جميل قاسم : ما بعد الاستشراق وما قبل الحداثة

لعلّ مؤلّف كتاب "الفنّ والشرق"، د. شربل داغر وناشره ("المركز الثقافي العربي") لم يوفّقا في اختيار عنوان تداولي واستعمالي (براغماتي) مناسب ومصاقب لمادة الكتاب ومتنه، ولو كنت مكانهما لسمّيته الكتاب "ما بعد– الاستشراق".
ذلك أنّ الكتاب يواصل مسيرة نقد الاستشراق التي اختطّ طريقها الناقد إدوارد سعيد ويتخطّاها إلى الأمام والوراء، القَبْل والمابعد في دأب وصبر وأناة، وبمقاربة منهجية معمّقة.
في مؤلّفه الشهير "الاستشراق" تصدّى إدوارد سعيد لدراسة "الشرق المخترع بواسطة الغرب"، وكشف فيه عمليات الاستبناء الخطابي والمعرفي القائم على إرادة المعرفة كإرادة فذّة، في إعادة تشكيل الشرق وصياغته، في إطار علاقة الغلبة بين أوروبا والعالم، ما بعد عصر التنور. أمّا د. شربل داغر، فيكشف النقاب عن كون عملية الاستبناء تقوم على علاقة استحواذ وملكية مادية للفنون "المعتبرة كمجرّد آثار ومقتنيات وأشياء".
يقول الكاتب إنّه كان ينبغي عليه، من الناحية الوقائعية (الكرونولوجية)، كتابة "الفنّ والشرق" قبل كتابيه السابقين "مذاهب الحُسن" (1998) و"الفنّ الإسلامي في المصادر العربية" (1999)، لأنّ الكتاب هو العتبة التكوينية لمشروعه النقدي الجمالي (الاستيطيقي).
وقد تطرّق في كتابه "الفنّ والشرق" إلى استعراض ما نطلق عليه في غير لغة وثقافة تسمية "الفنّ الإسلامي"، وما يتعيّن في متن تجتمع في مصنوعات بعينها، ويتكفّل بمعناه خطاب أوروبي – مركزي، تاريخي وتصنيفي لهذا الفنّ (...).
يجعل الباحث دراسة "الفنّ الإسلامي في فرنسا، منطلقاً لدراسته الجديدة، ويتوصّل، بعد تحقيقات مستفيضة، في تتبّعه لمعنى الفنّ الغربي إلى خلاصة تربط الفنّ بالملكية (كإشهار علامات القوّة والجاه والتميّز) التي تمثّلت بالطلب الأرستقراطي على مواد النادر والعريق في الفنّ القديم (الفرعوني والإيطالي والإسلامي والشرقي القديم إلخ).
ويكشف الباحث، بجهد تفصيلي وتدقيقي خارق، العلاقة بين ثقافة وخطاب موضوع عنها من خارجها، وبين فنون في بيئاتها، من جهة، ومصنوعات مملوكة عنها، من جهة ثانية، خارج بيئاتها التاريخية والاستعمالية (من أشكال المعنى والتاريخ والتقويم والتثمير وغيرها) مبيّناً في فتحه لهذا الملفّ الكبير العلاقة التاريخية بأوجهها المختلفة التي نشأت بين سياسات (فرنسية وأوروبية وأميركية) وعمليات الجلب والتحكّم والحيازة والتفسير والتأريخ وغيرها وبين المتن المادي والنصّي المتوافر في هذا الفنّ.
وقد اقتضى العمل في هذا البحث سنوات وسنوات، لا في كتابته وحسب، وإنّما في جمع مادته الغزيرة والتحقّق منها في المكتبات الكبرى في فرنسا. علام يقوم سؤال الكتاب ومنهجه؟
يقول الكاتب إنّه تبيّن أنّ ما نقدّمه على أنّه الدرس الموضوعي للفنّ الإسلامي، ومنه الدرس الفرنسي، لا يعدو كونه درساً ثقافياً "مقيّداً" بجملة من السياقات والاشتراطات والإكراهات التي تؤطر مثلما تتحكّم بحاصل درسه. ولا يقوم على دراسة هذا الفنّ "في ذاته" في وضعه القديم (الموضوعي) وإنّما مراجعته بناءً على نظرة مركزية–ذاتية غربية، تقوم على الاستشراق كاستعاضة تعويضية عن الشرق عينه – وهي أطروحة إدوارد سعيد المعروفة – لكن، على رغم انطلاق الكاتب داغر من النقطة التي انتهى إليها سعيد في نقده "ما بعد الكولونيالي" للدراسات الاستشراقية، يرى أنّ سعيد قد خلص إلى أنّ الشرق كان عبارة عن مبنى متخيّل جرى إنشاؤه (الإنشاء الخطابي)، أي كان موضوع تأليف، فيما يعتقد هو أنّ "موضوع الفنّ الإسلامي شهد تملّكاً لا تخيلياً وحسب لمواد هذا الفنّ وثقافته".
