تقول حكاية "بوسيه الصغير" (Le Petit Poucet) إن حطاباً يئس من عجزه المتمادي عن إطعام أطفاله السبعة، فكان أن قرر، مع زوجته، ذات ليلة، التخلص منهم، ما بلغ مسامع "بوسيه الصغير"، صغير الأبناء... احتاط الطفل للأمر منذ صباح اليوم التالي، لما اقتاد الزوجان أطفالهما إلى الغابة لإضاعتهم فيها: راح يوزع حصى في الطريق، لكي يحسن بعد وقت العودة من جديد، وإعادة أخوته إلى البيت العائلي. وهكذا كان...
تطول الحكاية بعد، لكنني اكتفيتُ منها بجزئها الأول، ما يوفر لي صورة مناسبة، صورة عكسية لما يقوم به الفنان الحروفي فوق طريقه الفنية. فهذا الفنان، بعكس "بوسيه الصغير"، يبدأ، أو ينطلق من حصى، من مواد بعينها، من حروف، يعرفها، من دون أن يضمن بواسطتها الوصول الآمن إلى مقصده الفني. يطلب الحروفي، على الخلاف من ذلك، البدء من حروف لكي لا يعود إليها، لكي يخرج منها إلى غيرها، إلى ما يبدلها، ويغير طبيعتها حتى.
كما يمكن القول إن الفن، في الحروفية عموماً أو في هذا المعرض بالذات، ينتهج طرقاً وطرقاً. هذا يجعل المعنى الواحد، أو المشترك، متعدداً، يتفرق في دلالات، في طرق، تتباين وتلتقي في كونها سبلاً مختلفة ومتنوعة إلى بلوغ الفن. وهي سبل تنطلق من مصادر بعيدة، ولكن بما يوافق الجمالية الحديثة.
يمكن لزائر المعرض أن يتنقل بين الأعمال الفنية مثل من يتقدم بمعونة خريطة واحدة: يقيم الصلة بين عمل فني وآخر، بوصفه "الجار" وربما "الأخ"، واجداً صلات قربى وتحاور بين هذا وذاك. كما يمكن أن يلحظ اختلافات بينة بين الأعمال الفنية، على الرغم من القربى، إذ تتلاقى وتتعاكس، ما يجمع القريب والبعيد في مدى واحد.
كما يمكن لدارس الفن أن يتنقل بين الأعمال الفنية فوق طرق أخرى، وفق مقاصد أخرى: أن يرى إليها مثل عينات، وعلامات، من تاريخ أوسع منها، وأعم وأشمل منها. يمكن له أيضاً أن يرى إليها عامودياً وأفقياً: عامودياً، إذ يرى إلى العمل الفني (أو أكثر) لهذا الفنان أو ذاك بوصفه يندرج في غيره، في مدى مفتوح من نشاط الفنان التشكيلي، السابق، والذي يتعين فيه العمل الفني المعروض. وأفقياً أيضاً، إذ إن العمل الفني الواحد (أو أكثر) يتحاور مع أعمال غيره في سياق، قد يكون تاريخياً (في البلد الواحد، أو في أكثر من بلد)، وقد يكون جمالياً (في البلد الواحد، أو في أكثر من بلد).
طرقٌ وطرق في إنتاج الفن، إذاً، وطرقٌ وطرق في النظر إليها، في عرضها، سواء في صالة أو كتاب.


التاريخ بين الخط والحروفية
يسعى بعض المؤرخين والنقاد إلى درس الخط العربي القديم، أو الحروفية في القرن العشرين، وفق "أصل" واحد، كما لو أن لها نشأة واحدة، أي غير تاريخية، أصابت أعداداً من الفنانين في وقت بعينه. وإذا ما ميز هؤلاء الدارسون بين نشأة وأخرى، فإنهم لا يتوانون عن تأكيد نظرية "الأصل" ولو بين وقت وآخر. فيما علمتنا دروس في علوم مختلفة أن النِشأة قد تكون متعددة، في وقت واحد أو مختلف، ومن دون أن يكون لهذا وذاك "أصل" واحد بالضرورة.
هذا ما توقفتُ عنده منذ العام 1991، في كتاب "الحروفية العربية: فن وهوية"، إذ درستُ هذه الظاهرة الفنية، وتحققتُ من أن أعداداً من الفنانين "شقوا" هذا الطريق (هذه الطرق) من دون تواصل أو معرفة بالضرورة بين تجربة هذا وذاك منهم. كما تحققتُ أيضاً من أن لهم طرقاً مختلفة في مقاربة الفن، وإن تتشابه مساراتها الفنية والجمالية.
هذا ما يصيبني إذ أتوقف أمام أعمال هذا المعرض الجامع لتجارب مختلفة: منها ما درستُه في السابق، ومنها ما اتصلتُ به من دون معرفة مقربة، ومنها ما "أكتشفه" فعلاً. رواد وفنانون جدد في المعرض عينه، ما يجعل للحروفية تاريخاً أكيداً، ممتداَ، وما يقيم لها كياناً صريحاً ومشعاً.
الطريق التاريخي سبيل أكيد في درس الفن، ومنه الحروفية، فيتتبع الدارس معرفة التجارب لدى الفنانين، فناناً فناناً، أو فناناً بعد فنان، بتأثر أو باختلاف بينهما. إلا أن هناك طريقاً فنياً صرفاً قد يكون هو الأنسب لدرس الحروفية. فماذا عنه؟
لو عاد الدارس إلى تاريخ فن الخط في الثقافة والمجتمعات العربية-الإسلامية القديمة، لتحقق من أن هناك سبلاً بعينها يمكن رصدها واستخراجها في استعمالات الخط:
- استعمالات الخط في القرآن الكريم،
- استعمالات الخط في العمارة،
- استعمالات الخط في المخطوطات،
- استعمالات الخط في مواد وأدوات من "متاع الدنيا"، إذا جاز القول (أي فوق صحن، أو ثوب، أو باب، أو سيف وغيرها).
