الجمالية بين الغياب والحضور،
بين ابن عربي وهايدغر
يتناول البحث، ابتداء من المحور الثاني في ورقة المؤتمر، ما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين "استلهام" الفنون المحلية و"انتحال" فنون "الآخر"، وهو ما أصوغه في السؤال الإشكالي التالي: كيف للفن في البلاد العربية أن يتعامل مع الإرث الفني الإسلامي القديم على ضوء تغيرات المشهد الفني في مجتمعات اليوم، في مجتمع العولمة؟
وهو سؤال متوسع ومتشعب، أكتفي بتناول الشق الجمالي منه. وأسباب مثل هذا الطرح تتعين في طلب درس الخيارات والأفضليات التي يشتمل عليها أي خيار أو أفضلية جمالية في الفن. ذلك أن الحديث عن "الاستلهام" و"الانتحال" يشير سلفاً إلى وجهة مقررة، هي التي للفن أن يتخذها سبيلاً له؛ عدا أن الاكتفاء بتناول المسألة من هذه الوجهة يوحي بأنها مسألة تقنية الطابع، ذات دافع محدد وغائية بينة، فيما تتيح معالجة الجانب الجمالي مقاربة أوسع وأعمق للمعضلة نفسها، إذ تخضعها لمناقشات أبعد، تتناول إقبال الجماعة في الطلب على الفن، وأسبابه ودوافعه ومسموحاته وممنوعاته (القيمية والأخلاقية والذوقية وغيرها). وهو ما أقترحه على الدرس من خلال نصين:
- "كتاب الجلال والجمال" لمحيي الدين ابن عربي،
- "أصل العمل الفني" لمارتن هايدغر (M. Heidegger ).
وأستهدف من خلال هذه المقابلة الوقوف، بداية، عند أسس بناء خطاب جمالي بعينه، ثم الانتقال، في لحظة ثانية، إلى ما يمكن أن تكون عليه هذه الأسس في حاجاتنا الفنية الراهنة، على أنها موضع تبين واقتراح.
غالباً ما يغيب الطرح الجمالي من كتاباتنا ومداولاتنا في شؤون الفن، كما لو أننا قادرون على البقاء بمنأى عنه؛ كما لو أننا نقوى على تناوله لاحقاً، بعد وقت، بما لا يضير الممارسة الفنية نفسها، أو الخيارات والمقترحات الذوقية والقيمية التي يطلبها الفنان أو المسؤول أو الدارس نفسه في الفن ومنه. وهذا يعود إلى جملة أسباب، منها:
- ضعف النشاطية الفلسفية في جامعاتنا، حيث أن أكثر من جامعة عربية ألغت، أو لم توجد أساساً "قسماًَ" أو "شعبة" للفلسفة، وإذا ما أوجدتها، فإن الشاغل الجمالي يكاد أن يكون معدوماً فيها؛
- تولي معاهد الفنون أو الآثار وكلياتها، بعض مهام الدرس الجمالي، بشكل محدود ومبتسر بالضرورة، وما يحول الدرس نفسه إلى مجموعة ملخصات رتيبة ومكرورة؛
- وقوع الخطاب الجمالي العربي في واحدة من مشكلتين: إما الانصراف إلى الخطاب الجمالي الغربي، شرحاً وترويجاً، على أنه هو "الخطاب"، بل الوحيد في الموضوع؛ أو الانصراف إلى استعادات شرحية لبعض النصوص القديمة من دون تبين كاف للتعالقات بين الإلهي والأخلاقي والجمالي في منظور الجمال القديم، الإسلامي وغيره.
ما أحاوله في هذه الورقة مسعى محدود، يحاول أن يظهر بأن التغافل عن طرح الشق الجمالي في المسألة الفنية، أو إرجاءه، لا يعني أبداً أن الفن واقع خارج المسعي الجمالي نفسه، بل يعني أنه واقعٌ فيه، في صورة ضمنية، أو غير مدروسة، أو في غير واعية. لهذا تطمح هذه الورقة – إن نجحت في مسعاها – إلى أن تبرر الحاجة، المعرفية كما الفنية، إلى الدرس الجمالي، قديماً وراهناً.
