أنحو في هذه المحاضرة وجهة مغايرة للدرس الحالي في الفن الإسلامي، إذ أطلب سؤال الأدب العربي القديم عن الفنون. وهو بحثٌ تطلبُه المحاضرة عند الشاعر ابن الرومي، حيث أمكنني التحقق من وجود أشكال من العلاقات بين التصويري والكتابي في شعره، وبما يدل على تاريخية الفن الإسلامي، وعلى جمالية خصوصية، تقوم على التواكل بين الشعر والعين.
يستند درسُ الفن إلى أعمال الفن نفسها، بطبيعة الحال، وإلى الخطاب عن الفن (من فلسفة وتاريخ ونقد)، إلا أن هناك مصدراً آخر قلما ننتبه إليه، وهو مواد الأدب خصوصاً، واللغة عموماً. وهو قول يصح كثيراً في أكثر من فن، بما فيها الفن الإسلامي...
هذا ما عملتُ عليه، منذ كتابي الأول في درس الفن الإسلامي، وهو: "مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية". هذا ما اتبعتُه في جميع كتبي في هذا النطاق، وهو ما أنتقل به، اليوم، في محاضرتي هذه، نقلة جديدة تقوم على معاينة ما يشتمل عليه شعر ابن الرومي من مواد دالة على هذا الفن.
طلبت التوقف عند ابن الرومي (221-283 هـ)، (836-896 م.)، لاتساع مدونته الشعرية وتنوعها، ولخصائص فنية متعددة بانت في شعره، وتوافق المحاضرة نفسها. فديوانه يعد من أكبر الدواوين العربية، إن لم يكن أكبرها، بدليل أن مجموعة من الدارسين المعاصرين تعاونوا واشتركوا في شرح ديوانه ذي المجلدات السبعة (دار الجيل، بيروت، 1998). ولكن أي جديد يمكن قوله في شعر ابن الرومي؟
الإخبار عن الفن
وردت أخبار كثيرة عنه تناقلَها الكتاب القدامى، مثل: ابن العماد في "شذرات الذهب"، وابن خلكان في "وفيات الأعيان"، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" وغيرهم. وهو ما يصح في كثيرين من الكتاب الحديثين، مثل: عمر فروخ وعبد الغني حسن وعباس محمود العقاد وغيرهم، فضلاً عن أن كثيرين اعتنوا بتحقيق ديوانه وشرحه.
قيل الكثير في ابن الرومي، وعملوا على ربطٍ تلقائي بين قصائده ووقائع حياته، خالصين إلى رسم نفسي تبسيطي لشخصه، مما جعله "غريباً" أو "طريفاً" في أحسن الأحوال. وما كان جديراً بالبحث، أي إبراز اختلافه عن غيره، في شعره كما في سلوكاته، تحول إلى تناول غرائبي له، ما جعله خارج النموذج واقعاً: هكذا تحدثوا، من حيث لا يدرون، عن النظام المقر، عن الهوية "السوية" للشاعر، لا عن ابن الرومي بأي حال.
فقد حفلت حياته بالمآسي والنكبات، واتسمت سلوكاته ومواقفه بمقادير واسعة من التشكي كما من النفور، ما يصح كثيراً في قول المرزباني: "قلت فائدته من قول الشعر، وتحاماه الرؤساء". فقد الشاعر عائلته تباعاً (من أبيه إلى أمه بلوغاً إلى أخيه الأكبر وخالته، ثم إلى زوجته وأولاده الثلاثة)، مثلما فقد ممتلكاته بين حريق وجراد وخلافها، ما جعل المدح ينقلب في أحوال إلى هجاء، أو إلى عتاب...
إلا أن هذه الأخبار والتفاسير التي اتصلتْ بها - سواء أصحت أم أخطأت – لم تصرف عنايتها إلى القصيدة نفسها، إلى أبنيتها، مكتفية بشروحات حولت الصورة في شعره إلى طرفة، أو إلى إجادة في الوصف ليس إلا. طلبت، إذاً، في درس ابن الرومي وجهة أخرى، ونظرت إلى شعره نظرات مختلفة، بين تاريخية وجمالية. وما يمكنني قوله، في تمهيد هذه المحاضرة، هو أن حاصلها سيكشف عن جدواها وفائدتها في الدرس. ولقد وجدت إمكانية الاستفادة من هذه المدونة الشعرية في ثلاث مسائل:
- الإخبار عن الفن،
- احتفاء القصيدة بما تراه العين،
- تبادلات جمالية بين القصيدة وغيرها من الفنون.