لا يمكن اتباع هذا التقسيم في الحروفية، وإن كان الدارس يقوى على إيجاد استعمالات الحروفية في العمارة أو المخطوطات وغيرها. ذلك أن على الدارس أن يلحظ، قبل هذا كله، أن الحروفية نقلت الخط العربي، وما يحيط به من معالجات فنية، إلى نطاق آخر، غير النطاق القديم، وهو نطاق الفن الحديث (ابتداء من التجارب الأوروبية),
سعى البعض سابقاً، أو لا يزال يسعى، بين نقاد ودارسين وفنانين، إلى ربط تلقائي، أو سهل، بين الحروفية (الناشئة) والخط العربي (القديم)، مُسقطين التاريخ الفني، من جهة، وحاصل التجارب الحروفية نفسها، بالمعنى الفني والجمالي، من جهة ثانية.
قد يلجأ البعض إلى هذا الربط السريع طلباً لإيجاد "شرعية"، وعمق تراثي، للتجارب الفنية الناشئة، فيما تتأتى واقعاً من منطق، من سياق، لنا أن نتبينه فوق الحامل المادي، في المعالجات الفنية، قبل فحص الحمولات والإحالات الثقافية والجمالية وربما الرمزية على تراث عربي-إسلامي قديم. فما يتحكم بالأعمال الفنية هو منطق "القطعة الفنية المفردة"، والصالحة للعرض، عدا أنها منتجة وفق مواد وأدوات لا تنتسب في غالبها إلى الصنع القديم، عدا أنها تعرض للبيع والفُرجة العلنية...
إن إنكار هذا التاريخ، أو إدراجه في تفسير غير مناسب، لا يفسد التاريخ وحسب، وإنما لا يوفر تماماً لهذا الفن سياق استقباله المناسب، ولا يبني له قاعدة فنية وجمالية راسخة، إذ يبقى "مهتزاً"، ومشكوكاً فيه، ومعرضاً لأي تقلبات متأتية من خارج الفن.
ولإنكار التاريخ عواقب أخرى، وهي إنكار مجهودات هذا الفنان أو ذاك، ولا سيما "الرواد" منهم، في "تملك" الفن الحديث (بتقنياته وأدواته وقيمه)، وفي جعله حاملاً ومحيلاً على ثقافة مخصوصة، ما يشبه "إعادة التملك" واقعاً. ذلك أن ما قام به فنانون عرب (وإيرانيون) منذ أربعينيات القرن الماضي، لم يكن متاحاً، ولا أكيداً، بل كان يُنظر إليه بعين الاستخفاف والاستسهال، ولا سيما من محبي الفن، ومن حكومات أيضاً، ممن كانت لا تنتبه إلى أن الفن هو عملية ثقافية بالضرورة، وهي إن لم تحمل "بصمة" صانعيها، فستكون إذذاك تقليداً بليداً لغيرها ليس إلا. فما سعى إليه "رواد" الحروفية، هنا وهناك، وفي عزلات محترفاتهم في الغالب، لم يكن "آمناً" مثل طريق العودة عند "بوسيه الصغير".


الخروج من "نظامية" الخط
إذ يقترب الزائر من عمل الفنان حسن المسعودي (العراقي، المقيم في باريس)، أو من عمل سمير الصايغ (اللبناني، المقيم في بيروت)، قد يجد صلة مقربة بين عمليهما وبين الخط العربي. وهو ما يمكن قوله لو اقترب كذلك من عمل كمال بلاطة (الفلسطيني، المقيم بين الولايات المتحدة الأميركية وجنوب فرنسا)... ذلك أن الزائر يقوى على إيجاد صلات قربى بين الماثل أمام عينيه وبين أعمال خطية قديمة، تربط العملية الفنية بما كان يسمى "أقلام" الخط العربي: المسعودي يعود إلى "القلم" نفسه، إلى القصبة، لكي يخط بها أعماله فوق الورق، فلا يستعمل، مثل غيره من الحروفيين، الريشة أو الإزميل أو المسطرة وغيرها. أما الصايغ فإن عمله يقترب مما استخرجه خطاطون قدامى من حلول وتخريجات تقوم على "هندسة" الحرف، مثل تجارب الوزير-الخطاط ابن مقلة (272 هـ - 886 م. ـ 328 هـ - 939 م.) خصوصاً، الذي "هندس" الخط (كما قيل فيه). وهو ما يمكن ملاحظته في عمل بلاطة، إذ يُذكِّر الزائر بأعمال الخط الكوفي التربيعي فوق جدران العمارة الإسلامية القديمة، أو فوق سطور بعض المخطوطات...
إلا أن هذه الصلات تبقى مضللة أو غير كافية، لو اكتفى بها الناظر أو الدارس. له أن يلحظ أو يدرس ما تقوم عليه هذه الأعمال وغيرها من توليدات حديثة، تضعها في نطاق الفن الحديث، عدا أنها وليدة اجتهادات الفنان وحلوله العملية في إنتاج عمله الفني. في إمكان الدارس أن يتوقف عند أعمال الثلاثة المذكورين، وأن يفحصها ويحللها، بغية إظهار مدى ابتعادها عن الموروث القديم، ومدى اجتهادها في توليد معالجات جديدة، إلا أن السبيل "الآمن" قد يكون غير هذا، وهو العودة إلى معايير التجديد في فن الخط العربي قديماً.