ابن عربي: تقييد الجمال بالجلال
قد يحتاج البدء بتناول النص الأول، في مدونة هذه الورقة، أي "كتاب الجلال والجمال" لابن عربي (1)، إلى تبرير، إلى تسويغ، إلى تبيان على الأقل. ذلك أن ما كتبه ابن عربي، في هذا الكتاب وغيره، يقع في البحث عن "الحق والحقيقة"، وفق عبارته، أي في المسألة الدينية. فكيف أقيم سنداً لمسعاي هذا؟
يقول ابن عربي في كتابه هذا: "واعلمْ أن القرآن يحوي على جلال الجمال وعلى الجمال" (م. ن.، ص 45-46)، ما يعني، في صورة أولية ولكن بينة، أن البحث في الجمال يقتضي البحث في كتاب الله. إلا أن ما يسترعي الانتباه في تحديده هذا، هو أن ابن عربي – بخلاف غيره من فلاسفة وكلاميين وفقهاء قدامى – يقيم تلازماً غير مسبوق بين لفظين، هما: الجلال والجمال؛ وإذا كان اللفظ الأول يقع في أسماء الله الحسنى ("الجليل"، و"ذو الجلال والإكرام")، فإن الدارس لن يجد خارج ما يقوله ابن عربي سنداً كافياً لذلك. ولا يخفى عن ابن عربي أن مسعاه جديد، إذ يوضح في مستهل كتابه: "أريد إن شاء الله أن أُبينَ عن هاتين الحقيقتين على قدر ما يساعدني الله به في العبارة" (م. ن.، ص 42). فكيف ذلك؟
"فأقول، أولاً، إن الجلال لله معنى يرجع إليه، وهو منعنا من المعرفة به تعالى؛ والجمال معنى يرجع منه إلينا، وهو الذي أعطانا هذه المعرفة، التي عندنا به، والتنزلاتِ والمشاهدات والأحوال؛ وله فينا أمران: الهيبة والأنس. وذلك لأن لهذا الجمال علواً ودنواً: فالعلو نسميه جلال الجمال، وفيه يتكلم العارفون، وهو الذي يتجلى لهم ويتخيلون أنهم يتكلمون في الجلال الأول، الذي ذكرناه؛ وهذا جلال الجمال قد اقترن معه منا الأنس والجمال، الذي هو الدنو، قد اقترنت معه منا الهيبة، فإذا تجلى لنا لنا جلال الجمال آنسنا، ولولا ذلك لهلكنا" (م. ن.، ص 42).
وجب التنبه، بداية، إلى أن ابن عربي لا يوضح طبيعة الصلات الممكنة، أو التي يمكن أن تستند إليها كتابته، بين "الجلال" و"التجلي"، خاصة وأنه يستعمل لفظ "الجلال" بما يدل على عظمة الله وقدرته، ويستعمل لفظ "التجلي" ("يتجلى لهم") بما يدل على تكرم الله بمعرفة على عباده. أيتعين تجلي الله في جلاله؟
هذا ما يبني عليه ابن عربي فكره الديني، وهو أن الله قادر على كل شيء، وأن ما يتحصل للبشر هو مما يتيحه لهم بقدرته نفسها. وهو ما يفسر أيضاً لزوم بناء علاقة بين "الجلال" و"الجمال"، طالما أن ابن عربي لا يتوخى درس، أو عرض، "صفة" من صفات الله، أي صفة "الجميل"، أو معنى "الجمال"، وإنما يريد أن يتبين "المعرفة" الممكنة للبشر، ولا سيما للعارفين منهم. وهو ما جعله في نطاقين، إذا جاز التشبيه والتحديد:
1 : نطاق الله، وهو نطاق الجلال، "الممتنع" على البشر، وهو "عزته عنا"، حسب لفظ ابن عربي؛
2 : نطاق البشر، وهو يتحدر من الأول "ويرجع منه إلينا"، وهو نطاق الجمال و"مباسطة الحق لنا"، حسب لفظ ابن عربي.