ما يعنيني التوقف عنده، بداية، في درس الديوان، هو أنه يشكل مدونة واسعة تساعد في التعرف على بصرية الفن في العصر العباسي، ولا سيما بصرية القصيدة، ما جعلني أتحدث عن: "عين القصيدة". فكما درستُ، في السابق، "كتاب العين"، أطلب في هذه المحاضرة التعامل مع ديوان ابن الرومي بوصفه حامل مادة إخبارية بدوره؛ وهو ما يحتاجه الدرس، في جميع الأحوال، طالما أن مدونة الإخبار عن الفن الإسلامي في المصادر العربية محدودة ومتناثرة...
غير قصيدة في ديوان ابن الرومي تتحدث عما يمكن تسميته بأنواع الفن، ما يتعين في عدد منها، مثل: الخط، والتمثال، والدمية، والغناء، والتزويق، والوشي، والزينة، والبسط، والعمائر والرياض وغيرها (ما يمكن العودة إليها في الشواهد الكثيرة المرفقة بهذه المحاضرة). هذا يستجمع ويدل عل أنواع هذا الفن كما انتهينا إلى التعريف بها في القرنين الأخيرين في المجموعات الخاصة والمتاحف المختلفة. وابن الرومي لا يذكرها ذكراً وحسب، وإنما يتناول أوجهاً مختلفة منها، بما يدل عليها، وعلى إنتاجاتها، وممارسيها، وطرق صنعها، وما يخصها من ألفاظ اصطلاحية.
كما أمكن التعرف، على سبيل المثال، على عدد من المصنوعات، مثل: السراج، والقلم، والدينار، والقدح، والسيف، والكتاب المختوم وغيرها. وأمكن التعرف كذلك على استعمالات فردية واجتماعية تخص العلاقات بهذه المصنوعات، بما يشير إلى خيارات ذوقية، وإلى قيمِ استحسان أو استقباح وغيرها.
وهو في ذلك لم يُبقِ شيئاً إلا ووصفه، من الإنسان إلى الطبيعة مروراً بالوجود نفسه. هكذا كتب في الدار، كما في الرحلة، والمأدبة، متوقفاً في الشوارع ليعاين ويصف. وهو ما يصح في معاينة الشمس، أو ثمار الطبيعة من: عنب، وموز، ومشمش، ورمان، ونرجس وغيرها، ومن: سمك، وبيض، ودجاج، وقطائف وزلابية... ولم يدعْ كائناً إنسانياً لافتاً في شكله إلا ورسمه شعراً، من: أحدب، وأصلع، وثقيل، وصاحب وجه طويل، ولحية كثة، وأنف ضخم، وخباز وقالي زلابية وغيرهم. يقول فيه ابن خلكان إنه يغوص على المعاني "النادرة"، فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يُبقي فيه بقية.
احتفاء القصيدة بما تراه العين
"يونقُ العينَ حسنُ ما في..."، يقول ابن الرومي، وهو ما يمكن قوله في غالب شعره، إذ أن القصيدة عنده تصدر عن عين، لا عن وجدان، في المقام الأول. وهو ما يحتاج إلى توسعة في العرض والشرح، ما أجملتُه في القول: احتفاء القصيدة بما تراه العين.
