم، يصبح من السهل تخطّي المقولة السائدة، "تاريخ إنتاج الأساليب"، والاستعاضة عنها بمقولة جديدة: "تاريخ إنتاج الصور هو تاريخ إنتاج الأيديولوجيات المصوّرة". إلاّ أنّ هذه القراءة للعمل الفني (من حيث هو أيديولوجية مصوّرة)، على ما فيها من معطيات جديدة وقيّمة، قد تلقي الضوء على جوانب معيّنة من موضوع إنتاج العمل الفني، إلاّ أنّها لا تقول شيئاً عن تباين قيمة الأعمال الفنية نفسها المنتمية إلى مجموعة واحدة، وكأنّ ثمّة إيحاء بأنّ أعمال هذه المجموعة كلّها متساوية في قيمها الفنية.
ولمعرفة ما المقصود بالفن، يرى شربل داغر(في الفصل الرابع) أنه لا بد من التعرف النقدي على تعريفاته، ومن درس أشكال تملكه وتداوله أو تناقله، المادي والقيمي، بين الأفراد والجماعات، مع الأخذ بالاعتبار أن العمل الفني عندما يتحول الى سلعة يبقى متميزاً عن غيره من السلع لاختلاف طرق استهلاكه، وتبدل قيمته، واحتفاظه بالتالي باحتكارية عالية من قبل مقتنيه. وينطلق الكاتب من كون الفن "مادة تبادل"، تتبدل معه ملكيته والنظر إليه، للوقوف على ما بات يمثله الفن الإسلامي في نظر الغربيين، بخاصة في فرنسا. فإن نقل أعمال فنية أو جلبها من بلدٍ إلى آخر، وتسويقها وتداولها فيه، يعني أن ثمة قناعات بما تمثله من قيم اسندت إليها، قد تسمح بتوظيفيها في سياقات جديدة، مالية ورمزية ونفعية، لم تكن معروفة في البلد الذي أتت منه. أي أن ما يرافق تداول السلع الفنية، بهدف التعريف بها، من كتابات ذات طبيعة نقدية أو فلسفية أو ترويجية، إنّما يدخل في نطاق مسار الملكية، ويسهم بالتالي في منح هذه الأعمال معنى جديداً هو منها بمثابة إعادة إنتاج لها في بيئتها الجديدة. وفي هذا السياق (إعادة الإنتاج)، فإنّ جلب العمل الفني يعني أنّ ثمّة إقراراً مسبقاً بقيمته التي كان قد أنتجها التعريف به، وما ارتبط بهذا التعريف من إعادة إنتاج لمعنى العمل، فنياً وتاريخياً. أي أنّ الكتابات التصنيفية والتحليلية إنّما أضفت على المادة الفنية قيماً جديدة، بما يندرج في سياق دراسة المعنى، كما هو متعيّن في مسار تاريخي، وعبر عمليات ثقافية واجتماعية شديدة التعقيد. فمعنى الفنّ الإسلامي "ليس ماثلاً في الشيء الفني" وملازماً له بقدر ما هو ناتج عن عمليات معالجة متتالية لمواده.
وانطلاقاً من إقبال الأوروبيين، منذ القرن الخامس عشر، على شراء نتاجات شرقية واقتنائها، إلى اكتشاف معالم الشرق وثرواته، ومحاولات السيطرة وبسط النفوذ على مقدراته، وبداية تشكّل النظام الرأسمالي، اجتمعت في نهاية المطاف، تماشياً مع سياسة التوسّع والهيمنة "عمليات نهب واستعباد ووضع يد، وفنون من الاحتيال والسرقة"، كانت ضحيتها بلاد عديدة في العالم، ومنها بلدان عربية وإسلامية. فعلى مدى قرون عدّة تطوّرت رؤية الأوروبيين إلى الشرق، وأخذت أبعاداً متنامية ومتجدّدة مع تطوّر البلدان الأوروبية نفسها، المتمثّل في نهضة فنية انطلقت من إيطاليا لتعمّ أوروبا، حيث أسّست مراكز لجمع وحفظ النوادر والطرائف وجميل المصنوعات، عرفت باسم "الخزانة" cabinet كنواة أولية للمتحف، كما أسّست منذ القرن السادس عشر الأكاديميات تعبيراً عن حاجات ثقافية وفنية أو مهنية كان لا بدّ من تلبيتها خارج نطاق الأديرة والكنائس.