بل وجب التنبيه إلى أن النطاق الثاني – الممكن للدرس لابن عربي، ولنا من بعده – يتعين في وجودين اثنين، بل في صلتين: صلة "العلو" بنا، أي "جلال الجمال"، أي ما يكشفه الله لنا و"يتجلى" به للعارفين؛ وصلة "الدنو" التي نجريها منه، وهي "الهيبة" منه (لئلا يقع العارف في "سوء الأدب"، حسب ابن عربي)، والأنس الناتج عن ذلك (لكي يكون العارف، "في المشاهدة"، "على الاعتدال حتى نعقل ما نرى ولا نذهل"، حسب ابن عربي). فالتقابل المتلازم بين الجلال والجمال يستوجب تقابلاً متلازماً آخر، وهو بين العلو والدنو، بما يتيح صورة يمكن النظر إليها من جهتين:
- النظر من جهة الله إلى البشر، على أنها نظرة العزة والقدرة، بما يحدها وحدها، وبما يتيح "التجلي" في نطاقات بعينها؛
- النظر من جهة البشر إلى الله، على أنها نظرة "هيبة"، تتعين في "الدنو" منه، وهو ما يتحصل من "أنس" للعارف.
سبق أن توقفت، في كتابي "مذاهب الحسن..." (2)، عند العلاقة هذه، بين العلوي والسفلي، منتبهاً إلى أن الفكر الإغريقي تنبه بل أقر، منذ أمبيدوكل على الأقل، بوجود "مبدإ" أو "علة أولى" للوجود؛ وهو ما عرفته وثبتته الأديان التوحيدية الثلاثة. إلا أنني توصلت أيضاً، في كتابي المذكور، إلى تعيين أشد للمسألة هذه؛ وهو أن التفسير الإسلامي للتوحيد ذهب أبعد من غيره، حيث أن مبدأ "التبعيد"، الذي أوجده الخطاب السابق عليه، بين العلوي والسفلي، لم يقر به الخطاب الإسلامي، بل قطع معه، في عدد من تياراته ومذاهبه الأساسية؛ إلا أن هذا لا يخفي طبعاً وجود خلافات جلية في المقالات الإسلامية القديمة، بين "التنزيه" و"الصفاتية" و"المشبهة".
يقول الأشعري عن المعتزلة: "إن الله واحد ليس كمثله شيء، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا جوهر، ولا عرض (...)؛ ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدثهم (...)؛ لم يزل أولاً سابقاً متقدماً للحادثات، موجوداً قبل المخلوقات، ولم بزل عالماً قادراً حياً، ولا يزال كذلك" (3). كما يقول الكندي: "الواحد الحق، إذن، لا ذو هيولى، ولا ذو صورة، ولا ذو كمية، ولا ذو كيفية، ولا ذو إضافة، ولا موصوف بشيء من باقي المعقولات، ولا ذو جنس، ولا ذو فصل، ولا ذو شخص، ولا ذو خاصة، ولا ذو عرض عام، ولا متحرك، ولا موصوف بشيء مما نفى أن يكون واحداً بالحقيقة؛ فهو إذن وحدة فقط محض، أعني لا شيء غير وحدة، وكل واحد غيره فمتكثر" (4).
يمكن أن نتبين، في الخطابين، تداخلاً بين النسق الإغريقي والنسق الإسلامي، بما يعني "تبعيد" الله الناجز عما كانت عليه "المناسبة" السابقة بين العلوي والسفلي. وهي الصلة نفسها التي عاد إليها ابن عربي، على أن التحدر يتأتى من العلوي، بما يسمح به الله، وبما يتجلى به. وهو ما ذهب به أبعد إذ جعل الجمال مقيداً بالجلال في صورة مبرمة. وهو ما كان قد قاله الكندي، إذ شدد، بدوره، على أن الفيلسوف لا يطلب في العلم الإلهي "حساً ولا تمثيلاً" (م. ن.، ص 45).
مارتن هايدغر : الجمال "في" الفن
ما تناوله ابن عربي وغيره من الكلاميين والفلاسفة والمتصوفة المسلمين تناوله، وإن بعبارات مختلفة عنه بعض الشيء، علماء لاهوت وفلاسفة مسيحيو النظرة في القرون الوسطى. وهو ما يمكن جمعه، عند هؤلاء وأولئك، في الكلام التالي، وهو: إن أي تعريف للجمال ليس ممكناً خارج النظر الديني نفسه؛ وهو ما جعل أفعال البشر، مما يمكن نسبته إلى "جمال" ما، أي "الفن" اختصاراً، موضوع شبهة، من جهة، وموضوعَ تعريفٍ خفيف، من جهة ثانية.