وجب القول، بداية، إن العصر العباسي شهد مع مجدديه، من أبي تمام إلى أبي نواس خصوصاً، نقلة كبيرة تمثلت في تغير موضوعات الشعر، أو أنواعه: هذا ما ظهر في تعديل أنواع معهودة، مثل المدح، أو في ابتداء أنواع جديدة، مثل شعر الطرديات والزهد والتصوف والمجون والغلمان وغيرها. وإذا كان الشعر العربي القديم لا يوفر صورة على درجة من الشفافية عما كانه الإنسان والمجتمع فيه، فإن ذلك يختلف مع العصر العباسي، حيث بتنا نتعرف فيه على المدن والأحياء والناس، على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم، وعلى سلوكاتهم وأذواقهم وقيمهم وغيرها. وهو ما تعين أيضاً في تغير أبنية القصيدة نفسها، حيث باتت تتوافر فيها "وحدة للموضوع"، التي قلَّ وجودُها في الشعر سابقاً. بل ظهر في هذه الأبنية شكل سردي لافت، ابتداء من أبي نواس، ما يعني، في هذا المستوى أيضاً، انفتاح القصيدة على الزمن الجاري. وهو ما اتخذ سبيلاً بيناً قام على إبراز "فردانية" الشاعر نفسه: للقصيدة ذاتٌ متفردة تَصدرُ عنها وتتكفل بها؛ والشاعر كائن شعري، لا صوت مخدوم لغيره من القبيلة إلى الخليفة.
هذا ما اتضح أعلاه في الكلام عما كانت قصيدة ابن الرومي تسميه وتعينه وتسعى إليه في المشهد العباسي اليومي، في أمكنة بعينها من رياض وقصور وبساتين وحانات ودور وأسواق وغيرها. وهو ما يتضح أكثر في الحسية العالية التي يطلبها الشاعر في قصيدته كما في مشاعره: هذا ما يظهر في عالي حزنه ورقته عند رثاء ابنه الأوسط، أو في التغني الساحر بصوت وحيد المغنية. وهو ما يَظهر في استعماله المقذع، الشخصي للغاية، للهجاء. هذا ما يبلغ في قصائد الحب تعبيرات لا تستغرق في وصف الحبيبة، أو في تعبيرات الفراق أو الشوق، كما في تقاليد الغزل العربي، وإنما نلقاه يتوجه إلى حبيبة بعينها، إلى ما يجري بينه وبينها، إلى ما يأمله منها.
إذا كان ابن الرومي شريكاً مجدداً مع غيره في تجليات الإبداع العباسي، فإنه في فن الوصف بلغ ما لم يبلغه فيه أحد. فالوصف كان أضعف الفنون في الشعر العربي، يقوم به البعض من باب اللزوم ليس إلا. ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب، أختصرُها بالقول: إن فن الوصف ما كان يستجيب لأي نفع استعمالي، في الجاه والمكانة، عدا أن ملكة الوصف لم تكن مستحسنة، هي الأخرى، إلا لأغراض تعيينية وتعريفية، إذا جاز القول.
قيل الكثير في كون ابن الرومي شاعراً واصفاً، وفي أنه كبير الشعراء العرب في هذا الفن الشعري. وقيل فيه إنه فن دوني لو لم يصرف له ابن الرومي عنايته الشعرية الخالصة. فهو لم ينصرف، مثل سابقيه، إلى الوصف التقليدي، وإنما وسع من موضوعات الوصف توسعة قوية، حتى لتكاد عينه الشعرية تصور كل ما وقعت عليه. بل يمكن القول إن مدونة شعره تشكل أوسع مرآة عن أحوال المجتمع العباسي في القرن الثالث الهجري خصوصاً.
ولكن يمكن القول أيضاً بأن إقبال ابن الرومي الشديد على الوصف أتى تعبيراً عن احتياجاته الجمالية المتنامية. هكذا تأتي العين بالمشهد، بما تَنظر إليه، إلى متن القصيدة، مثلما يأتي الفنان التشكيلي (لو جاز التشبيه والمقارنة) بعناصر العالم الخارجي ليجعل منها عالماً داخلياً، كما في قوله: "أيامَ أستقبلُ المنظورَ مبتهجاً"... أو في قوله:
إن العيون لتشتاقُ الرياضَ إذا ما الزهرُ أشرقَ فيها وهو مشتبكُ
فلو تم التوقف عند قصيدة مدح، يتبين أن الشاعر ينصرف إلى وصف دار الممدوح وصفاً يقوم على معاينة البناء والأقسام الداخلية فيه والرياض المحيطة به، فضلاً عن زينته الداخلية، قبل التوقف لقول بعض الكلام المدحي في صاحب الدار. وهو ما يقوم به في قصيدة تتوقف عند حفلة صيد، فتراه يُقبل على وصف حاله النفسية، وأحواله مع أصحابه، وانتعاش نفسه أمام مغيب الشمس، قبل الحديث عن الطيور والرماة وغيرهم. وهو ما يفعله في مأدبة، أو في وصف عنب، كما لو أنه يقوم بتصوير "طبيعة صامتة" في الفنون التشكيلية.