لا يختلف اثنان في أن لفظ "شجرة" اعتُمد لتسمية الخطوط العربية المختلفة، وإنزالها في فروعها المختلفة، ما يشبه – في طريقة الفرز والتصنيف – شجرات العائلات والبطون والأفخاذ. إلا أن دارسي الخط من القدماء اعتمدوا هذه الطريقة عملاً بما تحققوا منه في أساليب الخط نفسها، وهو ما يمكن تسميته بـ: "حسن الاتباع" (كما كان يقال في أكثر من فن قديم). فقد تنبه القدماء إلى أن صلة التفريغ بين خط وآخر ممكنة بالانطلاق من خط معروف، وبالاختلاف معه: من المعروف، على سبيل المثال، أن الخطاط ابراهيم الشجيري أخذ عن الخطاط اسحق بن حماد خط "الجليل"، واخترع منه خطاً أخفَّ منه سماه قلم "الثلثين"؛ ثم اخترع من خط "الثلثين" خطاً سماه "الثلث"... هذا ما يمكن قوله، في تفريع آخر طاول قلم "الجليل"، إذ اخترع منه يوسف الشجيري (أخو المذكور) خطاً آخر، أطلقَ عليه اسم: "الرئاسي"... هذا ما يمكن قوله في خطوط عديدة، إذ كان الخطاط يتبع غيره، ثم يشتق منه طريقاً جديداً لفن الخط.
هذه الحسابات القديمة لا نجدها في أعمال الحروفية، حتى عند فنانيها الأكثر قرباً من تجارب الماضي الفني، أو التي تدَّعي كونها "أكثر أصالة" من غيرها. إذ لم نجد عند المسعودي أو الصايغ أو بلاطة، أو عند غيرهم مثل: محمد سعيد الصكار أو محمد العاني (العراقيين)، أو عبد الإله العرب (البحرين) وغيرهم الكثير، ما يحقق شروط "الاتباع" الحسن في الخط القديم: لم تقم تجربة هذا أو ذاك على "تفريع" مسعاه الجديد وفق القواعد القديمة، بل قامت مجهوداتهم على الانطلاق من موروث خطي ما، وعلى البناء المتجدد ابتداء منه.
يمكن ذكر العديدين من الفنانين القريبين من الخط، سواء في العالم العربي أو الإسلامي، ممن نقلوا فنهم إلى حوامل مادية جديدة، وبأدوات صنع مختلفة، فضلاً عن أنهم باتوا يعتنون ببناء تشكيلي للخط العربي، ما يقربه بالتالي من الفن الحديث أكثر من الفن الإسلامي القديم. لم يقترح هؤلاء خطاً جديداً، يضاف إلى شجرة الخطوط العربية القديمة، وإنما انتهجوا سبلاً جديدة، متفلتة، في قسم من عملياتها وطرقها، من "نظامية" الخط القديمة.
هذا يعني أن الحروفية، ابتداء من هذه التجارب الأكثر قرباً من الخط العربي، تنبني وفق منظور ثقافي وفني مختلف، إذ هي موصولة ومتفاعلة مع معايير ومدركات متحصلة من الثقافة الحديثة التي تنهل منها وتفعل فيها. هذا ما يصح ابتداء من صنع العمل الفني انتهاء بعرضه، مروراً بكل العمليات التي تجعل من هذه الأعمال المعروضة أعمالاً حديثة، وإن ذات خصوصية بعينها، ماثلة في الصنع والقيمة والمرجعية وغيرها.

بين كتابة ورسم
إذا كانت أعمال المسعودي تورد جملاً بالعربية، فإن الصايغ وبلاطة يكتفيان بشكلانية الحرف العربي الصرف: يبدو الخط معهما مثل بناء تصميمي، يغري العين بتشكلات لا تختلف عن الجمالية البصرية واللونية عند الروسي كازيمير ماليفيتش (1879-1935)، أو الفرنسي روبير ديولوني (1885-1941)، أو غيرهما من التجريديين الهندسيين واللونيين في التجارب الغربية. هذا التذكير (القوي أو الخفيف) ببعض أساليب الخط العربي، يخفُّ ويبتعد في أعمال "الرائد" الراحل جميل حمودي (العراق)، وفي أعمال: يوسف أحمد وعلي حسن (قطر)، وعلي عمر الرميص (ليبيا)، وعبد الله المحرقي (البحرين)، وأحمد مطر (السعودية).
يمكن للزائر، كما للدارس، أن يتوقف أمام عمل يوسف أحمد، الذي تتوسطه عبارة: "إقرأ"، التي تحيل بالطبع على العبارة القرآنية المأثورة، ويمكن أن تكون، في الوقت عينه، إشارة إلى ما تقوم عليه اللوحة في بنائها الفني كذلك. ذلك أن أحمد "يكتب" العبارة، بل "يرسمها"، فلا "يخطها" كما في السابق. هذا ما يتضح كذلك في تكوين الحروف، واستداراتها واستطالاتها وزواياها، إذ تبدو أقرب إلى أن تكون ناتجَ يدٍ تلقائية، لا تصميمية. وهو ما يتضح في كون الفنان يضع النقطتين فوق القاف بطريقة لا تناسبهما في الكتابة، بل تناسب التكوين الفني للوحة. كما يَظهر في لوحته أن للحروف ظلالاً لونية، وهو ما لم يكن معروفاً في العمل الخطي القديم، حيث كان يُكتفى في الغالب بلون السواد فوق بياض المخطوط، ومن دون أي تظليل.
وهو ما يمكن للزائر متابعته في عمل علي حسن، الذي يعدد الوسائل في صنع لوحته، فلا يكتفي بقلم وحسب. كما يتضح كذلك أن اللون يتدرج في عمله، ولا يفوز بسماكة واحدة، ومنسجمة في شكل الخط. وإذا كان أحمد يحيل على العبارة القرآنية، فإن حسن يتوقف أمام حرف "النون"، وله إحالات قرآنية، هو الآخر، فيصرف جهده التشكيلي عليه، ويجعل منه حجر البناء والبناء نفسه، في هذا العمل كما في أعمال أخرى كثيرة له.