ويعني هذا، من وجهة نظره، أنّ المستشرقين لم ينصرفوا إلى نصوص وحسب، وتغاضوا عن غيرها من المواد، ولا سيما الفنية باعتبارهم الشرق "كوناً نصياً" فقط، وإنّما سعوا إلى جمع ما بلغت إليه أيديهم من مواد الماضي وفق منظور آثاري، لا نصي أو كتابي.
وفيما يتناول سعيد حقبة تاريخية تبدأ مع حملة بونابرت وتنتهي بعد الحرب العالمية الثانية ويعدّها "الحقبة الاستشراقية" النموذجية، لا يجد داغر هذا التصنيف التاريخي مواتياً وكافياً، بل يقرنه بما قبله وما بعده من الوجهة التاريخية والزمانية، في دراسته لعمليات "التثاقف".
ويرى داغر – في توسّعه النقدي – أنّ سعيد وجد نفسه ملزماً بـ"تحييد" عدد من المستشرقين، مثل مكسيم رودنسون وجاك بيرك، لاعتبارات سياسية لا علمية، كما عمد إلى تغييب المدرسة الألمانية في الاستشراق، لأنّها لا تناسب أطروحته الأساسية (المعرفة للسيطرة وحسب). ومع أنّ الاستشراق الألماني بدوره خلط المعرفة بالمنفعة في تاريخه (الرحالة الألماني فون أولدنبورغ وضع تقارير عسكرية بعد خمسة عشر عاماً على هجوم الجيش الألماني على قلعة صيدا (لبنان) ومدينتها وتدميرها في العام 1197) على رغم ذلك نجد أنّ الاستشراق الألماني قدّم منافع عدّة للثقافة الشرقية، مثل تحقيق الكتب والمخطوطات (المستشرق الألماني بكر هو الذي حقّق "فصل المقال" و"مناهج الأدلّة" لابن رشد في أواخر القرن التاسع عشر).
لا يكفي، والحال هذه، إظهار الجانب العنفي فقط من ثقافة الاستشراق، كما لا يكفي إبراز الجانب النفعي من هذه المعرفة.
ويرى داغر أنّ سعيد ركّز على الممارسة الكتابية والخطابية والنصية غير أنّه أغفل الجانب المادي الأكيد، والحيازة الفعلية لمواد ومقتنيات وآثار الفنّ الشرقي (بخاصة) واليوناني والروماني (بصفة عامة).
وقد طلب الاستشراق من الماضي الإغريقي-الروماني أن يكون مثالاً محفزاً له باعتباره ماضياً عريقاً، ونظر إلى الماضي الشرقي باعتباره "ميراثاً بارداً"، وكانت علاقته بهذا التراث –ما خلا الماضي الفرعوني الذي بهرهم– علاقة نبذية، شكية، تصغيرية. ويقول داغر في مقدّمة كتابه إنّ "الكتابة لا تخبر عن سابقها، عن تحوّلاتها، إلاّ إذا باقت مسوداتها الكتابية". ونحن نقول بأنّ قراءة سفر كامل "الفنّ والشرق" انطلاقاً من إشكالية الملكية والمعنى والتداول الاستعمالي، لا يمكن أن يستقيم بتلخيصه واستخزاله التقريري، لأنّ المتن يظلّ أغنى بصورة لا قياسية من الهامش. ولكن قد يكفي إيراد واقعة "سرقة" اندريه مالرو وزير الثقافة الديغولي والأديب الشهير للآثار في معبد كمبودي والحكم بسجنه لمدّة ثلاث سنوات، كمغزى ومعنى ودلالة على "سرقات" استحواذية وتملّكية للتراث الإنساني، كادت ألاّ تستثني حتى "الكعبة" و"الإهرامات" في المنظور الاستشراقي الكولونيالي! دراسة الدكتور شربل داغر تستكمل في صورة معمّقة، وجادة وجديدة ما بدأه إدوارد سعيد، ويفتتح في دراسته هذه حقبة ما بعد الاستشراق في مجال الجماليات.

(جريدة "الحياة"، لندن، 9 تشرين الأول-أكتوبر 2004).