هذا ما يتعين في "تشكيلية" القصيدة عند ابن الرومي، إذ نلقاه في كثير من شعره، يتوقف عند ألوان ما يتحدث عنه، بل تتعين الأشياء والموجودات في صفات لونية كما في أقواله هذه وغيرها الكثير: "تَخايلُ في حُمرٍ وصفرٍ"؛
"ولازورديةٍ تزهو بزرقتها وسط الرياض على حُمر اليواقيتِ
كأنها وضعافُ القضب تحملُها أوائلُ النار في أطراف كبريتِ" ...
وهو ما يتعين في ملاحظة أشكال الأشياء التي يقوم بوصفها، حتى أنه يرى إليها في أحوال عديدة مثل سطور الورق، أو مثل آيات القرآن المزينة:
"محفوفةٌ شهوة النفوس على أحسنِ نضيدٍ تروقُ مُبصرها".
أو:
"فكأنه ورق المصاحف زانه نقطٌ وشكلٌ في خلال عشور".
بل يذهب ابن الرومي أبعد في تصوير المشهد، إذ ينتبه إلى حركيته الداخلية، كما في وصف الأحدب الشهير، أو في وصف أنف عمرو، أو في كيفية عمل قالي الزلابية، أو الخباز... وهو يتمهل في وصف ما لا يوصف، ما لا يراه إلا بعينه الجمالية، إذا جاز القول، كما في وصف صوت وحيد المغنية:
"تتغنى كأنها لا تغني من سكون الأوصال، وهي تُجيدُ
لا تراها هناك، تجحظُ عينٌ لك منها، ولا يَدِرُّ وريدُ
من هُدُوِّ، وليس فيه انقطاعٌ وشجوٌ، وما به تبليدُ
مدَّ في شأوِ صوتها نفسٌ كا فٍ كأنفاس عاشقيها مديدُ
وأرقَّ الدلالُ والغنجُ منه وبراه الشجا، فكاد يبيدُ
فتراه يموت طوراً، ويحيا مُسْتَلذاَ بسيطُه والنشيدُ
فيه وشيٌ، وفيه حليٌ من النغـ مِ مَصوغٌ، يختال فيه القصيدُ".
تبادلات جمالية
إلا أن ما يستوقف في شعر ابن الرومي يتعدى هذا كله ليشمل مواطن الحسن في القصيدة، وكيف أن الحسن (أو الجمال) يتبادل علاقات تقوم على تفاعلات بين القصيدة وغيرها من الفنون، ما يعكس صورة أوفى عن الفنون، وعن مذاهب الحسن فيها. وجدتُ في شعره تعبيرات شديدة الحسية، إذ يحيل في أكثر من بيت، في أكثر من قصيدة، على الحواس كلها، أو يمعن في تذوق كل حاسة لمباهجها. ما يستثير مشاعر الفرح كما الحزن، العتاب أو الهجر، أو التذوق التلذذي بالمتع المختلفة. كما يحيل أيضاً على تعالقات أو تشاكلات بين فنون مختلفة، ما هو دال في حد ذاته على الذائقة الفنية والجمالية: بين الخط والزينة الشخصية، بين الصورة الدينية المسيحية والتمثال، بين وشي الثياب والخط وغيرها الكثير. وهو ما يحتاج إلى شيء من العرض، قبل درسه. فإن طلب الشاعر حديثاً في العتاب شبَّهَه بما يفعله الخط فوق صفحة الماء:
"كأنني كلما أصبحتُ أعتبُه أخط حرفاً على صفحٍ من الماءِ".
كما يقوم باستعمال ألفاظ: "الشاهد" و"الغائب" السارية في متن الفقه والتأويل للحديث عن القلم:
"له شاهدٌ، إن تأملتَه ظهرتَ على سره الغائب".
وإن أراد الشاعر الحديثَ عن كلام ممدوحه وجد فيه ما يجده في نظام الموسيقى القائم على النسب، كما نجد ذلك عند الفارابي وغيره:
"يَزينها بإشاراتٍ ملحنةٍ كأنها نغمُ التأليف ذي النسب".
