من لم يحضر محاضرة شربل داغر، في المركز الثقافي الملكي مساء الثلاثاء الماضي، فاته الكثير. كانت المحاضرة، التي دعت لها وأقامتها وزارة الثقافة، بعنوان «الخطاب عن الفن الإسلامي قراءة نقدية»، ولربما تبادر لذهن من قرأ عنوان المحاضرة، أنها ستكون كليشيهات تقليدية عن الفن الإسلامي، ولذا لم يكن عدد الحضور كافيا لمحاضرة مليئة بالمعلومات القيمة، مختلفة في طريقة تناولها وفي مجمل الأفكار التي طرحت. والمحاضر يعتبر من أبرز نقاد الفن التشكيلي العربي، أضف إلى ذلك ثقافته الموسوعية، سواء النقدية أو الشعرية والتشكيلية، ونزاهته المنقطعة النظير في عالم تسوده الطائفيات والتوجهات الضيقة. لن أتحدث عن إنجازات شربل داغر، من مجموعات شعرية وكتب نقدية في الأدب والشعر والفن التشكيلي ومراجع بحثية، ورسائل جامعية، فقد تولاها الصديق محمد العامري في تقديمه للمحاضرة، وهذه المعلومات متوفرة، لمن شاء في الإنترنت. لكني سأتحدث عن طريقة طرح داغر لمحاضرته، وعن بعض الأسئلة والأفكار التي تناولها.بدأ داغر حديثه عن الخطاب الغربي الذي تناول الفن الإسلامي بجملة خطيرة لأندريه مالرو، المثقف والكاتب ووزير الثقافة الفرنسي الأسبق في عهد ديغول، يقول فيها إن الصورة المنقولة ليست هي الحقيقة، بمعنى أن نقل جزء من صورة من أي تراث، ليست هي الصورة الأصلية، وشتان بين العمل الفني الحقيقي كاملا، وفي بيئته، وبين الصورة المشوهة التي يتم ترويجها.لقد تم حصر الفن الإسلامي في قالب استشراقي معين، فتم نقل بعض أجزاء الصورة، وتم التعامل مع الفن الإسلامي الذي كان لا يزال يتطور في عهد الدولة العثمانية باعتباره عملا تاريخيا، وعملا ناقصا، بل إن الخطاب الغربي عن الفن الإسلامي حمل الكثير من المقاصد المشوهة، وتم وضعه في نمط معين ومجزوء. وقد لاحظت - والكلام لداغر - في المتاحف الأوروبية أجزاء من رسومات، وأعمالاً فنية إسلامية، وضعت في أطر محددة ومعلبة، وقوالب مشوهة. وهنا علينا أن نكون حذرين من تناول الفن الإسلامي في المرجعيات الغربية، والحرص من قولبة هذا الفن حسب العقلية الغربية، التي تناولت هذا الفن بمعزل عن مرجعياته، وكونه "فن أمة"، يستلهم القرآن الكريم، ولكنه يلبي الاحتياجات الحضارية، وقد ساهم في صناعته وتطويره العرب وغير العرب، ولكن كان لكل منطقة وبقعة في العالم الإسلامي دورها في هذا الفن وفي تطويره والإعلاء من قيمته، بمعنى أن المسيحيين العرب لهم دورهم في هذا الفن، وهذا يعني أن الإسلام جزء من هوية هذه الأمة، ولم يكن الفن الإسلامي جزءا من الشعائر الدينية، على العكس من الفن في أوروبا فقد كان جزءا من الدين.لكن داغر لا ينفي أن الفن الإسلامي نشأ بين المسجد والقصر، وكان يشكل للطبقات الحاكمة نوعاً من الترف؛ وكلمة الترف ليست كلمة سيئة هنا، كما قال. فالحكام الذين أحبوا أن يظهروا هيبة حكمهم اهتموا بالفن والفنانين، وكذلك الطبقات القادرة على الترف.وأشار داغر إلى نقطة مهمة في رسومات الواسطي مثلا، وهي إظهار طرف المجذاف في جهة القارب الثانية في إحدى اللوحات، وإظهار الكثير من التفاصيل التي كان يمكن عدم إظهارها، لكن هناك هدفاً من وراء ذلك، وهذا ما يلمسه لدى الكثير من العلماء في العصور الإسلامية، وهو المعرفة، كما فعل ابن الهيثم في رسومه التوضيحية عن الضوء، هذه المعرفة التي كان الناس بحاجة لها، على العكس من الزمن الراهن، ولذلك هرب الفن إلى الظلال.لا أريد استعراض كافة المحاور التي طرحها داغر، لكن الحقيقة أنه باحث متعمق ومطلع على الفن عموما وخطاب الفن. والجميل لديه هو ذاك المزج بين الأدب والثقافة والفن والفكر والتاريخ، فقد التقط علاقة ابن الرومي بالفن مثلا، والتقط اهتمام الثقافة الإسلامية بالكتاب أكثر من الرسم، ومع ذلك لا يمكن تلخيص الفن الإسلامي والذي ازدهر لعدة قرون، أو إنهاء تاريخه يوم سقوط الأندلس وهو التاريخ الأوربي، والتعامل مع الفن الإسلامي حتى الذي ازدهر في الدولة العثمانية باعتباره فنا تاريخيا، وذلك ما فعله الأوروبيون بينما كانت الدولة العثمانية تبدأ عصرها بعد سقوط الأندلس.لا يمكن فصل الفن والأدب عن التاريخ والبيئة والسياسة والصراع الحضاري، ذلك ما لم يقله داغر بشكل مباشر، لكن ما لا يمكن تخطيه وتجاوزه في هذه المقالة السريعة، أن الشاعر شربل داغر قيمة نقدية عربية، وأن انكفاء الفنانين والمثقفين الأردنيين عن الحضور، بينما يتكدسون في ندوات أقل قيمة، لأسباب ليست ثقافية، يدل على أن المعيار الثقافي والمعرفي ما زال ناقصا ومشوهاً.

(افتتاحية الملحق الثقافي لجريدة "الدستور"، عَمان، 14-12-2012).