ويوضح المؤلّف (في الفصلين السادس والسابع)، تمثّل هذا الميل الشديد إلى اقتناء مواد نادرة وعريقة في رحلات إلى بيئات شرقية قامت بها بعثات أوروبية، إيطالية ثم فرنسية. الأمر الذي يطلب بناء مكتبات ملكية كبرى لاستقبال ما كان يرد إليها من مخطوطات وكتب دين شرقية كان قد انتظم عليها الطلب منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر. فقيام المؤسّسات ومعاهد التعليم وإعداد الخبرات والاختصاصيين المهتمّين بثقافة الغير (كتعلّم لغاته ودرس آدابه وفنونه وآثاره...) إنّما كان بهدف التهيئة لاستيعابه، إن لم يكن لإلغائه، للمهمة التي أنيطت بالمستشرقين منذ القرن التاسع عشر، وهم الذين كان عليهم، إلى جانب "تجوالهم في نطاق العلم الخالص"، الانغماس في شؤون العالم المعاصر لهم، والتمكّن من وضع الدراسات عنه لأغراض سياسية وتجارية. لكنّ الأوروبي، في تعاطيه مع الشرق، واجه مشكلة أساسية تمثّلت في أنّ للشرق ثقافة عريقة ومتمايزة، كانت الحافز الأساسي على وجود الاستشراق المختلف، في صيغته الشرقية، عمّا كانت عليه الكتابات الأوروبية عن البيئات الأميركية المكتشفة حديثاً. وهنا بدا الاستشراق منذ بدايته (وفي جزء كبير منه) "مشروع غلبة مفتوحاً ومتجدّداً، ومشروعاً مستحيلاً في آن"، لكنّه لا ينفكّ يبدّل وجوهه ويجدّد أدواته. وما اعتماد التبشير وسيلة لدخول عالم الآخر إلاّ تعبير عن مساع جديدة لبناء "علاقات أكثر حذراً، أقلّ علانية، أكثر اندساساً" بين فئات من السكان.
في الباب الثالث من الكتاب (الفصول من الثامن إلى الثاني عشر) يستعرض المؤلّف، بدقّة وتفصيل، ما أحدثت الثورة الفرنسية من تبدّل عميق في الرؤى والمفاهيم، وفي طبيعة العلاقة مع الآخر، بحيث ما كان حتى ذلك الوقت يقتصر في مجال امتلاك المعرفة ومعالمها المادية، على مبادرات هي في جزء كبير منها فردية، يصبح من مهام الدولة وأهدافها الأساسية. ومع الثورة وما انبثق عنها، في السنوات التالية، من أعمال عسكرية، داخل أوروبا نفسها أو خارجها، اتبعت فرنسا، سواء في ظل الحكم الجمهوري أو الأمبراطوري، سياسة تقوم على السيطرة والهيمنة والاحتواء، إزاء جيرانها المباشرين أو البلدان البعيدة التي وصلت إليها جيوشها ودبلوماسيتها. وهي السياسة التي أرادت أن تستثمر الانتصارات العسكرية وتوظفها ثقافياً وفنياً وعلمياً، وأدخلتها، بعد ذلك، في منافسة شديدة لن تتوقف مع الدول الأوروبية الأخرى التي كانت لها أطماع مماثلة. وكي تتحقق مثل هذه الأهداف، وبالسرعة المطلوبة، كان لا بد من مصادرة ثروات الغير "وأعمال نهب" حقيقية (في إيطاليا وسواها من بلدان أوروبية وغير أوروبية) اتنزع على أثرها ونقل العديد من الشواهد والأعمال الفنية إلى ما اعتبره الثوريون "دارها الأخيرة"، أي فرنسا التي أرادوا لها أن تكون "أثينا الجديدة"، أو "روما الجديدة"، و"منارة العالم والإنسانية"، ولكن على حساب الآخر وكنوزه الثقافية المصادرة. مع نهاية نابليون بونابرت، أعيدت الأعمال الفنية الأوروبية (وحدها) إلى مصادرها، ومع ذلك، فإن متحف اللوفر قد أصبح في أواسط القرن التاسع عشر المكان الذي اجتمعت فيه مختلف مراحل التاريخ لمختلف الحضارات، ممثلة بما يعبر عنها من كتابات وآثار وفنون.