هذا ما نتحقق منه عند الجاحظ و"أخوان الصفاء" والتوحيدي وابن خلدون وغيرهم (5)، وعند توما الأكويني وغيره من لاهوتيي الكنيسة المسيحية (6).
هكذا لا يمكن تعيين الماهية والقيمة إلا في الإلهي، ومن دون غيره.
هكذا يجد المفسر القديم حرجاً في تنسيب أي صنيع، أي قول، أي سلوك، إلى ما هو ملازم في مادته لله نفسه، ولأفعاله نفسها.
هذا ما جعل أي خطاب قديم عن الصنع البشري ينتسب بالضرورة إلى الأخلاقي في أحسن الأحوال (وهو ما نجده بيناً في المستحسن والمستكره، في الخطابات الإسلامية القديمة، كما في الخطابات المسيحية). وهذا ما جعل أي معاينةٍ للجميل نفسه محلَ وصفٍ وتعيينٍ "خفيفِ" الحمولات والتعريفات بالضرورة. وهذا ما جعل من العودة الأوروبية إلى نظرية "الطبيعة" (ذات الأساس الإغريقي) أساساً للجمال، ولـ"المحاكاة" سبيلاً إلى بلوغ هذا الجمال، نقلة كبيرة انتقل بموجبها الفن إلى الصنيع البشري القابل للدرس خارج المنظور الديني.
لا يسعني، في هذه الورقة، أن أستعرض تاريخَ تكونِ نطاقٍ متمايزٍ وبينٍ ومستقلٍ للجماليات في التفلسف الأوروبي، ثم الغربي؛ إلا أنني طلبت هذا – وإن بضربات قلم عريض وعجول – لوصول لازم إلى خطاب هايدغر، إلى دراسته الموسومة بـ"أصل العمل الفني" (7)، التي قطعت مع أسلوب التفلسف الجمالي الغربي الكلاسيكي. فماذا عن هايدغر؟
نشر هايدغر مقالته هذه في كتاب حمل العنوان التالي: "دروب لا تفضي إلى أي مكان"، إلا أنه طلب منها قولاً عالي الحمولة الفلسفية، وهو أن "أصل" الفن متعينٌ "في" الفن نفسه؛ ولقد قطع بذلك أي صلة للفن، سواء أكانت مصدرية أو إحالية أو قيمية، بأي خارج عليه، سواء أكان ديناً أو عقيدة أو ماوراءَ فلسفةٍ ما. فالفن لا "يصدر" عن الله ولا "يحيل عليه"، ولا عن الطبيعة، ولا يجعله نموذج استلهام قيمي؛ ذلك أن خطوات الفن لا تقود، أو لا تفضي إلى تلك الدروب القديمة، المعهودة، وإنما إلى أخرى، جديدة، تتعين فوق اللوحة نفسها، في صنيعها نفسه، في مثولها نفسه.
ومن يعرف تكوين مقالة هايدغر يدرك بأنه ألقاها، بداية، في صيغة محاضرات على طلابه، بين العام 1935 والعام 1936، ثم أضاف عليها، عند نشرها في كتاب، قسماً متصلاً بلوحة لفان كوخ (V. Van Gogh ) عن الحذاء. وأراد هايدغر من مجموع الطرح أن يقول: إن "الأصل" هو "ما ينطلق منه (الشيء)، وما يصير به على ما هو عليه، وكيف هو (الشيء) عليه" (م. ن.، ص 11). باتت دورة الأصل محدودة، إذن، مقصورة على حراكه نفسه في التشكل، وفي ما يصير عليه في سيرورته نفسها، وفي ما ينتهي إليه. وهو تعريف يخرق – على بساطته – مع تاريخ طويل وكثيف من الاعتقاد الديني والفلسفي بوجود "أصل" متعين قبل الإنتاج، في: الله، أو الطبيعة، أو الماوراء.