يحتفظ أحمد بجملة مفيدة، فيما ينصرف حسن إلى حرف وحسب، ما يجعل هذا وذاك يتعاملان مع مادة الكتابة العربية مثل "معطى تشكيلي"، مثلما قال جميل حمودي وشاكر حسن آل سعيد، الرائدين العراقيين في هذا التيار الفني، إذ قال الأول: "الفن يستلهم الحرف"، بينما قال الثاني: "اتخاذ الحرف الكتابي نقطة انطلاق" (شاكر حسن آل سعيد: "البعد الواحد"، مطابع ثنيان، بغداد، 1971). وهو ما يمكن تبينه في أعمال أخرى مشاركة في المعرض، إذ حافظتْ على ألفاظ وجمل عربية، من دون أن تتقيد في كتابتها بخط معين، بل رسمتها إذا جاز القول. فالصلة بين الكتابة والرسم تتعدى استحضار الحروف والجمل في صيغ "حرة"، لتشمل مجمل البناء الفني في أعمال: حمودي والمحرقي والرميص ومطر. ففحصُ هذه الأعمال يُظهر بأن بناءها الفني لا يقوم على الحرف أو الجملة وحسب، وإنما يندرج هذا وتلك في بناء يتعداهما. فالفنان الحروفي، هذا أو ذاك، يُدرج المادة الكتابية في غيرها، فلا "تنزل" فوق بياض الورقة أو المخطوط، وإنما فوق سطح تصويري بات "يستقبلُها" بقياساته وألوانه. وإذا كانت المادة الكتابية تتوسط اللوحة، في أعمال أحمد وحسن والرميص، فإنها تبدو عنصراً في جملة عناصر بناء اللوحة عند حمودي والمحرقي ومطر. ففي عمل حمودي تتعالق المادة الكتابية مع بناء هندسي، تكعيبي تحديداً، بينما تتعالق مع مشهد إنساني ورمزي عند المحرقي، وتتخذ بناء ثنائياً في عمل مطر.
هذا التعالق بين المادة الكتابية والتصوير، في إطار اللوحة أو المحفورة وغيرهما، يبني العمل الفني وفق منظور وخبرات ومعالجات باتت جديدة، يحصِّلها الفنان ويتمرس بها ويجدد فيها في سياق تجارب الفن الحديث. فقد بات يعتني بشكلية المادة الكتابية، لكونها تنتسب إلى الشكل، وهو (مع اللون) في أساس العمل الفني الحديث. كما بات يعتني باللون، بلون المادة الكتابية، كما بـ"المناخ" اللوني الذي تندمج فيه، ما يدرج العمل الحروفي في صميم الفن الحديث.

بين زخرفة ورسم
إذا كانت أعمال المسعودي والصايغ وبلاطة تقترب في بعض صنعها من أعمال الخط، فإن أعمال نجا المهداوي ولؤلؤة الحمود ومحمد مندي تنتسب، أو تنهل، أو تتواصل مع فن آخر، موصول ومنفصل عن الخط، وهو الزخرفة العربية-الإسلامية. إلا أن درس أعمالهم يحتاج إلى الفصل بينها لتبيان خصوصية كل تجربة على حدة. تجربة المهداوي هي واحدة من تجارب متعددة بلغَها هذا الفنان واختبرَها فوق حوامل مادية مختلفة، بأدوات عديدة، ونجحت في توليدات فنية مثيرة. في العمل المعروض يستثمر المهداوي قابليات جديدة للزخرفة العربية-الإسلامية (من دون الخط، كما في تجارب أخرى له)، فينوع فيها، ويجدد النظر إليها. عمل يستند إلى توليدات المسطرة والخط المستقيم بما يبني تشكلات وكتلاً تصميمية وفق تعاكسات لونية.
لا شيء في هذا العمل (أو في غيره من أعماله) يحيل صراحة على الخط أو الزخرفة القديمين، إذ إن الخط يحضر في أعماله من دون أن تشكل حروفه كلمة أو جملة، ولا تفيد بالتالي أي معنى. وهو ما يتضح كذلك في الزخرفة، إذ لا ترسم أعماله أشكالاً بعينها، مستحسنة أو مطلوبة (مثل الدائرة أو المربع أو الدائرة في مربع أو المربع في دائرة أو توليدات هندسية منظمة)، وإنما تبتكر تشكلات ممكنة وجذابة للسطر. بل يمكن القول إن بناء عمله يقلب النظر، ويجدده إلى تشكلات الزخرفة، إذ لا يتقيد العمل الفني لديه ببناء الصفحة الطولي، وبالتوزع المدروس والمنتظم فوق سطوره.
ما تقوم به الحمود يتصل بدوره بالأساس الهندسي لهذه الزخرفة، إذ يقوم وفق حسابات مدروسة، بل شديدة الدقة، وإن تتعين أحياناً في نقاط هي في تتابعها أساس الخط المستقيم. بل يقوم بناء عملها وفق علاقة مركبة بين الثابت والدائري، ما يولد لدى المتفرج شعوراً بدوران العمل على نفسه. وما يستوقف النظر في هذا البناء المميز، هو أن الفنانة تعرف أن للبناء الهندسي ثباتاً "يجمِّد" النظر ويحدده ما يجعل العمل "بارداً"، أو هندسياً بالمعنى السلبي للكلمة في العمل التشكيلي. فكان أن أبطلتْ مفعول الثبات بأن أدخلتْ إليه حركةً تديره على نفسه، ما يجعل العمل (لو بدلتُ في ألفاظ عبارة عربية قديمة): "خُيِّل أنه ساكن وهو يتحرك". مثلُ هذا التدبير في معالجة العمل الفني يصدر عن ثقافة وخبرة في الفن الحديث، كان للفنانة أن تعنى بها، وأن تتفاداها، بما يعطي لعملها هذا الحضور الحيوي. وزادت من الحيوية هذه بأن جعلت الخطوط تتعين في نقاطها المتتابعة، ما جعلها "خفيفة" الوقع على العين بدورها، فتبدو أثيرية في نهاية المطاف، أو تتنزل من رسم أول وبعيد.