وفي هذا السياق، يعود المؤلف (في الفصول الأخيرة من الجزء الأول) إلى الكلام عن التنقيب والبحث عن الآثار، والدوافع والأهداف، ابتداء من حملة بونابرت على مصر عام 1798، وما كان لها من نتائج مباشرة، سواء على صعيد أعمال التنقيب الأثري وتطورها العلمي لاحقاً، أو في مجال تجارة الآثار، التي انتشرت وازدهرت وما زالت قائمة إلى اليوم، وأسهمت في نقل جزء كبير جداً من معام الشرق الحضارية إلى متاحف الغرب وخزاناته أو مجموعاته الخاصة. من الناحية العسكرية كانت الحملة إلى مصر قصيرة، غير مثمرة لم تستمر سوى ثلاث سنوات، إلا أن نتائجها العلمية، الآثارية في المقام الأول، تخطت بكثير أهدافها الاستراتيجية المباشرة. فإلى جانب المغانم الكبيرة، فتحت الحملة الباب واسعاً أمام الأوروبيين للتنقيب عن الآثار ليس في مصر وحدها بل في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأدنى، وأتاحت للجندي الأوروبي أن يتحول إلى منقب، وللضابط أو القنصل أن يصبح بدوره عالماً أثرياً يشرف على الحفريات ويراقب ويتولى عمليات شراء الآثار وجمعها ونقلها إلى بلاده.
فبعد صدور الكتاب الجامع "وصف مصر" (32 جزءاً)، سنة 1821، المتضمن دراسات وصوراً ورسوماً لأفراد البعثة العلمية المرافقة لحملة بونابرت، جاءت بعثة شامبليون (وهو الذي توصل إلى فك رموز الهيروغليفية) لتدشن مرحلة جديدة من البحث العلمي تتالت خلالها البعثات إلى مختلف بلاد الشرق الأدنى التي تحولت، في هذا المجال، إلى مسرح للتنافس بين العديد من الدول الغربية. لكن، على الرغم من التوجه العلمي لهذه البعثات والصفة الشرعية التي باتت تتمتع بها، فإن هاجس الاستحواذ على الآثار وتملكها وحفظها بقي مهيمناً طوال القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين. وهي لم تتوان أحياناً عن انتزاع أو اجتزاء آثار نحتية أو معمارية، مهما بلغ حجمها، ونقلها إلى عواصم غربية، بموافقة السلطات المحلية ورضاها، وبما يعبر عن قناعتها وسخائها، أو امتناعها لما قدم لها من خدمات. وقد تتمثل هذه الآثار بإفريز من المنحوتات لمعبد يوناني (لندن)، أو بوابة صرحية في سور مدينة بابلية (برلين)، أو جدارية "فسيفسائية" سومرية (برلين)، أو مسلة مصرية (باريس)، أو ناووس فينيقي (إسطنبول–باريس)، أو تمثال ثور مجنح أشوري (لندن)، أو واجهة قصر أموي (برلين).
بعد تجوال ذهب به بعيداً في حوار تفصيلي، تحليلي، طويل وشاق، مع الفن وحول الفن (الأشياء والمصنوعات والآثار)، في تناقله وتداوله بين التاجر والمكتشف والسوق والمتحف، حيث مقره النهائي، والرؤية إليه في بيئة غير بيئته، احتضنته مرغماً ومنحته قيمة ومضموناً جديدين، يعود شربل داغر، في الجزء الثاني من الكتاب (الفصول الخمسة الأخيرة) إلى ما يفترض أنّه المحور الرئيسي لهذه الدراسة، يعود إلى الفنّ الإسلامي ليعالج موضوع إعادة إنتاجه وتناقله وحفظه الختامي. فالعمل الفني عندما ينقل ويوضع داخل سياق جديد، مغاير لما كان عليه سابقاً، إنّما يكتسب سمات جديدة، مادية وقيمية، ثقافية ومالية، تعيد إنتاجه وتدفع إلى التعامل معه بطرق مختلفة.