وانتهى هايدغر إلى تعريفه هذا، مظهراً التمايز بين: الشيء (المادة التي يصنع منها الحذاء)، والمنتوج (أي الحذاء نفسه)، والعمل الفني (حذاء لوحة فان كوخ)، حيث أن الصورة، التي ينتهي إليها العمل الفني، تتعين في "فنيتها" نفسها، أي في عمل الفنان عليها.
وهو قول يجد رجعه القريب في ما قام به أكثر من فنان أوروبي، قبل محاضرات هايدغر نفسها: من الفنان مونخ (E. Munch ) و"صرخته" (التي فارق فيها اللون وظيفته الإحالية، أي كونه تمثيلاً للخارج، الإنساني وغيره)، إلى فنانين انطباعيين انتقلوا بالمشهد من "طبيعيته"، التي هو عليها، إلى ما يولده المشهد في عين الفنان نفسه، مروراً بمساعي التكعيبيين وغيرهم، ممن ألغوا - بتقنية "التلصيق" نفسها، فضلاً عن كسر "طبيعية" الشيء المصور - الطبيعة التامة والصحيحة و"الخارجية" بالتالي للموضوع الفني. ولا يفوتني طبعاً – وإن بكلام سريع – ما قاله كاندينسكي نفسه بأن الفن "ضرورة داخلية"، قبل أن يكون "استلهاماً"، أو تقيداً بمرجعيات وقواعد متأتية من خارج الفنان نفسه.
ومن يعود، اليوم، إلى أساليب الفن المتجددة يتأكد من أن ما قاله هايدغر (وجاك ديريدا وغيره من بعده) يتأكد في صورة مزيدة في تجارب الفن الحالية؛ وهي لا تلغي وجود تيارات مختلفة ومتضاربة، لا تقر بهذا المنظور بالضرورة. فماذا يمكن القول في موضوعنا، بين الاستلهام والانتحال، كما سبق القول أعلاه؟
بين الغياب والحضور
يمكن للدارس أن يخلص، من هذا العرض، إلى جملة ملاحظات تساعد، بل تمهد لتناول السؤال المطروح.
أولى هذه الملاحظات هو أن التداخل القديم، هنا وهناك، بين الإلهي والجمالي، توقف في الخطاب عن الفن (وإن بقي محل متابعة وتقيد من قبل دارسين دينيين، هنا وهناك، وعلى اختلافات فيما بينهم)؛ وهو ما ظهر في قسمة حدود جديدة، إذا جاز القول، بين النطاقين، بحيث أن "جمالية الله" ليس لها أن تمنع نشوء "جمالية للصنيع البشري" (تستند إلى المنظور الديني أو تنفصل عنه). هذا ما شرع به فلاسفة ودارسون غربيون عديدون، ومنذ قرون (ابتداء من كَنط – E. Kant - على الأقل، الذي وجد أن "غائية" الفن قائمة "فيه")؛ وهو ما وجد في "فتاوى" أكثر من شيخ مسلم، مثل الإمام محمد عبده وغيره، "جوازاً" لجمالية تقع في الصنع البشري وتقبل بها.
ثانية هذه الملاحظات هي أن التداخل القديم، والمستبقى أحياناً، بين الجمالي والأخلاقي بات يتهاوى، هو الآخر، بدليل أن "الجميل" بات يقبل، في أعين فنانيه ومتلقيه، بـ"الكريه" و"العنيف" و"الساقط" و"المبتذل" و"الخسيس" وغيرها، صوراً ممكنة للجمال الفني على الأقل: هذا ما بدأ في بعض الفن السوريالي، وهذا ما قوي حضوره في عدد من تجارب الفن في العقود الأخيرة.