إلا أن ما رمتْ إليه الفنانة كذلك من وراء هذا هو "استلهام" مرجعية طقوسية وروحانية وجمالية في الوقت عينه، وضمن العملية ذاتها. ذلك أن ما قامت به يستعيد حركة الطواف حول الكعبة الشريفة في الطقوس الإسلامية. غير أنها لا تقلد أو تحاكي مشهداً معروفاً، بل تعاين "شكلانية" المشهد، لو شئنا التدقيق. أي إنها ترى إلى الحركة بوصفها وليدة شكل، دائري ومتتابع. وهو ما يجمعها بالشكلانية الكتابية في تجارب الخط العربي، وبتجديدات هذه الشكلانية في تجارب الحروفية، كما تبينا أعلاه.
في هذه النقطة بالذات تلتقي تجربة مندي بتجربة الحمود، أو العكس. فإذا كانت الفنانة تتجنب إيراد أي حرف، أو جملة في أعمالها، فإن مندي يوردها بصورة قوية، وإن تبدو "خفيفة" بصرياً، أو أثيرية بدورها. وما يصل بين التجربتين أيضاً هو أن مندي يبني واحداً من أعماله الثلاثة ("بسملة 5") على أساس دائري، يدور على نفسه كذلك، ويستعيد أو يحيل على حركة الطواف. كما يقوم برصف خطوط الطواف وفق حركة هندسية بينة، جاعلاً من لفظ "لا إله..." أساساً للبناء الإجمالي. ويتيح له قلم "الغواش" الذي رسم به هذا العمل أن يتأنى في رسم الحركة المتتابعة، والتي تنحرف شيئاً فشيئاً لينتظم بالتالي أو يتحول إلى شكل دائري.
ما يثير في عمل مندي المذكور هو أنه "مسطح" من دون بعد منظوري (كما في الأعمال الخطية أو الزخرفية القديمة، أو في الأعمال التجريدية الحديثة)، من جهة، لكنه أيضاً يوحي بعكس ذلك، من جهة ثانية، طالما أن العين تتبين حراكاً في المكان، في المساحة، ما يجعل العمل الفني يتنزل في ما هو أبعد منه، في مشهد آخر، غير واقعي، بل متخيل. وهو ما تتيحه حركة القلم بين غامق وفاتح، بين عتمة الحروف المكتوبة وفتحة البياض خلفها (التي تعود في بعضها إلى بياض الورقة التي يقوم عليها الرسم). هذا التناوب بين الفاتح والغامق هو ما يعزز تخيل وجود "عمق" في العمل، وما يقربه كثيراً من لعبة الشكل-اللون في الفن الحديث. وهو ما يحاوله في مسعى آخر (في "بسملة")، إذ يبتعد عن البناء الدائري صوب بناء مختلف، طولي، يقوم بدوره على لعبة الغامق-الفاتح، من جهة، وعلى تشكلات كتابية ذات منحى زخرفي، من جهة ثانية. وما ينتبه إليه الدارس في أعمال مندي هو أنها تبدو "مقتطعة" من سياق فني أوسع منها. فالعمل لا يُحد فوق الورقة، ولا تتوافر له فيه حدود "داخلية "، وإنما يبدو جزءاً مما هو أوسع منه، ويبقى خارجه. إذ إن نهاية السطر تبدو مبتورة بشكل متعمد، وللعين – إن رغبت – أن تتابع حركته خارج الورقة نفسها. وهو ما ينبني عليه عمله الثالث، إذ يبدو في صورة أبين مقتطعاً – في صورة أفقية هذه المرة، كما فوق جدار – مما يقع قبله أو بعده. هذا ما يعطي العمل الفني بعداً روحانياً أو دينياً يمكن التوقف عنده ودرسه، وهو – باختصار – أن الفن "جزء مقتطع" من "كل"، وأن قيمته ومعناه واقعان خارجه كذلك.
يعود المهداوي والحمود ومندي إلى "شكلانية" الكتابة، ويستثمرونها في مناح جديدة تضاف إلى السابقة. وهي مناح تبدو تصميمية في جوانب منها وفق حركة المسطرة والسطر المستقيم (بلاطة، الصايغ، المهداوي...)، أو وفق حركة اليد التلقائية ولكن التخطيطية في الوقت عينه (الحمود، مندي). هذا ما تنطلق منه ديانا الحديد، من جهة، وعمر النجدي، من جهة ثانية. إذ يميل هذان الفنانان (النجدي قبل الحديد تاريخياً) بدورهما إلى استثمار "شكلانية" الكتابة، ولكن بصورة حرة متفلتة تماماً من أي ضوابط أو قياسات، ومن دون إحالة كذلك على كتابية اللغة العربية ذاتها. فالناظر إلى عملي الفنانين المذكورين يحار في نسبتهما إلى الحروفية (ضمناً العربية)، إذ في إمكانه نسبتهما إلى التجريدية (ضمناً الغربية)، إلى "الفن اللاشكلي" (informel) حصراً. فما تمَّ التوقف عنده من أعمال يبقى قريب الصلة من القراءة، كما في عمل يوسف أحمد وغيره. وتتوافر للمتفرج العربي أمامه معرفة لا تتوافر كلها لمتفرج غير غربي، إذ يقوى على التعامل اللغوي والبصري معه وفي الوقت عينه. هذه المعرفة المزيدة تنعدم أمام عملي النجدي والحديد، إذ يمثلان للناظر في صورة "متساوية"، إذا جاز القول، وأياً كانت جنسيته وزاده اللغوي والفني.