عندما تعرض مثل هذه الأعمال في معرض عام، ولا يجري الكلام عنها أحياناً إلاّ منسوبة إلى أسماء مالكيها، أو تعرض داخل متحف، كاللوفر، خارج سياقها الأول، أو محيطها المادي الذي ينتمي إليه في الأصل - خاصة أنّ هذه الأشياء عناصر معمارية (إفريز أو جزء من جدار...)، أو خشبية أو عاجية (مقتطعة من أعمال كبيرة) – فإنّها تصبح، في هذه الحال، أعمالاً معزولة، مستقلّة عن وظيفتها الأساسية، متحرّرة من مبدأ التكرار شبه الملازم للنظم المعمارية والزخرفية الإسلامية، متكيّفة مع مواصفات صالات العرض والمتاحف في فرنسا. فهي تعرض، هنا، وفق نظام اللوحة المتّبع في أوروبا، بما يرافق ذلك من عمليات مادية وثقافية ووسائل تعريفية تسهم في إعادة إنتاجها. "فما جرى بين الاقتناء وحضور المادة الإسلامية في المجتمع الفرنسي لم يقم على نقلها وحسب من بيئة إلى أخرى، ومن بيت (أو قصر، أو مسجد...) إلى غيره، وإنّما قام على إدراج المادة في بيوت، أو في محلات، أو في متحف، ولكن طبقاً لاستعمالات مخصوصة، جديدة بالتالي. كما قام أساساً على عمليات رمزية قضت بتبديل طبيعة المواد وبتحويلها بمجرّد أن يقع نظر الشاري عليها".
لكن هذا الواقع لا يقتصر على الفنّ الإسلامي، بل يشمل جميع الفنون بما فيها الفنون الغربية التي تكتسب قيماً ومعاني جديدة، إذا ما نقلت من سياقها المادي، المكاني، ووضعت في سياق جديد داخل متحف. فنحن، على سبيل المثال، نجهل ما كانت تمثّله المنحوتات اليونانية في نظر سكان البلاد، الإغريق، لأنّ قسماً كبيراً منها كان ملوّناً، وبمرور الزمن فقدت ألوانها التي اقتصرت في النهاية على لون المادة المصنوعة منها، وبتنا بفضل عامل الزمن، نرى فيها من قيم تشكيلية ما كانت تحجبه الألوان، وما لم يكن يراه اليونانيون أنفسهم، عدا أنّها لم تعد في أماكنها وتحوّلت كلّها تقريباً إلى المتاحف. ولأغراض مختلفة تماماً كان الفنان الفرنسي، مرسيل دوشان، قد عمد منذ 1912 إلى استخدام أشياء جاهزة، عادية، والتوقيع عليها كما لو كانت أعمالاً فنية له، ثم عرضها في قاعات العرض ليثبت أنّ أشياء متداولة في حياتنا اليومية، عادية ومبتذلة، قد تكتسب معنى جديداً إذا ما عزلت عن وظيفتها النفعية الملازمة لها ووضعت في غير السياق الذي تنتمي إليه.