ثالثة هذه الملاحظات تتصل بمنظور الفن، حيث تبدل مما أسميه "جمالية الغياب" إلى ما أسميه بـ"جمالية الحضور"، التي ينبني عليها فن اليوم. فخطابات الفن، في القديم، أعلت من شأن الله بحيث قصرت عليه الجمال، كما سبق القول؛ وهو ما قاله الدارس آلان بيزنسون بهذه الصورة الصريحة عن الخطاب الإسلامي: "في الإسلام، باتت الصورة مستحيلة التصور بسبب المفهوم الماورائي لله" (8). أما خطابات اليوم فباتت تستند إلى "فلسفة الحضور"، وإلى "جمالية الحضور"، تحديداً، التي انتهت إلى أن تستدعي ما أسميه بـ"لحظوية العين". فما تطلبه اللوحة، أو اللقطة المسرحية أو السينمائية، أو الملصق الدعائي، يتعين في ما للعين أن تراه بنفسها، أمامها، في العلاقات الناشئة والمقترحة فوق الحامل المادي، في لغة "الوسيط" نفسها (مثل اللون أو الحركة)؛ وهو ما يمكن تلخيصة في العبارة الإنكليزية الشهيرة: What you see is what you see ، ما يمكن ترجمته بالقول التالي: "ما تراه هو ما تراه" - ليس إلا، لو طلبتُ الزيادة في الإيضاح.
رابعة هذه الملاحظات تتصل بعلاقة الفن بالقيمة؛ وتحتاج إلى تبين أشد، بل إلى معالجة، لأنها تتناول ما سبق أن أشرت إليه أعلاه - من دون شرح أو تعليل - عن "الخيارات" و"الأفضليات"، والتي أطلب منها تلمساً أولياً على الأقل للجواب الممكن على المقابلة المطروحة في العنوان بين "الاستلهام" و"الانتحال". فأي قيمة؟ وكيف يمكن تحديدها؟
يتنبه ماكس فيبير (M. Weber ) إلى صعوبة تحديد القيمة، بخلاف عديدين ممن لا يميزون بين ما يقتنعون به، أو يؤمنون به، على أنه "قيمة"، وبين كون القيمة "أفضلية" ليس إلا. فهي، في نظر فيبير، صعبة التحديد، واقعاً، لأنها شرط إمكان أي تعليل، أي تشريع. لهذا يتحدث عن "تعددية قيمية"، ويستعمل لهذا الغرض لفظاً فرنسياً (polythéisme ) يشير إلى تعدد الآلهة، إلى تعدد المرجعيات، ما يشير، في حسابه، إلى صعوبة حصول توافق أو تفاهم مؤديين إلى تراض أو تصالح بين خيارات "أكسيولوحية" (أي شاملة للقيم الأخلاقية، ومنها الجمالية) لدى الأفراد أو الجماعات البشرية. وهو ما تنبهتُ له أعلاه، عند الحديث عن "الغياب" و"الحضور" (وما يتفرع من كل منهما)، بوصفه تبايناً، أو تعدداً، ناشئاً في تحديد القيمة: أتتأتى القيمة من العمل الفني أم من خارجه؟ أتكفلها مرجعية أو ديانة أو عقيدة أم صنع بعينه؟
وهو نقاش يمكن أن ننقله إلى نطاق "الحروفية" نفسها (التي وجدت لها، في "محاور" المؤتمر، نصيباً كبيراً): أتتأتى قيمة الحروفية من لغويتها العربية، من المبنى المزدوج لبعض أعمالها، إذ يجمع بين الحرف (العربي) المقروء والعلامة الفنية؟ ألا تكون حظوظ العربي (أو الذي يحسن قراءة العربية) أفضل من غيره؟ أتكفل قيمةَ الحروفية فنيتُها الخالصة أم إحالتُها على مرجعيات سابقة على الصنع الفني، وهي مرجعيات مخصوصة، دينية ولغوية وثقافية وفنية وغيرها؟
ما أصل إليه، في ختام هذا العرض، يتعداني كدارس، إذ يصل إلى طرح مسألة تقع- كما قلت- في "الخيارات" و"الأفضليات"؛ ويتعين الجواب عنها في "سياسات" كما في "أساليب"، لا تشمل الدارس إلا في موقع المتحقق والمعاين والمناقش. فما هي؟
ما يسعني قوله هو أن فننا العربي الراهن يبدو، في الخطاب الفني والجمالي الدارس له، "معدوم الحال" (لو شئت التشبيه)، بل يتيماً، إذ يفتقر إلى ما يكفله في الخطاب نفسه. فكثير من مسائل الفن والجمالية، التي درسها غيرنا (ولا سيما في الخطاب الغربي)، يفتقر إلى من يطرحها ويعالجها؛ بل تبدو ممارساتنا للفن تقنية الطابع في أحسن الأحوال. ولا يكون الحديث عن "الأصالة" و"التراث" و"الاستلهام" و"الانتحال" وغيرها - والحالة هذه - سوى استرجاع بعيد لخطاب "نهضوي"، ما نجحنا في تجديده وتحسينه وتطويره.