يمكن للدارس المدقق أن يتبين في هذه النقطة بالذات أساسَ تباينٍ ظهرَ تاريخياً وفنياً بين تجارب مختلفة في الحروفية: بين من حاول إبقاء صلة متينة (في الشكل أو في القيمة أو في المرجع) مع الخط العربي والجمالية العربية-الإسلامية القديمة، وبين من حاول شدَّ العمل الفني بصورة مزيدة إلى منطق اللوحة (الغربية) الحديثة. هذا ما يَظهر عليه عملا النجدي والحديد، إذ يعملان على استثمار تداعيات حركة اليد، ما يجعل من إيقاع اليد ميزاناً للعمل الفني وناظماً له. وهي إيقاعية "مموسقة" عند الجندي، ومتلاشية عند الحديد. وإذا كان عمل النجدي مبنياً – لو شئنا التفسير – على إيقاعات منسقة من تشكلات حرف الألف، فإن عمل الحديد لا يشير، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أي حرف أو كتابة كانت: إنها لعبة الشكل المحض، بين تدوين واندثار، ما يقترب من أبجدية الشكل التشكيلي في حروفها الأولى.

الخروج صوب اللوحة
لو شاء الدارس رسم خريطة إضافية لهذا المعرض، لأمكنه القول أن عملي النجدي والحديد يفصلان بين ما سبق وما سيأتي عرضه، وفق نقطة الخلاف التي تمت الإشارة إليها أعلاه. وهي أغنى من نقطة خلاف إذ تعني توجهات مختلفة: في صنع العمل، في بنائه، في مرجعياته. بل أدت إلى تولد تجارب متباينة، ما جعل الخلاف مولداً لغنى وتعدد، وما جعل الحروفية بالتالي تترسخ وتتأكد. فالوقوف أمام أعمال: شاكر حسن آل سعيد، ورافع الناصري، ورشيد القريشي، وخالد بن سليمان، وحازم مهدي، وكثيرين خارج هذا المعرض، يُظهر مدى الاختلاف بينها، ومع سابقاتها وغيرها. هذا يجعل العمل الفني وليد اجتهادات وتجاذبات وخيارات، بين فنية خالصة وأخرى موصولة بحسابات اعتقادية ودينية.
قد يكون تناول هذا الخلاف ممكناً ابتداء من تجربة "الرائد" شاكر حسن آل سعيد، التي تكاد تحدد في حد ذاتها مجال الاختلاف هذا وتجلياته الفنية والجمالية. فمؤسس تجمع "البعد الواحد" (بغداد، 1971)، مع عدد من الفنانين العراقيين (مديحة عمر، جميل حمودي، قتيبة الشيخ نوري، محمد غني حكمت، ضياء العزاوي، رافع الناصري...) أطلق حركة فنية سيكون لها أثرها المديد في الفن العربي الحديث، حتى إن البعض أطلق عليها تسمية: "المدرسة العراقية" (تيمناً ربما بـ"مدرسة الواسطي" قبلها بقرون). بل يمكن القول إن انطلاق هذا التجمع أوجد لتجارب أخرى، في المهاجر أو في البلدان العربية المختلفة، مرتكزاً نظرياً قوياً، وجامعاً أيضاً على المستوى العربي: في لبنان (سعيد أ. عقل، وجيه نحلة، عادل الصغير...)، والسودان (عثمان وقيع الله، أحمد شبرين، ابراهيم الصلحي...)، والمغرب (أحمد شرقاوي)، والجزائر (مجموعة "أوشام")، ومصر (حامد عبد الله، يوسف سيده، طه حسين...)، وسوريا (محمود حماد، عبد القادر أرناؤوط، سامي برهان...)، فضلاً عن تجارب إيرانية (حسين زندرودي، مدرسة "ساغا خانه") وغيرها. إلا ان قيمة المدرسة البغدادية لا تعني، تاريخياً وفنياً، أنها كانت مطلقة التجارب الحروفية الأخرى، إذ يتوجب علينا البحث عن أسباب نشأتها بطريقة أخرى. وإنما يعني أنه كانت لمدرسة استلهام الحرف في بغداد حضوراً مشعاً وفاعلاً اكثر من غيرها.
يمكن البدء من أعمال آل سعيد المعروضة، وهي بتعددها وتواريخها المختلفة، ترسم مساراً مختصراً، مفيداً، ودالاً على ما حاوله هذا الفنان واجتهد فيه. فالعمل ("من دون عنوان")، العائد إلى العام 1963، يمثل إحدى تجاربه الأولى في هذا المنحى الفني، ما يندرج في المرحلة "التأملية" تحديداً. ففي هذه التجربة وبعدها خصوصاً انفصل آل سعيد عن بداياته، واتخذ له طريقاً تمثل في إيجاد مرتكز ديني وجمالي لما يسعى إليه في الفن. هذا ما بلغ لاحقاً في فكرة "البعد الواحد" تجليها الواسع. إذ انطلق الفنان من أن الحرف شكل مادي، وجودي، لما هو خارجه، وأبعد منه، وهو "الحقيقة الكلية"، كما يسميها. الفن، هنا، ومعه، "جزء" من "كل"، وهو "كل" سابق على الفن، ومستوعبٌ له. وهو ما يمكن تبينه في عملَيه الآخرين المعروضين، إذ ينتسبان إلى مرحلة "الجدار" (ابتداء من سبعينيات القرن الماضي)، ما يشير كذلك إلى أن الجدار، مثل الورقة في الخط، يتلقى فوق صفحته تدويناً وعلامات وآثاراً من "خربشات" البشر، أو من فعل الزمن المتمادي فوق الجدران. هذا يجعل من العمل الفني "أثراً"، لا إبداعاً فردياً. أي أن الفن يكون، في هذه الحالة، أشبه بنقل لما حدث خارجه، بإرادة أوسع وأفعل من إرادة الفنان وفعله.