في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب (وضع المعنى، اجتماعية المعنى، عائد المعنى) ينصرف شربل داغر إلى دراسة المعنى الذي اكتسبه الفنّ الإسلامي من خلال تداوله وامتلاكه وحفظه والكتابات التي تناولته وأنتجت معناه. وهي كتابات ملازمة لوجوده، لكنّها متباينة في تقييمها وأحكامها، وتخضع عادة لمفاهيم اصطلاحية تعكسها قناعات ولدتها ظروف المجتمع الغربي وتقاليده ومقاييسه الفنية: كالتمييز بين العمارة والفنّ، واستخدام مصطلحات غالباً ما تكون مستقاة من لغة أوروبية (كالفرنسية) غير ملائمة للتعبير عمّا يراد بها في مجال الفنون الإسلامية، واعتماد مصطلح "فنّ" في وصف الفنّ الإسلامي في شموله، ومصطلح "مصنوعات" عند الكلام عن أشياء بعينها، أو إطلاق صفة فنانين على من يعمل في المجال الفني من الأوروبيين، بينما يوصف أقرانهم من المسلمين بالصناع. الأمر الذي يربك النصّ، ويولد التباساً بين النصّ (في اللغة الواصفة) وموضوعه (الفنّ الإسلامي)، ويؤدّي إلى خلل في تعيين المعنى المتضمّن في الفنّ الإسلامي. إلى ذلك فإنّ آراء البعض ممّن تناولوا الفنّ الإسلامي إنّما تنطلق من محدّدات عرقية أو دينية في تعيينه وتعرّضه، في هذه الحال، لتجاذبات تتعدّاه وترتبط بثقافة الوسط الجديد الذي انتقل إليه. ففي حالات كثيرة، أُخضع الفنّ الإسلامي لعمليات تشكيك في قيمه، وحتى في وجوده أحياناً، أو لعمليات تبخيس في ما بلغه من قيم فنية يدين بها لفنون أخرى كان يسعى إلى محاكاتها وتقليدها، لأنّ العرب بخاصة، والمسلمين بوجه عام، لا يحسنون التصوير، ولا يمتلكون مواهب فنية. فاعتبار عنوان "الفنّ العربي" فارغ المضمون لأنّه "لم يكن العربي فناناً قطّ"، ولأنّ الإنسان السامي لا يتلاءم والفنّ إنّما يجسّد نمطاً في التفكير ينهل من مصادر عرقية كانت معتمدة في الغرب، وما زالت - للأسف - تجد أتباعاً لها. فالقاموس العالمي للفنون الصادر في فرنسا (1979)، بإشراف بيير كابان، ما زال يرى الفينيقيين على أنّهم جماعة انصرفت للتجارة، وهي غير مؤهّلة للفنّ. لكنّ ذلك لا ينفي أنّ ما كتب في هذا المجال قد أسهم في بناء خطاب عن الفنّ الإسلامي كان مساره، المتمثّل بمجهودات جماعية كبيرة، يصوّب أو يعدّل أحياناً من دون أن يتبدّل كلياً. فالخطاب عن الشرق، المتأثّر بظروف المجتمع الغربي ومفاهيمه وطبيعة علاقته به، قد تنوّع تبعاً لمسار تكويني واجتماعي تنامى عبره الاهتمام بمعنى الفنّ الإسلامي في كتابات كانت، منذ القرن التاسع عشر، قد توقّفت عند بعض قيمه الخاصة وانصرفت إلى دراسة مواده، ولكن غالباً ما كان ذلك وفق مقتضيات آثارية. فالانشغال الآثاري بالماضي كان يتقدّم، في هذه الدراسات، على ما عداه، كالمعاينة الدقيقة للمواد الفنية وتذوّقها والحكم عليها. ومن هنا كان اهتمام الباحثين، في كتبهم ذات الطابع الشمولي، بالعمارة وتقديمها على سائر الفنون الأخرى، كالتصوير والتزويق (المنمنمات) والرقش والخط. وعندما خالف الكاتب الفرنسي بابادوبولو هذه القاعدة وقدّم (في كتابه: "الإسلام والفنّ الإسلامي"، باريس 1976) الفصل الخاص بالتصوير والزخرفة والخطّ على العمارة، لم يكن للتأكيد على أهمية هذه الفنون وحسب، بل لأنّه يشكّك في وجود العمارة الإسلامية نفسها، ولا يجد فيها الصفات المميّزة ما يؤهّلها لاحتلال المرتبة الأولى بين هذه الفنون.

("جريدة الفنون"، الكويت، العدد الخمسون، شباط-فبراير 2005).