بل يمكن أن أذهب أبعد في المراجعة، فأقول بأن إقبالنا على الفن (حسب الطريقة الغربية، وكما يروج في مجتمعاتنا) معدوم السند، إذ يبدو أحياناً - كما كتبت عند أحد كبار الفنانين العرب - أنه "يرسم كما لو أنه يعتذر".
ذلك أننا دخلنا في عهد الحداثة على الرغم منا، أو من دون أن نتبين تماماً مؤدياتها أو مفاعيلها؛ وأننا نعمل - إذا تبينا هذه المؤديات أو المفاعيل - على تعطيلها أو تفريغها من محتوياتها اللازمة. أنحتاج إلى الفن فعلاً؟ ما خياراتنا فيه؟ ما أفضلياتنا فيه؟
هذه أسئلة لازمة، لا يحسن التغافل عنها، أو إرجاؤها، أو التلطي خلف أجوبة "ديماغوجية" أحياناً. أيعقل أننا نريد الفن ولا نزال نجانب - في بعض مجتمعاتنا وسلوكياتنا - قسماً من إنتاجات الصورة؟ أنقوى فعلاً على مجانبة الصورة، أو بعض إنتاجاتها، في مجتمع العولمة، التي باتت فيها الكتابة "صورية"، فيما كانت الصورة "كتابية"، في الغالب، في مجتمعاتنا القديمة؟ أيعقل أننا نريد الفن، وتمنع بعض سياساتنا وسلوكياتنا من إقامة المسرح، وصالة السينما، لأسباب اجتماعية وغيرها؟
أنريد الفن فعلاً، ونحن لم نقر بعد بما يسميه لوك فيري (L. Ferry ) "فردانية الجميل" (9)، طالما أننا نفكر، حتى اليوم، في شؤون الفن والجمال بعيون جماعية؟
الهوامش :
- 1 : محيي الدين ابن عربي: "كتاب الجلال والجمال"، حققه وضبطه وقدم له: عبد الرحيم مارديني، دار آية (بيروت) ودار المحبة (دمشق)، 2002-2003، وعلى هذه الطبعة تحيل الشواهد.
- 2 : : شربل داغر : "مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية"، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، بالتعاون مع "الجمعية الملكية للفنون الجميلة" (عَمان)، 1998 .
- 3 : "مقالات الإسلاميين"، ص 155 .
- 4 : الكندي : "رسائل الكندي الفلسفية"، ص 104 .
- 5 : يمكن العودة في صورة مزيدة إلى الفصل الموسوم بـ"نقد الصناعات المستحسنة"، في كتابي: "الفن الإسلامي في المصادر العربية: صناعة الزينة والجمال"، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، بالتعاون مع "دار الآثار الإسلامية" (الكويت)، 1999 .
- 6 : يمكن العودة إلى كتاب أمبرتو إيكو، "المسألة الجمالية عند توما الأكويني"، الذي خصه بدراسة الموقف الجمالي في الخطاب اللاهوتي في القرون الوسطى الأوروبية:
Umberto Eco : Le problème esthétique chez Thomas d'Aquin, P. U. F., Paris, 1993.
- 7 : Martin Heidegger : L'origine de l'œuvre d'art, in: Chemins qui mènent nulle part, traduit, Flammarion, Paris, 1986.
- 8 : Alain Besancon : L’image interdite, Fayard, Paris, 1994, p. 32.
- 9 : Luc Ferry : Homo Aestheticus, l'invention du goût à l'âge démocratique, éd. Grasset et Fasquelle, Paris, 1990, p. 20.
(كتاب "الفنون الإسلامية بين هوية التراثي ومجتمع العولمة"، مركز الفنون البصرية، قطر، 2008، صص 83-93).