إلا أن ما يستوقف خصوصاً في شعره هو أنه يستعمل فنون الخط ويدمجها بطرق التقليب في الألفاظ العربية:
"يا عمرو: لو قُلِبَتْ ميمٌ مسكنة باء محركةً لم تخطَأ الفُقَرُ
فإن ضنِنتَ بميمٍ (...) صاحبها فبدِّلْ العينَ غيناً أيها الغَمَرُ
ولا تميلنَّ عن عَمرو إلى عُمرٍ فينتضي لك من أكفانه عُمَرُ".
أو في قوله:
"ما أنصفَ الآسَ بالياسمين مُشبِهُه والآسُ منه مكانُ الياء مفقودُ
والياسمينُ إذا حصَّلتَ أحرفَه فاليأسُ منه مكانَ الياءِ معدودُ".
أو قوله:
"ما كابدَ الأسرَ عانٍ في يدي زمن إلا رجا بكَ فاءً واصلتْ كافا
ولا وأى عنك حسنُ الظن موعدَه إلا غدت وهي حاءً واصلت قافا".
ولقد تحققت من أن هذا التبادل بين الخط واللغة، بين الخط والذوق عموماً، يجده الدارس في شعر أبي نواس قبل ذلك، إذ يقول:
"قد كسَّرَ الشعر واوات، ونضده فوق الجبين، وردَّ الصاغَ بالفاء".
(أبو نواس، 1، 34-35).
كما يقول أبو نواس:
"له عقربا صُدغٍ، على وردِ خده، كأنهما نونانِ من كف عاشقِ".
(أبو نواس، 2، 155).
كما يقول أيضاً:
"فصبَّ فأبدتْ، ثم شجت، فكُتبتْ ثمان من الواوات يضحكن في سطرِ" (1، 452).
هذا يعني أن بعض الغلمان والظرفاء في العصر العباسي أقدموا على تصفيف شعورهم وفق أساليب الخط العربي وتزويقاتها. وهو ما عُرف في نطاقات مختلفة في العيش العباسي، حيث نلحظ تشاركات لافتة، بين الزي والخط، بين الغناء والترف، بين الظُّرف والتحضر، ما سبق لي أن درسته بتوسع في كتابي: "الفن الإسلامي في المصادر العربية: صناعة الزينة والجمال".
عين من وراء
يقول ابن الرومي:
"والفؤادُ الذكيُّ المُطرق المُعـ رضُ عينٌ يرى بها من وراءِ"
يتبين في هذا البيت كيف أن ابن الرومي يجعل للفؤاد، أي للقلب، صفات هي التي للعقل عادة، أو للحواس: أي أن تكون للفؤاد ملكة الذكاء والقدرة على التأمل والاستعراض؛ بل يجعل للفؤاد عيناً ترى، مما يقع لناظره أمامه وخلفه أيضاً. هذا الازدواج الذي يراه ابن الرومي في العين نجده متعيناً في اللغة العربية نفسها، حيث تقول العربية: "نظر إلى..."، و"نظر في...". أي تجمعُ العربية بين عين البصر وعين البصيرة؛ وهو ازدواج وتثنية يمكن التحقق منهما في أحوال عربية، لغوية وشعرية عديدة. ولكن ما يُستحسن التنبيه إليه هو أن ابن الرومي لم يجمع بين العينين وحسب (وهو ما فعله غيره قبله وبعده)، وإنما أعاد للعين البصرية دورَها وحيزَها من العمل والبروز والتألق. ذلك أن عين العقل، أو عين الباطن، سادت على عين البصر سيادة تكاد أن تكون كلية، ما جعل المعاينة في حد ذاتها مسقطة أو محتقرة أو دونية. هذا ما نجده في أقوال علماء الكلام أو الفلاسفة وغيرهم ممن جعلوا النظر بالعين درجة دنيا من درجات المعرفة، كما عند الغزالي، أو جعلوه حاملاً لصور مضللة ومشوهة، عند ابن الهيثم.