إلا أنه يتوجب التمييز في تجربة آل سعيد بين ما يقوله هو بنفسه عن فنه، وبين إمكانات تفسير هذا الفن من قبل المتفرج أو الدارس. لا يعني هذا التباين اختلافاً أو تناقضاً بين الخطاب وواقع العمل الفني، وإنما يعني تبايناً بين "قصد" الفنان أو دفاعه عن عمله، وبين حرية التأويل التي هي للمتفرج أو الدارس في الفن الحديث. ذلك أن البعض قد يعتبر تفسير آل سعيد لفنه نوعاً من "الإقحام" المفتعل، إلا أن الأكيد، بالمقابل، هو أن آل سعيد انشغل بخطاب الفن انشغالاً صميمياً، ما يعني أن هذا الانشغال فعلَ فعله بدوره في بناء العمل الفني. وهو ما لا يمكن للدارس أو المتفرج أن يلغيه، أو ينساه...
إذا كان البعض لم يُعنَ بخطاب آل سعيد عن فنه، وعن الحروفية ذاتها، فإنهم أولوا تجربته الفنية، وجدارتها الفنية العالية، اهتماماً أكيداً. فتجربته الفنية متعددة ومتنوعة، وتحمل امتدادات واسعة، لا تصلها بالخط العربي فقط، أو بالتجربة الصوفية، وإنما تصلها أيضاً بتجارب غربية متعددة (أنطونيو تابييس خصوصاً) كانت تتوخى وصل الفن بالزمن وبالتجربة الفردية.
لهذا أمكن القول إن تجارب آل سعيد في الحروفية تقع في منقطة محورية وحيوية: بين كونها جذابة للعين، وبين كونها نقطة تجاذب. فقد ذهب آل سعيد أبعد ما يكون في ما يمكن للخطاب الفني والجمالي أن يستثمره من الخطاب القديم، من جهة، كما ذهب أبعد ما يكون في ما يمكن له أن يستثمر من قابليات تشكيلية للحرف العربي، من جهة ثانية.
في هذه النقطة بالذات تقع نقطة الخلاف التي سبق الكلام عنها أعلاه، والتي جعلت تجمع "البعد الواحد" ينفرط عقده مباشرة بعد تأسيسه. إذا كان انفراطه عنى صعوبة تشكل "مدارس فنية" في التجارب العربية، فإنه عنى أيضاً تفرع، بل "تشعب" طرق الحروفية ذاتها. وهو ما يتبينه الدارس في تجارب لاحقة على عقد السبعينيات في القرن الماضي، كما في هذا المعرض، وفي تجارب كثيرة.
رافع الناصري واحد من الفنانين العراقيين الذين انخرطوا في تجربة بغداد هذه، وانفصلوا عنها، بالمعنى الفني كما التنظيمي، إذ تميزت أعماله (مثل العمل المعروض) ببناء يجمع بين الهندسي والحر، بين الثابت الأرضي والأفق... وهذا كله مع أثر خفيف للخط العربي، لبعض حروفه، وخصوصاً لبعض العلامات الهندسية. وعملُ الناصري المعروض ينبني أو يتأثر كثيراً بمنطق بناء المحفورة، وإن كان يتعين في لوحة زيتية واقعاً. فالعمل ينبني وفق تصميمية بينة، تصلح كثيراً في تصميم المحفورة، قبل مباشرة الحفر فوق صفيحتها. ويمكن القول بالتالي إن بناء العمل عند الناصري بناء ثنائي من أكثر من جهة: ثنائية بين التصميمي والمتفلت، بين صنع المحفورة وصنع اللوحة، بين الأرضي والأفق، بين السفلي والعلوي، بين بسط اللون وتصميم المساحة الهندسية وبين تعرجات اللون والشكل و"خربشة" العلامات والندوب...
هذا البناء الثنائي يمكن أن نجده أيضاً عند الفنان التونسي خالد بن سليمان، بل يبدو عمله المعروض مثل عمل في قالب عمل آخر. وهو ما يظهر بين هندسية بينة، من جهة، وخطية متفلتة من أي ضوابط وقيود، من جهة ثانية. إلا أن عمل الفنان ينحاز في صورة مزيدة (إذا جاز التحديد) إلى منطق اللوحة، وسبل بنائها. بل يبدو كذلك الحرف مقلوباً على غير عادته، حتى إنه معدوم التعبير، كما في تجربة المهداوي، التونسي الآخر. وما يسترعي الانتباه كذلك في عمله هو أن الفنان يعتني عناية بينة بالبناء وفق منطق اللوحة (لا المخطوط أو الزخارف القديمة)، حتى إن الإشارات أو العلامات التي تشير إلى الخط تبقى بعيدة، أو محورة تحويراً بالغاً، ما يبدد معالم هويتها بالتالي. لهذا نرى الشكل أو اللون – وهما عنصرا الفن الحديث – متداخلين تداخلاً متيناً، فلا يكون الشكل منفصلاً عن اللون، بل مندغماً فيه اندغاماً لا يستطيع الناظر الفصل بينهما. فالشكل لا يرسم حدوداً للون، ولا اللون يقع لملء مساحة في شكل.
هذا ما يقوم به بدوره الفنان الجزائري رشيد القريشي، وإن كان يطغى على عمله مجهود الشكل أكثر من مجهود اللون. فهو يكتفي بلعبة السواد والبياض لجهة اللون، وهما في أساس العمل الخطي القديم، سواء في التجارب العربية-الإسلامية أو الآسيوية (الصينية، اليابانية، الكورية). إلا أن ما يستوقف خصوصاً في بناء عمله المعروض هو قربه الشديد من بنية المخطوط القديم، حيث يقسم السطح التصويري مثل ورقة في مخطوط، فيميز بين فقراتها الداخلية، بين أساسي وثانوي، بين متن وهامش وغيرها. فالعمل الفني مثل الورقة لا يستقيم من دون هذا التعايش، وهذا التوليف بين عناصر مختلفة، هي من معين التجربة الكتابية في أشكالها المادية المخصوصة.
