[1]
وأنا أكمل قراءة كتاب الناقد والباحث الأستاذ شربل داغر "الفن والشرق ـ الملكية والمعنى في التداول. الجزء الأول: النادر والعريق، والجزء الثاني: الفن الإسلامي" - أكثر من 800 صفحة - الذي يتحدث، أو يتحرى فيه، عن الجهود الجبارة، المضنية، والطويلة التي بذلها لصوص، وأساتذة، وعلماء، ورجال برتب سياسية أو عسكرية متقدمة، وخبراء، جميعهم ينتسبون إلى عدد من دول أوروبا، في العهد الاستعماري للشرق، وغير الشرق، لا دورهم في نهب الثروات المادية، واحتلال الأراضي، والمتاجرة بالرقيق والعبيد والجواري والأطفال فحسب، بل نقل، وسرقة، والاستيلاء على كل ما هو نادر وثمين، وجعل تلك الكنوز ملكية تفتخر بها متاحف تلك الدول الاستعمارية، في أبرز عواصم العالم، كلندن، وباريس، وبرلين، والتي حملت أسماء متاحف أصبحت مصدراً وذاكرة للتعرف على كنوز الشرق، وتاريخه، وكل ما هو نادر وثمين ولا يقدر بثمن!
أقول: وأنا أكمل قراءة هذا السفر، وأتعرف على الجهد العلمي الكبير الذي بذله مؤلفه في تتبع آلاف المصادر والوثائق والمخطوطات والصحف والزيارات الميدانية... أتعرف على المسافة بين بلدان أو دولها، وهي تكتنز، وتجمع، بكل الطرق، الثروات المادية والثروات الرمزية، وبين أخرى تتخلى عن ثرواتها، وكنوزها. أقول، وأنا أتتبع جهد الكاتب في التحري، والتوثيق، عن عمليات الاقتناء، والاستحواذ، والشراء بالطرق الشرعية، أو شبه الشرعية، أو عبر النهب والتحايل والمكر والخديعة، معتمدين على جهل أمراء وحكام وقيادات بلدان الشرق وأقاليمه الغارقة في ظلمات أزمنة المغارات، والكهوف؛ قيادات لم تترك لتاريخ أجيالها إلا ما لا يستحق الذكر، كذكرى تخليها عن ثروات لا تمتلك الحق في التفريط فيها، أو التخلي عنها، مقابل دراهم، أو مكاسب لا تدوم أكثر من زمن زوالها.
ولو كان تاريخ نهب كنوز الشرق، وغير الرق، قد توقف عند العصر الاستعماري البغيض، لهان الأمر .. إنما المهمة ما زالت تعمل على جعل المسافة بين الشمال والجنوب، أكثر اتساعاً!

[2]

وأنا لست بصدد تذكر مشاهد النهب، والتدمير، والسلب المنظم، والتخطيط له، والعشوائي الذي حصل لمتاحفنا، ومكتباتنا، ومؤسساتنا الثقافية، والجامعية، وجمعياتنا الفنية، لأن المشاهد مازالت موثقة بعدسات مصوري عشرات الفضائيات، والأفراد، والمراقبين، والهواة أيضاً... كما مازالت الحرائق وعمليات (الفرهود) والفوضى حية في ذاكرة من كانت الصدمات قد حولته إلى حجر!
إنما أفكر، بعد قراءة هذا الكتاب (السفر) الذي يحكي ـ عن قصد وعن لا قصد ـ كيف تكوّنت متاحف أوروبا الكبرى، وكيف كانت بلدان الشرق، في الوقت نفسه، تتخلى عن ذاكرتها، وثرواتها التي لا تقدر بثمن، وهي غارقة في حروبها العمياء، وفتنها، وجهلها، وعللها، وبطولتها الزائفة!
أفكر، بعد نصف قرن من العمل في الفن والصحافة والأدب، لماذا لم نفلح بالحفاظ على ذكرى ما لأحد روادنا في الإبداع المسرحي، أو في فن النحت، أو الرواية، أو السينما، أو في الرسم، أو في باقي الحقول الأدبية والعلمية والفكرية؟ لا معنى ولا جدوى ولا فائدة من إحالة الأسباب إلى الجهات الرسمية، إنما الأمر يخص تراث الناس، كل الناس، ويخص ذاكرتهم، وممتلكتهم الروحية بالدرجة الأولى. وهل كان باستطاعتنا، كأفراد أو كمؤسسات، أن لا نكتفي بالعثور على قبر جواد سليم ـ إلا بصعوبة ـ وترميمه، وترك قبر الرصافي، مجهولاً، مثلما ضاعت مكتبات ومخطوطات وآثار ونصوص هؤلاء الرواد، والأوائل، بعد أن تم تهجيرها، وترحيلها بعيداً عن وطنها الذي ولدت فيه. كان المشهد يحدث أمامنا جميعاً، حتى أننا لا نعرف أين اختفى رماد جثمان فائق حسن، وأين اختفت آثاره النادرة، وآثار رواد نهضتنا الحديثة، لأننا، جميعاً، بلا استثناء، كأفراد أو كمؤسسات ونقابات وجمعيات ومنظمات مجتمع مدني حديثة، كنا نرى ونشاهد ونسمع ونطالع كيف كان يتم محو ذاكرتنا!