ابن الرومي أعاد للعين الناظرة فرصتها في أن تكون عيناً رائية للوجود والإنسان، بل عيناً محتفية بما تستحسنه ويروق لها من مناظر وهيئات. وهو ما نجده بيناً في بعض الشعر العباسي، حتى عند شعراء مثل البحتري، الذي يصرف مجهودات بينة في إبراز جمالات البركة لدى الخليفة المتوكل، على سبيل المثال. وهو ما يقع عليه الدارس المدقق في تجليات التعبير الشعري العباسي إذ يُعنى بالمعاينة، بالسرد، بالتعبير الحسي والالتذاذي بالحياة، ما يصوغ جمالية ذات تعبيرات دنيوية وبشرية بالتالي.
قد يظن البعض أن الجمالية تُعنى بالجمال فقط، فيما تعنى كذلك بالقبح، مثل قطبين متلازمَين وإن متنابذَين. ذلك أن الجمالية تجد في الانفعال نفسه، أياً كانت تعبيراته، مصدراً لها، سواء تَكشَّف عن مشاعر فرحة أو حزينة وغيرها. وهو ما يمكن تبينه في وجه آخر من المسألة، إذ يميز علماء الجمال أو يتمايزون فيما بينهم بين من يَصدرون عن نظرة "متوسعة" للفنون (كما عند الفيلسوف كنط، على سبيل المثال، أو عند علماء متأخرين في الأناسة الجمالية)، ومن يَصدرون عن نظرة "ضيقة" إلى الفنون، كما نلقاها في غالب الخطاب الفني الحالي، الذي يعين الفنون في ممارسات بعينها ومن دون غيرها، وفي ثقافات من دون غيرها.
لا يخفى عن ذهن المتابع كوني أنتسب إلى النظرة الأولى، "المتوسعة"، التي رافقت نظراتي في الفن الإسلامي وغيره من الصناعات والممارسات. كما لا يغيب عنه كوني وجدت في القرآن والترف ركنين مكونَين لهذه التجارب المختلفة، مثلما أدرس وأشدد في أكثر من كتاب ودراسة ومحاضرة. وتندرج محاضرتي هذه في المنظور نفسه، متوقفاً هذه المرة عند شاعر، ما يقع حكماً في أي مقاربة جمالية. يقول ابن الرومي:
"همومي مُحَدِّثاتي، وبستا نيَ ثماره الخروبُ".
هذه الجملة: "همومي مُحَدِّثاتي"، يمكن أن تكون عنواناً بل تفسيراً لأي تجربة جمالية، قديمة أو حديثة، حيث أن الهمَّ – وهو الوجه الآخر للخفة الجميلة - ينبوعُ الشعر، بل ينبوع الفن الأكيد. فالشاعر يَصدر عما يشغله، لا عن ضرورات "العمود" الشعري ومتطلباته. هذا ما يتعين في إمساكٍ يكاد أن يكون إفرادياً بغالب القصيدة، إذ تتحول عند ابن الرومي، في أي موضوع كان، قصيدةً في أحوال الشاعر وشواغله. وهو ما يلخصه في مفارقة يعايشها نفسياً واجتماعياً، بين كون الشعر عالي الفنون وبين كونه "كاسداً" في زمنه، إذ يقول:
"ولم أرَ مثل الشعر يَنْظِمُ للعلا فنون الحُلى، لو أنه غيرُ كاسدِ".
كما يقول أيضاً:
"أما رأيتَ الدهر كيف يجري؟
يُظهر ما أكتمُه من عمري
بأحرفٍ يخطُّها في شعري
يمحو بها غضَّ الشبابِ النضرِ
إذا محا سطراً بدا في سطرِ".
وهو ما يمكن التحقق منه في ثنايا كتابة كثيرين خارج الشعر نفسه، من أبي العلاء المعري إلى أبي حيان التوحيدي، حيث يبرز خطاب المثقف لنفسه، في شكواه مما يحصل له، في مناجاته لفسحة الكتابة نفسها، في عنايته المتزايدة بجمالية ما يكتبه، ما يجعل ورقة الكتابة مدونة ذات نبر فردي واحتياج خصوصي، وتكون بالتالي تجربة جمالية بالمعنى التام للكلمة، بين القول والوجود.
(دار الآثار الإسلامية، الكويت، 22 – 10 – 2012).