يتمثل القريشي ثقافة المخطوط وتقاليده الفنية، جامعاً بين عناصر مختلفة فيها، بما فيها تقاليد المخطوط الآسيوي. إذ إن العمل الفني لديه ينبني وفق علامة خطية تتوسط العمل، وتزيد حجماً وحضوراً عن غيرها. وهي علامة أقرب من جهة تشكلها الغرافيكي إلى الخط الآسيوي، ما يعد توسعة في استثمارات الحروفية العربية، إذ ينتقل بها القريشي صوب وجهة جديدة، بما ينوعها ويغنيها في آن.
تنويعات وتجريبات، بات يميل فيها الحروفي إلى تجديد سبل الفن، ومنها أدواته ومواده ومرجعياته. هذا ما جرَّبه المهداوي سابقاً، وعلى سبيل المثال، إذ حاد عن الحامل المادي (الورقة، القماشة...) صوب الجسد الإنساني، فجعله قابلاً لحمل تشكلاته الحروفية، في ما يشبه الأداء الحي. وهو ما يذهب إليه الفنان المصري حازم مهدي، إذ يجعل من الجسد بدوره حاملاً لتشكلات زخرفية الطابع، وفق طريقة منسقة بين الجسد والانعكاس، بفضل تقنيات حديثة. وهو وجه آخر لثنائية جديدة، تتمثل في التعبير عن "أزمة الهوية"، كما يسميها مهدي بنفسه: بين الجسد الحي والأشكال القديمة، بين الجسد والآلة، بين الجسد والسطح التصويري وغيرها. هكذا أصبح ظَهر الإنسان حاملاً للعمل الفني، ما يجعله سطحاً تصويرياً بالتالي. وقد يكون ظَهرَ الفنان نفسه على الأرجح، ما يجعل العمل الفني قريباً من فن الأداء الجسدي (PERFORMANCE).

الحروفية: الطريق المتشعبة
هكذا تتشعب طرق الحروفية، بل بات التعدد والتنوع والتجديد ملازماً لها، ما يعكسه هذا المعرض في صورة قوية ودالة. ذلك أن المعرض يجمع بين عدد من رواد الحروفية، ومن فنانيها اللامعين، إلى جيل شاب ومجدد فيها، ممن درس في الغرب ويقيم فيه أحياناً، ويتفاعل مع توجهاته التشكيلية الجديدة. وهي دلالة جديدة تؤكد مدى رسوخ الحروفية في المشهد التشكيلي العربي، بل العالمي أيضاً، إذ باتت بعض أعمالها تندرج في مزادات عالمية، أو تقتنيها متاحف مرموقة. بل يمكن القول إن هذا المعرض يواكب معارض لافتة سابقة، في لندن، في المتحف البريطاني، أو في "المكتبة الوطنية" العريقة في باريس، وفي كثير غيرها هنا وهناك.
قيل الكثير عن الحروفية، وكُتب عنها، وجرى تنظيم معارض فردية وجماعية لها، فضلاً عن كتب وأطروحات جامعية ومقالات ودراسات وغيرها. ولا يبالغ الدارس في القول إذ يؤكد أنها حظيت، من دون شك، بأوسع مدونة عن الفن العربي الحديث.
ذلك أن الجدل حولها لم يتوقف بين إظهار وتخفيف لها. فقد جرى نقدها، والتقليل من قيمتها، أو الحديث عن أنها ظاهرة "عارضة"، وأن بناءها التشكيلي ضعيف وهش، ولن يصمد أمام امتحانات الزمن. كما قيل عنها إنها ظاهرة "عربية" وحسب، ولا تتعداها... إلا أن مثل هذه المواقف أكدت الظاهرة من حيث لم تقصد على الأرجح، بل بات كثيرون، هنا وهناك، يشيرون إليها بوصفها التيار "الأبرز"، أو الظاهرة "الأدل" على تجليات الفن الحديث في البلدان العربية. هذا لا يخفف من قيمة فنانين كثر، ممن ابتعدوا أو "خاصموا" الحروفية، إلا أن الأكيد، بالمقابل، هو أن مجموعة من العوامل، الفنية الخالصة والموصولة بحسابات سياسية ومالية ودولية كذلك، عززت من ألق حضور الحروفية.
قد يكون بعض الفنانين قد استسهلوا الوصول إلى طرق ميسرة أو معبدة إلى الحروفية، أو السير في ركبها وموجتها (كما يقال)، مثل تعويذة أمان، أو مثل "ماركة تجارية" مضمونة في الفن، إلا أن هذا عنى، واقعاً، تأكد الطلب على الحروفية، والرفع من قيمتها.
ولا يقوى الدارس إغفال جانب آخر من هذه التجربة، هو أن الحروفية فتحت سجالاً حيوياً في الخطاب عن الفن، وإن صيغت عباراته أحياناً بألفاظ دينية أو قومية أو روحية أو غيرها، مما يقع في "خلفيات" الفن، لا في أبنيته المخصوصة. وما برز لنا، من خلال هذا المعرض، هو أن التجارب الأساسية في الحروفية، كما تجلت في هذا المعرض، شكلت جسر عبور في الاتجاهين: بين الفن العربي والفن في السياق العالمي، وبين الفن العربي ومرجعياته المحلية على تنوعها وتعددها. هذا يشكل "توطناً" أكيداً للممارسة التشكيلية في بيئات ومجتمعات لم تعرفها في السابق (بل عرفت غيرها)، ما يفيد كذلك مجموع التجارب ومجموع الفنانين، لا جانباً محصوراً أو محدداً منها.
هذا يعني أن الحروفي، بعكس "بوسيه الصغير"، لم يستحسن العودة بل الانطلاق ، ولا الركون إلى بيت الأهل بل التيه في الغابة، عملاً ربما بالقول الشعري المأثور: "لا تقلْ أصلي وفصلي أبداً، إنما أصل الفتى ما قد حصل"... وربما يمكن تعديلها في عبارتها الأخيرة إلى: "... إنما أصل الفتى ما قد فعل".
("مؤسسة بارجيل للفنون"، الشارقة، 2013).