[3]

هذا كله يجعلني أعترف أنني لا أمتلك شيئاً نادراً أو ثميناً جداً أتحدث عنه. إنما، بعد نصف قرن، من العمل في المجال الفني والثقافي، تجمعت لدي كتب ومجسمات نحتية وخزفية ولوحات وأشياء مماثلة: رسائل وتجارب ووثائق، طوابع ومعادن ومناديل حبيبات، لا أعرف هل أقدمها هدية إلى متحف ما من المتاحف، أو إلى مؤسسة ما من المؤسسات فأتجمد! لأن استذكار ما حدث أمامي قبل سنوات قليلة، كان يحدث منذ قرون كدورة الحياة والموت! فعند سقوط أو إسقاط الحاكم، أو بعد قتله أو عند حدوث الغزو، تعم الفوضى وينتشر الفرهود! فتحرق بيوت الحكمة، وتدمر مراكز الثقافة. أم أتركها لورثة سيتقاسمونها، كما حصل أمامي لثروات بعض أساتذتنا، وقد ضاعت بين هذا الوريث، وذاك الآخر، فتذهب الذكرى وتغيب العلامات!
فأعود إلى كتاب الأستاذ شربل داغر الثمين والنادر، في زمن غابت فيه المعايير، بين ما يجدر أن يكون رمزاً، وإضاءة، وبين ما هو في حكم الزائل، الذي سيذكرنا بكتب مماثلة تتحدث عن تكون الحضارات، والذاكرة، والثروات الروحية، وكيف تصنع الأمم معارفها، وأزمنتها، وتقاليدها، وتحمي ثرواتها المادية، أو الرمزية، وما تمثله لها، أو للعالم بأسره، كي أفكر في شرقنا، أو في عالمنا الزاخر بالانقسامات، والانثلامات، وتجزئة المجزأ، وبالحروب والفتن، والتفكك الأسري... مع أن عالمنا ـ كما يقال ـ غدا قرية! قرية أوروبية تتمتع بحرية التنقل، والتكامل الاقتصادي، والمعرفي، والسياحي، والجمالي، إنما، في شرقنا الكبير، مهد الحضارات، والكتابة، والشرائع، وأرض الرسالات، والأنبياء، والعلماء، والشهداء، والحكماء، فثمة قرى لا تحلم إلا أن تصبح إمبراطوريات، كما أن هناك بعض الأفراد، في هذا الشرق الكبير، لا يحلمون إلا أن يصبحوا آلهة، أو كآلهة، ولا يحلمون إلا أن يصبحوا فوق الزمن، وربما فوق الأزمنة كلها! يمتلكون صلاحيات لا يحكمون بها الناس، والعباد، والسواد، ولا يتحكمون بثرواتهم وممتلكاتهم فحسب، بل بمصائرهم، وبأزمنتهم القادمة!
الآن... ببساطة، أدرك عميقاً لماذا تغلق الطرق أمام البعض، وينعدم الهواء، ويتوارى الحب، وتنغلق الأبواب أمام البعض الآخر. فأما أن يفر بجلده، بحثاً عن بلاد لا يقطع رأسه، ولا تسرق أحلامه، ولا يذل فيها... وإما أن يبحث عن قبر يدفن فيه، إلى جانب بقايا جسده الحزين، أحلامه وقلبه وذاكرته. وإما أن... يكتم صوته، ويدثر صمته، ويكفن حزنه، كي يصبح رقماً فائضاً في المجهول!